للدينِ حقيقته الخاصَّة في الهِرْمِنيوطيقا
(١) النَّصُّ الدِّينيُّ يواكبُ الواقع كلَّما تجدَّدَت قراءَتُه
تُسهم المسلَّماتُ والأحكامُ المسبقة وآفاقُ الانتظار في إنتاج مقولاتِ المتكلِّمين، وتكوينِ آراء المفسِّرين، وقواعد الأصوليين، واستنباطِ فتاوى الفقهاء، إلَّا أنَّ مناهجَ قراءة النص الديني وأدواتِ النظر والمناهج الموروثة لا تكشف عنها. الرؤيةُ للعالم التي يتبنَّاها المتكلمُ والمفسِّرُ والفقيهُ مثلًا، ونمطُ إيمانه ومعتقداتِه، ومحيطُه وثقافتُه، تعمل على فرضِ موقف يتناغم معها، فلو كان معتزليًّا أو أشعريًّا أو إماميًّا أو ماتريديًّا أو إباضيًّا، يبدو له معنى النصِّ على وفق رؤيته الاعتقادية. ويمكن اكتشافُ بصمة تلك المنابع المضمَرة في مدوَّنات التراث كلِّها، بما فيها مدوَّنات التصوُّف واللغة والأدب.
في العصور التالية لعصر البعثة الشريفة تسيَّدت الحياةَ الدينية، بكلِّ تجلياتها، لغةٌ مشتقةٌ من رؤية علم الكلام والفقه. تحضرُ الذهنَ غالبًا في عملية التفكير الكلماتُ المشبعة بدلالات كلامية وفقهية، وهكذا تحضرُ هذه الكلماتُ بكثافةٍ في التعليم الديني. في أحاديث خطباء الجمعة والمحاضرات على منابر المساجد ووسائل التواصل، لا يخرج المتكلمُ عن المعجم الكلامي والفقهي إلا في حالات محدودة، ولا يتبادرُ إلى ذهن المتلقي إلا المعنى الراسخُ في هذا المعجم. في الحياة اليومية للمسلم، حينَ يتحدثُ عن أيِّ شأن يتصلُ بالدين، تتكررُ في أحاديثه ما تحيلُ إليه هذه الكلماتُ من مفاهيم كلامية وفقهية، وعندما يتناول أيُّ كاتبٍ موضوعاتٍ تتصلُ بالدين يستقي من هذا المعجم. أكثرُ مفسِّري القرآن الكريم لا يرون معنًى لآياته خارج فضاء لغة الكلام والفقه، وقلَّما تُستعمَل كلمةٌ أو مصطلحٌ في الحياة الدينية خارج أُفق رؤية المتكلمين والفقهاء للعالَم.
اللغةُ ليست محايدةً أو قوالبَ فارغة، ولا يصحُّ توصيفها بوعاءٍ يمكن أن يُملأ بأي معنًى. اللغةُ ترسمُ خارطةً للذهن، وتحدِّدُ مساحةَ التفكير ومدياته وكيفيته. يقول لودفيغ فيتغنشتاين: «إن حدودَ لغتي حدودُ عالمي.» اللغةُ هي بوصلةُ توجيه الفهم والمولِّدة لوجهة عملية التفكير. ما دام مضمونُ لغة الدين في الإسلام لا يتجاوز علمَ الكلام والفقه، فحدودُ تعريف الدين ومفهومه وأدوات قراءة القرآن والسنة قلَّما تتجاوز رؤيةَ المتكلم والفقيه.
نتعرَّف من خلال المناهج الجديدة للقراءة على أن سياقاتِ إنتاج المعنى في مدوَّنات علم الكلام، والتفسير، والفقه، والتصوُّف، والأخلاق، ترتبط بالأفقِ التاريخي للباحث، وأحكامِه المسبقة، وأفقِ انتظاره، ونمطِ تربيته، وبيئته، وموطنه، ومجتمعه، وإثنيته، وثقافته، وخبراته الحياتية المتنوِّعة؛ كلُّ هذه العوامل ذاتُ تأثير في تكوين فهمه. الفقيه مثلًا ترتبط فتاواه عضويًّا، بكيفية فهمه لمساحة الدين وحدوده، وما ينبغي أن يغطيه من مجالات الحياة، مضافًا إلى ما سبق من عوامل.
ما نتعلَّمه من الهِرْمِنيوطيقا هو أنها تشرح لنا كيف أن الكلمةَ تتراكم عليها طبقاتُ فهم، كأنها طبقاتٌ جيولوجية، وبمرور الزمن تضافُ دلالاتٌ أخرى للكلمة حول نواةِ المعنى الأول. تتناسب هذه الطبقاتُ، كمًّا وكيفًا، مع: تاريخ نشأة الكلمة، وتطوُّر دلالاتها، وتنوُّع استعمالاتِها عبر التاريخ. كأنها طبقاتُ عمر الشجرة في ألف سنة، أو طبقاتٌ جيولوجيةٌ لصخرةٍ بعمرٍ طويلٍ.
الهِرْمِنيوطيقيُّون بمثابةِ جيولوجيِّين يكتشفون طبقاتِ فهمٍ تتكدَّس لتحجب عنا بؤرةَ المعنى، أي أنهم يحدِّدون الأنسابَ والجذورَ الزمنيةَ لانتماء كلِّ طبقة للفهم، وكيف تتضخَّم لتطمر بؤرةَ المعنى، ويتعرَّفون على عمرِها، وطبيعةِ العصر الذي توالدت فيه كلُّ واحدة من الدلالات. إنهم يضيئون صيرورةَ دلالة الكلمة عبر الزمان، وكيفيةَ تشكُّل معناها عند كل محطة، في فضاء الأفقِ التاريخي، ونسيجِ علاقات السلطة والمعرفة، وأفقِ انتظار المتلقِّي، وأحكامِه المسبقة، ومعتقدِه، وثقافتِه، وطبيعةِ الإكراهات المتنوِّعة التي توجِّه عمليةَ بناء الدلالةِ، وتصوغ نوعَ الفهم.
في ضوء هذه الرؤية نستطيع أنْ نَتعاطَى مع المدوَّنة التفسيريَّة والكلامية والأصولية والفقهية الموروثة، بوصفها معرفةً بشرية تنتمي إلى سياقاتِ تَلَقٍّ وقراءة النص الديني في مراحله المتنوعة؛ ما يعني أنَّ كلَّ عصر ينتج مدوَّنةَ فهمِه الخاصَّة، وهي مدوَّنةٌ لا يتسع كلُّ ما فيها للعصور كافَّة، ولا تستوعب عناصرُ الفهم فيها الآفاقَ التاريخية المختلفة.
الهِرْمِنيوطيقا تعمل على مواءمة النص الديني مع روح العصر، وتبوح براهنيَّة معانيه في سياقٍ لغويٍّ ومعرفيٍّ وثقافيٍّ ومجتمعيٍّ مختلف. وتمنحنا رؤيةً رحبة تعيد اكتشافَ مقاصِدِ القرآنِ الكريم، وتضيء بصيرتَنا بما تنشده رسالةُ الوحي للإنسان، في ضوء الأفقِ التاريخيِّ لزمانِنِا.
الهِرْمِنيوطيقا تؤشِّر إلى أنَّ النَّصَّ الدِّينيَّ كائنٌ حي، تنبعث حياتُه ويواكبُ الواقع كلَّما تجدَّدتْ قراءَتُه. إنها محاولةٌ لتحريرِ النص من حمولة التفسير التاريخية التي ينوء بثقلها، وتحجبه عن التواصل مع العصر الجديد، وعتقِهِ من سجون السياقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي كبَّلته بفهمِها ومشروطيَّاتِها التاريخية الخاصَّة، بعد أن انغلقتْ على نفسها، بنحو أمست فيه تكرِّر الفهمَ ذاتَه، الذي يحكي ثقافةً لم يَعُدْ إنسانُها موجودًا اليوم، ولم تَعُدْ وقائعُ حياتِه المختلفة حاضرة.
إن أردنا أن يسجِّلَ الدينُ حضورًا فَاعِلًا في بناء وإِخصاب الحياةِ الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة، فلا يتحقَّق ذلك إلَّا بقراءةٍ للنص الديني ترفعه للأفق التاريخي لعصرنا. وإن محاولاتِ رفض هذه القراءة إنما هي ضربٌ من معاندةِ التاريخ، وتعطيلِ تدفُّق المنبع الرُّوحي والأخلاقي والجمالي للوحي.
مع الواقع الذي يعيشه إنسانُ اليوم، فإن النصوصَ عطشى لفهمٍ يحكي رهاناتِ حياةِ الإنسان المُعَاصِر ومتغيراتِها المتنوِّعة. وما دامت النصوصُ مكبَّلةً بآفاقِ انتظار المتلقِّين أمس، وأحكامِهم المسبقة، وسوءِ فهمهم، وما راكمتْه تلك الآفاقُ الخاصَّةُ من معانٍ تشبه زمانَها، يصبح توظيفُ الهِرْمِنيوطيقا ضرورةً يفرضها منحُ النصِّ حياةً جديدة، لينفتحَ على آفاق انتظار المتلقِّين اليوم، ويتيحَ لهم مواكبةَ عالَم متحوِّل لا يتكرَّر فيه منطقُ الماضي ورؤيته للعالم.
تتراكمُ بمرور الزمان طبقاتُ الشروح والتفسيرات على النص الديني المؤسِّس، حتى تسجنَه، وتسجنَ الإنسانَ داخلَها. الهِرْمِنيوطيقا تعني حريةَ الفهم، ذلك أنها تمنحُ الإنسانَ والنصَّ خَلاصًا من تلك السجونِ والأسيجةِ. إنها وعدٌ بإنجاز فهمٍ تتحقَّق من خلاله أُلفةٌ مع الواقع؛ إذ تبتكر فهمًا يتناغم مع أسئلة الحياة الجديدة. إنها ضوءٌ ينشد تحيينَ النص، من خلال قراءةٍ تدمجُه بالواقع ومتطلباته، بعد أن لبثَ طويلًا لا يقرؤه كثيرون إلَّا في الظلام.
من هنا تصبح قراءةُ النصوص الدينية في ضوء أدوات ومناهج الهِرْمِنيوطيقا، ضرورةً يفرضها تحريرُها من الاغتراب عن الواقع، وتحقيقُ الانسجام بين هذه النصوص والقارئ؛ إذ يحقِّق فعلُ القراءة هنا أُلفةَ القارئ للنص، أي إن القارئَ مثلما يقرأ النصَّ يقرأ ذاتَه في النص؛ لأنه يرى في النص ما يؤشِّر إلى: عقيدةٍ آمن بها، وأيديولوجيا تبناها، ومقولاتٍ شغف بها، وخبرةٍ عاشها، وأفقِ انتظار يتطلَّع إليه.
الهِرْمِنيوطيقا تعمل على اختراقِ تلك الطبقات، وتحريرِ فهمٍ بديلٍ في سياق مواكب لمتطلبات احتياجات المسلم الروحية والأخلاقية والجمالية اليوم، لئلا تتصلَّبَ هويته وتنغلق على ذاتها، ولكي تنفتحَ على مكاسب العصر، وتتسعَ لاستيعاب ما هو مختلف. الهويةُ لم تعُد أحاديَّةً، بل أضحت متعدِّدةَ الأبعاد والوجوه، تتنوَّع وتتعدَّد أبعادُها ووجوهُها على وفق المتغيرات المتدفِّقة باستمرار. استئنافُ الفهمِ التراثي للنص الديني يفضي إلى تصلُّبِ الهوية وتحجُّرها، وإخفاقِها في إعادة إنتاج ذاتها، في سياقٍ يواكب مستجدَّاتِ العالَم وتحوُّلاته.
تنجز الهِرْمِنيوطيقا فهمًا لمعنى الحقيقةِ، لا يكرِّر ما هو موروث، بل يكشف عن الوجوه المتعدِّدة لها، وأنَّ ما يتجلَّى لكلِّ شَخْصٍ منها هو وجهٌ من وجوهِها. وكأنَّ الحقيقةَ مرآةٌ متعدِّدةُ الوجوه، لا يرى من ينظر إليها أحدَ وجوهها فقط، بل يرتسم فيها شيءٌ من ملامحِ وَجْهه أيضًا.
لقد أفضى تَوكُّؤُ جماعةٍ من الباحثين على مناهج وأدوات جديدة في قراءة النصِّ الديني، وتبنِّيهم فهمًا مختلفًا للحقيقة، إلى نَزْعِ القناع عن التُّراث، ومُساءلةِ التاريخ من جديد، وعبورِ الكثير من الاجتهادات التي تتحدَّث لغةَ زمانها في تفسير النصوص الدينية، ولا يفهمها أيُّ إنسان يتحدَّث لغةَ زماننا، إلَّا أن هذه الجهود واجهَت مقاوَمةً عنيفة؛ إذ نَعتَها بعضُهم بالعدوانِ على أمجاد الأمة، ومحاولةِ طَمْسِ ماضيها المُشرق، وجرى التشهيرُ بكل باحث عَمَد إلى إفشاء أسرار عمليات سوء فهم وتحريف وتزوير مفاهيم ومقولات ووقائع الماضي، أو حاول الكشفَ عن محاولاتِ حذف وإقصاء معتقداتٍ لا تتناغم مع الأيديولوجيا التبجيلية التسلُّطية المهيمنة، أو سعى لإشهار المهمَّش والمسكوت عنه، أو فضح سطوةَ وقمعَ السائد والمتغلِّب في التُّراث. وهكذا فإنَّ كلَّ قراءةٍ للنصِّ الدينيِّ تَتخطَّى التفسيراتِ المُغلَقةَ القديمة لا تمرُّ من دون ضريبة.
لذلك نجد أكثرَ الباحثين، ممَّن يمتلكون خبرةً بمناهج القراءة الجديدة، يهربون من توظيفها في قراءة النصِّ الديني، وغالبًا ما يوظِّفُونها في قراءة النصِّ الأدبي، والأعمالِ الفنية والإبداعية المختلفة الأخرى، كأنهم يبحثون عن ملاذٍ يحتمون فيه من غضب أنصارِ التراث؛ لأنَّ القراءةَ الجديدة للنص الديني تجترح معانيَ لا تستأنف ما هو موروث من فهم للحقيقة الدينية؛ ذلك الفهمُ الذي تقدَّس بمرور الزمن، واعتمد عليه مفسِّرو النصِّ الديني منذ قرونٍ عدة، وتقدَّس بعضُهم تبعًا لتقديس ذلك الفهم.
وانتهى ذلك إلى أنَّ أكثرَ ما يُكتَب ويُنشر في قضايا الدِّين والمجتمع والواقع، لا يرقى إلى متطلَّبات الفرد والمجتمع المسلم اليوم، وأكثرَ ما كُتِب أمس، على الرغم من أهمية شيء منه والقيمة المهمة للاجتهاد فيه، فإنه لا يجيب عن أسئلتنا الكبيرة والحائرة اليوم. المؤسف أنَّنا دائمًا نذهب إلى الماضي نستفتيه في إجاباتِ أسئلةٍ وحلولِ مشكلاتٍ أنتجها عالمُنا اليوم، وطالما خَذَلَنا الماضي الذي أنجزَ إجاباتِه عن أسئلتِه وحلولِه لمشكلاتِه الخاصَّة.
(٢) تفسيرُ القرآن الكريم وفقًا لسياقات التَّلَقِّي
لم يتنبَّه كثيرٌ من المتخصِّصين في دراسة الدين والتراث إلى أنَّ إنسانَ اليوم غيرُ إنسان الأمس، وأبديةَ أي نصٍّ مقدَّس تعني أنه نصٌّ ذو كثافةٍ دلاليَّة؛ إذ تتعدَّد وتتنوَّع دلالاتُه تبعًا لتنوُّعِ ظروفِ الإنسانِ وأنماطِ حياته، وتبعًا لتنوُّعِ وتعدُّدِ سياقاتِ التلقِّي في العصور المختلفة. وإن الخلطَ بين سياقاتِ عصر البعثة وعصرنا يخرج القرآنَ من حياتنا؛ ذلك أنَّ سياقاتِ تنزيلِه جاءتْ لتلبيةِ احتياجات إنسان الأمس في عصر البعثة، وهي تختلف عن سياقات تطبيقه أو تنزيله مجدَّدًا على الحياة، لتلبية احتياجاتِ إنسانِ اليوم للمعنى الديني.
كثيرون من المفسِّرين تختلط لديهم السِّيَاقاتُ، فيعمِّمُونَ ما هو ظرفي تاريخي في القرآن على كل ظرف وزمان ومكان، في حين يتطلَّب واقعُنا تفسيرًا يتحدَّث إلينا، ويصغي لإيقاع عالمنا، وهو غيرُ التفسير الذي كان يصغي لإيقاع عالم إنسان عصر البعثة ويتحدَّث إليه، وهو ما نجده في تطبيق ما هو ظرفي على مفاهيم لم تكن حاضرةً أمس، ولم يفكِّر فيها أحدٌ من المفسِّرين، مثل مفاهيم فصل السلطات والحقوق والحريات، التي تبلورت بمعناها الجديد في سياق التفكير الفلسفي والسياسي والحقوقي الحديث، والذي لم يكن معروفًا في سياق الأفق التاريخي لعصر النزول، وما تلاه من عصور الخلافة والسلطنة والإمارة في عالم الإسلام.
يفزع بعضُ دارسي الدين من الاختلاف في تعريف الدين، وتحديد وظيفته في مجاله الروحي الأخلاقي الجمالي، والاختلاف والتنوع في قراءة نصوصه، في حين أن مثلَ هذا الاختلاف حالةٌ بشرية لا تختصُّ بديانة معينة؛ إذ وُلد الاختلافُ في الفهم منذ وجودِ الإنسان وظهورِ الدين في حياته. افتراضُ ديانةٍ في الأرض بنسخة واحدة كلامٌ غير واقعي؛ إذ لم تعرف البشريةُ ديانةً بنسخة واحدة أبدًا، حتى في ديانة آدم العائلية، كما تقصُّ علينا التوراة والقرآن ذلك، اختلف ولداه حول مفهوم القربان.
يختلف فهمُ الدينِ وقراءة نصوصِه باختلاف سياقات التلقِّي، وهذا يعني أن ليس هناك ديانةٌ أو نصٌّ دينيٌّ خارجَ طرائق عيش الإنسان وطبائع العمران. الإنسانُ يخضع لمشروطيات تفرض عليه نمطَ حياته، وتؤثِّر في سلوكه، وهي: الجسد، العقل، المشاعر، الغرائز، التربية، التعليم، اللغة، الثقافة، الدين، الاقتصاد، السلطة، والأفق التاريخي. ولا يتجسَّد الدينُ في حياة الإنسان إلَّا تبعًا لهذه المشروطيات؛ أي إن فهمَ الدين يتنوَّع بتنوُّع أنماطِ حياة الناس وطرائقِ عيشهم. وتبعًا لذلك يتنوَّع تفسيرُ الكتب المقدَّسة. وهو ما نراه ماثلًا في اختلافات المفسِّرين في فهم آيات القرآن؛ إذ نعثر على تأويلاتٍ ليست مختلفةً فحسب، بل متضادة أحيانًا للآية الواحدة.
تحيينُ النصوص المقدَّسة يعني أن تصبح معاصرةً لنا؛ إذ إن في كل نص هامشًا حرًّا مفتوحًا للقراءة الجديدة، وهو ما يمنح النصَّ إمكاناتِ تخطِّي المسافات، وعبورِ غربة الزمان، وتموضعِ مدلوله في أفق جديد للتاريخ. وذلك هو سرُّ أبديَّة النُّصوص المقدَّسة، والذي لولاه لاختفَت بعد اغترابِها عن أفقها التاريخي.
أظنُّ من الصعب إنجازَ «قراءة تزامنية للنصِّ»، قراءة تتموضع في عصره، وتحكي مدلولَه لحظة انبثاقه، ونمطَ فهم المشافهين به عند نزوله. وربما يتعذَّر في عصرنا إنتاجُ مثل هذه القراءة؛ لأن النصَّ بعد ولادته لا تحتكر معناه لحظةَ الولادة؛ إذ بعد أن ينخرط في التاريخ يمسي فهمُه مواكبًا لكل مرحلةٍ من مراحلِ عمرِه، أي إنَّه في المراحل اللاحقة ينتقل إلى فضاءِ فهمٍ غير الفضاء الذي انبثق فيه؛ ما يعني أنَّ القراءاتِ الآتيةَ توجِّه بناءَ دلالاتِه وفهمَه، وكلُّ قراءة تحيل إلى أفق رؤية عصرها للعالم، وتخضع لسياقاته المعرفية، ولا تكون غريبةً عن النمط الوجودي لعالمها.
الهِرْمِنيوطيقا ضربٌ من ترجمةِ النص المقدَّس وتحيينِه، من خلال نقله من سياقات اللغة في عصر النزول والتدوين إلى سياقات اللغة في عصر التلقِّي؛ لأنها تُبتَنى على فرضية: أن ليس هناك فهمٌ نهائيٌّ للنص، فكلُّ قراءةٍ تاريخية، ترتسم فيها بصمةُ القارئ، وتتلوَّن بتضاريس أفقِه التاريخي.
الهِرْمِنيوطيقا قراءةٌ للنص تُعلن نسبيةَ الفهم وانتماءَه للأفق التاريخي الذي يولد فيه، ففي كلِّ محطَّة من محطات تاريخ النص ينبثق فهمٌ جديد. ما يعني أنَّه لم يَعُدْ هناك فهمٌ بشري مطلق للنص، يخترق التاريخ، ويتعالى على أحوال الإنسان، ويستقلُّ عن طبائعِ العمران، ولا ترتسم فيه ألوانُ البيئة والمكان.
يشير تاريخُ الهِرْمِنيوطيقا إلى أنها ظهرتْ بمفهومها الجديد مع شلايرماخر، الذي يتلخَّص في كونها: فنَّ الفهم، أو فهمَ الفهم، أو معرفةَ الفهم، أو تشريحَ عملية الفهم، أو قراءةَ القراءة. تنشد الهِرْمِنيوطيقا تحليلَ كيفيَّة تلقِّي القارئ للمعنى، وبيانَ ماهية فهمه، وما الذي يحدث في فعل القراءة، إنها عمليةُ تحليل لما يحدث في الذِّهن لحظةَ فهم النص. تُحلِّل كيفيةَ وطبيعةَ تشكُّلِ المعرفة لدى القارئ حين يقرأ النصَّ. الهِرْمِنيوطيقا بالمعنى الجديدِ تنتمي إلى العصر الحديث، الذي كان وما زال التفاعلُ فيه بين الفلسفة والعلوم والمعارف الإنسانية المتنوِّعة يغذِّيها ويثريها.
ومع كلٍّ من مارتن هايدغر وهانس جورج غادامير، رفعَت الهِرْمِنيوطيقا بطابعها الفلسفي تفسيرَ الوجود والذات والنصوص إلى الأفق الفلسفي، بمعنى أنها لم تتوقف عند قراءة النصوص والتراث الكتابي والشفوي، بل ارتقت إلى قراءة الوجود، والذات، والحياة، والأشياء، والتاريخ، والأفعال، والأحوال، والعلوم والمعارف، والفنون والآداب والنصوص المختلفة. ارتقى الفهمُ في الهِرْمِنيوطيقا الفلسفية إلى أن يكون حدثًا أنطولوجيًّا، وأصبح أساسُ الفهم هو الحياة والذات، وكل ما تحفل به أنماطُ وجودها وتاريخها وظروفها الزمانية والمكانية المتنوعة؛ بمعنى أنها اتَّسعت فتخطَّت فَهْم النصوص إلى فهم الوجود والذات.
(٣) الهِرْمِنيوطيقا والتأويل متوازيان لا مترادفان
ظهر التأويلُ في فهم النصوص مبكِّرًا في الإسلام، وهو بذلك ينتمي للتراث ممثَّلًا في علوم الدين والمعارف الإسلامية، كعلم الكلام، وعلوم القرآن، والفقه، وعلوم اللغة وآدابها، والتصوف، ولم تتخطَّ مداراتُه منذ نشأته فقهَ النصوص؛ إذ يتوقَّف بمفهومه الموروث عند قراءة وتفسير النصوص مدونةً وملفوظةً.
في الوقت الذي يبدأ فيه التأويلُ بالنص وينتهي بالنص، يظلُّ يدور في آفاق ما يقوله النصُّ. لا تهمل الهِرْمِنيوطيقا كما أوضحنا ظروفَ لحظة ظهور النص، بل تحاول أن تستأنف هذه اللحظة، كيما تتعرَّف على الفضاء المجتمعي للفهم الذي واكب تشكُّلَ النصِّ، وكيف تخطَّاه الفهمُ في العصور التَّالية. بمعنى أنَّها تسعى لتضيء ما يكتنف لحظةَ انبثاقِ النصِّ من ذاتيَّةِ المؤلِّف، وسياقاتِ بيئته، والظروفِ المختلفة المحيطة بتشكُّله. كأنَّ الهرمنيوطيقيَّ يتموضعُ لحظةَ ولادة النصِّ، ليكتشف ما يمكنه اكتشافُه في بيئة انبثاقه وتشكُّله، ويعمل على إيقاظِ الأفق التاريخي لولادته، من خلال تفحُّص أفقِ انتظار المتلقي وقتئذٍ، وكيفيةِ فهمه للنص.
نشأت الهِرْمِنيوطيقا في سياقٍ لُغَوِي ومجالٍ تداوُلي لاتيني، ولا يمكن تصنيعُ نسخةٍ عربيَّة مرادِفة لها، بل يمكننا توطينُ المصطلح ذاتِه في السياق التَّدَاوُلِي للغة العربية وغيرِها من اللغات، مثلما اتَّسَعَت العربيةُ وغيرُها من قبلُ للمعجم الاصطلاحي اليوناني، كما هو الحال في الفلسفة والمعارف اليونانية وغيرها المتغلغلة في تراثنا.
في ضوء ما ذكرناه لا يرادف مصطلحُ «الهِرْمِنيوطيقا» مصطلحَ «التأويل» أو غيرَه؛ إذ وجدنا أن معنى الهِرْمِنيوطيقا لا يطابق معنى التأويل، لا على وفق فهم شلايرماخر لها، أو فهم دلتاي، ولا على وفق فهم هايدغر وغادامير، ولا على وفق فهم ريكور وهيرش وغيرهما. الهِرْمِنيوطيقا والتأويلُ متوازيان لا مترادفان، والتوازي غيرُ الترادف.
الهِرْمِنيوطيقا وإنتاج المعنى
ينضب النصُّ الديني ويُستنزَف بالتكرار المزمن لمعنًى واحد مشتقٍّ من الماضي، لا يعكس إلا وجهًا واحدًا للحقيقية الدينية. ما تنجزه الهِرْمِنيوطيقا هو: إيقاظ النص، واستنطاق صمته، واكتشاف الوجوه الأخرى المحتجبة للحقيقة. في ضوء ذلك يمكن للنص أن يتحدَّث إلينا في سياقٍ يتمثَّل عصرَنا، ويستجيب لأفق انتظارِنا. الهِرْمِنيوطيقا مسعًى دائمٌ لإعادةِ إنتاج المعنى، وإضاءةِ أبعاد المعنى المحتجبة، وإشراقِ المعنى في نصٍّ تختبئُ في طبقاتِه طاقاتُ المعنى، وبعثٍ لروحه مجدَّدًا.
تفصح الهِرْمِنيوطيقا عن مهمَّتها حيال النص الديني بأنها وَعْدٌ بإنجاز معنًى تتحقَّق من خلاله أُلفةٌ مع النصِّ، لحظةَ يلتقي الإنسانُ النصَّ كأنه يلتقي نَفْسَه، وهكذا هي أُلفةٌ مع العالم، وتصالحٌ مع النص، وبشارةٌ تُنجز في ضوئها استجابةُ مفسِّر النص لروح عصره، ورهانات عالمه، من خلال فضح سوء الفهم، والكشف عن كل ما يكتنف عمليةَ التفسير، من: الأنساق المضمرة، وأنظمة إنتاج المعنى، والأحكام المسبقة، وإكراهات السلطة، والأسئلة السيئة، والأجوبة الهشة، وأخطاء الفهم.
ومعنى أن تصبح النصوصُ الدينية مألوفةً لنا، أن يكون لكلِّ نصٍّ هامشٌ حرٌّ مفتوح للقراءة الجديدة، وهو ما يمنح هذا النصَّ إمكاناتِ تخطِّي المسافات، وعبور غربة الزمان، وتحيينه في مختلف العصور. ذلك هو سرُّ أبدية النصوص المقدَّسة، والذي لولاه لاختفت هذه النصوصُ لحظة اغترابها عن زمانها.
تنشد الهِرْمِنيوطيقا تحريرَ النصوص الدينية من إكراهات السلطة، والتفسير الفاشي المتوحش، الذي لا يَمْحَقُ جمالَ الدين ورحمتَه وسلامَه فقط، بل تتوالد من رحمه موجةُ إلحاد تقوِّضه من داخله، التديُّنُ المتوحش لا يذهب إلى مكانٍ إلَّا وقال له الإلحادُ خُذني معك.
ترسَّخَتْ في معاهِدِ التَّعليم والمدارس الدينيَّة النظرةُ اللاتاريخية لأصولِ الفقه، وقواعدِ الاستنباط الفقهي وعلومِ القرآن وقواعدِ التفسير، وغيرِها من مناهج تفسير النصوص في الإسلام، وصار المدرِّسون والتلامذةُ يتعاطَون معها بوصفها ثوابتَ أبديةً. يرَوْن أنَّه لا يمكن فهمُ الدِّينِ وتفسيرُ نصوصه بغيرها، وحتى لو حدث اجتهادٌ فيها فهو ضربٌ من التَّرْمِيمِ الجزئي الذي لا يتخطَّى مَداراتِها المُغْلَقةَ. على الرَّغم من أنَّها كلها معارفُ بشريةٌ أنتجها المسلمون في الماضي، بتوظيفِ شيءٍ من فلسفة اليونان ومنطقهم، والإفادةِ من معارف أخرى استقَوها من مدارس الإسكندرية وغيرها، وتوظيفِ المعطياتِ المختلفةِ التي يتطلَّبها الفهمُ والتفسيرُ المتاحة في زمانهم، ولم يكن مؤسِّسُوها خارج الأفق التاريخي لعصرهم، ولم يكونوا خارج إكراهات السلطة وتوصيات الخلفاء.
إن مناهجَ تفسير النصوص الدينية في الإسلام ليست إلَّا أدواتِ تفسير تاريخية، وُلدت استجابةً لحاجاتٍ أَمْلَتْهَا ضروراتٌ دينيةٌ واجتماعيةٌ وثقافيةٌ وسياسيةٌ زمنيَّة، وليست نصوصًا مقدَّسة. هكذا الهِرْمِنيوطيقا، هي أيضًا مُنتَج للعقل ومعطًى لتراكم الخبرة البشرية في فهم وتفسير النصوص وفهم الوجود، فلماذا يصير تطبيقُها في حقل النصوص الدينية في الإسلام إثمًا، ويصبح تعاطي قواعدها ومفاهيمها وأدواتها في فهم الدين خطيئة!
(٤) للدينِ حقيقته الخاصَّة في الهِرْمِنيوطيقا
لم تعد «الحقيقة» في الهِرْمِنيوطيقا مختزَلةً في الحقيقة العلميَّة فقط، كما يشرح ذلك غادامير، بل إنها ترى للدين حقيقتَه الخاصَّة به، أو هو تجربة للحقيقة، وهكذا للفن حقيقتُه الخاصَّة به، أو هو تجربة أخرى للحقيقة، وللعلم حقيقتُه الخاصَّة به. في ضوء ذلك تتكشَّف للحقيقة الدينية فرادتها، بعد أن أصبحت الهِرْمِنيوطيقا أفقًا جديدًا لتفسير الدين. الحقيقةُ تُعلِن عن حضورها في العلم والفن والدين في كلِّ واحد منها على شاكلته، وتتجلَّى وجوهُ كلِّ حقيقة منها وأبعادها وتعبيراتها بحسبها. في ضوء ذلك لم يعُد حضورُ الدين طارئًا في الحياة، أو يمثِّل مرحلةً يعبرها الإنسانُ لحظة ينتقل إلى عصر العلم، بل يظلُّ الدينُ تجربةً للحقيقة ما دام هناك إنسانٌ في هذا العالم.
يتأسَّس الوعيُ الهرمنيوطيقيُّ لدى غادامير على أنَّه تجربةٌ ذاتُ طابع كلِّي يستغرق وجودَ الإنسان في عالمه، وهي بذلك مستغرِقةٌ لكل أنماط التجارب الإنسانية، لا على نحو التضمُّن، ولكن على نحوٍ تكتسب معه في كل تجاربنا المعيشة طابعَ التأويل، بوصفه فعلَ فهمٍ يتكوَّن بالحوار بين الأنا والآخر. إذا كان النصُّ اللغويُّ المصداقَ التأويليَّ التقليديَّ للميراثِ الهرمنيوطيقيِّ، السابق لكلٍّ من هايدغر وغادامير، فإنَّ الأساسَ الفلسفي الذي مهَّداه لإقامة الهرمنيوطيقيا عليه، نجح في توسيع نطاق مفهومِ التأويل ذاتِه ومفهومِ النص؛ ومن ثم في فهمِ الوجود الإنساني وكلِّ ظواهره وتجلِّيَاتِه الثقافية والحضارية، على أنه حدثٌ تأويلي أو تجربةُ تأويل أصيلة.
هكذا يجد فهمُ التراث حقيقتَه التأويلية، مثلما يجدها أيُّ فهمٍ لنص لغوي، وأيُّ تلقٍّ جماليٍّ لعمل فنيٍّ، حيث تُقارَب تجربتُنا في تأويل التراث بتجربتنا في تلقي العمل الفني، على أساسٍ من مشترَكهما الأنطولوجي.