عندما يتجاوز الدينُ حدودَه
(١) أنسنة الإسلاميات لا أسلمة الإنسانيات
تنوَّعت المواقفُ منه تبعًا لاختلاف مرجعيَّات المتحدِّثين؛ فمنهم من طالبه بالتريُّث، ومنهم من استهجن تلك التوبةَ بعد فوات الأوان. فمثلًا كتب المفكِّرُ المعروف عبد الكريم سروش نقدًا لاذعًا لرسالة داوري، لا يخلو من سخرية وتهكُّم وإدانة؛ لكون سروش من أوائل الذين أعلنوا أن لا جدوى من البحث عن تلك الهُويَّة الضائعة، في الوقت الذي لبثَ داوري وأضرابُهُ من أصلب المدافعين عن ضرورة البحث عن البصمة الدينية والمحلية في العلوم.
ولأهميةِ هذه القضية، وحضورِها المكثَّف منذ أكثر من منتصف القرن الماضي في التفكير الديني في عالَم الإسلام، وتجدُّدِ النقاش بشأنها اليوم، نحاول هنا إيضاحَ شيءٍ من الرهاناتِ التي تشكَّلت في فضائِها، وآفاقِ الانتظار المولدة لها، والرغباتِ التي غذَّتها، وما اكتنفها من تمنِّياتٍ وأحلامٍ والتباساتٍ وأوهامٍ.
كنتُ قبل أن أبلغ العشرين عامًا كغيري من فتية الجماعات الدينية مولعًا بالبحث عن هُويَّةٍ دينيةٍ للعلم؛ لذلك مضيتُ أُنقِّب في المكتبة عن كتابات تفسِّر القرآنَ الكريمَ تفسيرًا علميًّا. وفي مرحلةٍ لاحقةٍ من حياتي بدأتُ أفتِّش عن كلِّ إشارة يمكنني تصنيف انتمائها للعصور الحديثة في تراثنِا الديني، فإنْ لم أجد في هذا التراث ما يؤشِّر إلى ذلك، أسعَ إلى العثور على محاولات تسعى لتوطينه بأيِّ شكل. مثلًا كنتُ أحسب المدوَّنةَ الفقهيةَ تتَّسع لكلِّ نُظُم الدولة الحديثة، بل كنتُ أُمنِّي نفسي بالعثور على كلِّ ما جاء به علمُ الاقتصاد الحديث، والعلومُ السياسية، ولوائحُ الحقوق والحريات والقوانين في هذه المدوَّنة.
لعل هاجسَ العثورِ على هُويةٍ دينية للعلم وأسلمةِ المعرفة، كان أهمَّ الدوافع لأنْ أنفقَ معظمَ حياتي في تعلُّم معارف الدين في الحوزة، وأُعلِّمها، وأكتب فيها، لكني قبلَ ثلاثين عامًا أدركتُ أن لا هويةَ دينية للعلم والمعرفة، ووجدتُ تفكيري قد تاه في متاهاتِ أسلمة الإنسانيات التي سرقت من العمر سنواتٍ ثمينة، كنتُ فيها كالظمآن الذي يطارد سرابًا يحسبه ماءً.
لم أَصِل إلى هذه القناعة إلَّا بعد توغُّلي العميق في التراث الديني، ودراستي لمعارف الدين والفلسفة وعلم الكلام والعرفان والفقه وأصوله، مضافًا إلى جهودي المستمرَّة منذ سنوات طويلة في استيعاب الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة.
(٢) تلاعبُ الهُويَّة المُغلقَة بالمعرفة
لكلِّ مجتمعٍ ديانتُه ولغتُه وثقافتُه وتاريخُه وجغرافيتُه، لكن لا ينفرد كلُّ مجتمعٍ بقوانين تطوُّره الخاصَّة. قوانينُ تطوُّر المجتمعات كليةٌ لا يختصُّ بها مجتمعٌ دون سواه. المجتمعاتُ جميعًا تشتركُ في أنها تنمو وتراكم تجاربَها وتتطوَّر لو توافرت عواملُ نهوضِها، كما أنها تتخلَّفُ وتتدهور وتنهار لو لم تتخلَّص من عوامل انهيارها. المجتمعاتُ كلُّها تسري عليها قوانينُ البناء والتطور ذاتُها، وتشتركُ في العناصر الأساسيَّة التي يُنتجُ النهوضَ توافرُها والانهيارَ غيابُها.
منطقُ التاريخ وقوانينُه شاملة، لكنْ هناك شعور كامن في لا وعي كثيرين من الناس في مجتمعنا، بأنه استثناءٌ في حضارتِه وهويتِه ومعتقدِه وثقافتِه وتاريخِه، وكأن تاريخَه لا يخضع لما يخضع له تاريخُ المجتمعات من قوانين، وثقافتُه تتفوقُ على كل الثقافات، وتراثُه يختلفُ عن كل تراث، وهُويتُه تنفرد بخصوصيَّات استثنائية. وظلَّ الشعورُ بالخصوصية والاستثناء يغذِّي الهويةَ باستمرار، حتى تصلَّبتْ وانغلقتْ على نفسها، فبلغت حالةً تتخيَّل فيها أنها مكتفيةٌ بذاتها؛ لأن كلَّ ما تحتاجه في حاضرها ومستقبلها يمدُّها به ماضيها. تراثُها منجمٌ زاخرٌ بكل ما هو ضروري لكل عملية بناء ونهوض، وعلومُها ومعارفُها الموروثةُ تُغنيها عن كلِّ علم ومعرفة تبتكرها المجتمعاتُ الأخرى، وهي ليست بحاجة إلى استيراد ما أبدعه غيرُها؛ لأنه منتجٌ لمجتمع أجنبي، ينتهك خصوصيتَها، ويهدِّد هويتَها، وتتغرَّب به.
كانت أكثرُ أدبيَّات الجماعات القومية والدينية تغذِّي هذا الشعور، وتلحُّ على الإعلاءِ من مكانة التراث، والإيحاءِ بأنَّ بعثَه كما هو يكفل نهوضَ مجتمعنا، ولا حاجةَ للإفادة من علوم ومعارف وثقافات غريبة عنه. وقد بالغَت هذه الجماعاتُ في التشديد على الخصوصية والاستثناء، حتى انتهى ذلك إلى موقفٍ خائفٍ من كل ما ينتمي للآخر ومنجزاته وعلومه ومعارفه وثقافته.
في فضاء هذا اللون من التفكير، المُعَادِي للفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، وقعَ تفكيرُ المسلم في حيرة؛ فهو حائرٌ بين أن يدعَ كلَّ المكاسب الحديثة لهذه العلوم، وهو موقف يتعذَّر اتخاذُه على مَن يريد أن يحضر في العالم اليوم، وبين أن يلجأ إلى خيار يحسب أنه يخرجه من المأزق، ويتمثَّل بالعملِ على إثراءِ رصيدِه من هذه المكاسب، من خلال خلع غطاء من النصوص الدينية عليها، وليرضيَ ضميرَه بتوهُّم أن هذه العلومَ دينيةٌ؛ لأنه استحوذ عليها من خلال هذا الغطاء، فأصبح يتملَّكه شعورٌ بأنه هو من أبدعها، وكأن النصوصَ الدينيةَ إكسيرٌ تتبدَّل به طبيعةُ الأشياء، فبمجرد أن نسقيها إلى أي علم ومعرفة تتبدَّل فجأةً من دنيوية إلى دينية. من الواضح أن هذه العمليةَ شكليةٌ فارغةٌ من دون مضمون حقيقي.
حقلُ العلم غيرُ حقل الدين، وحقلُ المعرفة غيرُ حقل الإيمان. وظيفةُ العلم غيرُ وظيفة الدين، ووظيفةُ المعرفة غيرُ وظيفة الإيمان. مهمةُ رجل العلم في الحياة غيرُ مهمة رجل الدين. مهمةُ رجل الإيمان في الحياة غيرُ مهمة رجل المعرفة. العلومُ كونيَّةٌ لا هويةَ دينية واعتقادية وأيديولوجية لها، وإلَّا فلو حاول كلُّ مجتمع أن يبتكر العلومَ من جديد، ويشتقَّها في فضاء دينه ومعتقده وميراثه، بدعوى أن العلومَ تأسرها بيئاتُ وثقافاتُ ودياناتُ مَن ينتجها، فإن ذلك، فضلًا عن أنه مُتعذَّر؛ لأن البشريةَ احتاجت لآلاف السنين حتى وصلت العلومُ إلى هذه المرتبة، يفضي أيضًا إلى تعدُّد العلوم والمعارف بعدد الأديان والمعتقدات والثقافات في المجتمعات البشرية، وهذا ما يكذِّبه الحضورُ المكثَّف للعلوم والمعارف ذاتِها في العالَم كلِّه؛ إذ نجدها ماثلةً في مراكز الأبحاث والتربية والتعليم والتكنولوجيا ومختلف مجالات الحياة، سواء أكانت في الولايات المتَّحدة الأمريكية أو أستراليا أو بريطانيا، أو روسيا أو فرنسا أو الهند، أو الصين أو اليابان أو ماليزيا، أو إيران أو تركيا أو مصر.
إن تاريخَ العلم هو تاريخُ تفنيد الأخطاء. تطوُّرُ العلم تراكمي، لا يبدأ العلمُ من الصفر في كل مرة، ولا تعمد المجتمعاتُ لإعادةِ اكتشاف ما اكتشفه غيرُها، أو البحثِ من جديد عما هو ناجز من معطيات العلم. حقلُ العلوم الطبيعية وقوانينُها يختصَّان بعالم المادة، ويمكن اكتشافُ الطبيعة من خلال التَّعاطي مع هذا العالم بشكل مباشر، بأدوات ووسائل مادية في المختبرات وغيرها. اكتشف الفلكيُّون في العالم الحديث الفلكَ بالتلسكوبات والمناظير الحديثة، وهكذا اكتشف نيوتن الجاذبيةَ، وأديسون الكهرباءَ … وغيرُهم. المكتشفون والمخترعون المسيحيون واليهود في الغرب الحديث تعاملوا مباشرةً مع الطبيعة، ولم يعتمدوا التوراةَ والإنجيلَ في اكتشاف عالم الطبيعة والتعرُّف عليه. وعلماءُ الطبيعة في تراثنا العلمي مثل ابن الهيثم والبيروني والرازي والخوارزمي وغيرِهم تعاملوا مباشرةً مع الطبيعة، ولم يعتمدوا القرآنَ في اكتشاف قوانين الطبيعة والتعرُّف عليها. وإن كان حثُّ القرآن الكريم على التفكُّر والنظر والتدبُّر والتبصُّر ذا تأثيرٍ ملموسٍ في تحريرِ عقل المسلمين من الأغلال، وتحريضِهم على تأمُّل الطبيعة، والتفكيرِ العميق في آفاقها، والسعي لاكتشاف قوانينها.
عندما ندرسُ الفلسفةَ الحديثةَ وعلومَ الإنسان والمجتمع في السياق الغربي لا نجد نظرياتِها مستنبطةً أو منبثقةً من نصوص التوراةِ والإنجيلِ؛ إذ وُلدت كلُّ تلك النظريات من خارج نصوصه، ولم يتحدَّث هذا الكتابُ عنها تصريحًا أو تلويحًا، بل كان الكثيرُ ممن أبدعوا تلك النظريات لا يؤمنون بهذا الكتاب أو يعتقدون بقدسيته. وإن كانت الأسئلةُ المتنوِّعة والجدلُ حوله ذاتَ أثرٍ واضح في تطوُّر هذه العلوم واتساعِ مدياتها؛ فقد ظلَّت الأسئلةُ الكبيرةُ تتوالد على التوالي عن كيفيةِ تشكُّل الكتاب المقدس وتاريخِ تدوينه، وما تشتمل عليه نصوصُه من ميتافيزيقا ومعتقدات وقيم روحية وأخلاقية وقصص وأحداث. وعن قراءاته المتجدِّدة والمختلفة باختلاف الأزمنة.
قادَ الموقفُ الأعمى من العلم والمعرفة الحديثة للتلاعب بها، فكما يتلاعب المعتقدُ بالعلم والمعرفة، تتلاعب الهويةُ المغلقةُ بها أيضًا. إن الهويةَ والمُعتقَدَ متفاعلان، لكن تأثيرَ كلٍّ منهما على شاكلته وبطريقته الخاصة. الطريقةُ التي تلاعب بها المعتقدُ تشاكلُ شباكَ المعتقد وتشعُّبه، والطريقةُ التي تلاعبت بها الهويةُ تشاكلُ شباكَ الهُوية وتشعُّبها.
لكلِّ جماعةٍ بشرية شغفٌ بإنتاج هُوية خاصة مُصطفاة، على وفق ما ترسمه احتياجاتُها وأحلامُها وآفاقُ انتظارها، وما تتعرَّض له من إخفاقات وإكراهات. وكلُّ ذلك يسهم في كيفية بناء معتقدها، ويحدِّد ألوانَ رسمها لصورِه المتنوِّعة وتعبيراتِه في الزمان والمكان، ثم تُدمَجُ صورُ المعتقد لتدخل عنصرًا في مكونات هذه الهوية، بجوار العناصر الإثنية والثقافية واللغوية والرمزية وغيرها، بالشكل الذي يجعل المعتقدَ عنصرًا فاعلًا ومنفعلًا داخل الهُوية. كذلك تدخل الهويةُ في مكونات المعتقد؛ إذ تتغذَّى منه الهويةُ ويتغذَّى منها، فإن كان المعتقدُ مغلقًا يؤدي ذلك إلى انغلاق الهوية، وإن كانت الهويةُ مغلقةً يؤدي ذلك إلى انغلاق المعتقد. ويتشكَّل مفهومُ الحقيقة على وفقهما. المعتقدُ والهويةُ ينشدان إنتاجَ الحقيقة على وفق رهاناتهما ومطامحهما ومعاييرهما، سواء أكانت تلك الحقيقةُ دينيةً أو غيرَ دينية.
كما يتلاعبُ المعتقدُ والهويةُ المغلقان بالمعرفة يتلاعبان بالذاكرة أيضًا؛ إذ تعمل الهويةُ المغلقةُ على إعادة خلقِ ذاكرةٍ موازية لها، تنتقي فيها من كلِّ شيء، في تاريخها وتراثها، ما هو الأجمل والأكمل، ولا تكتفي بذلك، بل تسلب ما يمكنها من الأجمل والأكمل في تاريخ وتراث ما حولها، فتستولي على ما هو مضيءٌ فيه. يجري كلُّ ذلك في ضوء اصطفاء الهوية لذاتها؛ لذلك تعمد لحذف كلِّ خساراتِ الماضي وإخفاقاتِه من ذاكرة الجماعة، ولا تتوقَّف عند ذلك، بل تسعى لتشويهِ ماضي جماعاتٍ مجاورةٍ لها، والتكتمِ على مكاسبها ومنجزاتها عبر التاريخ.
في الهُويَّة المغلقة يُعيد مُتخيِّلُ الجماعة كتابةَ تاريخها، في أفقٍ يتحول فيه الماضي إلى سردية رومانسية فاتنة، ويصبح العجزُ عن بناء الحاضر استعادةً مهووسةً بالأمجاد العتيقة، ويجري ضخُّ الذاكرة الجمعية بتاريخٍ مُتخيَّلٍ يضمحلُّ فيه حضورُ التاريخ الأرضي، وتُخلع على الحوادث والشخصيات، والرموز والأفكار، والمعتقدات والآداب والفنون هالةٌ أسطورية، تتحدَّث عنها وكأنها خارجَ الزمان والمكان والواقع الذي ظهرَت وتكوَّنَت وعاشَت فيه.
الهويةُ المغلقةُ ضحيةُ التلفيق
تشتدُّ حالةُ اصطفاءِ الهُوية ووضعِها فوق التاريخ في مراحلِ الإخفاق الحضاري، وعجزِ المجتمعات عن الإسهام في صناعة العالَم الذي تعيش فيه؛ لذلك تسعى للاستيلاءِ على المكاسب الكبيرة للآخر، وإيداعِها في مكاسبها الموروثة، من خلال القيام بعمليات تلفيق متنوعة، تتَّسع لكلِّ ما هو خلَّاق مما ابتكره وصنعه غيرُها. وذلك أبرزُ مأزقٍ اختنقَت فيه هويتُنا في العصر الحديث.
إن خلطَ كلِّ شيءٍ بكلِّ شيء إحدى مشكلاتِ تفكيرِنا الديني الحديث؛ إذ تتحوَّل عمليةُ الخلط أحيانًا إلى ضربٍ من تلفيق عناصر متضادَّة ينفي بعضُها البعضَ الآخر، مضافًا إلى أنها على الضد من منطق التفكير العقلاني النقدي، وترفضه مناهجُ البحث العلمي. منطقُ التفكير العقلاني ومناهجُ البحث العلمي يعتمدان البحثَ المتواصل؛ بغيةَ رسمِ جغرافيا للأديان والمعتقدات والمذاهب والمدارس والاتجاهات الفكرية، وتحديدِ المقولات والمفاهيم والأشياء، وتمييزِ كلٍّ منها عن الأخرى، وتصنيفِها من خلال الكشف عما يتَمَيَّزُ به كلٌّ منها، وعما يشترك به كلٌّ منها مع غيره. إن المقياسَ في تطوُّر المعارف وتقدُّم العلوم يتمثَّل بمدى قدرتها على معرفة الماهيات وبيانِ الكيفيات واكتشاف الحدود، ولولا ذلك للبثت المعرفةُ محدودةً وبدائية. تقدُّمُ المعارفِ والعلومِ يكفله تشعُّبُها واتساعُها وتعدُّدُ موضوعاتها؛ إذ لا علومَ ومعارفَ بشرية من دون اختلافٍ وتنوُّع.
تنشأ ذهنيةُ التلفيق من شعورٍ مريرٍ يتملَّكنا، ينتجه الخوفُ على هُويتنا، والقلقُ من افتقادِ خزَّان الذاكرة الذي صنعناه، فأودعَت فيه سلالاتُ الآباء عبر التاريخ كلَّ أحلامها الجميلة الفاتنة، ولوَّناه نحن بما هو أشدُّ فتنة وجمالًا. فأوقعَنا ذلك الشعورُ المريرُ في مفارقةٍ ضاع فيها عقلُنا فضيَّعنا العلومَ والمعارفَ الحديثة، حتى أمسينا لا نحن بالقادرين على استحضار ما كان كما كان، ولا نحن بالقادرين على الإقلاع عمَّا كان.
لقد غذَّتْ فوبيا ضياع الهوية من جهةٍ، والحاجة الملحَّة للحضور في العالَم من جهةٍ أخرى، نزعةَ التلفيق لدينا في العصر الحديث، بين: الماضي والحاضر، التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، المعروف والغريب، المألوف والمخترَع، المُقلَّد والمحدث، الارتداد والامتداد، الائتلاف والاختلاف، المقدَّس والمدنَّس، الديني والدنيوي، الدين والفلسفة، الدين وعلوم الإنسان والمجتمع، الدين والعلوم الطبيعية، الدين والآداب، الدين والفنون، الدين والدولة … فأنهك ذلك التلفيقُ النصوصَ الدينيةَ بعمليات تأويلٍ متعسِّفة، لا يقبلها منطقُ التأويل القديم، ويرفضها منطقُ التأويل الجديد. كلُّ ذلك يتمُّ من خلال إسقاط مكاسبِ الحداثة المتنوعة في الفلسفة والمعارف، والعلوم والآداب والفنون المختلفة على النصوص الدينية.
كان التنكُّرُ للأبعاد الكونيَّة في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع أعقدَ مأزقٍ تورَّط فيه العقلُ الدينيُّ والقوميُّ بهذا العصر في مجتمعاتنا. وظهر ذلك بوضوحٍ في العمل الذي استنزف مالًا وفيرًا وضاعت فيه عقولٌ فذَّة، وظلَّ وهمُهُ يطارد عدةَ أجيال إلى اليوم، والذي يسعى منذ سنوات من دون جدوى لاكتشافِ هُويةٍ دينية للعلوم والمعارف، ويفتِّش عن هويةٍ قوميَّةٍ ضائعةٍ للعلم والمعرفة.
الهويةُ في حالة تشكُّلٍ مستمرَّة
تسارعَ تحوُّلُ الهوية في عصرِ تكنولوجيا المعلومات والهندسةِ الجينية والمنعطفاتِ الواسعة في العلوم المختلفة؛ فقد تعدَّدت وجوهُها وتنوَّعت أبعادُها. الواقعُ الشديدُ التحوُّل يفرض عليها أن تصير سيَّالةً متغيِّرة، تتعدَّد عناصرُها وتتنوَّعُ مكوِّناتُها تبعًا لتعدُّدِ وتنوعِ إيقاع حركة الواقع الشديد التركيب والتحوُّل؛ لذلك يفرض الواقعُ الراهنُ على الهوية التي تتشبَّث بالبقاء طريقةً للعيش تواكب إيقاعَه، كي تبقى مسجَّلةً على قيد الحياة، وإن كانت هذه المواكبةُ قلقةً مضطربةً مشوَّهةً هشَّةً في مجتمعاتنا. لا خيارَ للهوية إلَّا أن تخرج من قوقعتها، كي لا يمحو وجودَها واقعٌ يتغيَّر فيه كلُّ شيء، ولتحتفظ بشيء من عناصر البقاء، حتى لو كانت مضطربةً مشوشة.
بنيةُ الهويةِ في عالمنا اليوم لم تعُدْ بسيطة، بل صارت عميقةً، تتألَّف من سلسلة طبقات متنوِّعة المكونات، وتتزاحم عليها صورٌ متعدِّدة. لا تلبث مكوناتُها على الدوام في سُلَّم ترتيبها، ولا تمكث في مواقعها، ولا تقف الصورُ المتعاقبةُ عليها عند صورةٍ واحدة؛ لذلك تتطلَّب معرفتُها تفكيرًا صبورًا، يتوغَّل في طبقاتها، ويحلِّل عناصرَها، ويضيء صورَها المتلاحقة.
الهويةُ في حالة تشكُّل مستمرة؛ إذ لا تستطيع أيَّةُ هوية أن تعزل نفسَها عمَّا يجري حولها من تحولاتٍ مختلفةٍ في العالم، وإيقاعٍ متسارع حاد التغيير في كلِّ شيء، ولا يمكن أن يتغيَّر كلُّ شيء فيما تظل الهويةُ ساكنةً. ممانعةُ الهوية ومكوثها في أنفاق الماضي يُفضيان إلى انسدادِها وتحجُّرِها؛ ومن ثم خروجها من العصر؛ ذلك أن كلَّ هوية تفشل في إعادةِ إنتاج ذاتها في سياقٍ يواكب إيقاعَ التحوُّلات المتسارعة في الواقع، وتعجز عن الإسهام في بناء الواقع، يفرضُ عليها التاريخُ أن تنسحب؛ إذ إن كلَّ من يعجز عن صناعة التاريخ لا محلَّ له في ذاكرة التاريخ.
الهويةُ في حالة صيرورة، وكلُّ صيرورةٍ هي تحوُّل متواصل. الهويةُ علائقيةٌ بطبيعتها، تتحقَّق تبعًا لأنماط صلاتها بالواقع، ويُعاد تشكُّلُها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيدَ تكوينَها في سياق تفاعلِها، انفعالِها، تضادِّها، صراعِها، تسوياتِها، تساكنِها وتضامنِها، مع كلِّ ما يجري على الهويات الأخرى.
الحنينُ حد الشغف بالماضي يضيِّع التفكيرَ النقدي، الحنينُ يفضي للمزيدِ من الضياع في أنفاقِ التراث والغرقِ في متاهاته، وتقليدِ القدماء في كلِّ شيء، مع التقليد يكفُّ العقلُ عن أن يكون عقلًا، ويكفُّ التفكيرُ عن أن يكونَ تفكيرًا.
(٣) تجاوزُ الدينِ لحدودِه ينتجُ نسخَهُ المضادَّة
كلُّ نصوص الديانات يفهمها الإنسان، وليس هناك فهمٌ للدين خارج ذاتِ الكائن البشري ورؤيتِه للعالم، ومعادلاتِ الواقع الذي يعيش فيه. طالما فرضتْ معادلاتُ الواقع على كلِّ ديانةٍ إنتاجَ نسخها المضادَّة. لا يمكن أن تحمي الديانةُ نفسَها من تزويرِ النسخ المضادَّة وتزييفِها، إلَّا بالكفِّ عن استبعادِ العقل في فهمِ الدين وتفسيرِ تمثُّلاته في حياة الفرد والمجتمع، واعتمادِ العقل مرجعيةً في اختبار صحة معتقدات الديانة وقبولها، ومواكبةِ الديانة لمعطيات العلوم والمعارف، وتوظيفِها في إعادة اكتشاف ما تبدَّد من معناها الروحي ورسالتها الأخلاقية، والكفِّ عن استعمال الدين أداةً للتخويف والقهر والاستعباد، والعملِ على إيقاظ القيم السَّامية في الدين، وتبنِّي كلِّ مفهوم منحاز لحقوق الإنسان وحرياته بوصفه إنسانًا، وطردِ كلِّ مفهوم ديني ينفي هذه الحقوق والحريات.
إن لم يضع كلُّ دين حَدًّا لتماديه في اللامعقول يتحوَّل إلى مجموعةٍ من المواقف العبثيَّة والتصوُّرات الخرافية والحكايات اللامعقولة. يحدِّثنا التاريخُ أنَّ كلَّ الأديان التي تستبعد العقلَ في تعليمها، يستنزفها الجهلُ، وتتغلَّب عليها الأساطيرُ، وتنهكها الخرافاتُ، وتصير متحفًا للمعتقدات المحنَّطة، وملاذًا للهويَّات المتحجِّرة. ولن يخرجَ أيُّ دينٍ من مأزقه، ولن تخرج مجتمعاتُ الإسلام من مأزقِها التاريخي، ما لم ترسم حدودًا يتكشَّف فيها مجالُ الديني وحدودُه، ومجالُ الدنيوي وحدودُه، ويكف كتَّابُنا عن الفهم اللامعقول للدينِ ونصوصِه، والتلفيقِ بين الديني والدنيوي، ولصقِ كلِّ شيء بالدين.
لن نكتشفَ خارطةً لطريق خلاصنا بنسبةِ كلِّ شيءٍ إلى الدين، وتوريطِ الدين بكلِّ شيء في العلوم والمعارف ونظم الدولة وكلِّ ما هو دنيوي. ما لم يكن الدينُ دينًا لا غير، والمقدَّسُ مقدَّسًا لا غير، والدنيا دنيا لا غير، والعقلُ عقلًا لا غير، والفلسفةُ فلسفةً لا غير، والعلمُ علمًا لا غير، والأسطورةُ أسطورةً لا غير، والمتخيَّلُ متخيَّلًا لا غير، والأدبُ أدبًا لا غير، والفنُّ فنًّا لا غير. لا بمعنى القطيعة الجذرية بين كلٍّ منها؛ لأنها متفاعلةٌ، يؤثر كلٌّ منها في الآخر ويتأثر به، وإنما بمعنى رسمِ صورةٍ لكلٍّ منها تضيء ملامحَه، وتتعرَّف على ماهيتِه، وتكتشف حدودَه، وتحدِّد إطارَ موضوعه، وتعلن عن وظيفته.
تجاوزُ الحدود أنتج الكثيرَ من مشكلات حياتنا. من هنا لا يمكن الوثوقُ بخارطةِ طريقٍ لبناءِ دولةٍ وتطوُّرِ مجتمعٍ لا يعرف الدينُ فيها حدودَه، ولا تعرف الفلسفةُ فيها حدودَها، ولا يعرف العلمُ فيها حدودَه، ولا يعرف الفنُّ فيها حدودَه، ولا تعرف الدولةُ فيها حدودَها، ولا تعرف السِّياسةُ فيها حدودَها.
وعيُ المتشبِّثين بمنطقِ استئناف الماضي كما هو، لمعالجة مأزقِ الهُوية، ألجأهم لتلفيقِ المتنافرات، وتركيبِ كلِّ شيء يبهرنا في الحاضر بكل شيء ما زال يكبِّل عقولَنا في الماضي، وأفضى ذلك إلى أن تتيه عقولُنا في الموضات الأيديولوجية والفكرية والسياسية، ويغرق تفكيرُنا في إسقاط كل شيء يفتننا اليوم على النصوص الدينية، في محاولةٍ يائسةٍ للاستحواذ على كلِّ ما يبهرنا من خلال لصقِه بهُويتنا.
ويغذِّي هذه الحالةَ شغفُ مجتمعاتِنا بإنتاج المقدَّس، شغفُها بإنتاج المقدَّس أشدُّ من شغفِها بإنتاج العلم والمعرفة والأدب والفن والغذاء، بل كل حاجاتها المادية الحقيقية. إنتاجُ مجتمعاتنا للمقدَّس أكثر من إنتاجها لكلِّ شيء تحتاجه، مثل الغذاء والأشياء الآنية التي تستهلكها؛ لأن ما تأكله وتستهلكه ينتجه غيرُها في الغالب. حتى العلم والمعرفة والأدب والفن لا تستسيغه مجتمعاتُنا إلَّا إذا خلعتْ عليه رداءً مقدَّسًا.
في مرحلةٍ لاحقة، أُغرم بعضُ الكتاب بالموضاتِ الأيديولوجيةِ والفكرية والسياسية الجديدة. مع موضة الاشتراكية أصبح النبي محمد ( ﷺ) وبعضُ الصحابة كأبي ذر، والخلفاء وغيرهم اشتراكيين؛ إذ كتب مصطفى السباعي سلسلتَه عن الاشتراكية والاشتراكيين في الإسلام، وهكذا فعل محمود شلبي، وغيرُهما. كذلك اجتاحتنا موضةُ اليسار، فتفشَّتْ كتاباتٌ تفتِّش عن اليمين واليسار في التراث، كي تفسِّر الإسلامَ تفسيرًا يساريًّا، كما فعل بعضُ الكتَّاب العرب، وآخرُهم صديقُنا المرحوم حسن حنفي، الذي أصدر العددَ اليتيمَ من مجلته «اليسار الإسلامي»، وكتاباته الغزيرة في هذا المجال، التي يصرُّ فيها على تلفيق مقولات متكلِّمي الفرق المختلفة وفتاوى فقهاء المذاهب المتعدِّدة مع مقولات ومفاهيم يسارية وغيرها.
إن أشدَّ الجماعاتِ الدينية انغلاقًا، مثل جماعة «الإخوان المسلمين» المعروفةِ بمناهضة أدبياتها للديمقراطية، أمست ترفع شعارَ تطبيق الديمقراطية. وكأن هذه الجماعات تتنكَّر لأدبيات مؤسِّسيها ومنظِّريها، الذين كتبوا الكثيرَ من النصوص التي تزدري الديمقراطية، وتبالغ في هجائِها وتحذيرِ المسلمين منها، بوصف الديمقراطية في مفهومهم التعبيرَ الصريحَ للحضارة المادية. بعضُ كتَّاب ودعاة هذه الجماعات اليوم يتَّخذ الديمقراطيةَ قناعًا يختفي خلفه، بغيةَ القبضِ على السلطة، وبعد التمكُّن منها يعمل على تطبيق أحكام المدونة الفقهية. ولا نعرف ما الذي سيجري في قادم الأيام من تلبيسٍ للإسلام بغيره، وتقويلِ النصِّ الديني ما لم يقُله، ونسبةِ أفكارٍ للآباء لم يفكِّروا فيها، والتحدُّث باسمهم بما لم يتحدَّثوا به.
توفيقيَّة الوسطية
هذا المعنى القرآنيُّ للوسطية غيرُ المعنى المستعمل له هذا المصطلحُ اليوم؛ لأن دلالتَه لدى من يستعمله في كتاباته وأحاديثه تحيل إلى معنًى يحاول أن يعالج المأزقَ الراهنَ للتفكير الديني في عالَم الإسلام بمواقف تلفيقيَّة. المأزقُ يتطلَّب حلولًا جذريَّة، لا مسكِّنات مؤقَّتة. المسكِّن لا يشفي من الأمراض المزمنة، وإن كانت آلامُ المريض تَغيب معه لبرهة.
نحتاج اليوم إلى عملية تفكيرٍ جسورة تستأنفُ نصابَ العقلِ في الفكر الديني؛ كي تفضح اللامعقولَ في فهم الدين، وتجري حفرياتٍ على التراث تخترق بنيتَه التحتيةَ، لتكتشف الروافد العميقة لتشكيله، وتتعرَّف على أنساقه المضمَرة التي تعيد إنتاجَ مكوناته، وتفكِّك المعرفةَ الدينيةَ المنتَجة في سياقات الاستحواذ على السلطة السياسية والروحية، والهيمنة على أشكال الثروة المادية والرمزية المختلفة.
الوسطيةُ بمعناها الجديد ليست خيارًا للخلاص. من يريد الانتماءَ للعصر خيارُه واضح، ومن يريد الانتماءَ للماضي خيارُه واضح. أما إسقاطُ كلِّ ما نتمناه اليوم على نصوصِنا الدينية وتراثِنا البعيد والقريب، فهو ضربٌ من تشوُّهِ العقل واضطرابِ الرؤية.
يكمن مأزقُ الإصلاح في الإسلام الحديث منذ الأفغاني حتى اليوم، في انشغال أكثر المصلحين بالتلفيق، وتقديمِ المحتوى القديم بأشكال ولغة وأساليب جديدة، من دون تحديثِ مناهج القراءة وأدواتِ النظر للنص الديني، مع أنه لا يمكن إنتاجُ فهمٍ جديدٍ للنص الديني بأدواتِ النظر ومناهجِ القراءة القديمة التي أنتجها دين الآباء وأنتجته.
لا تجديدَ عميقًا يطال البنيةَ التحتية للفكر الديني في الإسلام، من دون تجديدِ أدوات فهم الدين وقراءةِ نصوصه. يتشكَّل الفهمُ دائمًا تبعًا لزاوية النظر التي ينظر من خلالها المتلقِّي، ويتلوَّن الفهمُ بذاتِ المفسِّر ومنهجِ قراءته للنصِّ ورهاناتِ الواقع، فإذا أردنا إنتاجَ تأويلٍ جديد للنص، وتحيينَ معناه بما يجعله منخرطًا في رهانات المسلم اليوم، لا يمكننا أن نتعاطى معه من زاوية نظرِ أصولِ الفقه وعلومِ القرآن والتفسيرِ ورؤيةِ علم الكلام القديم للعالَم. تحيينُ رسالة القرآن الروحية والأخلاقية وحضورها في سياقٍ يستجيب لما يفرضه الواقعُ على المسلم اليوم، لن تنجزه أدواتُ القراءة ومناهجُ الفهم القديمة؛ لأنها تمثِّل عبئًا ينهك دلالةَ النصوص، وتمارس إكراهًا يصادر تعدُّدَ المعنى، ويفرض على النصِّ الدلالةَ التي فرضتها السياقاتُ التاريخية للمجتمعات المسلمة. بكلمة أخرى لا خلاصَ ما دام العقلُ والروحُ والضميرُ تحت وصاية الآباء. الحقُّ في تقريرِ مصير الذات ووضعِها خارج الوصايات شرطٌ أساس لكل عملية تجديد ونهوض.
(٤) ما تَعِدُ به الفلسفةُ وعلومُ الإنسان والمجتمع
لا أفقَ لتجديد الفكر الديني خارجَ دراسةِ الفلسفة الحديثة وعلومِ الإنسان والمجتمع. ما دام التعليمُ الديني لم يخرج من حديثِ التراث للتراث، وحديثِ الآباء للآباء، وما دامت الفلسفةُ وعلومُ الإنسان والمجتمع لم تتخذ مكانتَها المناسبةَ في الحياة الفكرية لمجتمعات عالَم الإسلام، فلن تنبعث حركةُ تجديدٍ عميقةٍ للتفكيرِ الديني في عالَمنا.
وظيفةُ الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع حمايةُ العقل من أن تبدِّده الأوهام، وتسكنه الخرافات، وما تفضي إليه من تشوُّهاتٍ في رؤية العالم. لعلَّ من أهمِّ ما نترقبه اليوم منها في مجتمعات عالَم الإسلام أن تكتشف خارطةَ ما هو دنيوي وما هو ديني، وترسم الحدودَ الخاصَّة بكلٍّ منهما، وتبين المجالاتِ التي يتحقَّق فيها الدنيوي، والمجالاتِ التي يتحقَّق فيها الديني، والآثارَ الناجمةَ عن اجتياحِ أحدهما للآخر، فلو ابتلع الدينيُّ الدنيويَّ يحتجب العقلُ ويدخل في حالة سبات، ويضيع الإنسانُ في ظلماتٍ بعضُها فوق بعض، ولو ابتلع الدنيويُّ الدينيَّ يحتجبُ اللهُ عن العالم، وتدخلُ الروحُ حالةَ سبات، ويضيعُ الإنسانُ في القلق والعدميَّة واللامعنى.
أعرف أن الدينَ ليس رياضيات محكومة ببداهات وقوانين صارمة. الدينُ بمثابة الطبقات الجيولوجيَّة، في هذه الطبقات ما يمكن اكتشافُه بالعلوم الحديثة، كما تتضمَّن طبقاتُه ما هو خارج حدود العلم بالمعنى المحسوس في العلوم الطبيعية، لكن يظل العقلُ هو المرجعية في اكتشافِ هذه الطبقات وفهمِ مدياتها. مدياتُ العقلِ أوسعُ من العلم، بالمعنى المتداول عند دارسي العلوم الطبيعية، الذي يجري استعمالُه فيه بمعنى العلم بالمجال المادي. العقلُ يمكنه أن يفكِّر خارج عوالم المادة، ولا أعني أنه يفكِّر فيما هو أوطأ من مرحلة التفكير العقلاني، بل يستطيع العقلُ تعقُّلَ ما هو أعلى من المعقول المحسوس المادي، ونعني بذلك ما يتَّصل بالميتافيزيقا وآفاقِها الرحبة، والدينِ ومدياتِه العميقة وخبراتِه الروحية والأخلاقية العميقة.
التلبيس في تلقِّي الفلسفة
لا تجديدَ من دون تفكيرٍ فلسفي يخترق كلَّ الأسوار التاريخية التي سجنت العقل، ويتحرَّر من أيَّة إسقاطاتٍ لاهوتية، وأنساقٍ راسخة تقلِّد الماضي كما هو. التفكيرُ الفلسفي يهزم ممانعةَ التقليد، ويُخرِج العقلَ من أسواره التاريخية، ويكفل إنتاجَ رؤيةٍ تواكب صيرورةَ العالم. إنه تفكيرٌ يتيح للمفكِّر الديني أن يفكِّر في الغد أكثر مما يفكِّر في الماضي؛ ذلك أن النموذجَ المُلهمَ يترقَّب أن ينبثق في صورة الغد، لا أن يتكرَّر في صورة الماضي.
أخشى على عقولِ التلامذة من البلبلة والتذبذبِ والتلبيسِ في تلقي وفهمِ الفلسفة في بلادنا؛ لأننا نصرُّ على تعليمِهم ذلك من خلال أوعيةِ نصوصنا، وبعضِ مقولات تراثنا المغلقة، مع أن الفلسفةَ وعلومَ الإنسان والمجتمع تتحدَّث اليومَ لغةً لا تنتمي للغةِ ماضينا البعيد والقريب. ومقولاتُها تتطلَّب اكتشافَ منطقِها الداخلي للدخول في فضائها، ومن دون أن نمتلك هذا المنطقَ لن نتمكَّن من استيعاب أعمالها ونقدها.
أيُّ ضربٍ من التبسيط في التعاطي مع الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع هو تواطؤٌ مع الجهل. تعلُّمُها يتطلَّب الدخولَ من أبوابها، فلا يمكن أن تكون طبيبًا بمطالعةٍ عشوائيةٍ للمقرَّرات التعليمية في كلية الطب، فحتى لو طالعتَ ألفَ كتاب مرجعي في الطب لن تكون طبيبًا مهنيًّا، وهكذا لا يمكن أن تصبح متخصِّصًا في الفارابي وابنِ سينا وابنِ رشد وملا صدرا، وكانط أو هيغل أو هوسرل أو هايدغر بمطالعاتٍ عشوائيَّة لكتاباتهم.
الفلسفةُ تفكيرٌ عقلي نقدي حر يتحرك خارجَ الأطر والأوعية والأسوار، وأيَّةُ محاولةٍ لتعليبه في أوعيةٍ جاهزةٍ تسجنه، وتنتهك حريتَه. الفلسفةُ معرفةٌ كونية، لا تتحيَّز لمعتقد أو أيديولوجيا، وإلَّا فستنفي ذاتَها إن كانت تتَّخذ من المعتقد الديني، أو الهوية، أو الأيديولوجيا، أو ما هو قومي، أو محلِّي، أو جغرافي، مرجعيةً لها. الفلسفةُ لا تستمد حياتَها من كلِّ ذلك، ولا تفتقر إلى مشروعية تمنحها لها تلك الأشياءُ، لا مشروعيةَ لها خارج عقلانيتها وتحرُّرها من تسلُّط أية مرجعية على العقل. الفلسفةُ كونيةٌ، لا بوذية، ولا يهودية، ولا مسيحية، ولا إسلامية، ولا مذهبية، ولا قومية، ولا محلية، ولا جغرافية. نعم، وُلدت الفلسفةُ في سياقاتٍ معرفية وميتافزيقية مختلفة، تنوَّعت بتنوُّع بيئات وعصور الفلاسفة، وعلى هذا يمكن التعبيرُ عنها بوصفها: فلسفةَ مسلمين، أو فلسفةَ يهود، أو فلسفةَ مسيحيين، أو فلسفةَ بوذيين، أو فلسفةَ غربيين، أو فلسفةَ شرقيين، أو فلسفةً قديمة، أو فلسفةً حديثة، أو فلسفةً معاصرة. وإلَّا فلو كانت أسيرةَ معتقدات ومقولات دينية أو أيديولوجية فإنها تصبح: لاهوتًا، أو علمَ كلام، أو أيديولوجيا.
لو أعطينا الفلسفةَ كلَّ عمرنا لا تعطينا إلَّا بعضَها. استغرق كانط ١٢ سنةً في تأمُّل فكرة: «نقد العقل المحض». يصف موسى مندلسون أحدُ زملاء كانط هذا الكتابَ بأنه: «عمل موتِّر للأعصاب.» وقد كتب كانط إلى موسى مندلسون في ١٦ أغسطس ١٧٨٣م يقول: مع أن الكتاب «ثمرة تأمُّلٍ شغلني على الأقل اثنَي عشر عامًا، فإنني أكملتُه بأقصى سرعة في أربعة أشهر أو خمسة، باذلًا أبلغ العناية بمحتوياته، ولكن من دون اهتمام يذكر بالعرض أو بتيسير فهمه للقارئ، وهو قرار لم أندم عليه قط، وإلَّا فلو تباطأتُ وحاولتُ صوغَه في شكلٍ أكثر شعبية لما اكتملَ العملُ إطلاقًا في غالبِ الظنِّ.»
فلسفة ضد الفلسفة
بعضُ الإسلاميين مولعون اليوم بالفلسفة الغربية، لكنهم يدخلونها من غير أبوابها؛ إذ يعتمدون في تلقِّيها بعضَ الترجمات الرديئة والمُستخلَصات المبسَّطة، فيلتبس فهمُهم لها، ويقدِّمون صورًا مضحكةً أحيانًا لمفاهيمها، عندما يركِّبونها على مفاهيم دينية ولاهوتية، هي على الضدِّ منها.
هناك خبراءُ ممَّن يمتلكون تكوينًا أكاديميًّا جادًّا في الفلسفة والمنطق الغربي الحديث، ولديهم معرفةٌ جيِّدة باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية، يتسيَّدون المشهدَ الفلسفيَّ في بلادنا، ويحتفي بكتاباتهم الغزيرة الجامعيُّون المتديِّنُون، غير أنهم يتفلسفون على طريقة الغزالي وابن تيمية، فيقدِّمون قراءاتٍ موهمةً ومضلِّلةً للفلسفة الأوروبية الحديثة، تلوِّنها بألوان مشوهة، فتقوِّلها ما لا تقول. القارئ الخبير يدرك أنهم يتفلسفون ضدَّ الفلسفة.
العقلُ الفلسفيُّ عقلٌ كونيٌّ، عابرٌ للجغرافية الإثنيَّة والأيديولوجيَّة والدينية. القراءةُ الأيديولوجية للفلسفة تنتجُ أيديولوجيا. القراءةُ اللاهوتية للفلسفة تنتجُ لاهوتًا. القراءةُ الكلاميَّة للفلسفة تنتجُ علمَ كلام. القراءةُ العقائدية للفلسفة تنتج عقيدة. لا ينتج الفلسفةَ إلَّا التفكيرُ الفلسفي، والقراءةُ الفلسفيَّةُ للفلسفة.
يتعذَّر فهمُ الفلسفة الغربية الحديثة بعقلية أرسطية، وهو ما سقطَت فيه محاولاتُ جماعة من المهتمين بهذه الفلسفة في الحوزات وغيرها من مؤسَّساتنا التعليمية، ممن أتقنوا المنطقَ الأرسطيَّ وتشبَّع ذهنُهم في مقدماته التصوريَّة وبراهينِه وأشكالِ قياساته، وتمرَّسوا في استعمالِ أدواتِه في محاججاتهم الفلسفية والكلامية والفقهية والأصولية.
كلُّ محاولةٍ للفهمِ تُفكِّر في إطارٍ معرفي لا ينتمي لعالم مفاهيم الفلسفة الحديثة، تفضي إلى نتائجَ تفرضها مقدماتٌ تصورية، وبراهينُ وأشكالُ قياسات المنطق الأرسطي. يحدِّثنا إمام عبد الفتاح إمام، عن تجربته مع هيغل، وهو من أبرز المتخصِّصين بفلسفة هيغل بالعربية، وترجم الكثيرَ من أعماله وما كُتب عن فلسفتِه إلى العربية، أنه بعد أن تخرَّج ونال شهادةَ ليسانس الفلسفة قرَّر أن يدرس في الماجستير الجدلَ في فلسفة هيغل، لكن تعذَّر عليه فهمُه لعامَيْن متواصلَين، ويفصح هو عن السبب في ذلك بقوله: «هكذا بدأتُ أدرس هيغل، فبدأتُ أجمع مؤلفاتِه من ثلاثة مصادر: المكتبات، ومن مكتبتَي جامعتَي القاهرة وعين شمس، الزملاء من الخارج، وشراء ما أجده، وأدرس اللغة الألمانية. كان أولُ كتاب عثرتُ عليه هو: «ظاهريات الروح». شرعتُ أقرأ نصوص هيغل لمدة عامَين من دون أنْ أفهم شيئًا، فلجأتُ إلى التَّفسيرات والشروح، لكني لم أتقدَّم خطوةً واحدة. ولم تكنْ صعوبةُ الفهم راجعةً إلى وعورةِ المصطلحات، وهي وعرة فعلًا، ولا إلى صعوبةِ الفلسفة الهيغلية، وهي صعبة فعلًا، ولا إلى اللغة، وإنما كانت تعودُ إلى عاملٍ لم أتبيَّنْه بوضوح إلَّا بعد فترة طويلة، وهو أنني أقدمتُ على قراءةِ هذا الفيلسوف بعقليَّة أرسطية؛ بمعنى أنَّني كنتُ أفهم جميعَ المصطلحات الفلسفيَّة التي استعملها هيغل، على نحو ما فهمها المعلِّمُ الأول، ومعاجمُنا الفلسفية مدينة للفلسفة اليونانية، ولأرسطو خصوصًا، بالشيء الكثير.»
لا أعني بذلك أن الفلسفةَ الغربية ينبغي أن تتسيدَ فتصبح مرجعيةً ناجزةً ونهائيَّةً لكلِّ تفلسفٍ بشريٍّ، وإنما تمثِّلُ هذه الفلسفةُ مرحلةً من مراحل تطوُّر التَّفكير الفلسفي. ولن يتوقَّف هذا التفكيرُ ما دام هناك عقل يواصلُ مراكمةَ مكاسبِه في مختلف حقولِ العلم والمعرفة؛ لذلك كانت الفلسفةُ وستبقى تستجيبُ لما يستجدُّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء وغيرهما من العلوم؛ فقد كان لعلم الفلك الحديث، الذي بدأ مع كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣م) ونظريته في مركزية الشمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية حولها، أثرٌ مباشرٌ على التفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده. وهكذا تأثَّر هذا التفكير بقوانين الحركة والجاذبية العامة في فيزياء نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧م)، كما تأثَّر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (١٨٥٨–١٩٤٧م)، ونظرية النسبية لأينشتاين (١٨٧٩–١٩٥٥م).
وتشهد المؤلفاتُ الفلسفية وكتاباتُ التصوُّف ونقد التفكير الديني، اهتمامًا لافتًا من القرَّاء في السنوات الأخيرة، وأظن أن اهتمامَ القراء في بلادنا بهذه الآثار يحيل إلى تفاقم أزمات المعاني الروحية والأخلاقية والعقلية التي تعيشها مجتمعاتُنا، وكلُّ مجتمع تجتاحه أزماتُ معانٍ يبحث عن خلاص. الفلسفةُ والتصوُّفُ كلٌّ منهما يسهم في الخلاص من شكلٍ من أشكال هذه الأزمات، وكلُّ إنسان يغترف منهما على شاكلةِ وعيه، ووعاءِ استعداده، ونمطِ احتياجاته. الفلسفةُ تداوي أمراضَ العقل، وتمكِّنه من اكتشاف خارطةِ طريقٍ للتفكير النقدي، الذي يحرِّرُ وعيَهُ من الأوهام والخرافات اللامعقولة التي تعبث به، والتصوُّفُ يروي ظمأَ الروح، ويسهم في إضفاء معنًى على ما لا معنى له. تفشِّي الأوهام والخرافات ضربٌ من مرض العقل، وتشوُّهاتُ المقدَّس ضربٌ من مرض الروح؛ لذلك نرى أن الفلسفةَ حيثما تتوطَّن مجتمعًا يهرب منه الكهنةُ، وحيثما يتوطَّن الكهنةُ مجتمعًا تهرب منه الفلسفةُ؛ لأن الفلسفةَ تفضحُ النسخَ المزوَّرة التي ينحتها الكهنةُ للمقدَّس، وتكشف إغواءَهم للناس باسم الدين.
إن أسوأَ تزويرٍ للفلسفة أن يُستعمَل اسمُ الفلسفة ضد الفلسفة، وأسوأَ تشويهٍ للعقل أن يُستعمَل اسمُ العقل ضد العقل. وإن أسوأَ انتهاكٍ لقِيَمِ السَّماء والأرض أن يُستعمَل: اسمُ الله ضد الله، واسمُ الأخلاق ضد الأخلاق، واسمُ القانون ضد القانون، واسمُ الحرية ضد الحرية، واسمُ الدولة ضد الدولة، واسمُ الوطنيَّة ضد الوطن.
لا يمكن استبعادُ الدين من الحياة؛ لأن ذلك فضلًا عن أنه غيرُ ممكن، فهو أيضًا تعبيرٌ عن فهم مبسَّط للدين؛ إذ لا يمكن تجاهلُ تغلغلِ الدين في أعماق شخصية الكائن البشري، وحضورِه المعلَن والمضمَر في حياة الفرد والمجتمع. كلُّ ما ننشده هنا هو التنبيهُ إلى مأزقِ الإسقاطاتِ الرغبويَّة المختلفة في تفكيرنا الديني، والإعلانُ عن أنَّ مأزقَ هذا التفكير الكبير هو نسبةُ كل شيء إلى الدين، ولصقُ كل شيء به، وإسقاطُ كلِّ ما يعجبنا على نصوص الدين وتلوينُها بما نرغب به.