تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة
(١) الدولةُ كائنٌ اجتماعي
كما أنتج الإنسانُ العائلةَ تلبيةً لضروراتٍ فرضَتها طبيعةُ حياتِه على الأرض، كذلك أنتج الإنسانُ الدولةَ تلبيةً لضروراتٍ فرضَتها طبيعةُ حياتِه على الأرض. بعد أن بلغَ نضجُ الإنسانِ الذِّهْنِي والنَّفسي وثقافتُه مرحلةً متقدِّمة، وتشعَّبَت علاقاتُه الاجتماعيةُ وتشابكَت وتعقَّدت، وتطوَّرَت وتنوَّعَت وسائلُ وأنماطُ إنتاجه، وتراكمَ رأسُ ماله، وازدادَت ثرواتُه المادية والرمزية، اخترعَ الإنسانُ وقتئذٍ الدولةَ، بوصفها مؤسسةً تكفل احتكارَ العنف، على وفق تفسير ماكس فيبر، وتعمل على حمايةِ الأفراد والمجتمع من الظلم والتعسُّف في استعمال الحق، وتعيد تنظيمَ شبكات العلاقات الاجتماعية وحمايتَها بما يرسِّخُ بنيةَ المجتمعِ وأمنه، وتسهمُ في إدارةِ الثروات، وتنميةِ الإنتاج، وتضمن التوزيعَ العادلَ للثروة، وترسمُ خططًا للتنمية الشاملة، وتبتكرُ برامجَ للتطوير.
الدولةُ ظاهرةٌ اجتماعيةٌ مُركَّبةٌ، إنها أهمُّ وأعمقُ وأعقدُ مؤسَّسةٍ ابتكرها الإنسان؛ فقد احتاجَتِ البشريةُ، من خلال مسيرتِها الطويلة في تاريخها، إلى آلافِ التجارب الفاشلة حتى استطاعَت أن تبتكرَ ظاهرةَ الدولة، ولم تُولَدْ هذه الظاهرةُ ناجزةً كاملةً نهائية، بل كانت وما زالت، مثل أي ظاهرةٍ اجتماعية، مشتقةً من احتياجات الإنسان، تتوالد وتتكيَّف وتترسَّخ، تبعًا لنمطِ الاجتماع البشري ورتبتِه في سلَّم التطوُّر الحضاري.
لبثتِ الدولة يُعاد إنتاجُها وتتطوَّرُ من خلال نموِّ علومِ ومعارفِ البشر واتِّساعِها، وتنوُّعِ تجاربِ المجتمعات، وتراكمِ الخبرات، عبر التغلُّب على الثغرات واكتشاف الأخطاء. منذ ظهورِ الدُّوَيْلات في الحضارات الأولى، مثل دولِ المُدُنِ في سومر وغيرها، تنامَت الدولةُ وترسَّخَت ببطءٍ عموديًّا وأفقيًّا. في كلِّ مرحلةٍ تضيف خبراتُ البشر وعلومُهم ومعارفُهم قوانينَ وقيمًا ومفاهيمَ جديدةً لبناء الدولة، وتحذف أخرى لم تَعُد قادرةً على الوفاء بمتطلَّبات الواقعِ ومستجدَّاتِه.
لم يصلِ الإنسانُ إلى بناءِ الدولةِ الحديثة، إلَّا بعد مُضيِّ آلافِ السنين من العبورِ المتواصل لأشكالٍ للدولة تَفشَلُ في الصُّمود، أمام تطوُّر العلومِ والمعارف وتنوُّع خبراتِ الحياةِ وثرائها، وتقدُّمها على الدوام، فلا يعود إطارُ الدول القديم يتَّسع لاستيعابِ كلِّ ذلك التمدُّد والنمو؛ لذلك يبدع الإنسانُ في كلِّ محطة نموذجَهم المتناغمَ مع إيقاع اجتماعِهم، والرتبةِ التي بلغها تطوُّرُهم الحضاري ونمطِ تمدُّنهم. لا يحسبون كلَّ محطة يصلون إليها خاتمةَ المطاف أو «نهايةَ التاريخ»، إنما هي حلقةٌ في مسارٍ متواصل لن يتوقف؛ ذلك أنَّ مدياتِ وآفاقَ العقل والخبراتِ التي تراكمها تجاربُ الإنسان، لن تتوقَّف عند محطَّةٍ أو تتراجع إلَّا لتلتقِطَ أنفاسَها وتعودَ للانطلاق من جديد إلى محطَّةٍ جديدةٍ. في عمود الزَّمان يتغيرُ كلُّ شيء، لا شيءَ نهائيًّا ما دام لا زمان نهائيًّا، لا شيء أخيرًا ما دام لا زمان أخيرًا؛ ففي السياسةِ ليس هناك موقفٌ أخير، وفي الدولةِ ليس هناك نمطُ دولةٍ أخير. ما دام هناك مجتمع بشري يعيش على الأرض فلا نهاية للتاريخ إلَّا بنهاية الإنسان، وتعطُّل الحياةِ الإنسانيَّة على الأرض بشكلٍ كامل.
الدولةُ ظاهرةٌ حيَّةٌ، تنمو وتتطوَّرُ مفاهيمُها، ويُعاد تكوينُها تبعًا لتراكم تجربتها وتنوُّعها عبر الزمان، عندما نقرأُ في هذا السِّياق مفهومَ الجماعاتِ الدِّينية للدولةِ الحديثةِ نجده مفهومًا ثابتًا مبسَّطًا، يتلفَّع غالبًا بإنشاء وشعاراتٍ؛ تتكلَّمُ لغةَ المشاعر المكبوتة، وتوقدُ العواطفَ المختبِئَة، وتهرب من الأسئلةِ الصَّعبة، وتلوذ بإجابات مسطَّحة على الأسئلة العميقة، وتفشل في تفكيك المشكلات المعقَّدة، وتُفكِّر في حلول خارج فضاء التحديات الصعبة. لا ترى الحاضرَ إلَّا بعينِ الماضي؛ فهي تُحيل على الدوام إلى نماذج في التاريخ، ومفاهيم وأحكام وُلدت في عصور دولة الخلافة بالأمس البعيد.
(٢) الإنسانُ بوصفه مواطنًا أساسُ الدولة الحديثة
مشكلةُ مَن يريد أن يبنيَ دولةً حديثةً في بلادنا أنَّه يُفكِّر داخلَ أسوار التراث والمعتقدات الدينية والهُويات العرقية، بينما الدولةُ الحديثةُ لا تبتني على التراث والمعتقدات الدينية والهويَّات العرقية، وإنما تبتنِي على المواطنة التي يُحدِّدُ نصابَها الدستورُ، أي: «المواطنة الدستوريَّة» بمصطلح هابرماس. الإنسانُ بوصفه مواطنًا هو الذي يحدِّد هُويةَ الدولة اليوم، ويتحكَّمُ تعريفُ المواطن بتوصيف هُويتها. كلُّ تشريع وقرار وموقف يُتخذ في إطار توصيف مواطن ينبغي أن يكونَ معيارُه الانتماءَ للأرض، وكل ما لا ينتمي للوطن بوصفه وطنًا يُفترض ألَّا يكون مكوِّنًا لماهية الدولة الحديثة.
في الدولة الحديثة حقوقُ الإنسان وحريَّاتُه هي الأساسُ لبناءِ الدَّولة، في الدولة الدينية حقوقُ اللهِ بالمعنى الذي يقرِّرُه عِلْمُ الكلامِ والفقه هي الأساس. الدستورُ وقوانينُ الدَّولةِ هما المرجعيَّةُ في تحديد أيِّ موقف للفرد أو المجتمع في الدولة الحديثة، في الدولة الدينيَّة التكليف الشرعي بالمعنى الذي يقرره علمُ الكلام والفقه، فهما المرجعية في تحديد أي موقف للفرد أو المجتمع.
لا حقوقَ لله بلا حقوقٍ للإنسان، لا تتحقَّقُ الأولى إلا أن تتحقَّقَ الثانية. علمُ الكلام والفقه ينطلقان من رؤية تتقدمُ فيها حقوقُ الله على حقوقِ الإنسان. دينُ القيم الروحية والأخلاقية والجمالية ينطلقُ من رؤية تتقدمُ فيها حقوقُ الإنسان على حقوق الله. الكرامةُ والمساواةُ والحرية وغيرها من الحقوق، هي ما يُعبَد اللهُ بها، وهي ما ينشدُ دينُه حمايتَها. كلُّ إنسانٍ يريدُ أن يصلَ إلى الله ويؤدِّي حقوقَه عليه أن يبدأ بتأدية حقوق الإنسان أوَّلًا. حقوقُ الإنسان هي حقوقُ اللهِ في الأرض، مَنْ لا يكترثُ بحقِّ الإنسان ولا يهتم بها يفشل في الوفاء بحقِّ الله.
(٣) الدين والدولة الحديثة
الفرق بين نمط الوعي في مرحلةِ ما قبل الدولة الحديثة، ونمط الوعي في مرحلة الدولة الحديثة: أنَّ العقل اليوم هو عقل عِلمي، والعقل العلميُّ لم يعُد خائفًا من أسرار الطبيعة. الإنسانُ صار يقرأ كلَّ شيء في الطبيعة بالعلم من دون حاجةٍ إلى أن يستفتيَ السماء. أدرك الإنسانُ أنَّ أسرارَ الطبيعةِ مُودَعَةٌ في قوانِينِها، وهكذا أدركَ أنَّ أسرارَ تدبير حياةِ الإنسانِ في الأرض مودعة في عقله وتفكيره وعواطفه، وقدرته على صياغة القوانين والقيم التي تنتظم فيها حياتُه، وما تمنحه خبراتُه وتجاربُه واكتشافاتُه لأفضلِ الوسائل في بناء الدولة، وأنجح النظم لإدارتها، وأحدث التنظيمات لبناء المؤسسات المجتمعية المتنوِّعة.
أمَّا العقلُ غير العلمي القديم، فيعتقد أنَّ أسرارَ الطَّبيعة ألغازٌ مودَعَة حلولها في السماء؛ لذلك يشعر بالعجز عن تفسيرِ أيةِ ظاهرةٍ، يتكاسل عن تفسيرها واكتشافها؛ ما دامت حلولُها مودعة في السماء، وهكذا يشعر بالعجز عن جواب الكثيرِ من المشاكل التي تواجهُهُ في حياتِه الفرديَّة والمجتمعيَّة على الأرض، فيُحيل الجوابَ من السماء. قبل عصر العلم كانت أكثر قوانين الطبيعة تبدو للإنسان ألغازًا؛ لذلك كان عبدًا خاضعًا للطبيعة، بينما صار اليوم هو المُستعبِد للطبيعة والمُسخِّر لقوانينها.
كان الدينُ، إلى ما قبل الدولة الحديثة، مكوِّنًا أساسيًّا لهُويَّةِ الدَّولةِ ومنبعًا لمشروعيَّة السُّلْطَة؛ بمعنى أنَّ السُّلطةَ والدولةَ والمشروعيَّة كان مصدرُها السماءَ، أمَّا في الدولة الحديثة فمصدرُها الأرض. السلطة والدولة والمشروعيَّة في هذه الدولة مستمدَّة من الإنسان، هو من أنتجها، ووضع نظمها وقوانينها وبرامجها، وهو من يتولَّى تنفيذها وتقويمها وتصويبها وتطويرها.
الدينُ أقدم من الدولة؛ ظهر الدينُ مع ظهور الإنسان العاقل على الأرض، لم تظهر الدولة مع ظهور الإنسان الأول. الدولةُ ظاهرةٌ بشريَّة قديمة. أولُ دولة ظهرت في التاريخ هي دولةُ المدينة، حيثما تَكُن دولةٌ تَكُن مدينة، وليس بالضرورة حيثما تكُن مدينةٌ تكُن دولة.
الدينُ الذي يرثه الإنسانُ من أبوَيه وعائلته ومحيطه، يصيرُ عنصرًا فاعلًا في التربية والتنشئة العائلية والمجتمعية، ويكونُ أحدَ العناصر المكونة للذَّات، ويدخل كأحد أهمِّ مكونات الهُوية المجتمعيَّة للإنسان. لا يمكن افتراضُ تلاشي أثر الدين بوصفه عنصرًا مكوِّنًا للذات في فَهْم الإنسان، وغياب تأثيره في مواقفه؛ لأنه غالبًا ما يترك أثرًا، وإن كان لا واعيًا، في بناء رؤية الإنسان للعالم، وطريقة فهمه للنصوص، ويتدخَّل في اختياراته واتِّخاذه مختلف المواقف في حياته. وذلك ما نراه عندما نتفحَّصُ فهم الناس ونحلِّل مواقفَهم؛ إذ نلمَح ضَرْبًا من التَّأثير من الترسُّباتِ العميقةِ للدِّين في التفكير والقرارات، والمواقف التي يتبنَّاها السياسيُّون في بلادنا، وعندما ننظر بعمقٍ نرى آثارَها، وإنْ كانت لا واعية لدى كثيرٍ من السياسيين في العالم.
حضورُ الدين في الدولة والسياسة والسلطة يتخذُ تعبيرَين؛ التعبير الأول تفرضه طبيعةُ الإنسان بوصفه كائنًا متدينًا، وأثر البنية اللاشعورية للدين في أعماقه، بنحوٍ لا يمكنه أن ينجوَ من أثر المكوِّنات المترسِّبة للدين الذي ورثه من أبوَيه ومجتمعه، خاصَّة إن كان الدينُ حاضرًا بكثافة في حياة الفرد والجماعة التي ينتمي إليها. نفي بصمة هذا التعبير والقول بأنها غير حاضرة، وإن بشكل لَا وَاعٍ، في الفهم والمواقف والقرارات السياسية للفرد؛ هو ضربٌ من التبسيط والفهم الساذج. وهذه حالة تخرج عن قدرة الإنسان على التحكم فيها.
التعبير الثاني لحضور الدين في الدولة والسياسة يتَّخذُ شكلَ الدعوة والعمل بمختلف الوسائل؛ من أجل بناء دولة دينيَّة في مجتمعات عالَم الإسلام اليوم، دولة تستأنف الماضي وتختلف عن معنى الدولة في الفكر السياسي الحديث. نموذجُ الدولة الدينية ينتمي إلى ما قبل الدولة الحديثة، ويعتمد تدوين دستورها ومختلف تشريعاتها وقوانينها وبرامجها على علم الكلام والفقه وفتاوى الفقهاء. وهذا الموقف تبنَّتْهُ الحركاتُ الإسلاميةُ، واستخدمَت مختلفَ الوسائل المشروعة كالانتخابات، أو غير المشروعة كالعنف المسلح، بغيةَ بناءِ هذه الدولة. وأغرقت حياة المسلمين بأوهام الوعود الخلاصيَّة، وزجَّتْ بأعداد غفيرة من الشباب إلى التضحية بمستقبلهم ومصائرهم، وصاروا وقودًا في معارك دامية قادتْ مستقبل أوطانهم إلى متاهات مظلمة.
(٤) تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة
نموذجُ الدولة الحديثة بُنيَ على الفكرِ السياسي، ونظريَّاتِ الدولةِ التي صاغها المفكِّرون في عَصْرَي النهضةِ والأنوار. الدولةُ الحديثة هي الدولةُ التي ما زلنا نتمنَّاها، ويلوذُ بها الهاربون من جورِ حكوماتِنا وعسفِها، منذ أن حدَّثنا عنها رجلُ الدين الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي (١٨٠١–١٨٧٣م)، الذي انبهر بنظامِ الحُكْمِ والتربيةِ والتعليمِ والثقافةِ والفنونِ والآدابِ في فرنسا، واهتمَّ بالتأليفِ والترجمةِ لنقلِ ما تعلَّمه وعاشه بباريس بعد عودته لوطنِه مصر، ويمكن الاطلاعُ على شيء من تجربته وانطباعاته في كتابِه الأثير: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».
ما زلنا حتى اليوم نحاولُ اقتباسَ أشكالِ دساتير الدولةِ الحديثة، وتعدُّديَّتِها السياسية وتداولِها السلمي للسلطة، ومشاركتها الشعبية وانتخاباتِها، وعملها على الفصلِ بين السلطات، وتفكيكِ تمركزها بيد شخصٍ واحد، وقدرتِها على تحريرِ المجتمع من تغوُّلِ السلطةِ وطُغيانِها، وحمايتها لأموالِ الشعب وثرواتِه من لصوصيَّةِ رجالِ السلطة.
لم تتأسَّس الدولةُ الحديثةُ إلَّا على القَانونِ الذي صنعه الإنسانُ، والقيم التي تتناغم مع روح هذا القانون، وتركَّزت استراتيجياتُها وبرامجُها في التربيةِ والتعليمِ والثقافةِ والإعلامِ على بناءِ شخصيةِ المواطنِ الذي يحترمُ القانونَ، ويكونُ مسئولًا حِيالَ المجتمع والدولة، ويكفل له القانونُ حرِّيَّاتِه وحقوقَه بوصفه إنسانًا؛ ولذلك نجحَت بإدارةِ التعدُّد وتدبيرِ التنوُّع، وحسمِ أكثرِ النِّزاعات بشكلٍ سِلمي.
لما كان بناءُ الدولة الحديثة لا ينجزه إلَّا القانون والقيم المتناغمة معه، يصبحُ الرهانُ في بناء دولتِنا على أساسِ حياةٍ روحيَّة خاويةٍ أو ضميرٍ أخلاقيٍّ هشٍّ، هو رهانٌ على أمرٍ لم يتحقَّق بعد، ولن يولد غدًا في فضاءِ تديُّن شكلي، لم ينجز هذا التديُّنُ وعودَه في بناءِ حياةٍ دينية سليمة، بعد أن فشلَ في تربية الروح وإيقاظِ جذوة الضمير الأخلاقي.
الدولةُ الحديثةُ تُبنَى على القانونِ الحديثِ والقيم المتناغمة معه، والصرامةِ العادلةِ في تطبيقه، أما التديُّنُ والتَّقْوَى فيمكن أن يساعِدَا في تطبيقِ القَانُون، بل لو انتفى التديُّنُ والتقوى لتمكَّنَ الإنسانُ من بناءِ هذه الدولةِ، ما دام هناك قانونٌ حديثٌ وقيمٌ متناغمةٌ معه، وعدالةٌ في تطبيقه على الكلِّ بالمُسَاواةِ، كما نجد نموذجَ هذه الدولة اليوم ماثلًا في العديد من البلدان؛ فقد تأسَّست الدولةُ الحديثةُ على أساسِ القانون ببلدانٍ مختلفة في أوروبا وكندا وأستراليا والولايات المتحدة وغيرها.
الرهانُ على بناء الإنسان الروحي والأخلاقي الداخلي، الذي تتعهَّدُه جماعاتٌ دينيَّةٌ ومَعاهِدُ تعليم دينيٍّ تَعتمدُ مُدوَّناتٍ كلاميةً وفقهيةً، لا يبني دولةً حديثة. لم تترقَّب المجتمعاتُ الأخرى جهودَ الكنائس والأديرة والمعابد، والمدارس والجماعات الدينية ومدوَّنات الدين واللاهوت، لتبني لها دولَها. الدولةُ التي أسَّسها الكهنوتُ الكنسي في العصور الوسطى استعبدت الإنسان، وتحكَّمت بكلِّ شيء في حياته. لم تترقَّب المجتمعاتُ من الكنيسة بناءَ دولةٍ حديثة، ولم تنشغل ببناء الإنسان الداخلي أوَّلًا، ليبني بعد ذلك هذا الإنسانُ الدولةَ، بل انشغلَت بتأسيسِ دَوْلَةٍ على أساسِ فكرٍ سياسي جديد، ولوائح للحريات والحقوق وَضَعَهَا فَلاسِفَةٌ ومفكِّرُون ومُشَرِّعُون.
أدركت هذه المجتمعاتُ ديناميكيةَ التغيير الاجتماعي العميقة، وكيف أنها جدليَّةٌ تفاعُليةٌ بين الخارج والداخل، بناءُ دولةٍ متينةٍ في الخارج من شأنِه أن يعملَ على بناء الإنسان من الداخل، وبناءُ الإنسان في الداخل من شأنه أن يعزِّز قدراتِ مؤسَّساتِ وأجهزةِ الدولة وفاعليتِها.
إن بناءَ الدولةِ الحديثةِ على أساس القانونِ لم يكُن على الضدِّ من نظامِ القِيَم والثَّقافة العامَّة في المجتمع الذي ظهرَت فيه، بل كانت القيمُ على الدَّوام متناغمةً مع القانون المطبَّق فيها والثقافة العامَّة للمُجتمع، بنحوٍ صارَت القِيَمُ في حياة المجتمع تتحدَّث لغةَ القانون، والقانونُ يتحدَّثُ لغةَ القِيَم، وكلاهما يتحدَّثان لغةَ ثقافة المجتمع، وكأنَّ الكلَّ ألحانُ سيمفونية واحدة.
بنية الدولة الحديثة تتجذَّر فيها القيمُ الضامنة لتطبيق القانون. أكثر المواطنين يتعاملون بصدق، وأمانة، وثقة، واحترام للمُختلف وحرياته وحقوقه الشخصيَّة، ويلتزمون بالقانون، ويتصرفون بذكاء في ميزانية الوقت، ويثابرون على العمل، وغيرها من القيم الإنسانية.
الإنسانُ في الدولة الحديثة ليس معصومًا، هذا الإنسانُ يشبه كلَّ البشر في مجتمعات أخرى. العلاقاتُ الاجتماعية ومعاملاتُ الناس وتنوُّع مصالحهم واختلافها تفضي إلى التنافس والتنازع، في كلِّ أشكال التنافس والتنازع لا يغيب الكذبُ والمراوغة والاحتيال. وجودُ القانون الحديث المبني على حمايةِ حقوق الإنسان وحريَّاتِه، والصرامةُ في تطبيق ذلك القانون، تجعلُ الناسَ أكثرَ صِدْقًا، وأكثرَ أمانَةً، وأكثرَ ثِقَةً، وأكثرَ احترامًا لحياة الغير الخاصَّة. طبيعةُ النِّظام السياسيِّ الحاكم الذي يحترم الحقوقَ والحرياتِ الشخصيةَ، وصرامةَ الحكومة في تطبيقِ القانون على الكلِّ بلا تمييز؛ تجعلُ هذا الإنسانَ أقلَّ كذبًا، وأقل خيانةً واستباحةً لحقِّ الغَيْر، وأقلَّ تطفُّلًا على الناس وانتهاكًا لحريَّاتهم وحقوقهم وخصوصيَّاتهم.
تأمينُ وحمايةُ الحريَّات الشخصيَّة والحقوق والضمان الاجتماعي واحترام الفردية، يجعلُ الناسَ أقلَّ خوفًا. الإنسانُ الذي يعيشُ في مجتمعٍ ودولة يسودها قانونٌ صارم يحمي الحرياتِ والحقوقَ الإنسانيةَ، شخصيتُه أبسطُ من الإنسان الذي يعيشُ في مجتمع ودولة تُصادَر فيها حريَّاتُه وحقوقُه، ويتعرَّض للاضطهاد والقمع. تنشأ لدى الإنسانِ المقموعِ شخصيةٌ ظاهرةٌ يحمي بها حياتَه من السُّلطة السياسيَّة والاجتماعية والدينية، وشخصيةٌ باطنية تعكس طبيعتَه الإنسانيَّة.
التناغمُ بين نظام القيم والقانون والثقافة العامة في الدولة الحديثة يعودُ إلى أنها كلها تنبثق من رؤيةٍ واحدةٍ للعالَم، وتنتَمِي إلى فضاءِ العقلِ الحديثِ ومكتسباتِه؛ لذلك لا نرى تناشُزًا بين سُلُوكِ المُواطِنِ وبين القَانونِ والقِيَمِ المُتناغمة معه والثقافة العامة. المواطنُ في هذه الدولة قلَّما يكذبُ أو يلجأ للتمويهِ والخداعِ والنفاق في سلوكِه ومواقفِه المختلفة، وقلَّما يلجَأ للمراوغةِ والتَّسْويفِ والإهمالِ والكسلِ في أداء وظيفتِه، سواءٌ أكان يعملُ في وظيفةٍ حكوميَّة أم غير حكوميَّة، للتناغم بين نظام القِيَمِ والقانون والثقافة العامة. نظامُ الحقوق والحريات يُمنَح للإنسانِ بوصفه إنسانًا، ويضمنُ له حرياتِه وحقوقَه مهما كان لونُه أو جنسُه أو معتقدُه، فلا يجد المواطنُ عندئذٍ حاجةً للكذب، أو السلوك غير المسئول الذي يعمل على تصدُّع بنية المجتمع والدولة. أما ما يُلاحَظ على سلوك بعض المهاجرين الجدد لهذه الدول، ممن يتورَّطون في ممارسات لا أخلاقية أحيانًا، مثل الكذب والتمويه والخداع والسرقة، فيعود إلى التناشُز الذي يحدث بين نظام القيم وثقافة المهاجر التي تبتني على رؤيته للعالَم، واختلافها عن نظام القيم والقانون السائد في بلاد إقامته حديثًا.
إن التناغمَ بين نظام القيم والقانون والثقافة العامة يشكِّلُ أرضية صلبة لبناء أية مؤسَّسة في الحياة. لو لم يتناغم نظامُ القِيَمِ مع القانونِ والثقافة العامة، أو حدث بينها فصامٌ، سيؤدِّي ذلك إلى حدوث اختلالاتٍ عميقة، تُهشِّم بنيةَ هذه المؤسَّسة وتبدِّدُها.
تحضرُ الثقةُ كقيمةٍ عُلْيَا في الدولِ المتقدِّمةِ. المعروف أنَّ رأسَ المالِ الاجتماعي يتراكم برصيد الثقة؛ لذلك نجد تطوُّرَ الدول يُقَاسُ بمدى بناءِ الثِّقَة وتجذُّرها بوصفِها قيمةً مجتمعيَّةً محوريَّةً في حياةِ مُواطِنِيهَا. في الدُّول المتقدِّمة تَرتفِعُ بدرجاتٍ قياسيَّة مُعدَّلاتُ: الصدقِ، والأمانَة، والإِخلاص، والنَّزاهَة، وتقدير قيمةِ الوَقْت، والمُثابَرة على العمل، والتَّعامُل مع المُواطن بوصفه مواطنًا وكفى، من دون النَّظَرِ إلى مُعْتَقَدِه أو إثنيَّته أو عشيرتِه أو طبقته، وذلك ما يدعو أكثرَ الناس الَّذين يتعامَلُون مع المؤسَّسات الحكوميَّة وغيرِها للشعور بالرِّضا وعدم المظلوميَّة. ويتناسب معدلُ النمو في كلِّ دولة مع قوة حضور هذه القيم في المجتمع، ويتراجع تبعًا لهشاشةِ حُضُورِها. وتُوفِّر الثقةُ وهذه القيمُ بمجموعِها حاضِنَةً حيويَّةً لانسجامِ المُجتمع مع القانون، وتظهرُ فاعليَّتُها بوضوحٍ في تطبيقِه وتنفيذِه بأقل كُلفة، وتُخفِّض بدرجةٍ كبيرةٍ حالةَ التَّناشُز بين المجتمع والدَّولة.
هناك فصامٌ بين نُظمِ الدَّوْلة الحديثة التي نطمَح إلى أن نبنيَها، ونظامِ القيم المشتق من ثقافتنا وتقاليدنا العشائرية والتديُّن الشكلي في مجتمعنا. يتكرَّر باستمرارٍ إخفاقُ محاولاتنا لبناء هذه الدولة، منذ خلاص بلادِنا من الاستعمار المباشر حتى اليوم، ففي كل مرة نبدأ في بناء دولتنا الحديثة ننتهي إلى انتكاسات مريعة، نرتدُّ معها إلى حيث بدأنا، ونعودُ لموقعنا الذي كُنَّا فيه، وكأننا ندور في مداراتٍ مُغْلَقة. لقد عجزنا عن توطين الدولة الحديثة في بلادِنا، إثر عجزنا عن إعادة بناءِ نظامِ القِيَمِ في ثقافتِنَا بما يتواءم ونُظم هذه الدولة، فانهارت تجربةُ بناءِ الدولة بعد كل محاولة جديدة، وعُدنا حيث كنا إلى نظامِ قيمِ بداوتنا وقبائلنا وتديُّننا الشَّكْلِي الذي هو على الضدِّ من الدولة الحديثة.
وبغية إعادةِ بناء نظامِ القيم في ثقافتنا بما يتواءَم ونُظم الدولة الحديثة، من الضروري استئنافُ قراءةِ النص الديني في سياق مناهجِ التأويلِ والمعارفِ الجديدة، ومتطلباتِ مجتمعات عالَم الإسلامِ اليوم. هذه القراءة يفرضُها إنتاجُ تناغُمٍ بين نظام القِيَمِ والقانون والثقافة الذي نحن بحاجةٍ ماسَّة إليه؛ لإنجازِ دولتنا الحديثة، وإعادة بناء مجتمعنا في ضوء الأُفُق التاريخي لعصرنا.
من الضروريِّ أن تتبصَّرَ القراءةُ الجديدةُ مَقاصدَ النَّصِّ، وتكتشفَ دلالاتِه العميقةَ، كي يضيءَ معناهُ حياتَنا، فننتقل مع هذا المعنى من أفقٍ ماضٍ إلى أفقٍ راهن. معنًى تحضر فيه الدلالاتُ الروحيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة المحوريَّة لبناء حياتِنا ومجتمعاتِنا، ويحرِّرنا من الدلالاتِ التي أسقطتها حاجاتٌ وأحلامٌ ورغباتٌ مكبوتةٌ لجماعاتٍ منفيَّةٍ في تاريخِ الإسلام، تلك الدلالاتُ الغريبة عن روح النصِّ ومراميه، والتي أخفقَت حتى اليوم في تشييد نظامِ قيمٍ يعمل على تربيةِ الرُّوح، وبَعْث الضَّميرِ الأخلاقي لدى معظم من يَأْتَمِنُه الشعبُ على بناءِ الأوطان وعمارةِ البلدان.
(٥) دولة المسلمين وتمثُّلاتها عبر التاريخ
حين تحدَّثت الجماعاتُ الدينيةُ عن إسلاميَّةِ الدولة لم تفسِّر ما الذي تريدُه بتوصيف «الإسلامية» هنا؛ إذ إن كلمةَ «الإسلام» تحيلُ تارةً إلى النصِّ الأوَّل «القرآن الكريم»، وثانيةً تحيلُ كلمةُ «الإسلام» إلى النصِّ الثاني الذي هو «تفسيراتُ وتأويلاتُ وشروح وقراءاتُ النصِّ الأوَّل»، أو ما نعبِّر عنه ﺑ «التراث الإسلامي» مثل: التفسير وعلوم القرآن، والفقه وأصوله، وعلم الكلام، والفلسفة، والتصوف … وغيرها، وثالثةً تحيلُ كلمةُ «الإسلام» إلى تمثُّلاتِ الإسلامِ العملية وتجسيدِه في الواقع في مسيرته الطويلة، بوصفه تجربةً بشريةً تفاعلَت مع المعطيات المتنوِّعة لكل عصر، وتشكَّلت تبعًا لثقافاتِ الشعوبِ المختلفة، وأنماطِ عيش المجتمعاتِ المتنوِّعة عبر التاريخ، وتجلياتِ حضارات المجتمعات التي آمنت بالإسلام.
الصِّنْفَان الثاني والثالث من الإسلام تشكَّلا بحسب طبائعِ وأحوالِ وثقافاتِ المجتمعات التي دخلت الإسلامَ، ما يعني أنَّ الإسلامَ وأيَّ دين آخر لا يتحقَّق إلَّا في التاريخ؛ فليست هناك ديانةٌ عابرةٌ للزمانِ والمكانِ وطبائعِ البشر ودرجةِ تمدُّنِ الإنسان، وليست هناك ديانةٌ تَتحقَّق في الحياة خارجَ التاريخِ البشري وصيرورتِه ومشروطيَّاتِه، وليس هناك دينٌ بلا تديُّن أو تديُّنٌ بلا دين. حركةُ التاريخ بطبيعتها لا تكفُّ عن الصَّيرورةِ والتحوُّل والتبدُّل، وتحقُّق الإسلام في التاريخ يعني الصيرورةَ والتحوُّلَ والتبدُّلَ في أنماطِ تمثُّلاتِ الإسلامِ وتجلِّيَاتِه في حياةِ المجتمعات.
لا يميِّز كثيرٌ من أتباع الجماعاتِ الدينيةِ بين إسلامِ الوَحْي، وإسلامِ التُّراث، وإسلامِ تجارب المسلمين عبر التاريخ، على الرَّغم من أنَّ إسلامَ التراث وإسلامَ تجارب المسلمين لم يتحقَّق بهما إسلامُ الوحي على الدوام، بل أحيانًا يشكِّلُ إسلامُ التراثِ وإسلامُ تجارب المسلمين ضدًّا لإسلامِ الوحي في المفهوماتِ والممارسات والمواقف. إسلامُ التراث وإسلامُ تجارب المسلمين ينطقان باسمِ كلِّ ملابسات التاريخ ومقولاتِه وإكراهاته وصراعاتِه. إسلامُ الوحيِ هو إسلامُ النبي محمد ( ﷺ) والقرآن الكريم، هو إسلامٌ يمتلكُ طاقاتٍ روحيَّةً وأخلاقيةً مُلهمةً للمسلم في كلِّ زمان، لو تبصَّرها المسلمُ بدرايةٍ في ضوء الأفقِ التاريخيِّ لعصره. إسلامُ التُّراثِ وإسلامُ تجارب المسلمين هما إسلامان تحقَّقَا في التاريخ؛ ما يعني أنَّ دولةَ المسلمين في الماضي كانتْ ناطقةً باسمِ تاريخ الإسلام السياسي، الذي تَمثَّل شكل الدولة فيه بالدولةِ السلطانية ودولةِ الخلافة، وهي تختلف كليًّا عن الدولةِ الحديثة.
إذن، لم يكن مضمونُ دولةِ المسلمين إسلاميًّا، بمعنى إسلام الوحي، في ظلِّ الخلفاء الأمويين والعباسيين، والسلاطين العثمانيين، والأمراء في دُوَيلات المسلمين، كما تدَّعي بعضُ أدبيَّات الجماعاتِ الدينية. ولم تكن مُدوَّناتُ «الأحكام السلطانية» سوى مفاهيم وآراء وفتاوَى أكثرها صدًى لمخيِّلة فقهاء ورجال دين وكتَّابِ سلاطين، لم يبتعدوا عن فضاءِ قصورِ الخلفاءِ والأمراءِ وبلاطِ السلاطين. وهي في الأعمِّ الغَالِب لا تعدُو أن تكونَ تسويغاتٍ تُضْفِي المشروعيَّةَ على ما هو كَائِنٌ ومتحقَّق من تدبيراتٍ وقراراتٍ وبروتوكولاتٍ ورسومٍ في دارِ الخلافة، وفرماناتِ قصورِ السلطنة؛ لذلك لا يصحُّ نعتُها بالإسلامية إلَّا بوصفها وُلِدَتْ في سياقاتٍ إسلاميةٍ.
(٦) التباس مفهوم مدنية الدولة
التفكيرُ في الدولةِ الحديثةِ لدى الجماعاتِ الدينية يستوحي البُنى القديمة لمرحلة ما قبل الدولة في تاريخنا، ويحيل إلى ميراث دولة الخلافة وغيرها في عالَم الإسلام؛ لذلك افتقرت أدبياتُ هذه الجماعاتِ إلى مفاهيم ومصطلحاتِ ولغة الدولة الحديثة. لا أتذكرُ، في حدود ما اطَّلعتُ عليه من كتاباتٍ سرِّية ومُعلَنة لهذه الجماعات، لغةً تتكلَّمُ مفاهيمَ ومصطلحاتِ دولة حديثة. كنتُ أظنُّ بأنهم أعادوا النظرَ بلغتهم بعد أن تسلَّموا السلطةَ في دول عدَّة، لكني راقبتُ كتاباتِ وأحاديثَ بعض قادة العراق اليوم، التي تُنشر وتُبثُّ على الهواء مباشرة، فقلما أقرأ أو أسمع فيها تكرُّر كلمات: الوطن، الوطنية، المسئولية الوطنية، الدولة، بلاد ما بين النهرَين، حضارة الرافدَين، العراق، حضارة عراقية، وغيرها. ما كنتُ أقرؤه وأسمعه لغةٌ تغرقها مصطلحاتٌ كلاميَّة وفقهية: واجب شرعي، تكليف شرعي، مسئولية شرعية، وظيفة شرعية، حرام، وجوب، أمر بمعروف ونهي عن منكر، بيعة، وغيرها من كلمات تُحيلُ إلى مصطلحات المتكلِّمين والفقهاء ومؤلَّفات الأحكام السلطانية.
أثار استغرابي حديثُ أحد هؤلاء الزعماء مع مجموعة من الأساتذة الجامعيين ببغداد بهذه اللغة، فتكلَّمتُ مع مستشار مقرَّب منه، وقلت له: من الضروري أن يعيدَ صاحبُك النظرَ في لغته؛ لأنه اليوم ليس واعظًا يلقي عظتَه بمسجد، بل هو قائدٌ سياسي يمثِّلُ كلَّ العراقيين بمختلف معتقداتهم وانتماءاتهم وإثنياتهم. إن ثقافةَ الوعظ غير فكر الدولة الحديثة، فكرُ الدولة يبتني على نظريات الدولة وآراء المفكرين في أسسها وأنواعها ونظمها، وكيفية بنائها في سياق معطيات الواقع، ونسيجِ شبكات المصالح المعقد والمتحرك، ومهاراتِ التسويات البراغماتية، بينما ثقافة الوعظ تبتني على مُثُلٍ وقيمٍ وأخلاقياتٍ عامة، وأحكامٍ فقهية تقوم على نظرية التكليف.
إن العملَ بموجب منطقِ التكليف الكلامي في المجال السياسي لا يَبْنِي دولةً حديثة، بل غالبًا ما ينتهي إلى نتائج تُخرِّب الحياةَ السياسيَّة، وتهدم الدولةَ الحديثة؛ ذلك أن للفعلِ المكلف به العبد، على وفق منطق التكليف، نتائجَ تنتهي أحيانًا إلى الضد من مصلحة الوطن والمواطن، ولا تسهم في بناء الدولة. المكلَّفُ بالتكليف الشرعي مسئول أن يُبرئ ذمتَه من التكليف، بقطع النظر عن نتائجِ الفعلِ وآثارِه؛ لذلك نجد أكثرَ الإسلاميين في السُّلطة يكرِّر هذه المقولة: يهمني أداءُ التكليف الشرعي، وإبراءُ الذمة أمامَ الله من الفعل المكلف به؛ لأنه يعتقد أنه مسئولٌ أمام الله، ومن ينوب عنه من الخلفاء. وقلَّما نسمع من يقول: مسئوليتي حيالَ الوطن والمواطن تفرض عليَّ العملَ من أجل مصلحة الوطن والمواطن، والسعيَ لاستثمار كل الإمكانات والفُرَص المتاحة من أجل بناءِ الدولة وإسعادِ المواطن. أمَّا في الدولةِ الحديثة، فكلُّ من هو في السلطة يعتقدُ أنه مسئولٌ أمام المواطنِ والوطنِ؛ لذلك ينهضُ بوظيفتِه في تأمين متطلبات المواطن والوطن المسئولِ عنها.
الهروبُ من تسميةِ الأشياءِ بأسمائها إحدى المشكلات العميقة في التفكير الديني، في أدبيات الإسلام السياسي في العصر الحديث. هناك تسمياتٌ متنوِّعة للدولة التي ينشدونها اليوم، على الرغم من إيمان كلِّ هؤلاء بأن الدينَ يهدف إلى بناءِ دولةٍ في سياق مدوَّنتِه الكلامية والفقهية وأحكامِها. يختلف دعاةُ هذه الدولة؛ فمنهم من يتبنَّى النموذجَ الذي ظَهَر في تاريخ الإسلام على شكل: خلافة إسلامية، دولة إمامة، سلطنة إسلامية، دولة إسلامية، إمارة إسلامية. وربما نفى بعضُهم مشروعيةَ تمثيل هذه الدول للدين، فخصَّ بذلك الخلافةَ الراشدةَ مُلحِقًا مدَّةَ خلافة عمر بن عبد العزيز في العصر الأموي أيضًا، أو رأى بعضٌ آخر أن دولةَ الإسلام مثَّلتْها دول خلافة وسلطنة أخرى. ذلك ما تشير إليه أدبياتُ الجماعات الدينية، على اختلافٍ بينها في ضيق وسعة صدق هذه العناوين على كلِّ هذه الأمثلة أو بعضها، أحيانًا يُدخِل بعضُهم كلَّ هذه الدول، فيما يقتصر آخرون على بعضها الآخر أو نموذجٍ فريد منها.
بعد تحدِّي الدولة الحديثة وكلِّ ما تعدُ به، من تمثيلٍ شعبي وانتخاباتٍ وتداوُلٍ سلمي للسلطة، وفصلٍ بين السلطات، وغيرِ ذلك من مكاسبَ مهمَّةٍ في الحقولِ المختلفة، اضطرَّ الإسلاميُّون إلى الانتقال في القرن الجديد إلى اقتراح أسماء بديلة، مثل: دولة الإنسان، الدولة الحضاريَّة، الدولة المدنية … وغير ذلك من مسمَّياتٍ تفتقرُ لغطاء نظري واضح. أكثر هذه التسميات شيوعًا في خطاباتِ وكتاباتِ الجماعاتِ الدينيَّة أخيرًا هي: «الدولة المدنية». لعل معظمَ مَن يتداولون هذه التسميةَ لم يُدركوا مغزاها، ولم يتعرَّفوا على سياقات ولادةِ مفهوم «المدنية» وتشكُّله كمصطلح، ومتى وُصِفت الدولة به.
إن تسمياتٍ مثل: «دولة الإنسان، الدولة الحضارية، الدولة المدنية …» في خطابات وكتابات الجماعات الدينيَّة اليوم ملتبسةٌ غامضة، تشوِّش فهمَ المتلقِّي، وتصعِّب عليه أن يتعرَّف على دلالةِ كلِّ تسميةٍ وتوصيفِها بوضوحٍ، وما الذي يحيل إليه الفرقُ بين النموذجَين، فإن كان مقصودُ بعض الإسلاميين من مضامين هذه التسمياتِ: أنَّ الدولةَ ظاهرةٌ إلهيةٌ وحيانيةٌ نبويةٌ، تبتنِي على أحكام المدوَّنة الكلامية والفقهية، وتقترح أمثلةً تاريخية لشرح هذا النموذج تمثَّلت بالخلافة الراشدة والأموية والعباسية، والسلطنة العثمانية، ودولة الإمامة الزيدية، والإمامة الإباضية العمانية، فمن الواضح أن هذه التسميات لا تنطبق على الدول التي ظهرَت قبل الدولة الحديثة.
وإنْ كان مقصودُ بعضٍ آخرَ من الإسلاميين من تسميات: «دولة الإنسان، الدولة الحضارية، الدولة المدنية …»، هي الدولة الحديثة بكلِّ رؤيتها الفلسفيَّة للإنسانِ والعالَم، ومرتكزاتِها النظرية، وهياكلِها التنظيميَّة والإدارية، فلماذا الاختباء خلف أسماء مبهمة، لا تعبِّر عن الدولة الحديثة بصراحة؟ خاصة وأنَّ بعضَ الكتَّاب والمتحدِّثين من الجماعات الدينية يحشد كلَّ شيءٍ يظنُّه سببًا لبناء دولةٍ حديثةٍ تحت مظلَّة المسمَّى الذي يستعمله، وغالبًا ما يطعِّمه بشيءٍ من التوابل الدينية، كانتقاء بعض النصوص والفتاوى الملتقطة من المدوَّنة الفقهية، وشيءٍ مما تحكيه تمثُّلاتُ السُّلْطَة في السِّياقات الإسلاميَّة.
على الرغم من أنَّ الذي يُفهَم من مضامِينِ توصيفاتِ النَّموذج الثَّاني أنَّ الدولةَ ظاهرةٌ بشريَّةٌ أَنْتَجَها الإِنسانُ، ولا علاقةَ لها بالوحيِ والأنبياءِ، وكلُّ ما هو بشريٌّ في السِّياسَة والحُكْم لا علاقةَ له بالوَحْي. وهو ما لا يُريده الكثيرُون ممَّن يتداوَلُونَ هذه التَّسميات من كُتَّاب الأدبيَّات الدينيَّة السياسيَّة، كما تؤشِّر إليهِ كلماتُهم. وهذه مفارقةٌ يقع فيها بعضُ دعاةِ الدولةِ الدِّينيَّة، ممَّن يختبئون خلفَ تسمياتٍ تَحْظَى بقبولِ أكثر المواطنين، بغية تسويقها، وفي محاولةٍ منهم للفرار من تركة النَّماذِج الأُولى للأسماء التي أفشلتها تجاربُ التطبيق اليوم، مضافًا إلى البراءة من تشوُّهاتِ أمثلتها في التاريخ.
إن حديثي هنا هو بصدد الكشفِ عن الاستعمال المُلْتَبِس والفوضوي والمبتذل أحيانًا لمصطلح «مدنية الدولة»، الذي شاع لدى الجماعاتِ الدينيَّة أخيرًا، ولم أنشد التعريفَ بمعناه اللُّغوي، أو بحث تاريخ ظهور مصطلح «مدنية»، والسياقات التي اكتنفَت نشأة وتطور دلالته في التُّراث الإسلامي؛ لذلك لم أتعرَّض لحضورِه في التُّراث؛ لأنه خارج مقام البحث. وعلى الرغم من أنَّ مصطلحَ «مدنية» مستعملٌ في مؤلَّفات الفارابي وغيره من فلاسفة الإسلام، لكنَّه مُشترك لفظيٌّ؛ إذ كان يُستعمل في التراث بمعنًى غير المعنى المستعمل فيه اليوم في أدبيَّاتِ الإسلاميِّين.
علومُ الدين حقلٌ من حقول المعرفة العامَّة، وهي محكومةٌ بمنطق الخطأ والصواب، وتطوُّر الوَعْي البَشري المحكومةِ بها المعارفُ والعلومُ كلُّها. علومُ الدين التي تضعُنا في أُفق العصر وأسئلته ومتطلَّباته يجب أن تبتنيَ على مُسلَّماتٍ معرفية؛ مضمونها: لا نهائية المعرفة الدينية ولا أبديتها، وعدم بلوغ هذه المعرفة مدياتِها القصوى في أيِّ زمان، وليستْ هناك أصولٌ وقواعد أبديَّة يمكن استعمالُها لكل زمان في فهمِ الدين وقراءةِ نصوصِه؛ فكلُّ عصرٍ يُنتج أصولَ فَهْمه للدِّين وقواعدَ تفسيره لنصوصه، في سياق تطوُّر علوم الإنسان ومعارفِه.
لاحظتُ أنَّ أكثر الجماعاتِ الدينيَّة في السلطة تؤكِّد على مظلوميَّتها واضطهادها والتعسف في معاملتِها من كلِّ الأنظمةِ السياسيَّة، وتتَّخذ من ذلك ذريعةً لكلِّ أشكال التَّمييز بين المُواطِنين، والسَّطْو على المال العام، والانتهاكات الواسعة لحقِّ المواطنة. وكأنها تَطْلُب من الوَطن تعويضًا لما تعرَّضَتْ له، وإن كان لا مشروعًا، وإن كان يؤدِّي إلى انتهاكاتٍ شنيعةٍ للقوانين وتخريبٍ للدولة. كأنه مثلما يحتاجُ بعضُ الأشخاصِ لتمثيلِ دورِ الضحيةِ تعويضًا لما فاته من الاعتراف؛ بسبب ما تعرَّضَ له من تهميشٍ واضطهادٍ في حياته، كذلك تحتاجُ بعضُ الجماعاتِ لتمثيل دور الضحية لتعويض ما فاتها من اعتراف؛ بسبب ما تعرَّضَت له من تهميشٍ واضطهادٍ في تاريخها، ومثلُ هذه الجماعات غالبًا ما يتعاطى مع الوطن بوصفه غنيمةً، تجهز عليها وتفترسها، عندما تمتلكُ السلطةَ السياسيةَ.
(٧) الديمقراطيةُ ليسَت محايدةً
فرضت «قوةُ الواقعِ» على من كانوا ينادون بتطبيقِ المدوَّنةِ الفقهية عند تأسيس دولتهم الدينية؛ التنازُلَ بالتدريج عن أهم شعاراتهم الأساسية. وأعني ﺑ «قوةِ الواقع» شيوع ثقافة الحقوق والحريات في مجتمعات عالَم الإسلام؛ بسبب غزارةِ ما يتدفَّقُ من الفضائيَّاتِ ووسائلِ الاتصال والإعلام المتنوِّعة. لم تَعُد الدعوةُ لتطبيقِ الشريعةِ وإقامةِ الحدود أولويةً حاضرةً في أحاديثِ وكتاباتِ الجماعات الدينية؛ فقد تعاطَت هذه الجماعاتُ معها بمنطقٍ ذرائعيٍّ بعد شيوع ثقافةِ الحريات والحقوق؛ إذ فرضتْ «قوةُ الواقع» عليها أن تُؤجِّل أو تترك الدعوة لتطبيق الحدود والتعزيرات المعروفة في المدوَّنة الفقهية؛ كقطع اليد والرجم والجلد وغيرها، بل لم نقرأْ أو نسمعْ من معظم الإسلاميين في السلطة منذ سنوات حديثًا يردِّد شعارَ تطبيق الشريعة في مؤسَّسات الدولة والمجتمع. هذا الشعارُ كان وما زال أهمَّ مبرِّر في أدبياتهم لإقامة الدولة الدينية، والهدفَ المحوريَّ لتأسيسِ هذه الجماعات وانخراطِها في العمل السياسي وصراعِها المزمن على السلطة والثروة.
بموازاة هذا الموقف اللافت، لا نعثر على ما يؤشِّرُ لتحوُّلٍ فكريٍّ تعكسُه مراجعاتٌ نقديةٌ لمؤلَّفاتِ كُتَّابِهم، أو رؤيةٍ نظرية تحدِّد الأُسس الأوَّليَّةَ لخارطة طريق بناء دولة حديثة، خارج أحكامِ الفقه ومقولاتِ عِلْمِ الكلامِ القديم، أو وثيقةٍ فكرية تُعلن انتقالَهم إلى محطَّة أخرى تتصالح مع أصوات الحريَّات والحقوق التي أرغمَتْهم على الصمت، وفرضَت عليهم نسيانَ حدِّ الرجمِ والجلد وقطعِ يد السارق، وغيرِ ذلك من الحدود والتعزيرات.
ميزةُ الدولة الحديثة أنها دولةُ متخصِّصين وخبراء في مجالات العلوم والمعارف البشرية المختلفة. يتعذَّر بناءُ أية دولة حديثة من دون هؤلاء المتخصِّصين والخبراء. إن عدمَ الاكتراث بالعلوم والمعارف البشرية، وتجاهلَ أهمية الخبراء المتخصِّصين في بناء الدولة، هو بمثابة من يريد تأسيسَ مستشفًى بلا أطباء. الموقفُ الارتيابي من المعارف والعلوم الحديثة، تشبَّع به الكثيرُ من أدبيات الجماعات الدينية، على الرغم من اختلاف أشكال وأساليب تعبيرها عنه، فإنها تشترك في حالة سوء الظن من أية معرفةٍ في مجال العلوم السياسية والحقوقِ والحرياتِ لم ينتجها مسلمون، على الرغم من كونيتها وحاجة كل البشر إليها.
واحدةٌ من الثَّغرات التي يُمْنَى بها الفكرُ الديني في الإسلام اليوم كثرةُ المتحدِّثين والكتَّاب باسم الدين، رغم أنَّ معظمهم من غير الخُبراء، فكثيرون منهم لم يتعلَّموا في الحوزاتِ والحواضر والمدارس والجامعات ومعاهد التعليم المتخصِّصة بالدراسات الدينية، ولم يكتسبوا تكوينًا تراثيًّا يستوعبون فيه معارفَ الدين. مضافًا إلى أنَّ هؤلاء المتحدِّثين والكتَّاب «غير الخبراء بالدِّين»، هم أيضًا لم يتكوَّنوا تكوينًا حديثًا في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، ومع ذلك نجدهم يُفتون بما لا يعلمون في مختلف الوقائع، ويتحدَّثون بما لا يعرفون، ويكتبون ما لا يفقهون. أدبياتُ الإسلام السياسي في بلادنا العربية نسخةٌ وعظية مبسطة هشَّة لمدوَّنة علم الكلام والفقه، أنتجها مهندسون في الغالب؛ لذلك لا تعبِّر عن قراءةٍ متعمقةٍ في التراث، ولا تمتلك أدوات محترفة في تفسير الكتاب الكريم والسُّنة الشريفة، كالتي يمتلكها المتكلِّمون والفقهاء والمفسِّرون والمحدثون.
ليس في عالمنا ما هو آلياتٌ وأوعيةٌ محايدة، حتى التكنولوجيا ليسَت محايدة، ذلك أن التكنولوجيا تحدِّد نمطَ حضورِنا في العالم، وتخلق لنا الكيفيةَ التي يتحقَّق فيها وجودُنا على وفق تفسير الفيلسوف مارتن هايدغر. التكنولوجيا ليست آلاتٍ وأشياءَ مادية صمَّاء ميتة، التكنولوجيا تمتلك لغتَها التي تحكي رؤيتَها البديلة للعالَم، ومنظومةَ القيم التي يفرضها الطورُ الوجودي الذي تعدُ به؛ لذلك تُفْضِي استعارةُ التكنولوجيا إلى تصدُّعِ البنى التقليدية، وتهشيمِها لاحقًا. تكنولوجيا المعلومات مثلًا، تحقَّقَت من خلالها كيفيةُ حضورٍ مختلفة لنا اليوم في العالَم. الإنسان مثلما يبتكر التكنولوجيا ويصنعها، هي أيضًا تعيد ابتكارَ حضوره في العالَم، وتصنع له نمطَ حياته الجديد؛ المشتقَّ منها، والمحاكي لها.
وهذا النمطُ الجديدُ للحياة أضحى فيه الإنسانُ في صيرورةٍ أبديَّة، لا تكفُّ عن التحوُّل، ولا تتوانى عن العبور، ولا تتوقَّف في محطة إلَّا لتلتقط أنفاسَها فتواصل الرحيل. لم يعد الإنسانُ كما عرفته أكثرُ الفلسفات القديمة؛ كائنًا عاقلًا يلبثُ حيث هو، لا يكون جزءًا من شيء أو يكون جزءًا لشيء، بل صارَ الإنسانُ في المفهومِ الحديثِ كأنَّه جزءٌ من كلٍّ، هو محصِّلةٌ لما حوله، أي إنه في «حالة المابين»، كأن الإنسانَ مسافرٌ أبدي، لا ينفكُّ عن التَّرحال، لا يمكث بمحلٍّ إلَّا ليغادرَه إلى محلٍّ غيره، تبعًا لنمطِ الوجود السيَّار المتحرِّك لكلِّ ما هو حوله، فكلُّ ما حوله يسير به، ويسير معه.
إنسانُ اليوم كائنٌ سندبادي، يتلقَّى مختلفَ الثقافات في الآنِ نفسِه، من دون أن يغادرَ موطنَه. إنه يعيش جغرافيا جديدة، تضاريسُها هُلاميةٌ، حدودُها واهيةٌ، أمكنتُها متداخلةٌ، ثقافتُها ملوَّنةٌ، هُويتُها تركيبيةٌ. شكلُ حياته هو الأشدُّ غرابةً منذ فجر التاريخ.