فهمُ الدين داخل الدين عند شلايرماخر١
(١) عصرُ الأسئلةِ الفلسفيَّة واللاهوتيَّة الكبرى
عاش شلايرماخر (١٧٦٨–١٨٣٤م) عصرَ الأسئلةِ الفلسفيَّة واللاهوتيَّة الكبرى؛ فقد تعرَّضت الأدلةُ الفلسفيةُ على وجودِ الله إلى نقدٍ تقويضي في فلسفة ديفيد هيوم وإيمانويل كانط وغيرِهما من فلاسفةِ القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان النقدُ الذي تعرَّض له الكتابُ المقدَّس شديدًا، بعد تعارُضِ بعضِ ما جاء فيه مع الاكتشافات والنظريَّات العلميَّة الحديثة. وظهرَت آراءٌ لمفكرين ترى أن منشأَ الحاجة البشرية للدين عواملُ مجتمعيةٌ وفرديةٌ معروفة، بوسع الإنسان التغلُّب عليها؛ ومن ثم الاستغناء عن الدين.
أَعْلَت الرُّومانْسِيَّةُ في عصر شلايرماخر من مكانةِ المشاعر والعواطف والخيال في الأدب والفن، ولم تعبأْ بالعقل، ولم تكترثْ بالتقنيات والمعايير الكلاسيكيَّة، ودعتْ للعودةِ إلى الطبيعة والانغمارِ فيها واتخاذِها موضوعًا للكتابة. وشدَّدتْ على الانهمامِ بالذات، والبوح بما يختبئ في أعماقها من ألم وأمل، وحزن وفرح، وكآبة ومَسَرَّة. ولم تجدْ حاجةً لالتزام الأديب بالمعايير الأخلاقيَّة، فليس بالضرورة أن يكون الأديبُ أخلاقيًّا. وكانتْ حياةُ الإنسان الأوروبي في ذلك الزمان قلقةً كئيبةً حزينة، إثر شدَّةِ النِّزاعات، وما تركَتْه الثورةُ الفرنسية من تداعيات وآثار متنوِّعة.
لم يكن للدين أمامَ هذه الموجاتِ الحادَّةِ من النقد، وضراوةِ الألم الذي يجتاحُ حياةَ الفرد والجماعة، أن يتمسَّكَ بمحاجَجَاتِه الموروثةِ، ويكرِّرَ اللاهوتُ دفاعاتِه المعروفةَ، بل كانت هناك ضروراتٌ تفرض على الدين أنْ يتحدثَ لغةً جديدة، يتخطَّى فيها منطقَ جداليَّات العقل اللاهوتي الذي تجاوزه العقلُ الفلسفيُّ، ويُعيد النظرَ في تفسير مسلَّمات كتابِه المقدَّس التي زلزل شيئًا منها العلمُ الحديث.
في هذا الفضاء الرُّوحي والفكري قدَّم شلايرماخر فَهمَه للدين، وهو الخبيرُ بالفَهم، الذي كان أولَ من فتحَ الطريقَ لتدشين مسارٍ جديدٍ للهرمنيوطيقا بوصفها: «فنًّا للفهم» أو «فهمًا للفهم».
لم يتمسَّكْ شلايرماخر في فَهْم الدين بالعقل لنقض أدلَّة العقل، ولم يتمسكْ بالعلم لنقض نظريات العلم، وإنما اجترح طريقًا يتحدَّث لغةً تحاكي لغةَ الشعراء، وتستوحي مخيِّلةَ الفنانين، لاسكتشافِ جوهر الدين وتفسيرِ وظيفتِه. كان يهمُّه التوغُّلُ إلى مديات عميقة في الذات البشرية، وتحليلُ طبيعة الحزن والألم واللَّامعنى الذي يُشقيها، وما الذي يمكن أنْ يقدِّمَهُ الدِّينُ لها. كان يبحث عن ذلك الدِّين الذي يشفي الروحَ من أمراضها، وليس ذلك الدين الذي يُمرِضُ الروحَ وتُمرِضُهُ بأمراضِها.
(٢) إيقاظ صوت الله في الضمير
في هذا الفضاء العقلي والروحي والعاطفي، الذي تبلبلَ فيه تفكيرُ النخبةِ بشكوك مختلفة واستفهامات حائرة، ألَّفَ شلايرماخر: «عن الدِّين: خِطَابات لمُحْتَقِرِيه من المُثَقَّفِين»، وأصدره عام ١٧٩٩م، وهو كما يشير عنوانُه كتابٌ موجَّه للمثقفين في عصره، ممن يراهم يحتقرون الدين. ترسَّمَ فيه نهجًا خاصًّا، تتناغم فيه رؤيا شاعريةٌ للدين ببيانات مكثَّفة صاغها بأسلوبه المتدفِّق كالشلال، وصنَّفها في خمسة خطابات، كلٌّ منها يتناول موضوعًا، تكلَّم فيها بلغة تجمع بين الذوق والكَشْف والحدْس والتأمُّل. لغة تحضر فيها صورةُ الذات وتتجلَّى بصيرتُها الروحية أكثر من أي شيء آخر.
كتاب شلايرماخر كتاب إيماني، والكتب من هذا النوع عادة ما يحضر فيها البيانُ ويشحُّ فيها البرهانُ. إنَّه كتاب يستمع إليه القلبُ قبل أنْ تُصْغِيَ إليه الأذنُ، يخاطب المشاعرَ قبل أنْ يحاججَ العقلَ. يَطْغَى على مساحات واسعة منه أسلوبٌ وجدانيٌّ، وكأنَّه قصائد منثورة تلوِّنها روحانيةٌ متوهِّجةٌ، بل كأنَّه نصوصٌ مقدَّسة، مشبوبةٌ بالعاطفةِ وتأجيجِ المشاعر؛ إذ يتحسَّسُ مَنْ يستمعُ إليها صوتَ الله يتردَّد في ألحان عباراتها، كأوتار قيثارة تعزفُ عليها أناملُ عازفٍ بارع يعرف أشواقَ الروح وحالاتها. مثلُ هذا اللون من الكتابة لا ينشغل بالأدلَّة، بل ينشد إيقاظَ صوت الله في الضمير، وإشباعَ العواطف، وإثراءَ الروح.
هذا الكتابُ تعبيرٌ عن خبرة روح تُحَاكِي خبرةَ الأرواحِ الحُرَّةِ المشرقة بمكاشفاتٍ إلهيَّةٍ، إنَّه كلوحةٍ يرتسم فيها سحرُ كلمات كثيفة، المُضمَرُ فيها أعمقُ دلالةً من الظاهر، والخفيُّ فيها أكثر غوايةً من الجَلِي، والجذوةُ فيها أشدُّ حرارةً من اللَّهب. إيقاعُها يتناغم فيه ما يبوحُ به قلبُ مؤمن، وما يرسمه ضميرُ عاشق، وما ينشده إنسانٌ متيَّمٌ بالحب والخير والجمال والعدل والسلام.
إنه كتابٌ ليس لأولئك القرَّاء الذين لا يقرءون إلَّا ما يقولُه العقلُ المَحْض، وما يكشف عنه العلمُ، وإنما هو لنمطٍ خاص من القرَّاء الذين تطربهم مثلُ هذه النصوص، إنهم الجائعةُ أرواحُهم إلى ما يشبعها، والظامئةُ قلوبُهم إلى ما يرويها، والتوَّاقةُ مشاعرُهم إلى ما يشحذها.
الكتابُ الحقيقي هو ما يبرَعُ في كتابةِ تاريخِه الخاص، الذي يخترق فيه قيودَ الزمان، ويتخطَّى فيه حدودَ البيئة، ويتغلَّب على مضايقِ المكان، فيمسي كتابًا عالميًّا يخاطبنا اليومَ مثلما خاطب مواطنيه في عصره وبيئته الدينيَّة والثقافيَّة أمس. حسب كتاب شلايرماخر أنَّ كاتبَه كان رائيًا لا يروي روايةَ الفلسفة واللاهوت والعلم في عصره، بل كان يروي سيرةَ القلب، يروي رؤيةَ البصيرة، وأشواقَ الروح. إنه كان تجلِّيًا للحياة الروحية لراءٍ يتبصَّر خبراتِ الروح، فيصهرها بما يتذوَّقه القلب، ويلوِّنها بما يُلهب المشاعر، ويسكب كلَّ ذلك على الورق.
يتلخص جوهرُ الدين وتتجلَّى حقيقةُ التدين عند شلايرماخر بالتجربة الدينية. كأن الدينَ بمثابة المحار الذي يكتنز اللؤلؤ في أصدافه، أو بمثابة الجوز الذي يضم اللب في قشوره. كلُّ «الأسرار المقدسة» مودعةٌ هناك، في ذلك اللب والجوهر، كلُّ الشعائر والطقوس توقظ تلك «البذرةَ النائمةَ» وتستنهض الروحَ. كلُّ ما في الدين — ما خلا الجوهر — شيءٌ ليس مطلوبًا إلَّا لكونه وسيلةً لتلك الحقيقة الباطنيَّة التي تنغمس في الأعماق. يشرح شلايرماخر ذلك بقوله: «إنني كإنسان عادي أحدِّثكم عن الأسرار المقدَّسة والشيَع الغامضة للبشرية، من وجهة نظري، عن منطوق يكشف ذلك المتواري الذي أغراني للبحث عنه، عندما كنتُ في عنفوان الشباب، عن تلك التجربة الباطنية والقوة الكامنة في أعماقي، التي تشعرني بوجودي منذ أن بدأتُ بتحسُّس مفاصل الحياة وقيمة الفكر، عمَّا سيبقى مقامُه هو الأعلى في داخلي إلى الأبد، على اختلاف طرائق تبدُّل الزمن وعوامل حَرَاك الإنسانية. إنَّ حديثي في هذا المقام لم ينبعث من قراراتٍ عقلانية، ولا ينبع من شعور بالأمل أو الخوف، إلَّا أنَّه مع ذلك غالبًا ما يحيط بالظواهر ويمنح الأشياء نسَقًا نسبيًّا متوخيًا ما قد يئول إليه من غرَضٍ عقليٍّ نهائي، وهو حديث لم يتَّخذ المكاشفة المعتبرة لكيان الإنسان منهجًا بناءً على سبب اعتباطي أو عَرَضِي، إنَّه ضرورة داخليَّة تفرضها عليَّ طبيعتي بشكلٍ لا يُقَاوَم، بل إنَّه تسخيرٌ إلهيٌّ يمكنني عبره أن أُحدِّد مكاني في هذا الكون، ويجعلني المخلوق الذي هو أنا.»
لا أريد أنْ أسرقَ متعةَ اكتشاف القارئ فأتحدَّث له عمَّا يكتنزه الكتاب، وأسهب في عرض مضامينه، لكن أودُّ أن أشيرَ إلى أن قرَّاءَ العربية عرفوا شلايرماخر بوصفه المؤسسَ للهرمنيوطيقا بمعنى: فن الفهم، أو تقنية الفهم في العصر الحديث، ولم يدرس الباحثون رأيَه في هذا الكتاب وغيرِه من أعماله اللاحقة، الذي يغوص عبره في تحليل التجربة الدينية ويكشف عن أنها جوهرُ الدين.
(٣) الدين بوصفه مصدرًا للطاقة الحيوية
يدعو شلايرماخر إلى فهمٍ للدين من داخل الدينِ؛ لأنه «في الدين وحده لا في سواه، ينظر المعلِّم المحترف والتلميذ المبتدئ إلى أفق واحد؛ لأن فهم الدين لا يقع خارجه.» ويعلن عن تفسيره للدين «بوصفه حاجة وجودية»، والذي هو الخيط الناظم لكتابه هذا؛ إذ يقول: «إن ما يهمُّني هو تكريس فَهْم الدين بوصفه حاجة وجودية تحمل الدعوة للنظر إلى الأبدية، وكل رؤيا للأبدية توجد مستقلة ومعتمدة على ذاتها، وهي ليست بحاجة لسواها لإكمالها؛ لأنها جزء من سواها وكله في آنٍ.»
يرتقي الدينُ لدى شلايرماخر إلى مرتبة سامية في الحياة، عندما يصير مصدرًا أساسيًّا للطاقة العظمى في الحياة، بوصفه تجربةً وجوديَّة، تجعله قادرًا على التعبير عن كل شيء؛ لذلك يتحدَّث عن الكثير من الخصائص والصفات التي يتميز بها، ويعلن عمَّا يَعِدُ به من المهام؛ إذ يصفه بقوله: «لقد ثبت لديَّ أن للدين أهمية لا تتجلَّى على مستوى التفاعل العملي في معترك الحياة وحسب، وإنَّما في مضمار التفاعل الفكري؛ لأنَّه تجربة منوطة بالوجود، ينفرد برؤًى ونواميس قادرة على التعبير والإخبار عن كل شيء. الدين طاقة أبدية غير قابلة للنضوب، دينامية وحراك تتخلَّل الحميميَّةُ طبيعتَها، وهو أقوى من أن يضمر تحت تأثير ما يجابه به من عنف أو تسطيح؛ لأنَّه لصيق فطرة الإنسان، التي لا يعني احتجابها، تحت أي ظرف كان، انعدامها. يمنحنا الدين قدرةً على أن نرى الآخر كرؤيتنا لذواتنا، وأن نتعاطى مع شرعية وجودنا عبر ما نضفيه على الآخر من شرعية للوجود.»
يهتم شلايرماخر باكتشاف الصلة العضوية بين الفن والدين، فكلٌّ منهما يشبع توقَ الروح للمعنى، ويؤمِّن حاجتَها للجمال. يعلن أنَّ الدينَ لا يخافُ المحبَّةَ، فغايةُ الدين تعني: «أن نحب روحَ العالَم، ونبتهج لمشاهدة صنيعها، وليس هناك أيُّ خوف من المحبة؛ فالدين لا يختلف في جماله وحُسْنِ وجودِه عن سواه من قيم الجمال التي تنبثُّ في ثنايا العالم، كيف لا وهو الفيض الذي يغمر الإنسانَ كرامةً ومحبةً منذ نعومة أظفاره.» كما يعتقد أن محبةَ روح العالم تنبع من الدين، كذلك يعتقد شلايرماخر بلغةٍ لا تخلو من الجزم أنَّ محبةَ الآخر لا تتحقَّق إلَّا عبر الدين؛ ذلك أن «الدين هو اللبنة الأساسية لتشييد محبة الآخر، ثمَّ إدراك القيمة العليا لتلك المحبَّة كرابط جماعي لا غنى للفرد عنه؛ لأنَّه الوحيد الذي لا يفتقر بذاته إلى إمكانية تحديد مصير البشرية والاقتراب من مفهوم الإنسانية مادة للدين.»
إن مهمةَ الدين هي مناهضةُ الاستبداد الذي يفرض فهمَه للحقيقة، ويرسم طريقَه الخاصَّ للوصول إليها، ويحظر أيَّ شكل للفهم لا يتطابق معها. يذهب شلايرماخر إلى أنَّ أخطرَ ما يهدِّد الدينَ هو احتكارُ الفهم وانحصارُه في فهم واحد؛ لأن «أهم ما في الدين هو تعدُّدِيَّتِه في الفهم وكراهيته للاستبداد، ذلك الذي يجمِّد كلَّ ما لا يتَّفِقُ معه، يحجِّره ظنًّا بأنه سيحافظ على وجوده. التعدُّد هو جوهر الدين وكُنهه، وعبره تتحقَّق فكرةُ الخلاص في المسيحية، ويصبح ما يجثم على صدرها من بؤس قابلًا للزَّوال. لا يوجد شيء أكثر مناقضةً للدين من ذلك المقوِّض لقابليَّته لتعدُّد أشكالِ فهمِه.»
ورغم كشف شلايرماخر لتعدُّدية فهم الدين، التي تعني تعدُّدَ تعبيراتِه وتمثُّلاته البشريَّة في الحياة، غير أنَّه يتحدَّث عن الدين في الكثير من فقرات كتابه هذا من دون نقدٍ للأنواع المختلفة لفهمه وتفسير تمثُّلاته البشرية، ومن دون تحديدٍ دقيقٍ لتعريفِه هو للدين، وما يعنيه كلٌّ من الإيمان والدين والتديُّن لديه. يسوق شلايرماخر كلمةَ الدين بتعميم ملتبسٍ، يتجاهلُ فيه كلَّ نقد الفلاسفة والمفكرين الغربيين للدين، ويوكل إليه مهمةً تلتقي فيها كلُّ أشكال المديح والثَّناء والتَّبجيل، ويرتقي بوظيفتِه إلى إنجاز مختلف المهام السامية. يبالغ شلايرماخر في الأثر السحري للدين، بالشكل الذي يصير الدينُ في رأيه منبعًا لكلِّ الأخلاق الفاضلة، وكلِّ ما من شأنه التَّسامي بمكانة الإنسان وحمايةِ حقوقه وحرياته، وكلِّ شيء جميل وخلَّاق في العالَم، ويحيل إليه كلَّ ما هو رؤيوي آسِر. يتعمَّد شلايرماخر غض النظر عن حروب الأديان، وما نتج عن بعض أشكالِ التديُّن من بؤسٍ وما مارسته بعضُ الأديان من انتهاكاتٍ لكرامة الإنسان وإهدار لحقوقه.
يضع شلايرماخر الدينَ في سياق رهانات الحياة الجديدة، ويجعله الطريقَ الأمثل للصِّلَةِ العضويَّة بالحياة، وكأنَّه مثابة لما هو جديد؛ إذ يرى أنَّ: «الدين ليس فكرةً خسرَت رهانَها في الحاضر ولم يتبقَّ لها غير الاستحواذ على الماضي القديم بدعوى أنَّه منزلها الحقيقي، وإنَّما هو فكرة قادرة على الانعطاف بنفسها نحو الجديد؛ لأنَّها لا ترتابه أو تتجنَّبه. الدين هو أفضل طرق الاتصال بالحياة.»
مع أنه يعلن أنَّ مفهومَه للدين إنما يختص بالدين الذي يتضمَّن اعتقادًا بإله؛ إذ يصرِّح: «وتبعًا لوجهةِ نظري، وبموجب فهمِي للإيمان الذي تعرفون «لا وجود للدين بغير إله»، ولا يمكن لأيِّ شيء أن يكون من دونه.» وإذا كان «لا وجود للدين بغير إله» فلا وجودَ لدينٍ بلا إنسان، ولا وجودَ لدينٍ بلا حضور في حياةِ الفرد والمجتمع، ويتماهى ذلك الحضورُ بما يكون عليه كلٌّ منهما، من حيثُ ثقافته أو من حيث ظروف عيشِه المتنوعة، فحيثما يكُن الإنسانُ يكُن دينُه، وحيثما يكُن الدينُ يكُن الإنسان. ويَعْرِفُ شلايرماخر جيِّدًا أولئك الكهنةَ الذين يرتزقون بالدين وينتهكون قِيمَه ويعبثون بمرامِيه السَّامية، ممن أشار إليهم في ثنايا كتابه. ومثلُ هؤلاء الكهنة يحضرون في كلِّ ديانات الأرض.
وكما يفعل رجالُ الدِّينِ الذين تفرض عظاتُهم وصايتَهم على المؤمن، يستعملُ شلايرماخر عباراتٍ يتداخلُ فيها الشِّعرُ المنثورُ بالوَعْظِ، وكأنَّه كاهنٌ بليغٌ لا يكفُّ عن صبِّ عِظاتِه الحماسيَّة على رءوسِ رعيَّتِه، ولحنُ صوته يصدحُ بالثِّقة والصرامة ليفرض وصايتَه عليهم، ولا يريدُ من المستمعين إلَّا التسليمَ بما تقوله عِظاتُه، وهو يعلن الاستغناءَ عن حاجته للحجج العقلية، ويصرِّح بأنَّ الدينَ لا يحتاج الاستدلالاتِ المنطقية.
لا تخلو كلماتُه من توبيخٍ لمن يراهم مناهضين للدِّين من مُثقَّفِي عصره؛ فهو يقول مثلًا: «أَيُعْقَل أن تستمرئوا احتقارَ هذا الاتِّجاه الروحي إلى الأبد، أيمكن أن يبدو لكم كل ما هو مهمٌّ للإنسان سخيفًا؟ وتأسيسًا على كل ما تقدَّم من نقاط لا بد لي أن أقول إنَّ احتقارَكم للدين هو نتاجٌ لطبيعةٍ خاصَّةٍ بكم، ماذا عساني أنْ أقول أكثر من ذلك!»
حتى العنوان الشارح لكتابه هذا يستعمل فيه كلمة «محتقريه»، وكنت أتمنى أنْ يستعملَ المؤلِّفُ في عنوان كتابه عبارةَ: «خطابات لنقَّاده من المثقفين»، بدلًا من: «خطابات لمحتقريه من المثقفين»؛ لأن كلمةَ «احتقار» تستبطنُ معنى الازدراء والامتهان والإهانة والتوبيخ، وتَشِي بمضمونٍ لا يخلو من تسلُّط، وإن كانت كلماتُ الازدراءِ والتسلُّط تستبد بلغة كلِّ الوعَّاظ والكهنة، وكأنَّ شلايرماخر سقط في فتنة لغتِهم الاستعلائيَّة ووثوقيتهم الجزميَّة. وهذه المعاني لا تلتقي ومعنى «مثقف»، ولا تليقُ بما يرمي إليه كتابُه، فكما ينشد هو أنْ يكونَ المثقَّفُ أخلاقيًّا مهذَّبًا، يُفترض بكتاباته أنْ تكفَّ عن ازدراء الآخر وامتهانِه.
لا نظن المفاهيمَ التي استعملها في عنوان كتابه منسجمة؛ لأن معنى «مثقف» يستبطن «النقدَ»، ولا يشي بمعنى «الاحتقار». كلُّ فكرٍ يحملُ بصمةَ البيئة والحياةَ الدينية والثقافية والسياسية لزمانه، وربما نعطي بعضَ العذر لشلايرماخر لو وظَّفنا أساليبَ الخطاب والمعاييرَ المتداولة في عصره لتفسير عباراته. وكما يرى شلايرماخر أن الفهمَ لا يستقلُّ عن الأفق التاريخي للمؤلِّف، وبنيتِه السيكولوجية. ربما لو نقَّبنا أعمقَ واكتشفنا الأسبابَ الكامنةَ وراءَ تأليف كتابِه هذا، لاتَّضحَ لنا السببُ وراءَ اشتعالِ كلماتِه وتوتُّر عباراتِه، وتفضيله كلمةَ «احتقار» على كلمة «نقد» في عنوان كتابه.
(٤) بناء المجتمع يبدأ بإعادة بناءِ الفكر الدِّيني
لبث كتابُ: «عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين» إمَّا مجهولًا أو منسيًّا أكثر من قرنين، لدى الباحثين المهتمين بالفلسفة واللاهوت والدين في دنيا العرب، ولم أعثر على دراسةٍ عنه أو مقالةٍ تنوِّه به، وتعرِّف القارئَ العربي بأهميَّته. وعلى الرغم من ظهور عدَّة جامعات وكليات ومعاهد للتعليم العالي ومراكز أبحاث ودوريَّات تُعْنَى بالدراسات الدينية في بلادنا في السنوات الأخيرة، فإنَّ هذا الكتاب كان أقلَّ كتب الأديان حظًّا في حضورِه. مع أننا نعرف أنَّ هناك الكثيرَ من المؤلفات الممتازة في الدين باللغات الغربية وخاصة الألمانيَّة ما زالت مهملة، فإن كتاب شلايرماخر هذا ظل الأكثرَ غيابًا.
المؤسف أننا قلَّما نجد من يهتم بالفكر الديني الغربي من الباحثين العرب ذوي التكوينِ اللغوي المتعدِّد، والخبرةِ المعمَّقة بالعلوم الإنسانية. كثيرون في بلادنا يتفادون الحديثَ أو الكتابةَ أو التأليفَ في الدين، وحتى الخبراء بالفلسفة وعلوم التأويل ينزعون لتوظيفها في قراءة الأدب والرواية والشعر، وتحليل نصوص جديدة أو عتيقة، لكنهم دائمًا يحذرون توظيفَها في حقل الدين ونصوصه، ويتفادون دراسةَ الدين وتمثلاته في مجتمعاتنا في سياقِ المكاسب الحديثة للفلسفة والعلوم الإنسانية. هذه مهمةٌ يهرب منها جميعُ الأكاديميين والباحثين والكتاب في بلادنا، لما يمكن أن تجلبه من متاعب ومشاكل. مع أن الخبراء في الفلسفة وعلوم التأويل، يمكنهم تطبيقُ المناهج الجديدة على تفسير النصوص الدينية، لكن الكلَّ يطبِّق ذلك على كلِّ النصوص ما عدا النصوص الدينية، لعلمهم بالضريبة القاسية لتطبيقها في هذا الحقل؛ لذلك ينشغل المختصُّون في مجتمعاتنا بتطبيق هذه المناهج على الأدب والشعر، وكل شيء عدا الدين ونصوصه.
أقدِّر حجمَ مغامرة اقتحام هذا الحقل، وأعرف كم هي موجعة ضريبة الاغتراب والنفْي المتوقَّعةُ من الخوضِ في مضماره، وتحرُّشِ الباحث في المراجعة التقويمية لمسلَّمات الدين، وفحصِ بداهاتِه، ومساءلته لوثوقيَّاته. أعلم أنَّ أيَّةَ محاولة لتحليل ونقد التراث الديني وتعبيرات الدين في الحياة البشرية من شأنها أنْ تضعَ الكاتبَ في مواجهة مباشرة مع المؤسَّسات والجماعات الدينية، ومع كلِّ من ينصب نفسَه وكيلًا عن الله في الأرض، ومن يصنِّف نفسَه على طائفة وَرَثة الميراث الديني، لكنِّي أدرك جيِّدًا، وكما أشرتُ إلى ذلك في أكثر من مناسبة، إلى أن الدينَ هو الدَّاءُ، وأنَّه، هو أيضًا، الدواءُ لهذا الضياع في وديان التِّيه العربي منذ عدة قرون، والذي بلغَ أوطأَ حالاتِه منذ بداية القرن الجديد، هذا القرن الذي يحقِّق ويَعِدُ فيه العقلُ البشري بمنعطفاتٍ عُظْمَى على مسار النمو والتطوُّر العلمي والتكنولوجي، فيما نَسقُطُ نحن ونتردَّى في حروب طائفيَّة مريرة، تستأنف ذاكرةَ حروب قبائلِنا المزمنة في الجزيرة العربية.
بناء المجتمع يبدأ بإعادة بناءِ الفكر الدِّيني، ولا يمكن ذلك اليوم إلا بتطبيق المناهج الحديثة في فهم الدين وتفسير نصوصِه، وتلك مهمة لا يعرفُها إلا من هو خبير بالفلسفة والتأويل وعلومِ الإنسان والمجتمع. في هذا المخاض القاسي، ليس لدينا مِن خيار سوى العمل على المزيد من الدراسة والبحث العلمي في حقل الدين ومعارفه والظواهر المجتمعيَّة التي ينتجها. وتلك مهمَّتُنا العُظمى التي لو عملنا عليها بجدٍّ واجتهاد لفتحنا نافذة ضوء لنقاشٍ بعيد عن الأغراض، يمكنه أن يدلَّنا على طريق الخلاص.
تأتي ترجمة كتاب شلايرماخر: «عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين»، ونشره في إطار المهمة التي نهض بها مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، وتمحور إنتاجه منذ سنواتٍ طويلة عليها، وهي مهمَّة تبتني على نشر المؤلَّفات والأبحاث الأساسيَّة في تجديد فهم الدين وقراءة نصوصه. ونبقى مدينين في تعريب هذا الكتاب للصديق الأستاذ أسامة الشحماني، الذي أنفق الكثيرَ من الوقت والجهد في نقله من اللغة الألمانية لعصر شلايرماخر نهاية القرن الثامن عشر. ولولا جدِّيته، وإصراري عليه، الذي أحرجني معه وأحرجه معي، ربما يمكث هذا الكتابُ في الظلام لأَمدٍ لا نعلمه، بعيدًا عن القرَّاء العرب.
قد يجد القارئُ غيرُ المحترف أن كتابًا لا يتجاوز مائتَي صفحة من السَّهل ترجمته، ولا سيما وهو يرى العديدَ من المترجمين يُغرِق الناشرين باستمرار بمؤلَّفات كبيرة ينقلها عن لغاتٍ أخرى بعربية ملتبسة، لا تكاد تتلقَّى من كثيرِ عباراتِها شيئًا مفهومًا، لكني كقارئ لترجمة هذا الكتاب ولترجماتٍ أخرى، رأيتُ كيف يعاند نصُّ شلايرماخر أسامةَ، وكيف يعانده أسامةُ بالمزيد من الجَلد والعزيمة، وبراعة في تطويع تصلُّب لغة القرن الثامن عشر الألمانية إلى لغة عربية حديثة آسِرة، وهو يُعرِّب جُملَ شلايرماخر الطويلة، وفقراتِ كتابه المتناسقة كنسيج حرير خيطي دقيق، وينضِّدها كعقد مضيء، بعربية مكثَّفة، لا تقفز على لغةِ المؤلِّف أو تسلخ معانيَها الدقيقة؛ لذلك كان يعيدُ ترجمةَ جمل الكتاب وفقراتِه لأكثر من مرة، ويقف كثيرًا عند الكلمات الألمانيَّة لينتقي مقابلاتِها بالعربيَّة الأشدِّ وضوحًا، والأقرب في التعبير عنها لفظًا ومعنًى. كان أسامة ينجز في البدء ترجمةً خشنة، ثم يكرِّر ترجمتَها، بغية ترويض كلماتها وعباراتها كي تصبح ترجمةً مخمليَّة.
كنتُ وأسامة نتحدَّث طويلًا وقتَ انشغاله بترجمة خطابات هذا الكتاب، وعند فراغه من كلِّ خطاب من هذه الخطابات الخمسة، أحرِّرُ النصَّ، ثم أعيده إليه ليعيد مراجعتَه وتقويمَه. كانت الرحلةُ مع شلايرماخر شاقَّةً لكنها شيِّقةٌ. كلما أنجز أسامةُ شيئًا من ترجمة صفحات الكتاب بعثها لي، كنت أترقَّب استلامَ ما يفرغ منه وأتلقَّاه بشغف، ومباشرة أعكف على تحريره، ولا أكتفي بقراءةٍ واحدة، بل أكرِّر القراءةَ. في كل مرة أشعر كأني أقرأ النصَّ للمرة الأولى؛ ذلك أنَّ لغة شلايرماخر رؤيوية، كأن عباراتِه شذراتُ قصائد نثر لأحد الشعراء الكبار.
ترجمة أسامة الشحماني كانت عن الألمانية مباشرة، أسامة أديب وناقد صبور، أرهق نفسه بالعمل على ترجمة كتاب صغير عدة سنوات. وقبل ذلك أمضيتُ مدةً طويلة في البحث عن النسخة الألمانية للطبعة الأولى للكتاب ١٧٩٩م، وسؤال الخبراء عن مُتَرْجِم يتقن اللغة الألمانية الخاصة التي كتب فيها شلايرماخر كتابه هذا. أمضينا في هذه الرحلة ثلاثَ سنوات في حواراتٍ جميلة عبر الهاتف بين بغداد وزيورخ. وهكذا نحتفل اليومَ معًا بصدور هذا الكتاب الذي نقدِّمه للباحثين والمهتمِّين بالدِّراسات الدينيَّة بالعربية، متمنِّين أنْ يأخذَ مكانتَه المناسبةَ في المكتبة الدينية والفلسفية.
بعد صدور ترجمة كتاب شلايرماخر: «عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين»، تنبَّه بعضُ المترجمين والناشرين للكتاب، وتكرر صدورُ ترجمات أخرى لاحقة له. وذلك يحدث دائمًا في الأعمال الجادَّة، وكان ينبغي توفيرُ الجهد والمال لترجمة أعمالٍ أخرى، بدلًا من تكرار ترجمةِ كتاب لبث أكثرَ من قرنَين مجهولًا.