(١) أمينُ الخولي يتبنَّى المناهجَ الجديدة
انطلقَت محاولاتُ إصلاح وتجديد تستحقُّ الدراسة في
عالَم الإسلام من معاهد التعليم الديني، والحواضر والحوزات
المتخصِّصة في تدريس علوم الدين، واحتضنَتها وانخرطَت في
نقاشاتها ومعاركها. ففي مصر احتضن الأزهرُ الشيخَ رفاعة
رافع الطهطاوي، والشيخَ محمد عبده، والشيخَ مصطفى عبد
الرازق، والشيخَ علي عبد الرازق، والشيخَ محمد عبد الله
دراز، والشيخ أمين الخولي، والشيخ خالد محمد خالد،
وغيرهم. وفي تونس احتضنتِ الزيتونةُ الشيخَ عبد العزيز
الثَّعالبي، والشيخَ الطاهر الحداد، والشيخَ محمد الطاهر
بن عاشور، وولدَه الشيخَ محمد الفاضل بن عاشور، وغيرهم.
وفي النجف احتضنتِ الحوزةُ السيدَ محسن الأمين، والسيدَ
هبةَ الدِّين الشهرستاني، والشيخَ محمد جواد البلاغي،
والشيخَ محمد رضا المظفر، والسيدَ محمد تقي الحكيم،
والسيدَ محمد باقر الصدر، والشيخَ محمد مهدي شمس الدين،
والسيدَ محمد حسين فضل الله، وغيرهم. وكان غيرُ واحدٍ من
هؤلاء الأعلام عنوانًا للضجَّة في عصره، بعد طرحه لآراء
وأسئلة غير مكرَّرة، تتجاوز ما هو مألوف. كانوا يختلفون في
كيفيةِ ونوعِ الأسئلة التي يطرحونها ومدياتِها وعمقِها،
وفي بيانِ آرائهم تبعًا للاختلاف في مواهبِهم وسياقاتِ
تكوينهم التراثي والحديث.
يتفق هؤلاء في خروجِهم على خطاب تبجيلِ وتمجيدِ كلِّ
شيء في التراث، وفي سعيهم لاستيعاب شيء من عناصره
استيعابًا نقديًّا، والجرأةِ في نقد بعضِ المقولات والآراء
في التراث، وعملهم على البحث عن آفاق لقراءةِ النصِّ
وتفسيرِه في سياق الواقع ومُعطيَاتِه واستفهاماته،
ومحاولتِهم الكشف عن شيء مما هو نسبي وتاريخي في ميراث
المتكلمين والفقهاء.
غير أن معظمَ هذه المحاولات على الرَّغم من جرأتها
وأهميتها، لم تغادر المناهجَ التقليديَّةَ الموروثة؛ إذ
كان أصحابُها ينطلقون من مناهج ومفاهيم وأدوات التراث نفسه
في فهمه ونقده، وقلَّما حاول بعضُهم توظيفَ مناهج ومفاهيم
وأدوات جديدة من الفلسفة، وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة،
في فهم الدِّين ونَقْدِ التُّراث؛ لذلك لم تَتبصَّر هذه
المحاولاتُ الأنساقَ المضمرةَ في التُّراث، وما هو مستترٌ
من نظم إنتاج المعنى الكامنة فيه، وكيف تسهم طبقاته
التحتيَّة في توليد المعنى وتكراره عبر العصور المختلفة،
ولم تُنقِّب في البنية العميقة للتراث عن كل ما يعمل على
إعادة إنتاج الآراء والمفاهيم والأسئلة ذاتها؛ لذلك لبثتْ
هذه المحاولاتُ في مداراتِ التَّطلُّعات والطموحات
والأحلام، ولم تبتعد كثيرًا عن إثارة بعض التأويلاتِ
والتفسيراتِ والشروح الجزئية للنصوص، التي تسعى لاستخلاص
آراء وفتاوى لوقائع جزئية تنفتح على ما يفرضه الواقعُ على
المسلم.
وُلد الشيخ أمين الخولي في ١ مايو ١٨٩٥م بمحافظة
المنوفية بمصر، وتوفي في ٩ مارس ١٩٦٦م. حفظ القرآن وهو في
العاشرة من عمره، وتخرج في مدرسة القضاء الشرعي. أصبح
مدرسًا في مدرسة القضاء الشرعي في ١٠ مايو عام ١٩٢٠م. في
١٩٢٣م، عُيِّن إمامًا للسفارة المصرية في روما، ثم نُقل إلى
مفوضية مصر في برلين عام ١٩٢٦م. عاد عام ١٩٢٧م إلى وظيفته في
القضاء الشرعي. انتقل إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب
١٩٢٨م. وأسس جماعة الأمناء عام ١٩٤٤م، ومجلة الأدب عام ١٩٥٦م.
وأصبح عضوًا في مَجْمَع اللغة العربية بالقاهرة عام ١٩٦٦م.
وكتب الخولي مقالاتٍ متنوِّعةً في الصحف والمجلات، وألَّفَ
مجموعةً من الكُتُبِ، من أهمِّها: «من هدي القرآن في
أموالهم: مثاليَّة لا مذهبية»، و«فن القول»، و«الجندية
والسلم: واقع ومثال»، و«دراسات إسلامية»، و«مناهج تجديد في
النحو والبلاغة والتفسير والأدب»، و«المجددون في الإسلام»،
و«كتاب الخير: دراسة موسعة للفلسفة الأدبية مطبقة على
الحياة الشرقية والتفكير الإسلامي».
ومع أن الشيخَ أمين الخولي لم يدرس في الأزهر، بل
تعلَّم في مدرسة القضاء الشرعي، لكنه درَّس في الأزهر.
وكانت محاضراتُه أولَ ما يُدرَّس من الفلسفة رسميًّا في
العهد الجديد للأزهر؛ فهو بعد عودته من ألمانيا عام ١٩٢٧م،
انتُدب للتدريس في الأزهر، فألقى محاضراتٍ على طلاب كلية
أصول الدين في التاريخ العام لفلسفة الأخلاق، أو كما
أسماها هو «الفلسفة الأدبيَّة».
١ اهتمَّ بتجديد البلاغةِ وأساليبِ البيان العربي،
ودعا إلى تحريرها من حمولة الفلسفة والمنطق الصوري، واصطلح
عليها «فن القول». كان هاجسُه ربطَ أساليبِ البيانِ
والتعبير بالحياة، وتكريسَ الذَّوق الفني، والانفتاحَ على
مكاسب العلوم والمعارف الحديثة، والكشف عن الأبعاد
النفسيَّة للبلاغة. ودشَّن أفقًا آخر في بيان أساليب تفسير
النصوص، وما يشوبها من ملابسات الذات والزمان والمكان
والبيئة.
كان الشيخُ الخولي أولَ رجلِ دينٍ مسلم حاول العبورَ
من المناهج والمفاهيم والأدوات التراثية في فهم الدين
ونصوصه، إلى استعمال مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة، وتوظيفها
في بناءِ فهمٍ بديل ونقدِ الفهم القديم، وتميز بخبرة
رصينة، وشجاعة كبيرة في توظيفها.
التكوينُ الديني للشيخ أمين الخولي تقليدي. المقررات
التعليمية في مدرسة القضاء الشرعي يدرس التلميذُ فيها
معارف الدين: كالتوحيد، والفقه، والتفسير، والحديث، مضافًا
إلى: الجبر، والهندسة، وعلم الهيئة، ومبادئ الفلك،
والطبيعة، والكيمياء، والتاريخ، والجغرافيا، وأصول القانون،
وشرح لائحة المحاكم الشرعية، ونظام المرافعات.
٢ ونظرًا لتفوُّق أمين الخولي تم تعيينُه مدرسًا في
مدرسة القضاء الشرعي سنة ١٩٢٠م.
وعندما «صدرَ المرسوم الملكي في ٧ نوفمبر ١٩٢٣م بتعيين
أئمة للسفارات الأربع المصرية في: لندن، وباريس، وواشنطن،
وروما، كانت الأخيرةُ مكانَ عمل أمين الخولي، فأبحر إليها
من الإسكندرية، وبقي في إيطاليا عامَيْن، وأجاد
الإيطالية، وشرع يتعرف على الحياة الدينية والثقافية وجهود
المستشرقين في أوروبا، كما عمل في مفوضية مصر في برلين عام
١٩٢٦م، وتعلم اللغة الألمانية. لما ألغيت وظيفة الأئمة من
السفارات والمفوضيات المصرية عام ١٩٢٧م عاد إلى مصر،
واستأنف عمله في مدرسة القضاء الشرعي، ثم في كلية الآداب
بالجامعة المصرية مدرسًا، ثم أستاذًا مساعدًا، وأستاذًا
لكرسي الأدب في عام ١٩٤٣م.»
٣
اكتشف مدة إقامته في إيطاليا الأساليبَ الجديدةَ في
التربية والتعليم في أوروبا، وتعرَّف عن قرب على نمط
التعليم الديني في الفاتيكان، الذي جعله يدرك ضرورةَ إصلاح
نظام التعليم الديني القديم في الأزهر. أشار هو إلى ذلك
بقوله: «قصدتُ إلى دراسة الخطط والأساليب التي تتبع في
الدراسات اللاهوتية، كما نظرتُ فيما حولي من الدولة
الدينية — الفاتيكان — القائمة في عاصمة الدولة المدنية —
إيطاليا — وخلال تتبع لهذه الدراسة اللاهوتية في أقطار
أوروبا عشت فيها بعد ذلك، كألمانيا، أو أقطار زرتها مجرد
زيارة، وعمدت بعد الدراسة والتفكير للكتابة عن قضية الأزهر وإصلاحه.»
٤ كتب بيانَه لتحديث الأزهر، الموسوم ﺑ «رسالة
الأزهر في القرن العشرين». ونشر الأزهرُ عام ١٩٣٦م هذه
الرسالة، ثم تكرَّرت طبعاتُها لاحقًا، بعد أن نفدت الطبعةُ
الأولى سريعًا.
٥ في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، عاد
الخولي مرةً أخرى يدعو لإصلاحِ الأزهر وتحديثِ نظامه
التعليمي، فنشر سلسلةَ مقالاتٍ في جريدة «المصري»، «وقد
أفردت جريدة المصري حينذاك مساحةً لأمين الخولي على مدى
ثلاثة أشهر، يشرح فيها رؤيتَه حول رسالة الأزهر
الاجتماعية، ويبين العلاقة بين الدين والحياة، وإصلاح
الدين نفسه بالحياة هو ما كان يتطلَّع إليه الخولي، الذي رأى
أن يكون مادةً للتجديد الروحي والسمو الخلقي، ويكون أداة
فعالة في الإصلاح الاجتماعي.»
٦ غير أن الأزهرَ لم يصمت هذه المرَّة كما صمت في
المرة الأولى، فأصدرت جبهةُ علماء الأزهر بيانًا ورد فيه:
«اعتاد الأزهر الشريف أن يسمع من حين لآخر أفرادًا يحاولون
أن ينالوا منه ومن رجاله، وكأنما خولت لهم أنفسهم أن
تعلُّقهم بهذا الجبل الأشم يلقي في روع الناس أن لهم شأنًا،
أو عندهم رأيًا، أو فيهم غيرة على حق، أو غضبًا للدين، أو
حرصًا على صالح عام، ولكن هيهات، فهم كناطح صخرة يومًا ليوهنها.»
٧ إلا أن الشيخَ الخولي وجَّه لهم نقدًا صريحًا
ذكر فيه: «إن قصدهم النفسي من هذا التوجيه ليس بارئًا، ولا
خالصًا، من الغايات المدخولة؛ فسبيلهم إلى هذا التوجيه
والبيان سبيل غير صادق، وتناولهم له غير مستقيم، كما أن
سيادة روح التحكم في فضل الله ونعمه، والاستبداد بدين الله
وهدايته واضح، فإذا أفتوا فقولهم هو رأي الإسلام، وإذا
حكموا فحكمهم هو حكم الله، وإذا خالف عليهم إنسان فهو
يحارب الله.»
٨ لكن الأزهرَ لم يتوقَّف عن مساجلته، فردُّوا على
نقده ببيان أيضًا، غير أنه لم يتراجع عن دعوته لإصلاح الأزهر.
٩
تنبَّه الشيخ الخولي إلى ضرورة تبني نمط «تدين إنساني
القلب، نبيل العاطفة، يؤدي إلى التعاون البشري، ولا يعوق
الإخاء الإنساني. تدينٌ لا يعرفُ تلك السلطة الغاشمة التي
ترهب العقل الطليق، وتفتُّ في العزم الوثيق، وتفسد الذوق
الرقيق، وتتحكَّم بجبروت لاهوتي في الحياة الدنيا، وتسدُّ
الطريق إلى الآخرة. تدينٌ لا يخلقُ تلك الطبقة التي تحتكر
الدين، وتسد المسالك إلى الله، ولا يعترف بتلك الطبقة التي
خلقَتها الظروف؛ لأنه لا رياسة في الإسلام، وكلهم قريب إلى
الله سبحانه وتعالى.»
١٠
لبث الشيخ الخولي كلَّ حياته وفيًّا لتجديد الفكر الديني، الذي يعتقد أنه يقوم على
تفاعل وتبادل الدين مع
مختلف العلومِ والمعارفِ البشرية وتوظيفها في فهمه وتفسير
نصوصه. يلخص لنا الخولي ذلك بقوله: «إن الدين في هذه
الحياة لا مفرَّ له من التفاعل والتبادل مع ما سواه من فهم
وتنظيم لتلك الحياة، وإنه لن يُكتب لهذا الدين البقاء إلا
على قدر ما فيه من قدرة على هذه المسايرة والمفاعلة
والاستفادة، والانتفاع بما سواه من التفسيرات والتدبيرات الأخرى.»
١١
(٢) فكرةُ التطوُّر تستبدُّ بالخولي
يميز الشيخُ أمين الخولي بوضوحٍ بين التجديد في مفهوم
القدماء ومفهومه المختلف للتجديد؛ فالتجديد في مفهومهم هو
ضرب من الإحياء لما كان مُنْدَرِسًا، والتذكر والاستئناف
لما كان منسيًّا، بينما التجديد في مفهومه هو ضرب من
التطور، وليس إحياءً لما هو مندرس، أو تذكُّرًا لما كان
منسيًّا، أو استئنافًا للقديم وإحضاره كما هو. يرسم الخولي
رؤيته هذه بقوله: «ومِنْ وصف القدماء لعمل المجدد حينًا
أنه إحياءُ ما اندرس، ومعنى هذا أنَّ شيئًا من المعالم
الدينيَّة الاعتقادية أو العبادية، فرضًا أو سُنة، قد أُهمل
ونُسِي على مَرِّ الزمن، فيعمل المُجَدِّدُ على إعادة
العنايةِ به، والتزامه بالصورة القديمة الأولى التي كان
عليها. وهذا الفهم المتبادر القريب من جملة كلامهم لا
ينتهي إلى شيء من معنى التطور، الذي هو تغيُّر الحياةِ
أثناء سَيْرِهَا إلى مستقبلها، فإذا ما كان المُجَدِّدُ
مُطوِّرًا للحياة، فمعنى ذلك أنَّه يُقدِّر تغيُّرَها في
سَيْرِهَا إلى غدها، ويعمل على جعل الدين مُسَايِرًا لها
في هذا السَّير، موائمًا لحاجتها فيه؛ فالتجديد الذي هو
تطوُّر ليس إعادةَ قديم كان، وإنما هو اهتداء إلى جديد،
بعد أن لم يكن، عن طريق الاجتهاد.»
١٢ وبذلك تجاوز الشيخُ أمين الخولي وجهةَ الإحياء
والإصلاح التي بدأت مع الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي في القرن
التاسع عشر، وتواصلت فيما بعد مع جمال الدين الأفغاني
والشيخ محمد عبده، ومن تلاهما؛ ممَّن تمحورتْ جهودُهم حول
الدعوةِ لإحياءِ ماضي الأمَّةِ واستئنافِ أمجادِها،
بالاعتماد على الأصول والمبادئ الموروثة في فهم الدين
وتفسير نصوصه. استطاع الشيخ أمين الخولي أنْ يَشتقَّ
نَهْجًا يتلمَّسُ في ضوئه دَرْبًا مُغايِرًا لما عرفناه
من أصولٍ ومبادئَ موروثةٍ في فَهْم الدِّين وتفسير
نصوصِه.
ظلَّ الخولي مَسْكُونًا بفكرةِ التطوُّر، واستبدَّت به
هذه الفكرةُ إلى الحَدِّ الذي استند فيه إليها، بوصفها
مرجعيةً لإعادة بناءِ المعارف الدِّينيَّة، وآداب
وعلوم اللُّغة العربيَّة، فمع الخولي، وللمرة الأولى،
يتصدَّع جِدارُ الدَّرس اللغوي والبلاغي التقليدي،
كما تنفتح الفلسفةُ الأخلاقيةُ في التَّعليم الأزهري على
أفقٍ جديد. لم يتردَّد الشيخ الخولي في الدفاع عن نظرية
التطوُّر الداروِنية في الأحياء، وأصر على منحها
مشروعيةً، في ضوء ما يحاكيها ويقاربها من إشاراتٍ في
«رسائل إخوان الصفا»،
١٣ وآثارِ ابن مسكويه، وابن سينا، وابن الطفيل،
ممَّن ألمحوا أو صرَّحوا بتصنيفِ الموجودات في سُلَّمٍ
تَراتُبِي، يحتلُّ فيه الإنسانُ الذروةَ في تكامُله، فيما
يليه الحيوانُ، فالنباتُ، إلى أدنى مرتبة وهو الجماد. شغف
الخولي بالتجديد إلى الحدِّ الذي كان برأيِه هو الثورةُ
الكبرى في كلِّ قرن؛ إذ يقول: «إنَّ ذلك التجديد على رأس
القرونِ هو ذلك العملُ الثَّوريُّ الكبير الذي تحتاجه
الأُمَّة، كأنما هو ثورةٌ اجتماعيَّة دورية.»
١٤
توسَّع الخولي في تطبيق فكرةِ التطوُّر على علم الكلام
والفقه واللغة، بل تعميمها لتشمل أبعادَ الوجود البشري
المعنويةَ والفكريةَ والاجتماعيةَ والأخلاقيةَ كافَّة.
وأصرَّ على أنَّ التَّطوُّر هو النَّاموسُ الشامِلُ في
الخَلْق والحياة، وليس ناموسًا خاصًّا بعلم الأحياء
فقط. يكتب الخولي: «صار كلُّ باحث يتصدَّى لدرس شيء من ذلك
إنما يتقدم إليه مسلِّمًا بعمل ناموسِ النُّشوء فيه، فيما
مضى وفيما هو آتٍ، ولم يَعُد الباحثُون يقبلون القول بظهور
كائنٍ كاملِ الوجودِ دفعةً واحدةً، فكرةً كان أو لغةً أو
فنًّا أو حضارة … إنَّ ظهور الفكرة الجيِّدة يشبه في
تطوُّر الحي ظهور صفات جديدة في نوع من الأحياء تُخالِف
الصِّفات القديمةَ، وقوة يقين أصحاب الفكرةِ الجديدة
بصحَّتها وصلاحيتها تقابل درجةَ قوَّة الصفاتِ الجديدة في
الحي على البَقَاء. وإنَّ صلاحَ البيئة الاجتماعية لحياةِ
الفكرةِ الجديدة ومعاكستها لحياة الفكرة القديمة، تقابِل
حالَ البيئةِ الطبيعيَّة بالنِّسبة لصفات الكائن الحيِّ
الجديدة. وإن قوةَ اقتناع أصحابِ الفكرة الجديدة بها،
وترسيخهم لها، في أذهان الناس، تشبه قوة الحيِّ على
إفناءِ مُنافسِه وإبادتِه. واقتناع الناس رويدًا
بالفكرة الجديدة وانسلاخهم من الفكرة القديمة يشبه موت
الأفراد الضعاف في التَّناحُر المادي. وإن تأصُّل الفكرة
وثباتها في نفوس مقتنعيها يشبه تأصُّل صفات الحي الجديدة
في نسله ورسوخها.»
١٥
تبدو حالةُ التفهُّم لقيمة معطيات العلوم والمعارف
الحديثة واضحةً في تَوكُّؤ الخولي على نظرية التطور
الدارونية، والاستنادِ إليها بوصفها مرجعيةً شاملة في
تسويغِ ضرورة تطوير اللغة وآدابها، وتجديدِ معارف وعلوم
الدين. وهي سمةٌ طبعت تفكيرَ بعض رجال الدين والمثقفين في
ذلك العصر، ممن تعرَّفوا على العلوم الحديثة، واكتشفوا
التقدُّمَ الغربي، واستند غيرُ واحد منهم إلى نظريَّة
التطوُّر لتسويغ تجديد الفكر الديني. كما تمادى بعضُهم
وأسرف في توظيف فرضيات ونظريات وقوانين العلم الجديدة في
تفسير القرآن، مشدِّدًا على التوءمة بين العلم والقرآن
الكريم، إلى الحد الذي أضحى معه النصُّ القرآني بمثابة
كتاب لا مضمونَ له، ولا يكتسب مضمونَه إلا بإسقاط معطيات
العلم الحديث ونظرياته واكتشافاته.
١٦
يتَّسع قانونُ التطوُّر في منظار الخولي ليشمَل اللغةَ
أيضًا، مثلما يشمل الظواهرَ الأخرى في الاجتماع البشري
كافَّة؛ فهو يرفض المواقفَ اللَّاعقلانيَّة في التَّعَاطِي
مع العربيَّة، بوصفها استثناءً بين لغات العالم؛ لذلك لم
يقبل ما يقال عن: «فضل العربية … وكمال العربية … وانتهاء
العربية إلى ما لا شيء بعده.»
١٧ شدَّد الخولي على أن العربيةَ ليست استثناءً
من اللُّغات البشرية، كلُّ لغةٍ كائِنٌ اجتماعي حي، يحيا
ويتطوَّر تبعًا لسُنَنِ الحياة وتطوُّرها، وأنَّ اللُّغةَ
بطبيعتِها أكثرُ حيويَّةً ومرونةً وإمكانات تجديد من
سواها، ففيها على الدوام كلماتٌ تموت وتندثر، وأخرى
تتوالد، وتنحت، لتثري معجمَها، وتعزِّز رصيدَها التداولي.
وذلك ما يوضِّحُهُ الخولي بقوله: «فاللغة من أشدِّ المظاهر
الحيويَّة لينًا، وأقلِّها تصلُّبًا وتحجُّرًا، وأطوعها
للتطوُّر، وقدماؤنا يدركون هذا واضحًا، حين يتحدثون عن
تهذيبِ اللغة وعواملِه، وحين يقرِّرون أن الاستعمالَ يُحْيي
ويُميت، ويُقبِّح ويُحسِّن، وحين يصفون تداخُلَ اللغات،
وما إلى ذلك من دلائل الشعور بتأثُّر اللغة بالحياة
تأثُّرًا قويًّا.»
١٨
في لفتةٍ بالغةِ الدلالة تحدَّث الخولي عن مأزقِ
الفصحى، والازدواجِ اللغوي بين الفصحى والعاميَّة، وكيف
أننا نتحدَّث بلغةٍ غيرِ تلك التي نفكِّر ونكتب ونقرأ بها،
فسعى للكشف عن الجذور التاريخية لذلك، وكيف أن المنهجَ
الذي اعتمده المعجميُّون الأوائل في جمع اللغة تبنَّى لغةَ
البدو في الصحراء العربية خاصة؛ إذ استبعدوا كلَّ كلمة
تدلُّ على ما هو شائعٌ في المدينة والحواضر المعروفة؛ لذلك
اغتنت العربيةُ بكلمات البادية، وما يدل على الظواهر
الطبيعية والحيوانات والنباتات، والعادات والتقاليد،
والأدوات والأشياء، والصور والحاجات السائدة في نمط
الاجتماع القبلي، في حين افتقرت إلى ما هو معروفٌ ومتداوَل
في المدن. وكأنه هنا يلمح إلى أن العربيةَ ما زالت مرآةً
لحياة البداوة، وأنها مشبعةٌ بنمط ثقافتها، فرؤيتُها
للعالم ضيقةُ الأفق، وإيقاعُ التحوُّل والتغيير فيها بطيء،
خلافًا للغة المدينة التي تغتني بالكثير من الألفاظ الدالَّة
على ما يسود حياةَ الحواضر المدينية من أشياء وأفكار. من
هنا ضاقَت عربيةُ القبائل البدوية في العصر العباسي عن
استيعاب ما ساد الاجتماع الإسلامي من أشياء وأفكار لم
تعرفها الباديةُ من قبل، فعوَّضت ذلك بالاستيرادِ من غيرها،
واشتقاقِ وتوليدِ ألفاظ جديدة.
التطورُ سُنَّةٌ شَامِلةٌ عند الخولي
لا يتردَّد الشيخ أمين الخولي في القول بأن «تطور
العقائد ممكن، وهو اليوم واجب لحاجة الحياة إليه، وحاجة
الدين إلى تقريره، حماية للتدين، وإثباتًا لصلاحيته
للبقاء، واستطاعة مواءمة الحياة، مواءمة لا يتنافر فيها
الإيمان مع نظر ولا عمل.»
١٩ في السياق نفسه يدعو الخولي إلى رؤية جديدة
في التعاطي مع الغيبيَّات، والتحرُّر من نسبة كل شيء
إليها، والاستغراق في تفاصيل عوالمها؛ لأن تكوين الأجيال
الجديدة لا يهضم عقله العلمي هذا اللون من الكلام.
في موقف يَخْرُج فيه على المشهور يشير الخولي إلى
أنَّ القصص تتحدث لغةَ التَّمْثيل وليس لغةَ التاريخ؛ إذ
يكتب: «ما ينبغي أن تظلَّ تلك الصورُ الساذجة من الحديث
عن غيبيَّات لم يأمر الدينُ بشيء من التفصيل لها، وإطالة
الحديث عنها، ولا أن نستمع إلى صنوفٍ من القَصَص الذي هو
تمثيل لمعانٍ، وتقريب لحقائق لا تاريخًا ولا تسجيلًا؛
لأنَّ ما فيه من الحديث المُفَصَّل يصدم حسَّ هذه
الأجيال، ويناوِئ تكوينَها العقليَّ بعلميَّتِه، وتكوينها
الفني بدقِّتِه، كأنْ تَقُولَ لهم إنَّ التصويرَ حرام،
وإنَّ أشدَّ النَّاسِ عِقَابًا يوم القيامة المصورون، في
حين تحتاج أنت إلى الاستفادة من التصوير ومجالاته الفنية
في الإيضاح الديني اعتقاديًّا وعمليًّا، وهذا مثل قريب
لوجوب تطوُّر العقائد في عرضها في جوهرها وصميمها.»
٢٠
يشدِّد الخولي على رفض أيَّة قراءة لا تاريخيَّة
للتراث، وينظر إلى التراثِ بوصفه محكومًا بعوامل وظروف
خاصَّة مولِّدة له، تتناسب مع ضرورات ومشروطيَّات زمانية
مكانية تفرضها كلُّ حقبة تاريخيَّة، وعلى هذا فهو يتغيَّر
ويتطوَّر مستجيبًا لما تُمْلِيهِ عليه تلك المشروطيَّاتُ
والضروراتُ.
ويحيل الخولي الخلافَ بين المتكلمين، وتغيُّرَ
الأقوال وتنوُّعَها في مسائل: «الذات والصفات، والكلام
الإلهي، والقضاء والقدر، والجبر والاختيار … وغير ذلك»،
إلى التغيُّر في البيئاتِ والزَّمان والمكان، والتغيُّر هو
التطور، تبعًا لمفهومه.
٢١ يرى أمين الخولي أن «ناموسَ التدرُّج
والتَّرقِّي في الكائنات جميعًا، المادِّي منها
والمَعْنَوِي على السواء، مُهِمٌّ لدراسة التاريخ،
فدارسُ التاريخ يطبِّق هذا الناموس على جميع صور الحياة
الإنسانيَّة، ومظاهرها، وأعمال الأفراد، والأمم جميعًا،
وتغيُّرات حياتها السياسيَّة والاقتصاديَّة والعلميَّة
والفنيَّة، بل الاعتقاديَّة، يَطَّرِدُ جريانُها على هذا
النِّظام … ولا محلَّ لإنكارِ أنَّ مظاهرَ الحياةِ
الإنسانيَّة المختلفة تخضع لهذا النَّامُوس التدريجيِّ
دائمًا: فتبدأ من أصل بسيط ساذج، لا يزال يتغيَّر
ويتدرَّج، وينافس في سبيل الظفر بالحياة، فيبقى منه
الصالحُ لها، ويبيد غير الصالح، ثم يرتقي هذا الصالح،
ويكتمل شيئًا فشيئًا حتى يعود مُركَّبًا، بل مُعقَّد
التركيب، بعدما كان بسيطًا ساذجًا يسيرَ الشَّأنِ.»
٢٢ وهو بذلك يتخطَّى الدَّعوةَ لفَتْح باب
الاجتهادِ في الفقه، ويصرُّ على ضرورةِ شمول الاجتهاد
لكلِّ علومِ ومعارفِ الدِّين. ويشدِّدُ على أنَّ «تطوُّرَ
العقائد واجبٌ» وأن ناموسَ التدرُّج والتَّرقِّي
يَطَّرد جريانُه في الأمور الاعتقادية، يؤشر بوضوح إلى
أنه قد تجاوز ما كان عليه سَلَفُه وأقرانُه من دُعاة
الإصلاح في الأزهر.
أمين الخولي يبني رؤيته على أساس شمول قانون
التطوُّر لكلِّ شيء في الحياة، ويتسع هذا القانون ليستوعب
الأديانَ والعقائدَ، وكيفيةَ تأثيرِ البيئةِ الماديَّة
والمعنوية للإنسان في المعتقدات؛ ففي «الإسلام يبدو
جليًّا الأخذُ التدريجيُّ للناس في الاعتقاد … ومرور هذه
العقيدة في أدوار انتقاليَّة مُترتِّب بعضها على بعض،
تنتهي بها العقيدةُ إلى تركيبٍ بعد بساطة، وتعقُّد بعد
سهولةٍ، بفعل تدرُّج الحياةِ، وانتقالها من البداوةِ
المُحَصَّنَةِ مثلًا إلى الحضارة، فالدراسة والتعلُّم،
فالبحث والتعمُّق. ولعلَّ أصدقَ مظهر لذلك ما سنراه في
نشأةِ المذاهبِ الإسلاميَّة الاعتقاديَّة، وظهور
المقالاتِ الدينية، من تأثُّر ذلك تأثرًا جليًّا بانتقال
الحياة الإسلامية في مدارج الحضارة، واتِّصالِ المُسلمين
بتفكير الأمم الأخرى وبحثها، مما يتضح به فرق بين عقيدة
السلف القصيرة الجلية المسلمة، وعقيدة الخلف المؤولة المتعمِّقة.»
٢٣
ودعوتُه هذه من الدعوات المبكرة في دنيا الإسلام
لبناءِ «عِلْم كلام جديد»، على وفق التسمية المتداوَلة
اليوم؛ ذلك أنَّ عِلْمَ الكلامِ الجديد ما هو إلا ضربٌ من
الاجتهاد في تفسيرِ وتسويغِ الاعتقاد، طبقًا لما يتطلَّبه
كلُّ عصر، بنحو تتَّسع فيه وظيفةُ علم الكلام لتتجاوزَ
حمايةَ إيمانِ الناس، إلى صيانتِه من التوحُّش والتشدُّد
والتحجُّر.
كأنَّ الشيخَ الخولي هنا يستعير مفهومَ
«التاريخيَّة» من الفلسفةِ والعلوم الإنسانيَّة الحديثة،
ليطبِّقه على مجالاتِ التراث المتنوِّعة؛ إذ يحيل مفهومُ
«التاريخية» إلى أنَّ أفكارَ كلِّ بيئة تشبهها؛ ففي
البيئة الخصبة عقليًّا تزدهر الأفكارُ العميقةُ الغنيَّةُ
المركَّبة، وفي البيئة الفقيرة عقليًّا تتفشَّى الأفكارُ
المبسَّطة الفقيرة الهشَّة. تظلُّ الأفكارُ على الدَّوام
متماثلةً مع بيئتها، معاصرةً لها، ومشتقَّةً منها. في ضوء
هذا الفهم لا يمكن امتدادُ الأفكار خارج سياقاتها
الزمانيَّة والمكانيَّة الخاصَّة، وتأبيدُها للعصور كافة،
على اختلاف أنماط الحياة، وتغيُّر الزمان والمكان
والبيئة.
وهو في كل ذلك يصرُّ على ضرورة دراسة التُّراث
والتبصُّر بمسالكه المتنوعة، بل يعتقد أنَّ «أول
التَّجديدِ قَتْلُ القديم فهمًا».
٢٤ وكأنه يلمِّح بعبارته إلى أولئك المراهقين
ممَّن لا يكفُّون عن التبسيط، فيلبثون عند السَّطح في
فهمهم للتراث، ولا يدركون مدياتِه المتشعِّبة، ولا يرون
شِرَاكه المُتَشَابِكة، فيظنُّون أنَّ التجديدَ
يَتحقَّقُ فور نسيان القديم وتَجاهُلِه، بلا دراسةٍ
ودرايةٍ بمجالاته ومشاغله ومقولاته. مثلما يشير إلى أولئك
الَّذين يعكفون على حِراسَةِ التُّراث وتقديسِه، فينبِّه
إلى أنه ما لم تتحوَّل وظيفتُنا حيال التراث، من حارس
للتراث إلى دارس، فلا يمكننا الخروجُ من أنفاق الماضي،
وأن نكون معاصرين لزماننا.
لعل اختيارَ الخولي لكلمة «قتل» تَشِي بأنَّنا
واقعون في شراك القديم شئنا أم أبينا، وتلك الشراكُ لا
تفتأ تتراكم باستمرار، فتحيطنا من كل جانب، ولا سبيل
للإفلات منها من دون أن تتمَّ غربلتُها. معنى القتل هنا
ليس التدميرَ والإبادة، إنما هو اكتشاف العناصر الميِّتة
في التراث، كي نتغلَّب على تسميمِها حياتَنا، وننجو من
فتكها بنا. القتلُ هنا كنايةٌ عن الوعي الدقيق بمدارات
القديم، واستكشافِ خرائطه، وتغلغُلِ أسئلتِه ومفاهيمه في
عصرنا، وتعطيلِ عناصرِه المُحَنِّطة لحركتنا، وشلِّها
لقدرتنا على النهوض وإدارة الحاضر واستبصار المستقبل.
بوضوح لا لبس فيه، يفصح الخولي في موضع آخر عن مفهومه
للتجديد، وأنه ليس بمعنى اجتثاث واستئصال القديم بأسره؛
إذ يفسِّره على أنه: «اهتداء إلى جديد كان بعد أن لم يكن،
سواء أكان الاهتداء إلى هذا الجديد بطريق الأخذ من قديم
كان موجودًا، أم بطريق الاجتهاد في استخراج هذا الجديد
بعد أن لم يكن.»
٢٥ إنه لا يدعو إلى إهدار القديم والتفريط فيه،
بل يريد:
- أولًا: تحيين ما هو قديم ببعث روح جديدةٍ فيه، بعد أن
تَحَجَّر مما تراكم عليه من الماضي، وغرقِه في سوء
الفهم والأسئلة المبسطة والأحكام السابقة.
- ثانيًا: الاجتهاد؛ بمعنى ابتكارِ وإبداعِ «الجديد بعد
أن لم يكن». وهذا ما يمتاز به هو عن جماعةٍ من
المُصْلِحين في عصره، ممَّن ذهبوا إلى أنَّ كلَّ جديد
إنما هو استئنافٌ وإعادةُ إحياءٍ للقديم، بَخَلْعِ
غِطَاءٍ جديد على مضمونٍ قديم، وتقديمِ القديم
بأوعيةٍ جديدة، بوصف التُّراثِ مُسْتَودَعًا يستوعب
كلَّ ما ننشده في كلِّ زمانٍ ومكان، على وفق ما شاع
وذاع من قول: «ما ترك الأوَّلُ للآخر شيئًا.»
- ثالثًا: استيعاب وشمول التطوُّر بوصفه «سنة شاملة في:
الأصول والعقائد والعبادات والمعاملات». وهي دعوةٌ
تتخطَّى أيضًا ما يدعو إليه الكثيرُ من الإصلاحيين،
ليس فقط لأنها تستوعب العقائدَ بموازاة الفقه، بل
لأنها لا تتوقف عند المعاملات خاصَّة في الفقه، التي
شاع القول بأنها «إمضائيَّة»،٢٦ وإنما تشمل كذلك العبادات. وهو قول ربما
ينفرد به الشيخُ الخولي، ذلك أنَّ المعروفَ أنَّ
أحكامَ العبادات توقيفيَّة، لا تتغيَّر أو تتبدَّل أو
تتطوَّر، لكن مع ذلك دعا الخولي إلى إعادة النظر في
المؤلَّفات الفقهيَّة والكلاميَّة، وضرورة الإصغاء إلى
صوت الواقع المتغيِّر، والتحدُّث إليه باللغة التي
يفهمها؛ لأن الواقع في تحوُّلٍ متواصلٍ، والبشر
تستجدُّ في حياتهم أمورٌ لا تعرفها مدونةُ الفقه، وذلك
ما أشار إليه بقوله: «إنَّ النَّاس تحدث لهم باختلاف
الزمان أمور ووقائع لم يرد لها ذكر في كتب الفقه
القديمة، فهل نُوقِفُ سَيْرَ العالَم لأجل كتبهم؟
إن هذا لا يُستطاع، إنه جمود وَمَوَات يجعل العوامَّ
ينصرفون عن دينهم الذي لا يجاري وقائعَ حياتهم.»٢٧ في نقاشه مع شيخ الأزهر٢٨ رفض الشيخُ الخولي انحصارَ التطوُّر ببعض
أحكام العبادات، فذهب إلى أنَّ «التغيُّر والتطوُّر
سُنَّة شاملةٌ في الأصول: العقائد والعبادات
والمعاملات، وفي هاتَين الأخيرتَين شريعة الإسلام هي
انتخاب ما نراه أيسر عملًا وأصلح للبقاء.»٢٩
لذلك نراه لا يتردَّدُ في الدَّعوةِ إلى تطوير أحكام
العبادات بما يتناغم مع متغيِّرات الواقع، فيثير مسائلَ
تتَّصِل بتيسير أداء الصلاة عبر الإفادة من الوسائل
الحديثة؛ إذ يقول: «وماذا يكون الرأيُ في حكم الاقتداء
بالأجهزة المتطورة التي تُذاع بها الصلواتُ الجامعة من
جمعة وعيد، وفيها واسطة حاضرة مشهودة كالتليفزيون، يرى
فيه المُصلِّي من حال الإمام وحركاته ويسمع من صوته
ووعظه، ما لا يستطيع أن يراه إلا بكل صعوبة في مسجد حيِّه
الصغير أو الكبير المزدحم.»
٣٠ وأحكام المعاملات عند الشيخ الخولي تدور
مدارَ المصلحة؛ ذلك أنَّ: «الأمرَ في المعاملات على كلِّ
حال ليس إلا أمرَ مصلحة واقعة؛ حيث وُجِدَتْ فثمَّ حكم
الله كما يقولون بصريح اللفظ، وتطور عرض العقائد
والعبادات والمعاملات يهدف إلى ألا يبدو الجوُّ الديني في
صور منعزلةٍ عن الحياة.»
٣١
وعلى الرغم من أنَّ الخولي لم يشرح لنا بالشكل الكافي مبرِّرات موقفه، والمنهج الذي
تبتني عليه دعوتُه هذه، وربما لم يسعفْه العمرُ لبيان تطبيقاتها في مختلف أبواب العبادات،
لكن تظل الدعوةُ لتطوُّر العبادات غريبةً
على تفكير المصلحين وقتئذٍ. ولا أظنُّه يعني أكثرَ من فتاوى
تيسير وتسهيل أداء الفرائض العبادية، وتوسيعِ مفهوم «نفي
العسر والحرج» واللجوء لمصاديق «العناوين الثانوية»،
ليستوعب حالاتٍ ومواقفَ لم تكن تُصنف من مصاديق العسر
والحرج، أو العناوين الثانوية لدى الفقهاء قبل ذلك.
يعرف الخبير بأصول الفقه وقواعد الاستنباط أنَّ مثل
هذه الدعوات تظلُّ أقرب للشعارات العامة، ما لم تتوغَّل
في البنية التحتية العميقة للاستنباط الفقهي، وتعيد بناء
ما ترتكز عليه، من أصولٍ للفقه وقواعدَ لاستنباطِ
الأحكامِ الفقهية، بنحوٍ يسمح ببناء أصولٍ وقواعدَ جديدةٍ
تمنح المستنبِطَ إمكانيةَ إنتاج فتاوى بديلة تواكب إيقاع
حياة المسلم المتغيِّرة بتغيُّر الزمان والمكان.
(٣) تدريس علم الأديان في الأزهر
يعود الفضلُ للشيخ أمين الخولي في تدشين تدريس علم
الأديان في الأزهر؛ ففي سنة ١٩٣٥م بدأ الخولي بتدريس «تاريخ
الملل والنحل» في كلية أصول الدين في الأزهر، وتركَّزَ
بحثُه على تعليمِ تلامذتِه كيفيةَ دراسةِ الأديان
وتاريخِها على وَفْقِ مناهجِ البَحْثِ العلميِّ الحديث،
وعدم التوقف عند الأخبار والمرويات القديمة الواردة في
دراستِها؛ لأنَّ الآفاقَ الجديدة للبحث العلمي تسعى
لاكتشاف تاريخ للدين خارج المسار الذي ترويه مؤلفاتُ الملل
والنحل المعروفة في التراث؛ لذلك نبَّه أمين الخولي
تلامذتَه إلى ضرورةِ توظيف المُعطيات العلميَّة الحديثة في
دراسة نشأةِ الدين، وبيان ماهيَّته، واكتشافِ التَّنَاغُم
بين الدين ونَمَطِ عيشِ وظروفِ وثقافةِ المجتمعِ الذي
ظَهَرَ فيه، وكيف يتحقَّقُ الدينُ في حياة الفرد والمجتمع،
عبر التفاعل والتأثير المتبادَل بينه ومختلف المُعطيَات
المادِّيَّة والمعنوية في بيئةِ نشأتِه، وكيف يؤثِّر
الدينُ في المجتمعات وتؤثِّر هي فيه، وكيف ترسم أنماطُ
عيشِ وظروفِ وثقافاتِ المجتمعاتِ التي تعتنقه مآلاته. في
بيانه لمنهجه هذا يكتب أمين الخولي: «إن دراسة تاريخ
الأديان تحتاج إلى مصادر أوسع وأكثر من الرواية المنقولة
والخبر المسرود، وتعتمد على تلك المصادر الماديَّة
والمعنوية اعتمادَ غيرها من فروع التاريخ، بل قد ينفسح لها
المجال في بعض المصادر بأبعد وأوسع مما ينفسح لغيرها،
لاتِّصَالِ الشعور الديني بالحياة البشرية في مختلف
أدوارها، وتأثيره على صُوَرِهَا المختلفة، من:
فنِّيَّةٍ، وعلميَّةٍ، وعمليَّةٍ، فلا بد من الرجوع إلى ما
يمكن أن يوجد من تلك المصادر الصَّامتة، وكشفها الأكثر
صِدْقًا، ولا بد من الحرص على تتبعها حيث كانت، واستخراجها
تحقيقًا للدرس الصَّحِيح.»
٣٢
لم يتردد الشيخ أمين الخولي عن إعلان منهجِه الذي
ينسجُ على منوال المنهج العلمي الجديد في دراسة الدين،
واكتشاف نشأتِه ومسيرته عبر التَّاريخ في ضوء ما يسميه:
«الطريقة التجريبية في درس التاريخ»؛ لأنه: «في العصور
الحديثة تغيَّر ذلك الاتجاهُ كلَّ التغيُّر، وصارت
الروايةُ آخرَ ما يلجأ إليه، وأصعب ما يُعتمَد عليه،
لاتِّهَامِهَا واعتوار الضَّعف نواحيها، وبذلت جهود جديرة
بالإكبار في استجواب الآثار، واستفسار الأنقاض والأحجار،
فحُلَّتْ طلاسمُ اللغات القديمة التي ظلت في نظر القدماء
رقًى وتعاويذ … فكان للدراسة التاريخية — على تعدُّد
مناحيها — مصادرُ تجريبية، أو تكاد تحدث عن واقع محسوس لا
يعصم عن الخطأ، لكنه يسلم من تلاعب الأهواء وتصرف الألسنة
وتدليس الذمم.»
٣٣
محاولة أمين الخولي الرائدة في توطين علم الأديان في
الأزهر لم تترسَّخ، ولم تأخذ نصابَها الذي تستحقُّه في إعادة
بناء التعليم الديني؛ لأن مثل هذه المحاولات كانت وما زالت
فرديَّة، وظلَّتْ حتى اليوم تعبِّر عن موقفٍ يعرفُ جيِّدًا
لغةَ العَصْرِ ومناهجَه العلميَّة، إلا أنَّه غريب على
مضمون المقررات التراثيَّة القديمة، ويعجز عن اختراق بنيتها
المُغْلَقَة. وجاءَ تَمدُّدُ التيَّار السلفي واكتساحُه
لمؤسسات التعليم الديني، ليقضي على كلِّ المحاولات الجادَّة
لإعادةِ بناء هذا التعليم في عالَم الإسلام ويجهضها في
مهدها.
ما زال الأزهر وغيره من مدارس العلم التقليدية في
عالَم الإسلام، تتردد فيها من حين لآخر دعواتٌ لتجديد
النِّظام التعليمي، غير أن مقرراتها التعليمية ما زالت تدور
في حلقة مفرغة لا تبدأ إلا حيث تنتهي، ولا تنتهي إلا حيث
تبدأ، وكأنها تعوِّض إخفاقَها العملي بالكلام، وهو كلام
يلحُّ على تجديد مقررات التعليم الديني، يقوله السياسيُّون
ويكتبه وعَّاظُهم باستمرار، ولم يهتمَّ السياسيُّون بذلك إلا
بعد أن أضحت السلفيةُ تهدِّد وجودَهم. إلا أنَّ هذه
الدعوات لم تنتج إلا محاولات شكليَّة ترقيعيَّة، تمكثُ عند
السَّطح، وتَفْشَلُ في التوغُّل داخل البنيَةِ العميقةِ
للتعليمِ الدينيِّ كي تعيد تشكيلَها. وتعود أسبابُ فشل هذه
الدعوات إلى أنَّها لم تدرك بعدُ أنَّ كلَّ عمليَّةِ إعادةِ
بناءٍ جادَّةٍ تتطلَّب وَعْيًا بالعصر، واستيعابًا لمنطق
علومِه وإتقانًا للغةِ معارفِه، وقدرة على توظيفِها في
دراسةِ الدِّين وقراءةِ نصوصِه في ضوء احتياجاتِ عقلِ
وروحِ وقلبِ المُسلم اليوم، والإفادة منها في غربلةِ
التراث ونخل رُكامه الواسع وتفكيك مكوِّناته
وتمحيصها.
(٤) التفسير الأدبي للقرآن عند الخولي
كان مدخلُ الشيخ أمين الخولي لتجديد مناهج تفسير
القرآن توظيفَ المناهج الحديثة في تفسيرِ ونقدِ النصوص
الأدبية، وتعميمَها لتشمل النصَّ القرآني؛ لذلك دعا إلى ما
أسماه: «التفسير الأدبي للقرآن»،
٣٤ مستندًا في تسويغِ دعوته إلى هذا النوع من
التفسير إلى أنَّ أسلوبَ تعاطِي العرب مع هذا النص كان
أدبيًّا، «لأن العربيَّ القُحَّ، أو مَنْ رَبَطَتْهُ
بالعربيَّة تلك الروابط، يقرأ هذا الكتاب الجليل، ويدرسه
درسًا أدبيًّا، كما تدرس الأممُ المختلفةُ عيون آداب
اللُّغات المختلفة، وتلك الدراسة الأدبية، لأثر عظيمٍ كهذا
القرآن، هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أوَّلًا، وفاءً بحق
هذا الكتاب. ولو لم يقصدوا الاهتداء به، أو الانتفاع مما
حوى وشمل؛ فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس، سواء نظر
إليه الناظر على أنه كذلك للدين أم لا.»
٣٥ يشرح الشيخُ الخولي طريقتَه في التفسير الأدبي
قائلًا: «إن التفسير اليوم — فيما أفهمه — هو الدراسة
الأدبيَّة، الصحيحة المنهج، الكاملة المناحي، المتَّسقة
التوزيع، والمقصد الأول للتفسير اليوم أدبي محضٌ صرف، غير
متأثِّر بأيِّ اعتبار، وراء ذلك … وعليه يتوقَّفُ تحقُّق
كلِّ غَرَضٍ آخرَ يقصِدُ إليه. هذه هي نظرتُنَا إلى
التَّفسيرِ اليوم وهذا غَرَضُنَا مِنْه.»
٣٦ «وهذا التفسيرُ الأدبيُّ عِنْدِي هو الذي يجبُ
أنْ يَتقدَّم كلَّ مُحاولةٍ لمعرفةِ شيء من فِقْهِ
القُرآنِ، أو أخلاقِ القرآن، أو عبارات الإسلام ومعاملاته
في القرآن.»
٣٧ تبتني طريقةُ «التفسير الأدبي للقرآن» على
تفسير الآيات في سياقِ موضوعاتِ القرآن، وليس تفسيرَها على
وفق ترتيبها في سور القرآن، «فصواب الرأي — فيما يبدو — أن
يُفَسَّر القرآنُ موضوعًا موضوعًا، لا أن يفسَّر على ترتيبه
في المصحف الكريم سورًا أو قِطَعًا.»
٣٨ إذ يصنِّف المفسِّرُ الآياتِ تبعًا لموضوعاتها، ويتعرَّف على مناسباتِ نزولها، والسياقِ
الذي
وردتْ فيه، والدلالاتِ الحافلة بها؛ بغية اكتشاف وحدتِها
العضوية، والمنطقِ الداخلي الذي تنتظم فيه، وشبكةِ
الدلالات المنبثَّة فيها، وما يمكن أن تولِّده من مفاهيمَ
ومعانٍ مشتركة، تمثِّل المفاهيمَ المفتاحيةَ للإصلاح
النَّفْسِي الخُلُقي والاجتماعي الذي يَرْمِي إليه
القرآنُ. مقصد التفسيرِ الأدبي عند الخولي ليس أدبيًّا أو
فنيًّا، كما يمكن أنْ تَشِيَ به تسميتُه؛ لأنه يرفض أن
يكونَ الأدبُ للأدب، أو أن يكون الفنُّ للفنِّ؛ إذ يقولُ
في تحليله الدَّلالي لكلمةٍ في أَحَدِ الآياتِ: «ونريد
هنا لنقف عند هذه الوحدة للاستعمال القرآني في تعبيره
بالضعف والضعفين
فَيُضَاعِفَهُ،
٣٩ وهي وقفة أدبية. على أنها وقفةٌ ليستْ وقفةً
يرادُ منها الفنُّ للفنِّ، بل هِيَ فنُّه المرتبط بالهدف
الاجتماعي الذي يرمي إليه القرآنُ دائمًا، نبتغيه أوَّل
ما نبتغي من هذه الأحاديث. وإن الفنَّ يُرْجَى للفنِّ
وحده، فإنا لا نأخذ هنا بهذا الاتجاه. ولا نحسب القرآنَ قد
أخذ به؛ لأنَّه يجعل فنَّهُ القويَّ وسيلةً لإصلاحِ
الحياةِ البشريَّة، ذلك الإصلاح الخُلُقي والاجتماعي العام
الذي أنزل من أجله هدًى للناس ورحمة.»
٤٠ ليست هناك آية أو كلمة تَرِدُ في القرآن إلا
ويكون هدفُها الهديَ والرحمةَ، وليس الهدفُ الأدبَ بوصفه
أدبًا، أو الفن بوصفه فنًّا؛ لأن «طبيعة النص القرآني من
حيث هو كتاب هَدْيٍ ودين، تقتضي توجيهَ كلِّ لفظٍ وآيةٍ
إلى مناط الهداية والاعتبار.»
٤١
يشرح الخولي ما ينشده في طريقة تفسيره الأدبي، فيؤكِّد
أنه يتمحور حول بُعدَين:
- أحدهما: دراسة حول القرآن.
- والثاني: دراسة القرآن ذاته.
ويعني بالدراسة حول القرآن «دراسة البيئة المادية
والمعنوية والثقافية التي نزل فيها القرآن الكريم.»
٤٢ واستكشاف تشكُّل الواقع وطبيعة الظُّروف
السائدة في عصر الوحي، ونمط الاجتماع العربي في عَصر
النُّزول، وكيفية الحياة الاجتماعية والثقافية وقتئذٍ، وما
يسودها من ظواهر ذات صلة بالمكان والزمان والبيئة، سواء
أكانت ماديةً أو معنوية، ودراسة كلِّ ما يتَّصل بالذوقِ
العربي، وأساليب التعبير، وأنماط تَلَقِّي وفهمِ الكلام
المتعارفة في المجتمع، فكيف تلقَّاه وفهمه المشافَهُون به
في بيئتهم وثقافتهم وذوقهم ومشكلات واقعهم.
٤٣ بمعنى أنَّ الخولي أراد أن يقرأَ النصَّ
«قراءة تزامُنيَّة»، ويضيء تفسيرَه من خلال اختراق الطبقات
المتراكمة مما أنتجه المفسِّرون وغيرُهم من تأويلاتٍ
وتفسيراتٍ، ينتمي كلٌّ منها إلى زمانِ المفسِّر ونمطِ فهمه
وثقافتِه وأحكامِه السابقة، ولا تحيل بالضرورة إلى معنى
النصِّ القرآنيِّ، بالمعنى الذي تلقَّاه المخاطَبونَ به في
عصر النُّزول. إنه يحاول صياغةَ فنٍّ لفهم القرآن، ينشد
إيقاظَ المعنى المحتجب فيه، والكشفَ عنه بتفكيك ونزع ما
تلفَّع به من مدلولات تدفَّقتْ متواليةً بمرور الزمان. ولا
يمكن أن يتحقَّق ذلك من دون الاعتماد على علوم الإنسان
والمجتمع واللسانيَّات وعلوم اللغة الحديثة.
أما البعدُ الثاني لتفسيره الأدبي وهو دراسةُ القرآن
ذاته، فيريد به شرحَ الكلمات، وبيانَ معاني المفردات،
والكشفَ عن طبيعةِ حياة الألفاظ وتطوُّرِ دلالتها عبر
الزمان، ومعرفةَ مدياتِ التأثُّر والتَّأثير المتبادَل بين
العربيَّة وغيرِها من لغاتِ المجتمعاتِ المسلمة، وما
اصطبغَتْ به العربيةُ في عصورِ ازدهارِ وانحطاطِ الحضارةِ
الإسلاميَّة، وأثر الزَّمان في صيرورةِ المعاني
وتحوُّلاتها، والتعرُّفَ على مدى تأثير كل ذلك في تفسير
القرآن. هنا ينبِّه الخولي إلى أنَّه «من الخطأ البيِّن أن
يعمد متأدِّب في فهم النص القرآني الجليل فهمًا لا يقوم
على تقديرٍ تامٍّ لهذا التدرُّج والتغيير الذي مسَّ حياةَ
الألفاظ ودلالتَها.»
٤٤
كذلك يستند في تفسيره إلى البعد النفسي، ففي ضوء
اهتمامه باكتشاف صلةِ البلاغة والأدب بالنفس الإنسانية،
والوشيجةِ العميقة التي تربط بينهما، وكيف أنها ترجمةٌ لما
يجيشُ في النَّفس؛ تحدَّث الشيخُ الخولي عن الإعجازِ
النَّفسي للقرآن، الذي ينبثق عن التفسير النَّفسي، وبيانِ
ما يُحْدِثُه القرآنُ من أَثَرٍ بالغٍ في النَّفس
البشريَّة، وطبيعةِ تذوُّق هذا النص والتفاعُل معه.
وشدَّد على ضرورةِ الاستعانةِ بعلم النفس في دراسة وتحليل
ذلك، فإن «فهم الإعجاز الفني بالمعاني النفسية، يحوج إلى
تناول القرآن بتفسير نفساني.»
٤٥ وحدَّد مفهومَ «الإعجاز النفسي لبلاغةِ
القرآنِ الكريم؛ بمعنى أثرِه العظيمِ على النَّفس
الإنسانيَّة ووقعه عليها وفعله فيها.»
٤٦
رأى الخولي التفسيرَ النفسانيَّ الطريقَ الذي
يُخَلِّصُ التَّفسيرَ من الادِّعاء والتمحُّل؛ فهو لا غير
يضيء لنا أبعادًا مهمة في بنية النص القرآني، ويخرجنا من
سوء الفهم المكرَّر لتعليل ما يسود المصحفَ من سماتٍ
وخصائصَ بيانيَّة. يلخِّصُ الخولي رؤيتَه هذه قائلًا:
«فبالأمور النفسية لا غير، يُعَلَّلُ إيجازُه وإطنابُه،
وتوكيدُه وإشارتُه، وإجمالُه وتفصيلُه، وتكرارُه وإطالتُه،
وتقسيمُه وتفصيلُه، وترتيبُه ومناسباتُه، وما قام من تعليل
هذه الأشياء وغيرها، على ذلك الأصل فهو الدقيق المنضبط،
وما جاوز ذلك فهو الادِّعاء والتمحُّل، أو هو أشبه شيء به.»
٤٧
وتنبَّه الشيخُ الخولي مبكِّرًا إلى خطأ الزَّعمِ بسبق
القرآنِ لاكتشافات العِلْمِ ومكاسبِه، أو الاشتغالِ على
إسقاط هذه الاكتشافات على الآياتِ الكريمة، وحذَّر من
خطورة الإسراف في توظيف نتائج العلمِ الحديث في التفسير،
وكيف أنَّ ذلك ينتهي إلى إهدار معاني القرآن، وهدفِه
المحوري في هدايةِ النَّاس إلى التي هي أقوم؛ إذ يشرح ذلك
قائلًا: «وثمة معنًى بعيد، قد سبقت إليه أوهامُ قوم في هذا
العصر، فآثرتُ أن أنفيَ القصد إليه هنا، أو التعويل على
شيء منه … ذلك هو استخراجُ قضايا علم النفس ونظرياتِه من
القرآن، تدعيمًا للزَّعم بأنه يتضمَّن كلَّ شيء … ولا
نناقشُ هؤلاء المُسرفين هنا، وإنما ننفي أنَّا نريد إلى
شيء من هذا في تبيُّن الإعجاز وتفهُّمه. فنحن ندع علماءَ
النفس، في تجاربهم العلمية، ومشاهداتهم الواقعية، أو
تأمُّلاتهم النظريَّة … ولا نرى سبقَ القرآن إليه، أو
تقدُّمه على الأجيال بأصلِه، وما إلى ذلك، بل نتلقَّاه
منهم، لنعتمد عليه من بيان الوجهِ النفسيِّ للإعجاز.»
٤٨ لو تدبَّرنا هذا البيانَ الواضحَ للخولي لما
استهلكنا جهودًا كثيرةً وأموالًا هائلة في الإصرارِ على
سَبْقِ القُرآنِ لما جاء به العلمُ والمعرفةُ الحديثةُ،
وتقويلِ الآيات ما لا تقوله في مجالاتِ العلومِ الطبيعيَّة
والإنسانيَّة المختلفة، والعملِ على خلط الدين بالعلم،
وإهدارِ طاقات الكثير من الباحثين الشباب، وتضييعِ عقولهم
في متاهات بناء: علم نفس إسلامي، وعلم اجتماع إسلامي، وعلم
اقتصاد إسلامي، وأدب إسلامي، وفن إسلامي، وغير ذلك مما
ورطتْنا فيه أقلامُ كتَّابِ الجماعات الدينية، وكدَّستْه من
كتاباتٍ تثير هويةً جائعةً للالتحاق بقطار تقدُّم العلوم
والمعارف والتكنولوجيا، وتحرِّض نفسًا يعذِّبها الغيابُ عن
العصر، فتعِدُها باللحاق بقطار التقدُّم بل والتفوُّق
عليهم، من خلال ما يسمى ﺑ «أسلمةِ المعرفة».
٤٩
وواصل الجيلُ الثاني، ممثَّلًا بنصر حامد أبو زيد،
نهج «مدرسة الأمناء» التي أشاد لبناتها الفكرية أمين
الخولي، وكان أبو زيد الأكثرَ براعةً في تطوير مدرسة الشيخ
الخولي والجيل الأول من تلامذته، عبر توظيفه الهرمنيوطيقا
في فَهْم القرآن وتفسيرِه.
(٥) أمينُ الخولي والهِرْمِنيوطيقا
فرادةُ الشيخ أمين الخولي تظهر في محاولته الرائدة
لتوطين الهِرْمِنيوطيقا والمناهجِ الجديدةِ في تفسير
النصوص، في مجال الدراسات الدينية بالعربية. بعد استقراءٍ
وتتبعٍ يمكن القولُ: إن الخولي هو أولُ هرمنيوطيقي
بالعربية، وربما في عالَم الإسلام؛ إذ لا أعرف أحدًا سبقه
إلى ذلك، حتى في بلاد الإسلام غير العربية.
لقد رأيتُ ذلك منذ ربع قرن، حين كنتُ أُدرِّس
«الاتجاهات الجديدة في التفسير» لمجموعة من تلامذتي في
الحوزة: أن المنحى الذي يدعو إليه أمين الخولي في تفسير
القرآن يهتم بالتعرف على الطريقة التي يفكِّر بها
المفسِّرُ، وكيف يُسقط المفسِّرُ رؤيتَه للعالَم وثقافته
وفهمه على ما يريد تفسيرَه من الآيات. هذا هو المدخل لكل
من يدعو إلى استئناف النظر في مناهج التفسير وتجديدها؛ إذ
«يتحدد مدخلُ التجديد عند الخولي والمدرسة الحديثة كلِّها
في وظيفة المفسِّر أولًا، وفي مكانةِ النَّصِّ المفسَّر
ثانيًا، فليس مقبولًا عند الخولي أنْ يظلَّ التفسيرُ
المعاصِرُ مجرَّدَ أداةٍ لاختياراتٍ مذهبيَّةٍ وتوظيفاتٍ
دعويَّةٍ مهما كانَت أهمِّيتُها.»
٥٠ عند اطِّلاعي على التعقيب الذي كتبه أمين
الخولي على مقالة «التفسير» في: «دائرة المعارف
الإسلامية»، وجدتُه يتحدَّث عن أفقٍ مختلف ومنهجٍ بديل
لتفسيرِ النص القرآني وتأويلِه، في ضوء أدواتٍ ومفاهيمَ
جديدة، يستعيرها من الهِرْمِنيوطيقا الألمانية.
عمل أمين الخولي في شبابه إمامًا بالمفوضيَّة المصرية
في روما، وفي وقتٍ لاحق ببرلين في ألمانيا.
٥١ وعند عودته من ألمانيا سنة ١٩٢٧م باشر التدريسَ
في الأزهر. ويبدو أن مكوثَه في ألمانيا أتاح له فرصةَ
التعرُّفِ على الهِرْمِنيوطيقا ودراستِها. وهو ما تجلَّى في
حديثِه عنها وتقديمِها بإيجاز ووضوح. ومعروف أن
الهِرْمِنيوطيقا في العصر الحديث ألمانيةُ المنشأ
والمسيرة، فمع شلايرماخر نهاية القرن الثامن عشر تبلور
مفهومٌ مختلفٌ للهرمنيوطيقا في العصر الحديث، وتطوَّر هذا
المفهومُ مع وليم دلتي، ومارتن هايدغر، حتى بلغت أوجَ
تطوُّرها مع هانز جورج غادامير تلميذ مارتن هايدغر. مع أن
أهم الأعمال في الهِرْمِنيوطيقا لم تترجم للعربية إلا بعد
ذلك بعشرات السنين.
كانت وما زالت الفلسفةُ الألمانيةُ مرجعيةَ التفكير
الهِرْمِنيوطيقي في عالم الإسلام، فما حدث مع الشيخ أمين
الخولي في الماضي، حدث بعده مع الشيخ محمد مجتهد شبستري،
الذي ذهب إلى ألمانيا، بعد رحلة الشيخ أمين الخولي بأربعين
عامًا تقريبًا، فعمل إمامًا للمركز الإسلامي في هامبورغ،
وتعلَّم الهِرْمِنيوطيقا بالألمانية هناك،
٥٢ ليعود إلى إيران مبشِّرًا بها، ومؤلِّفًا
وشارحًا لها بالفارسية.
وقد ذكرنا أكثر من مرة أن إعادة بناء الفكر الديني
تتطلَّب أن ينهض بها رجالُ الدين قبل غيرهم؛ لأنهم الأكثر
درايةً بالتراث، والأكثر إدراكًا لهذه الحاجة الملحَّة،
والأكثر اهتمامًا بمصائر الفكر الديني ومآلاته؛ لذلك ليس
مصادفةً أن تعرف العربيةُ الهِرْمِنيوطيقا في النصف الأول
من القرن العشرين عبر جهود الشيخ أمين الخولي، وهو رجل دين
كان مكلَّفًا بمهمة دينيَّة في إيطاليا وألمانيا، وهكذا
تعرفتِ الفارسيةُ على الهِرْمِنيوطيقا عبر جهود الشيخ محمد
مجتهد شبستري، وهو رجل دين كان مكلَّفًا بمهمة دينية في
ألمانيا. في النصف الأول من القرن التاسع عشر تعرفت
العربية على ملامح من صورة الغرب وتقدمه عبر كتاب «تخليص
الإبريز في تلخيص باريز»،
٥٣ الذي ألفه الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي
(١٨٠١–١٨٧٣م)، وهو رجل دين أيضًا كان إمامًا لبعثة الطلاب
المصرية في باريس.
لم يتحدَّث الخولي عن المرحلة والكيفية التي تعرَّف بها
على الهِرْمِنيوطيقا، ولم تخبرنا الكتاباتُ التي اطَّلعنا
عليها بما يوضح ذلك. على الرغم من أنَّ أكثر الباحثين
المعاصرين من الألمان والعرب يتحدثون عن ريادته وبعض
تلامذته في هذا المضمار. وأقنعتني مطالعةُ آثاره بذلك،
خاصة ما تحدث فيها عن التفسير، وعزَّز قناعتي ما كتبه
السيد أحمد خليل من تأثير شلايرماخر على الخولي، وتبنِّيه
للنَّهج الجديد الذي اختطَّه شلايرماخر في تعريف عملية
التفسير بوصفها «فنًّا للفهم»، عبر النَّظر إلى المفسِّر
وطريقةِ فهمه، والعوامل المؤثِّرة في كيفيةِ فَهْمِ
النَّص، وأُفُقه التاريخي. ونبَّه خليل إلى أنَّ العوامل
التي تبنَّاها الخولي في التفسير هي ذاتها التي نبَّهَ
إليها شلايرماخر قبل ذلك.
٥٤
ويبدو لي أنَّ اطلاعَ الخولي توقَّف عند شلايرماخر
وأتباعِه في القرن التاسع عشر، ولم يشأ، أو لم تسمح له
ظروفُه، أن يتعمَّق في استلهام الهِرْمِنيوطيقا الفلسفيَّة،
الذي أضحت عمليةُ التفسير على وفقها: «حدثًا أنطولوجيًّا»،
يتَّسِع للنُّصوص والوجود أيضًا، كما شرحها هايدغر وتلميذُه
غادامير.
ما يقوله الشيخُ الخولي يحيلُ إلى الهِرْمِنيوطيقا،
وهو ما تجلَّى بوضوحٍ في حديثه عن «أُفُقِ المفسِّر»، فلم
تَعُد عمليةُ التفسير في مفهومه تلقِّيًا سلبيًّا صامتًا
للمفسِّر، وإصغاءً من المفسِّر لما يُمْلِيهِ عليه النصُّ؛
لا دورَ فيه للمفسِّر سوى الكشف عن المعنى الكامن في
النص، بل أصبح التفسيرُ في رأي الخولي عمليةَ حوارٍ
وإنتاجٍ متبادَل للمعنى، يشترك فيها المفسِّرُ مع النصِّ.
وذلك ما شرحَته الهِرْمِنيوطيقا الحديثةُ، بوصفها «فنًّا للفهم»،
٥٥ أو قراءةً للقراءة، أو فهمًا للفهم، أو
تفسيرًا لكيفيةِ تلقِّي المفسِّر للنص، وطريقةِ إنتاجه
للمعنى المقتنَص منه، في ضوء: أفقِ انتظارِه، ورؤيتِه
للعالم، وإطارِ ثقافتِه، ومسلَّماتِه وأحكامِه المُسبقة.
وبذلك يصبح التفسيرُ لدى الخولي مقاربةً هِرْمِنيوطيقيَّة
للنصِّ.
ظهرَت كتاباتٌ هِرْمِنيوطيقيةٌ متعدِّدةٌ بالعربيَّة
في فترات لاحقة، غير أنَّها انشغلت بتطبيقاتِها على النصوص
الأدبيَّة وغيرها، وتوظيفِها أداةً في النقد الأدبي؛ فقد
كان وما زال كلُّ الخبراءِ بالهرمنيوطيقا في عالَم الإسلام
يحذِّرون من تطبيقِها في تفسير القرآن، وتوظيفها في فهم
النصوص الدينيَّة، لئلا يثيروا ضغينةَ رجال الدين الذين
يتشبَّثون بالمناهج التراثيَّة للتفسير، وقلقهم حيال أية
مناهج جديدة في فهم الدين وتفسير نصوصه.
مضى الشيخ أمين الخولي بشجاعة وحده، في وقت مبكِّر في
هذا الطريق، فكان رائدًا، لم ينفرد بريادتِه للكتابة
والتعريف بهذا الفن فقط، بل بادر أيضًا لتوجيه تلامذتِه
لتطبيقِه على تفسير القرآن، كما أسَّس فريقًا للدراسات
الأدبيَّة والهِرْمِنيوطيقيَّة يضم جماعةً من تلامذته، مثل
محمد أحمد خلف الله، وعائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ»،
ومحمد العلائي.
٥٦ واشتهرت هذه الجماعة باسم «الأمناء».
٥٧
لم يقتصر أمين الخولي على الهِرْمِنيوطيقا والدعوةِ
إلى توظيفها في التفسير، بل رأى ضرورةَ الانفتاح على علمِ
الاجتماع وعلمِ النفس والعلوم الإنسانية الحديثة، لأجل
بناء منهج مختلف للفهم والتفسير.
(٦) مفتاحُ تفسير كلِّ كتاب هو الكتابُ ذاته
مفتاحُ تفسير كلِّ كتاب هو الكتابُ ذاته؛ لأنَّ
نصوصَه مُضَاءٌ بعضُها بالبعضِ الآخر، سواء أكان كتابًا
مقدَّسًا أو غيره، آياتُ القرآن الكريم تفسِّر إحداها
الأخرى. الحيادُ التام في الفهم غيرُ ممكن، المفسِّرون
الذين أعلنُوا تَمَسُّكَهم بهذا المنهج في التفسير تعذَّر
عليهم الحياد الذي ينشدونه؛ لذلك تحكَّم في تفسيرِهم:
رؤيتُهم للعالَم، ونمطُ تكوينهم المعرفي، وثقافتُهم،
ومسبقاتُهم المضمرة، وأفقُ انتظارهم. مثلًا نقرأ في مقدمة
تفسير «الميزان» للعلامة محمد حسين الطباطبائي أنَّ منهجه
يقوم على تفسيرِ القرآن بالقرآن، غير أنَّ كلَّ ما جاء في
تفسيره لآيات القرآنِ يفسِّرُه في ضوءِ تكوينِه الفلسفيِّ
والعرفانيِّ والكلاميِّ والفقهي، ولم يعُد للقرآنِ من أثرٍ
إلا محدودًا في تفسير القرآن بالقرآن. يوظِّفُ الطباطبائي
براهينَ المنطقِ الأرسطي ومصطلحاته، ومفاهيم الفلسفة
اليونانيَّة ومصطلحاتها، وآراء الفلاسفةِ المسلمين، ولا
يبتعد عن الفضاءِ الذي تتحدثُه الحِكمةُ المتعاليةُ وما
تضمَّنه كتابُ «الأسفار الأربعة» لملا صدرا الشيرازي،
ويحضر في «الميزان» عرفانُ محيي الدين بن عربي بكثافةٍ،
مضافًا إلى مقولاتِ المتكلِّمين الشيعة المتأخِّرين، ممن
تنعكسُ في كتاباتِهم أصداءُ آراء مُلَّا صدرا.
تحدَّث الشيخُ أمين الخولي عن فكرةِ تلوين النص بوضوح
في قوله: «إن الشخصَ الذي يفسِّر نصًّا يلوِّن هذا النصَّ —
ولا سيَّما النص الأدبي — بتفسيرِه له وفهمه إيَّاه. وإذ إنَّ
المتفهمَ لعبارةٍ هو الذي يحدِّدُ بشخصيتِه المستوى
الفكريَّ لها، وهو الذي يُعَيِّنُ الأفقَ العقليَّ، الذي
يمتد إليه معناها ومرماها، يفعل ذلك كلَّه وفقَ مستواه
الفكريِّ، وعلى سَعة أفقه العقلي … لأنه لا يستطيع أن
يعدوَ ذلك من شخصيتِه، ولا تمكنه مجاوزته أبدًا … فلن
يفهمَ من النصِّ إلا ما يرقى إليه فكرُه، ويمتد إليه
عقلُه. وبمقدار هذا يتحكَّم في النص، ويحدِّد بيانه.»
٥٨
وأظنُّ أنَّ أمين الخولي اقتبس مصطلحَ «يلوِّن النص»
من التعبير المشهور للمتصوِّف الجنيد البغدادي:
٥٩ «لَوْنُ الماءِ لَوْنُ إنائِه».
٦٠ وذلك يؤشِّر للأهميةِ الفائقةِ لنصوصِ المتصوِّفةِ والعرفاء، وطرائقِهم في تبصُّرِ واكتشافِ
ما
لبث مجهولًا من رؤيتِهم للحقيقة الدينية، ومناهجِ قراءتهم
للنص، خارج أسوار قواعد التفسير وأصول الفقه الموروثة.
مثلما يصطبغ الماءُ بلون الإناء، يذهب الخولي في تحليلِه
للكيفيَّة التي يغدو فيها النصُّ مرآةً تنعكس فيها ألوانُ
صورةِ المفسِّر، وكأنَّ القارئَ يرى صورتَه في النصِّ،
وتتلوَّن هذه الصورةُ بأحكامه السَّابقة، فيتشكَّل معناها في
ضوء ما يرسمه أفقُ انتظارِه. يشير الشيخُ الخولي إلى ذلك
قائلًا: «فهو في حقيقة الأمر يَجُرُّ إليه العبارةَ جرًّا،
ويشدُّها شدًّا؛ يمطُّها إلى الشمال، وحينًا إلى الجنوب؛
وطورًا يجذبها إلى أعلى، وآونة ينزل بها إلى أسفل؛ فيفيض
عليها في كل حالة من ذاته، ولا يستخرج منها إلا قدر طاقته
الفكريَّة واستطاعته العقلية؛ وما أَكْثَرَ ما يكون ذلك
واضحًا حينما تسعف اللغة عليه، وتتَّسع له ثروتُها، من
التجوُّزات والتأوُّلات، فتمد هذه المحاولة المفسِّرة، بما
لديها من ذلك … وإن المستطاع منه في اللغة العربية لكثير وكثير.»
٦١
هكذا يتَّخذ الخولي المقاربةَ الهِرْمِنيوطيقية
مرجعيةً في تقويم اتِّجاهات التَّفسير القرآني المتنوِّعة،
ولا يستثني من ذلك أيَّ شكل من أشكال التفسير، فسواء كان
التفسيرُ عقليًّا اجتهاديًّا، أو نقليًّا مرويًّا، أو غيرَ
ذلك، تحضر بصمةُ المفسِّر لتطبع تفسيرَه، فكلُّ تفسير يحمل
توقيعَ المفسِّر وطبيعةَ شخصيتِه، مهما حاول ذلك المفسِّرُ
أن يتجرَّد ويكون موضوعيًّا ومحايدًا. يكتب الخولي: «على
هذا الأصل وجدنا آثارَ شخصية المتصدِّين لتفسير القرآن،
تطبع تفسيرهم له في كل عهد وعصر، وعلى أي طريقة ومنهج،
سواء أكان تفسيرُهم له نقليًّا مرويًّا، أم كان عقليًّا اجتهاديًّا.»
٦٢
يرفض الشيخُ الخولي رأيَ من يستثني التفسيرَ
الروائيَّ من بصمة ذاتِ المفسِّر، مُسَوِّغًا ذلك بأنَّ
هذا الضَّرْبَ من التفسير لا يعدو أن يكون سوى بيانٍ لمعنى
الآيات في ضوء الأحاديث المرويَّة، وفي مثل هذا التفسير لا
يتدخَّل المفسِّرُ عادةً. غير أن الخولي يرفض حيادَ
المفسِّر الروائي في هذا الصِّنف من التفسير، ويدلِّل على أن
انتخابَ المفسِّر لروايات دون سواها يؤشِّر إلى أفقِ
انتظاره وإطارِ تفكيره ومسلَّماتِه وأحكامِه السابقة. هذا
هو سببُ الاختلافِ الواسع في التَّفاسير الروائية،
واستنادِ كلِّ مفسِّر إلى نوع معيَّن من الرِّواياتِ
المفسِّرة لكل آية وبيان مضمونها. يكتب الخولي: «ولعله لا
يبدو هذا الأثرُ الشخصيُّ واضحًا في التفسير المروي لأول
وهلة، ولكنك تتبيَّنُه إذا ما قدَّرتَ أنَّ المتصديَ لهذا
التفسيرِ النقليِّ إنما يجمعُ حول الآيةِ من المرويَّات،
ما يشعر أنها متجهة إليه، متعلِّقة به،
فيقصد إلى ما تبادر لذهنه من معناها، وتدفعه الفكرةُ
العامَّةُ فيها، فيصل بينها وبين ما يُرْوَى حولها في
اطمئنان … وبهذا الاطمئنان يتأثَّر نفسيًّا وعقليًّا، حينما
يقبل مرويًّا ويُعْنَى به، أو يرفض من ذلك مرويًّا — إن
رفضه — ولم يَرْتَحْ إليهِ … ومن هنا نستطيع القولَ حتى في
التفسير النقلي وتداوله، تكون شخصيةُ المتعرِّضِ للتفسير
هي الملوِّنةُ له، المروِّجَة لصنف منه.»
٦٣ في ضوء هذا الفهم يصبح التفسيرُ الروائيُّ
أحدَ أشكال التَّفسير بالرَّأي، حسب المصطلح المعروف في
أنواع التفسير، وحتى انتخاب آية لتفسير آية أو كلمة قرآنية
أخرى أو ما يعرف ﺑ «تفسير القرآن بالقرآن» يخضع لهذه
المعادلة التي شرحها الشيخ الخولي.
تظهر ذاتُ المفسِّر والإطارُ المعرفي له في تلوينِ ما
يفسِّره، فمثلًا لو كان المفسِّرُ متكلمًا، يكتسي تفسيرُه
صبغةً كلامية، ولو كان فقيهًا يكتسي تفسيرُه صبغةً فقهية،
ولو كان متصوِّفًا يكتسي تفسيرُه صبغةً صوفيَّة، ولو كان
أديبًا يكتسي تفسيرُه صبغةً أدبية … وهكذا.
كأنَّ الخولي يقرِّر قاعدةً كُلِّيَّةً في التفسير،
لا تستثني أيَّ شكلٍ من أشكالِ التَّفسير من التحرُّر من
بصمةِ المفسِّر وفهمِه الخاص، حتى تفسير القرآن بالقرآن،
الذي يُظن بأنَّه التفسير الوحيد الذي يتحرَّر من ذات
المفسِّر، يخضع فيه المفسِّر إلى هذه المعادلة، فليس بوسعه
أنْ يتخلَّص مما هو مُستتِر من مسلَّماتِه ومضمراتِه، حين
ينتخب آيةً أو كلمةً لتفسير آيةٍ أو كلمةٍ قرآنية.
وكما يتحدَّث الخولي عن التأثير المتبادَل بين رؤية
المفسِّر للعالَم والعلم الذي يتخصَّص فيه، وبين عمليةِ
التفسير، ينبِّه أيضًا إلى تفاعُل ذلك العلم مع تخصُّص
المفسِّر، ليتطور في طور جديد يثريه ويتكامل به، بعد
توظيفه في حقل التفسير. إنه يتحدَّث عن ذلك في إشارة دالَّة
بقوله: «إن التفسير على هذا التَّلوين، يتأثَّر بالعلوم
والمعارف التي يلقى بها المفسِّر النص، ويستعين بها في
استجلاء معانيه، كما أنَّ وصل هذه العلوم بالتفسير يكسب
هاتيك العلوم نفسها ضربًا من الثروة، بقدر أثره في تاريخها … وقد جاءك ما فعل الرازي
في تفسيره … فهذا ومثله تلوين
كلامي للتفسير، يضفي على القرآن، من منهج علم الكلام
ويوجِّه تفسيرَه … كما تجد تلوينًا فقهيًّا للتفسير، وآخر
بلاغيًّا، وغيرهما قصصيًّا …».
٦٤ العلوم تنمو وتتطوَّر من خلال اتِّساع مجالات
تطبيقها في حقولٍ علمية جديدة؛ إذ يفضح التطبيقُ ثغراتِها
ويكشف عيوبَها، ويحذف أخطاءَها.
لا أظن الشيخَ الخولي يورِّطنا في نسبيَّةِ الفَهْمِ،
بل أراه يحاول تحريرَ فهم النص القرآنيِّ من سوء فهمِ
وأخطاء المفسِّرين، الذين ظلُّوا على الدَّوام بشرًا،
يتحدَّثون إلى زمانِهم وبيئاتِهم وثقافاتِهم ونمطِ رؤيتِهم
للعالَم، وهم أنفسهم تعاطَوا مع تفسيرات المفسِّرين من
قبلهم بوصفها آراءً نسبيَّة، تخضع لمشروطيَّات اللغةِ
والزَّمان والمكان والبيئة والثقافة، وليست فهمًا أبديًّا
يتعالى على أيَّة مشروطيَّة تاريخيَّة.
يمكن للباحث أن يكتشف تلوين المفسِّر للنص الذي
يفسِّره لدى تلامذة الخولي، ففي الوقت الذي تمثَّل محمد
أحمد خلف الله نهجَ أستاذه الخولي في أطروحته للدكتوراه،
٦٥ أخفقَت تلميذتُه وزوجتُه عائشة عبد الرحمن في
أنْ تتمثَّل ذلك النهجَ في تفسيرِها،
٦٦ وكانت أشدَّ وفاءً لماضي التفسير منها إلى
متطلبات الواقع، ولم تجسِّد ما كان يتبناه أستاذُها أمينُ
الخولي في التفسير، ودعوتَه لتوظيف مناهج التَّأويل
الحديثة والهِرْمِنيوطيقيا. فبينما يتَّجه بعضُ تلامذةِ
الخولي لمغامرةِ ركوبِ سفينة علومِ الإنسان والمجتمع
الحديثة ومناهجِ التأويل والهِرْمِنيوطيقا، ويجازف
بتطبيقها في التفسير في مجتمع تقليدي، ويتعرَّض إلى هجمةٍ
عنيفة، كانت عائشةُ عبد الرحمن تغرق في أمواج التراث،
وكأنها غفلتْ أو تجاهلتْ دعوةَ شيخِها للتجديد في صدر
قوله: «أول التجديد …»،
٦٧ فغرقت في العجز: «قتل القديم فهمًا.» وتشبَّعت
بالقديمِ أعمالُها، بلا أن نقرأ فيها ملامحَ للجديد، وحتى
أعمال تلامذتها ورسائلهم في الدِّراسات العليا، التي كانت
ترشدهم إليها وتشرف عليها، ظلَّت مسكونةً بالقديم أيضًا.
٦٨
كأنَّ بنتَ الشاطئ لم تشأْ أنْ تتورَّطَ في الخُروج
على المناهج الموروثةِ للتَّفسير، لخوفِها من ردود
الأفعال، لأنَّ ما تلقَّتْهُ أطروحةُ خلف الله من هجومٍ
عنيف جعل كلَّ تلامذةِ الخولي يفكِّرون طويلًا قبل أنْ
يترسَّموا نهجَ أستاذِهم التجديدي. ربما لم تدرك عائشةُ
عبد الرحمن بعمقٍ مأزقَ التفسيرِ الموروث، وما كان يرمي
إليه أستاذُها الخولي من تحريرِ المعنى القرآني من رؤيةِ
المفسِّر القديمة للعالم، ووضعِ هذا المعنى في لغةٍ تكتشفُ
المتطلباتِ الروحيةَ والأخلاقيةَ والجماليةَ للمسلم
اليوم.
التجديدُ شديدُ الوطأةِ على النفس والمشاعر والمصالح،
لا يستسيغُه إلَّا عقلٌ شجاع، وإنسانٌ يمتلك قدرةَ
المغامرةِ في الخروج على المألوف، ومستعِدٌّ لدفع ضريبة
موجعة؛ لذلك لم يكن موقفُ بنت الشاطئ غريبًا، فقد تكرَّر
هذا الموقفُ لدى كثيرٍ من التلامذة الذين عجزوا عن تمثُّل
النهج التجديدي لأساتِذَتِهم، فوقفوا خارج آفاقِ رؤيةِ
الأستاذ، فركنُوا إلى التُّراث ليتشدَّدوا في استئنافه كما
هو، وهذا ما نراه ماثلًا في النُّزوع السلفي للشيخ محمد
رشيد رضا، بعد رحيل أستاذه الشيخ محمد عبده، وغيره.
(٧) كتاب الفن القصصي في القرآن
قدَّم بعضُ تلامذة الخولي في جماعة «الأمناء» كتاباتٍ
شديدةَ الإثارة، فقد ترسَّم نهجَ الخولي في التفسير من
مدرسة الأمناء محمد أحمد خلف الله في كتابه «الفن
القصصي في القرآن الكريم»، وكان هذا الكتابُ من أبرز
عناوين الضجَّة لجماعة «الأمناء». ومن الجيل التالي لجماعة
«الأمناء» كتب نصر حامد أبو زيد «مفهوم النص: دراسة في علوم
القرآن»، وحاول فيه كما يقول: «إعادة ربط الدراسات
القرآنية، بمجال الدراسات الأدبية والنقدية، بعد أن
انفصلتْ عنها في الوعيِ الحديثِ والمعاصر؛ نتيجة لعوامل
كثيرة، أدَّتْ إلى الفصل بين التراث وبين مناهج الدرس العلمي.»
٦٩ وصارَ كلٌّ من الكتابَين مثارًا للجدلِ
واتهامِ صاحبِه بالمروق، وتأليبِ الرأي العام ضد الكاتب
والكتاب.
ثلاثةُ كتبٍ هي الأشدُّ إثارةً في الحياة الثقافية
العربية في النصف الأول من القرن العشرين، أولُها:
«الإسلام وأصول الحكم» الذي ألَّفه الشيخُ علي عبد الرازق،
وصدر سنة ١٩٢٥م، والثاني: «في الشعر الجاهلي»، الذي صدر سنة
١٩٢٦م لطه حسين، والثالثُ: «الفن القصصي في القرآن الكريم».
الكتابُ الأخيرُ أطروحةٌ قدَّمها محمد أحمد خلف الله في
العام ١٩٤٧م لنيلِ شهادة الدكتوراه بإشراف أمين الخولي،
لكنَّ لجنةَ المناقشة رفضتْها، وحجبت الدكتوراه عن
كاتبها.
يشرح محمد أحمد خلف الله منهجَه في دراسة القصص
القرآني بقوله إن من الخطأ: «دراسة القصص القرآني كما
تُدْرَسُ الوثائق التاريخية، لا كما تدرس النصوص الدينية
والنصوص اﻷدبية البليغة أو المعجزة … لاحظتُ أنَّ القرآن
لم يقصد إلى التَّاريخ من حيث هو تاريخ، إﻻ ﻓﻲ النَّادر
الذي ﻻ يحكم له، وأنه ﻋﻠﻰ العكس من ذلك عمد إلى إبهام
مقومات التاريخ من زمان ومكان. ومن ﻫﻨﺎ تبينتُ أنَّ القوم
قد عكسوا القضية حين شَغَلُوا أنفسَهم بالبحث عن مقوِّمات
وﻫﻲ غير مقصودة، وأهملوا المقاصد الحقيقية للقصص القرآني.
ولو أنَّهم شغلوا أنفسَهم بتلك المقاصد الحقَّة ﻷراحوا
أنفسَهم من ﻋﻨﺎء كبير، وﻷبرزوا الجوانب الدينية
واﻻجتماعية من القصص القرآني إبرازًا ملموسًا يثير
المشاعرَ والعواطفَ، ويؤثِّر ﻓﻲ العقول والقلوب، وعند ذلك
كانوا يمكِّنون للدين وقضاياه، ويسيرون وهَدْي القرآن الكريم.»
٧٠ يحدِّد خلفُ الله ما يرمي إليه بقوله: «ولقد
قلتُ في الرِّسالة إن قصدَ القرآن من قصصه لم يكن إلا
العِبرة والعِظة، وليس منه مطلقًا تعليم التاريخ أو شرح
حقائقِه. ومن المعروف دينيًّا ألا نستنتج من نص قرآني
أمرًا لم يقصد إليه القرآنُ.»
٧١ ولا يرى خلف الله بأسًا فيما ذهب إليه بعضُ
المستشرقين؛ إذ يكتب: «إذا ما قال المستشرقون: إن بعض
القصص القرآني كقصَّة أصحاب الكهف أو قصَّة موسى في سورة
الكهف، قد بُنِيَتْ على بعض الأساطير، قلنا ليس في ذلك على
القرآنِ من بأس، فإنَّما هذه السَّبيل سبيل الآداب العالميَّة
والأديان الكبرى. ونستطيع الآن أن ننتهي من هذه الفقرة،
إلى القول بأن القرآن الكريم لا ينكر أن فيه أساطير،
وإنَّما ينكر أن تكون الأساطيرُ هي الدَّليل على أنَّه من عند
محمَّد عليه السَّلام، لم يجئْ به الوحيُ ولم ينزل عليه من
السَّماء. ومن هنا، يجب ألَّا يزعجَنا أنْ يثبتَ عالِمٌ من
العلماءِ أو أديب من الأدباء أنَّ بالقرآن أساطير؛ ذلك
لأن هذا الإثبات لن يعارض نصًّا من نصوصِ القرآنِ الكريم.»
٧٢ وفي محاولةٍ للتدليل على موقفِه يَتَتبَّعُ
خلف الله تسعةَ مواضع وردتْ فيها كلمةُ أساطير في القرآن،
ويعلِّقُ عليها بقوله: «وتلك هي آياتُ القرآن الكريم التي
عرضتْ لذِكْرِ الأساطير نجمعها مُستقصين لننظر فيها
النَّظرةَ العلميَّةَ الَّتي تسلم إلى الحقِّ المبين.»
٧٣
يذهب خلف الله إلى أنَّ القرآنَ الكريم إنَّما يورد
هذه القصصَ بوصفها أمثالًا، كما نصَّتْ على ذلك الآيةُ:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ.
٧٤ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا
مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ.
٧٥ وفي محاولةٍ للتدليلِ على صحة موقفه، ينقل خلفُ
الله رأيًا للفخر الرازي يبين فيه أغراضَ القصص في سياق
تفسيرِه للآيتَين:
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ.
٧٦ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ
فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ؛
٧٧ فقد ذهب الرازي إلى أنَّ: «القصص هو مجموع
الكلام المُشْتَمِل على ما يهدي إلى الدين، ويرشد إلى
الحق، وأمر بطلب النجاة. أما الحق فهو إشارةٌ إلى
البراهين الدَّالَّةِ على العدل والنبوة.»
٧٨
تَعَرَّضَ خلفُ الله وأطروحتُه إلى حملةٍ عنيفةٍ، كما
أشار إلى ذلك توفيق الحكيم بقوله: «لقد طالب البعضُ بحرقِ
الرسالةِ، على مرأًى ومشهدٍ من الأساتذة، وطلبة كلية
الآداب، وطالَبَ الآخرون بِفَصْلِ الأستاذ خلف الله.»
٧٩ تعرَّضَت أطروحةُ خلف الله إلى حملةِ تحريضٍ
واسعة؛ فقد وصفها بعضُ رجال الدين بأنَّها: «أشدُّ شناعة من
وباء الكوليرا.» وتناولها جمعٌ من الكُتَّابِ في مصر
بالنَّقد اللاذع. ونَقَدَها كبارُ العلماء مثل الشيخ محمد
الخضر حسين، الذي نشر عنها مقالةً في إحدى المجلات، أشار
فيها إلى التقرير الذي قدَّمه أحمد أمين إلى لجنة المناقشة.
٨٠ وكان يوردُ مقاطعَ من الرسالة وينقدها؛ فهو
مثلًا ينقل هذا المقطع لخلف الله: «القِصَّة هي العمل
الأدبي الذي يكون نتيجة تخيُّل القاصِّ لحوادثَ وقعتْ من
بَطَلٍ لا وجودَ له، أو لبطلٍ له وجودٌ، ولكنَّ الحوادث
التي ألَمَّت به لم تقع أصلًا، أو وقعتْ ولكنَّها نُظِمَتْ
على أساسٍ فني؛ إذ قدَّم بعضَها وأَخَّر بعضَها، أو حذف
بعضَها وأُضِيفَ إلى الباقي بعضٌ آخرُ، أو بُولِغَ في
تصويرها إلى حدٍّ يخرج بالشخصيَّة التاريخية عن أن تكون
حقيقيَّة إلى ما يجعلها في عداد الأشخاص الخياليَّة، وهذا
قصدُنا في هذا البحث من الدِّراسة القرآنيَّة.» ثم يردُّ
عليه الشيخُ الخضر حسين بقوله: «هذا الذي يقوله الكاتبُ
إنَّما ينطبق على القصص التي يقصد من تصنيفها إظهار
البراعة في صناعة الإنشاء، أو في إجالة الخيال، أو بعث
الارتياح والمتعة في نفوس القارئين؛ مثل مقامات بديع
الزمان، أو مقامات الحريري، أو القصص التي تنشر اليوم في
بعض الصُّحُفِ السَّائرةِ، أمَّا قصص القرآن فهي من كلام
ربِّ العزة، أُوحِيَ به إلى الرسول الأكرم؛ ليكون مأخذ
عبرة، أو موضع قدوة، أو مَجلاة حكمة، وإيمان الناس بأنه
صادر من ذلك المقام الأسنى يجعل له في قلوبهم مكانةً
محفوفةً بالإجلال، ويمنعهم من أن يدرسوه كما تدرس تلك
القصص الصَّادرة من نفوس بشرية تجعل أمامَها أهدافًا
خاصَّة، ثُمَّ لا تُبالي أن تستمدَّ ما تقوله من خيالٍ غير
صادق، أو تخرج من جِدٍّ إلى هزل، وتضع بجانب الحقِّ باطلًا.»
٨١
وكان أحمد أمين كتب تقريرًا شديدًا ضد أطروحةِ خلف
الله. كان التقريرُ تحريضيًّا، يجامل المؤسَّسةَ الدينيَّةَ
الرسميَّةَ، ويتناغم مع ذوقِ الجمهور، وكان لهذا التقرير
أثرٌ كبيرٌ في رفض لجنة المناقشة للرسالة. بدأ أحمدُ أمين
التقريرَ بقوله: «وقد وجدتُها رسالةً ليستْ عاديَّةً؛ بل
هي رسالة خطيرة، أساسها أنَّ القَصَص في القرآن عمل فني
خاضع لما يخضع له الفنُّ من خَلْقٍ وابتكار، من غير
التزامٍ لصدقِ التَّاريخ، والواقع أنَّ محمدًا فنَّانٌ
بِهذا المعنى … وعلى هذا الأساس كتب كلَّ الرسالةِ من
أوَّلِها إلى آخرِها.»
٨٢
الخولي يَذُودُ عن تلميذِه ويُثْنِي عليه
لم يشأ الشيخُ أمين الخولي التنصُّلَ من اجتهاد
تلميذه، ولم يتراجع، بل وقف بشهامةٍ يذود عن خلف الله
ويثني على جهوده، بعد أن حجبوا لقبَ الدكتوراه عنه، ولم
يتنازل مقابل أولئك الذين وصفهم ﺑ «الآثمين في هذا السبيل
والغافلين المخدوعين.» ودعا أن يعفو اللهُ عنهم؛ إذ كتب
في مقدِّمة الطبعة الثالثة لكتاب «الفن القصصي في القرآن
الكريم»، لتلميذِه محمد أحمد خلف الله ما يلي: «أستطيع أن
أقول إنَّ رسالةَ الفنِّ القصصي قد أدَّتْ تلك الضريبة
في سنتَيْ ١٩٤٦–١٩٤٨م، وتقاضَتها منها عاميةٌ فاسِدةٌ، في
ظنِّ مَن ظَنَّ لهم خطأً وخداعًا أنَّهم أصحابُ وَعْيٍ.
واليوم صارَت الرسالةُ ووجهتها كسبًا غنيًّا، ووجهًا من
الإعجاز القرآني عند أصحابِ الدين والأَدَب؛ فإنِّي
أقولُ بالأصالة والنِّيابة: عفا الله عن جميع الآثمين في
هذا السبيل والغافلين المخدوعين … وتحية لمؤلِّف الفنِّ
القصصي، الذي أشهد الله أنَّه كان في صدقِه وصدرِه مثلًا
من الشباب؛ إذ ذاك يطمئنُّ به المستقبلُ.» كان إصرارُ أمين
الخولي في الدفاع عن تلميذه حازمًا صلبًا عنيدًا، حتى إنه
قال: «فلو لم يبقَ في مصر والشرق واحد يقول إنه حق، لقلتُ
وحدي وأنا أُقْذَفُ في النَّار: إنَّه حَق، لأُبرِّئ ضميري.»
٨٣
كان طه حسين قد سبق خلفَ الله في كتابه «في الشعر
الجاهلي» في الإشارةِ إلى أن القَصَص القرآني لم يرد في
سياق الحديث عن التاريخ، عندما كتب: «للتوراة أن تحدثنا
عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا أيضًا، ولكن ورود
هذَين الاسمَين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي.»
٨٤
وقبل طه حسين تحدَّث الشيخُ محمد عبده عن أغراض القصص القرآني، فقال: «بيَّنا غير
مرة أن القِصصَ جاءتْ في القرآنِ
لأجلِ الموعظةِ والاعتبار، لا لبيانِ التَّاريخ، ولا لحملٍ على الاعتقادِ بجزئيَّاتِ
الأخبارِ عند الغابرين،
وإنه ليحكي من عقائدهم الحقَّ والباطلَ، ومن تقاليدِهم
الصادقَ والكاذبَ، ومن عاداتِهم النافعَ والضَّارَّ، لأجل
الموعظة والاعتبار؛ فحكاية القرآن لا تعدو موضعَ العبرة،
ولا تتجاوزُ مواطنَ الهداية، ولا بدَّ أن يأتيَ في
العبارةِ أو السياقِ وأسلوبِ النَّظْمِ ما يَدُلُّ على
استحسانِ الحَسَنِ واستهجان القبيحِ.»
٨٥
وتمسَّكَ بهذا الموقف خلفُ الله في جوابه عن الضجَّة
التي أُثيرتْ حول رسالتِه، عندما كتب مقالةً في مجلة
«الرِّسالة»، تحدَّث فيها عن أنَّه لم يكنْ أوَّلَ من
تبنَّى هذا الموقف، بل سبقه إليه الشيخُ محمد عبده كما
ورد في تفسيرِ المنار؛ إذ يكتب خلفُ الله: «على أنَّ هذا
القول قد قال به الأستاذُ الإمامُ، وقد نقلَهُ عنه صاحبُ
المنار في مواطنَ كثيرةٍ من كتابه؛ فقد جاء في الجزء
التاسع، ص٣٧٤ طُبع سنة ١٣٤٢ﻫ ما يأتي: «إن الله تعالى أنزل
القرآنَ هُدًى وموعظةً، وجميع قصص الرسل فيه عبرة وتذكرة
لا تاريخ شعوب ومدائن ولا تحقيق وقائع ومواقع.» وجاء في
الجزء الثاني ص٢٠٥ طُبع سنة ١٣٥٠ﻫ ما يأتي: «فإن قيل إنَّ
التاريخ من العلوم التي يسهل على البشر تدوينُها
والاستغناءُ بها عن الوحيِ، فلماذا كَثُرَ سردُ الأخبار
التاريخيَّة في القرآنِ وكانت في التوراة أكثر؟ والجواب
ليس في القرآن شيءٌ من التَّاريخ من حيث هو قصص وأخبار
للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالِها، وإنَّما هي الآياتُ
والعِبَرِ تَجَلَّتْ في سياقِ الوقائع بين الرسل وأقوامهم
لبيان سُنَنِ الله تعالى فيهم؛ إنذارًا للكافرين بما جاء
به محمد وتثبيتًا لقلبه وقلوب المؤمنين به. وسترى ذلك في
محلِّه إن شاء الله تعالى؛ ولذلك لم تُذْكَرْ قصةٌ
بترتيبِها وتفاصيلها وإنما يَذْكُرُ موضع العبرةِ فيها …»
هذه هي نظريَّتِي في القصص وهي نظريةٌ تعتمدُ على طريقةِ
الخلف ومذهب الأستاذ الإمام.»
٨٦ لم يَقْبَلْ عدةُ كتَّابٍ ما نسبه خلفُ الله
لمحمد عبده ورشيد رضا، واتَّهَمُوه بالجهلِ وسوءِ الفهم.
٨٧
وفات خلفُ الله أن يذكرَ موقفَ محمد إقبال الذي يرى:
«أنَّ قصة هبوط آدم كما جاءتْ في القرآن، لا صلة لها
بظهورِ الإنسان الأوَّل على هذا الكوكب، وإنَّما أريد بها
بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من بداية الشهوة الغريزية
إلى الشعور بأن له نفسًا حرة قادرة على الشك والعصيان.»
٨٨
في النصف الأول من القرن الماضي يدعو خلفُ الله إلى
إعادةِ النظر في التَّعاطي مع لغةِ القرآن، على وفق
مفهومه ﻟ «لغة الدين»، ويدعو لضرورةِ فهم القصص الورادة
بلغة الدين في سياق المعنى الرمزيِّ الذي تُقَرِّرُه هذه
اللغةُ؛ لأنَّه يرى أن القصصَ في الكتبِ المُقَدَّسَة لا
تَرِدُ بوصفِها تقريرًا لحوادثَ تاريخيَّةٍ. لغةُ الكتاب
المقدس غرضُها المعنى الذي ترمز إليه القصَّةُ وهو
الهِدَايَةُ، كما هو الغَرَضُ من ضرب الأمثال. إلا أنَّ
هذه الدعوةَ ما زالتْ غيرَ مقبولةٍ حتى اليوم، ذلك أنَّ
أكثرَ الدراسات القرآنيَّة أسيرةُ علومِ القرآن
وقواعدِ التفسير التي أنتجها المفسِّرون في الماضي،
ومفهومهم للغة الدين، المشتق من رؤيتِهم وقتئذٍ للعالَم،
وعلومِ ومعارفِ عصرِهم. لم تنبثق هذه الدراساتُ من رؤيةٍ
حديثةٍ للعالَم، ولم تنفتحْ على المكاسبِ الراهنةِ في
علوم الإنسان والمجتمع، التي كان يشدِّد على توظيفها
أمين الخولي في الدراسات القرآنية.
كان كتابُ «الفن القصصي في القرآن الكريم»
مُنْعَطَفًا رائدًا في تطبيق مفهومٍ مختلفٍ للغة الدين،
وتوظيفها في الدراسات القرآنية والتفسير، لكن ما زال
الباحثون في هذا الحقلِ البالغِ الأهمية يحذرون الاقترابَ
من ذلك، حتى بعضُ تلامذة الشيخ الخولي الذين كتبوا في
الدراسات القرآنية والتفسير كانوا يتهيَّبُونَ اقتحامَ
هذا الدَّرْب المُخيف، فقد أخفقتْ تلميذةُ الخولي
وزوجتُه عائشة عبد الرحمن في أنْ تسيرَ على هذا النهج،
فلبثتْ كتاباتُها، في الدراسات القرآنيَّة والتفسير،
داخلَ أسوار الأُفُقِ التاريخي التَّكراري المغلَق
للمفسرين، كما أشرنا لذلك فيما مضى.
في ختام حديثنا عن الشيخ أمين الخولي، وجدنا أجملَ من
يرسم صورةَ أمين الخولي «الإنسان» هي تلميذتُه وزوجتُه
عائشة عبد الرحمن المعروفةُ ببنت الشاطئ، في الشهادة
التي كتبتْها لإهداء كتابها «القرآن وقضايا الإنسان»
إليه؛ إذ تقول:
إلى أمين الخولي الإنسان … صحبتُه في رحلةِ الحياة
فتجلَّت لي فيه وبه، آيةُ الإنسان بكلِّ عظمتِه وشموخِه
وكبريائه، وجبروتِ عقله، ومرهف حسِّه، وعزَّةِ
ضميرِه.
ثم مضى … فعرفتُ منه وفيه، مأساة الإنسان، بكلِّ
هوانِه، وضعف حيلتِه، وقصور طاقتِه.
وفيما بين حياته وموته، أرهف إحساسي بقصَّة الإنسان
من المبدأ إلى المُنتَهَى.
عائشة. مارس ١٩٦٩م/المحرم ١٣٨٩ﻫ
٨٩