الفصل التاسع
القرآن بوصفه كتابًا أخلاقيًّا عند فضل الرحمن١
(١) الشرائعُ مرآةُ المجتمعات
ما زالت الدراساتُ الإسلاميَّةُ في المحيط العربي لا
تعرف إلَّا القليلَ عن مفكِّري الإسلام المجدِّدِين في شبه
القارَّة الهنديَّة، على الرغم من أنَّ شيئًا من المقولات
الاعتقاديَّة والمفاهيم الكلِّيَّة قد استعارها بعضُ
المفكِّرين والكُتَّاب العرب والإيرانيين منهم، على اختلافٍ
في طبيعة ما هو مستعارٌ إيرانيًّا وعربيًّا؛ كلٌّ على وفق
أفق انتظاره وخلفياته وسياقات اجتماعه الديني. أضحتْ تلك
المقولاتُ والمفاهيمُ بعد ذلك منبعًا لإلهام كتابات
متنوِّعة، تبعًا للاختلاف والتنوُّع في الفكر الديني لعالَم
الإسلام في شبه القارَّة الهندية. الإحيائيُّون من السلفيين
والأصوليين استعاروا ما يسوغ ويكرِّس أفكارَهم في الدعوة
لإقامة دولة دينيَّة، في حين استعار المجدِّدون ما يفتقدونه
في مُحيطهم، ما شكَّل أفقًا لبناء رؤيتهم في التوحيد والوحي
والنبوَّة.
كان ولي الله الدهلوي (١٧٠٣–١٧٦٢م)، الذي يسميه بعضُ
الباحثين مجدِّدَ القرن الثامن عشر، يمتلك رؤيةً تتَّسع
لعبور التراث، وتحاول أن تعيد قراءةَ القرآنِ والحديث في
ضَوْءِ الأُفُقِ التَّاريخي لعصر البعثة؛ إذ أزاح شيئًا
من ركام التفاسير المكرَّرَة والشروح التي دفنت القرآنَ
وغيَّبت المقاصدَ الكليَّةَ للرسالة الإسلامية، وحاول أن
يرى النصَّ القرآني بلا وسائط تحجبه.
على الرغم من أنَّ برامجَ التعليم الديني عند ولي
الله تركِّز على الحديث والعلوم التقليدية، لكنه شدَّد على
ضرورة التعامل مع القرآن مباشرةً خارج التفاسير، ولم يقبل
من التفسير إلَّا بحدود ما يشرح معاني الألفاظ وإعرابها
نحويًّا. كما أدرج التصوُّفَ في نهاية برنامجه التعليمي، وهو
ما لم تألفه برامجُ التعليم الديني من قبل في شبه القارة
الهندية. كان لولي الله أثرٌ ملموسٌ في انتشارِ دراسة
الحديث، وهيمنةِ المدرسة الحديثيَّة، وهذه المدرسة انتهت
إلى مواقف سلفية متشدِّدة في شبة القارة الهندية
لاحقًا.
نعثر على شذرات في آثار الدهلوي، نقرأ آراءً اجتهادية،
لا تكرِّر المكرَّر في التراث. أضاءتْ هذه الآراءُ لبعض
مفكِّري الإسلام الهندي في القرنَين التاسع عشر والعشرين
شيئًا من عتمة حاضرهم، وأسهمَت في توجيه بوصلة تفكيرِهم
الديني.
اهتم ولي الله الدهلوي بالتنقيب عن الأهداف والقيم
الكامنة خلف الشرائع، فأشار إلى أنَّها وإنْ كانتْ حاكيةً
عن طبيعةِ البيئةِ المحلِّية لمجتمعاتها، لكنَّها تنشد
أهدافًا اعتقاديَّة وغاياتٍ أخلاقيَّةً جوهريةً وراء
أحكامها ووصاياها.
اصطلح ولي الله على تعبير الشرائع عن مجتمعاتها ﺑ «الارتفاقات»،
٢ وهي تعني أنَّ شرائعَ النبوَّات تتناسب
وإيقاعَ حياة ونمط عيش المجتمعات التي ظهرتْ فيها، ولا
تخرج إلَّا بشكل محدود عن طبيعة حياتهم وظروفهم وعاداتهم
وتقاليدهم. بمعنى أنَّ هناك «ارتفاقًا» أي تناغُمًا بين
الشريعة وحاجات المجتمع؛ إذ تنسجم الشرائعُ مع الأحوالِ
الاجتماعية وطبائعِ الأقوام؛ لذلك تختلف وتتفاوتُ تبعًا
لاختلاف المجتمعات، وعلى حسب تعبير الدهلوي: «مظانُّ
المصالح تختلف باختلاف الأعصار والعادات؛ ولذلك صحَّ وقوعُ
النسخ. وإنما مثله كمثل الطبيب يعمد إلى حفظ المزاج
المعتدل في جميع الأحوال، فتختلف أحكامُه باختلافِ الأشخاص
والزَّمان، فمن عرف أصلَ الدينِ وأسبابَ اختلاف المناهج،
لم يكن عنده تغيير ولا تبديل؛ ولذلك نسب الشرائع إلى أقوامها.»
٣
في التفاتة دالَّة يؤشر ولي الله إلى أن الشرائعَ
مثلما تعكس طبائعَ المجتمعات وأحوالَها ومتطلباتِها، كذلك
تعبِّر عن شخصيةِ النبي وحياتِه وبيئتِه. فمثلًا يكتب في
جوابِ سؤال عن تفسيرِ الآية:
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ
عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ
فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ،
٤ قائلًا: «تفسيرها أنَّ يعقوب مرض مرضًا
شديدًا، فنذر لئن عافاه الله ليحرِّمَنَّ على نفسه أحبَّ
الطعام والشراب إليه، فلما عُوفي حرَّم على نفسه لحومَ
الإبلِ وألبانها، واقتدى به بنوه في تحريمها، ومضى على ذلك
القرون، حتى أضمروا في نفوسهم التفريط في حقِّ الأنبياء إن
خالفوهم بأكلها، فنزل التوراة بالتحريم. ولما بيَّن النبي
أنه على ملَّة إبراهيم، قالت اليهود: كيف يكون على ملَّته،
وهو يأكل لحوم الإبل وألبانها، فرد عليهم: إن كل الطعام
كان حلًّا في الأصل، وإنما حُرِّمت الإبل لعارضٍ لحق
باليهود … واعلم إنما اختلفت شرائعُ الأنبياء لأسباب
ومصالح، وذلك أنَّ شعائر الله إنما كانَت شعائر لمعدات،
وأن المقادير يُلاحَظُ في شرعها حالَ المكلَّفين وعاداتهم.»
٥
لا يرى ولي الله الدهلوي أنَّ دورَ النبي في تلقِّيه
الوحي كان سلبيًّا؛ فهو ليس مجردَ صدًى تمرُّ من خلاله
كلماتُ الله، إنما «عندما يريد الله إيصال هدًى معيَّنٍ،
يُقَدَّر له أن يدوم إلى نهاية العالم، يُخْضِعُ نَفْسَ
الرسول ليرسل الكتاب الإلهي في قلبه الطاهر، بطريقة خفيَّة
وشاملة … فتنطبع الرسالةُ في قلبِ الرسولِ كما وُجِدَتْ في
العالَم السماوي. وهكذا يعرف الرسول ويقتنع بأن ذاك هو
كلام الله … بعد ذلك، وتبعًا للحاجاتِ ينطق الرسولُ بخطابٍ
بديع الصنعة، هو ثمرة لقدراتِه العقلانية، ولعون الملاك».
٦ ويعتقد الدهلوي بأنَّ وحيَ القرآنِ إنَّما
يحدث في «قالب كلماتٍ واصطلاحاتٍ وصياغاتٍ سبق أنْ
وُجِدَتْ في ثقافةِ النبيِّ».
٧ نقرأ ما يشير إلى شيء من إيماءاتِ هذا الفهم
أخيرًا لدى محمد مجتهد شبستري؛ إذ يعكسُ الوحيُ — حسب رأيه
— أصداءَ ثقافةِ النبي ورؤيتِه للعالَم، وهو ما شرحه
بالتَّفصيل في سلسلة محاضراته الموسومة: «القراءة
النبويَّة للعالَم».
مصائرُ الأفكار لا تنتمي لبداياتها؛ فقد انتهَت آراءٌ
عقليةٌ حرَّة إلى مصير مريع، بعد أن أمست مغلقةً مفرَّغةً من
أية بصمة للعقل. هذا هو المآل الذي انتهى إليه ميراثُ
الدهلوي في شبه القارة الهندية، فقد استحوذ عليه تيارُ أهل
الحديث السلفي المناهض لكل أشكال التفكير العقلي، والذي
رفض حتى علم الكلام.
(٢) منابع الإلهام في حياة فضل الرحمن
الفضاءُ الروحي في شبه القارة الهندية يستوعب كثيرًا
من الديانات والمذاهب الحيَّة، وتتلوَّن دياناتُه بإثنيَّات
ولغات وثقافات متنوعة، لا نعثر على ما يماثلها في مجتمعاتٍ
أخرى. مع كل هذا التنوع والاختلاف ما زالت كلُّ الديانات
تتعايش في فسيفساء تلك الديموغرافيا البشرية
الواسعة.
لم يكن الإسلامُ في الهند ديانةً للمسلمين فقط، بل هو
هويتُهم القومية أيضًا. الإسلامُ هويتُهم المركزيةُ التي
تتفرَّع عنها كلُّ الهويات الإثنية وغيرُها. وذلك هو الذي
دعا المسلمين لتأسيس دولتهم الخاصة بباكستان، خارج الفضاء
الروحي والثقافي للهند. تلك ميزةٌ للإسلام الهندي لا تظهر
بوضوح في مواطن الإسلام الإثنية والقومية الأخرى.
في هذه التضاريس البشرية والروحية وُلد فضلُ الرحمن في
العام ١٩١٩م في الهند، لأب وأم متديِّنَين، كانا منبعًا
لإلهامِ حياته الروحية في طفولته، وبناءِ معتقداته،
وأخلاقياته، وشخصيته. يصف فضلُ الرحمن ما استلهمه من أبوَيه
بقوله: «كان لوالدتي ووالدي تأثير حاسم في تكوُّن طباعي
ومعتقداتي الأولى؛ فقد تعلَّمت من والدتي فضائلَ الصدق
والرحمة والثبات، وقبل ذلك الحب. وكان والدي باحثًا
دينيًّا مطَّلعًا على الفكر الإسلامي التقليدي. على النقيض
من معظم الباحثين الإسلاميين التقليديين في ذلك الوقت،
الذين كانوا يعتبرون التعليمَ الحديث هو سمًّا للإيمان
والأخلاق على السواء، كان والدي مقتنعًا بأنه ينبغي على
الإسلام التعامل مع الحداثة بأنها تَحَدٍّ وفرصة في الوقت
نفسه. وما زلت أشاطرُ والدي الرأيَ نفسَه حتى يومنا هذا.»
٨
كان فضلُ الرحمن — كما يؤكِّد تلامذتُه ومريدوه —
مثالًا نموذجيًّا للمثقَّف المسلم الملتزم، الشجاع؛ فقد كان
تفكيرُه مرآةً لالتزامِه وشجاعتِه، والتزامُه وشجاعتُه
مرآةً لتفكيره. وما أقلَّ هذا المثال في حياة اليوم. ظلَّ
فضلُ الرحمن وفيًّا لأفكاره، ولم يتراجع أبدًا أو يراوغ أو
يتردَّد، على الرغم مما تعرَّض له من هجمات قاسيةٍ في
باكستان، اضطرتْه أخيرًا لمغادرةِ موطنه والهجرة إلى
الولايات المتحدة عام ١٩٦٨م، والتي مكث فيها أستاذًا
وباحثًا حتى وفاته في العام ١٩٨٨م.
يفرض فضلُ الرحمن على القارئ احترامَ اختياراتِه
الفكريَّة ومنهجَه وأخلاقياتِه في البحث والكتابة، وإن
اختلف معه. تتسم كتابتُه بجدِّية وصرامة وتكثيف، يبتعد عن
الفائض اللفظي، والتبسيط في التحليل؛ فهو لا يذكر معلومةً
إلَّا ويحيل إلى مرجعها، ولا يتبنَّى فكرةً من دون أن يدلِّل
عليها. ولا يذكر رأيًا أو مفهومًا يختلف معه إلَّا ببيانٍ
يحكيه من دون لبس وإبهام، ويحاول أن يلتمس له الحجةَ إن
كان له إليها سبيل. هكذا يتعاطى مع الآراء والمواقف
الفكريَّة المختلفة معه بإنصاف وموضوعية.
(٣) القرآنُ وثيقةٌ أخلاقيَّةٌ
تسود كتاباتِ فضل الرحمن دعوةٌ لتموضعِ الإسلام في
سياقه الأخلاقي، وقراءةِ القرآن أيضًا في ضوء ذلك، وتؤكِّد
دعوتُه على أنَّ الإسلامَ دينٌ أخلاقي، والقرآنَ وثيقةٌ
أخلاقيَّةٌ ثمينة. وهي دعوةٌ ترتسم صورتُها، وتجد
تطبيقاتِها أوَّلًا في أعماله. وهو ما يرد التوكيدُ عليه
في مواضع مختلفة من كتاباته، فمثلًا يقول: «لقد أكَّدنا
أكثر من مرة، في ما سبق، أن الدافع الحيوي للإسلام كان
دافعًا أخلاقيًّا، وأشرنا إلى أن التصوُّرات المتعلِّقة
بالعدالة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في القرآن استُنبطتْ منه.»
٩
فضلُ الرحمن باحثٌ أخلاقي من طراز فريد في تكوينه
ومنهجه. كانت شخصيتُه مدرسةً في الأخلاق، وكتاباته متقنة،
أراه مثالًا فريدًا ينبغي أن يترسَّم الجيلُ الجديدُ من
الباحثين المسلمين أخلاقيَّاتِ البحث العلمي لديه، وطريقةَ
تكوينه وتعليمه الرصين. كان يتعامل بأخلاقية رفيعة مع أشرس
خصمَين من جيله، تلقَّى منهما ضرباتٍ مؤلمة في باكستان.
يكتب، وهو يثني على جهودهما بتبجيل، في تصدير كتابه
«الإسلام وضرورة التحديث»، على الرغم من قسوتهما البالغة
عليه: «أود أن أذكر اثنَين من المثقفين الباكستانيين، أبو
الأعلى المودودي واشتياق حسين قريشي، وقد رحلا عن عالمنا
في أيلول (سبتمبر) ١٩٧٩م، وكانون الثاني (يناير) ١٩٨١م. وكان
رحيلُهما خسارةً للإسلام، رغم انتقادي القاسي، والمبرَّر
كل التبرير كما أعتقد، لهما.»
١٠ كانت مواقفُ المودودي من فكر فضل الرحمن
قاسيةً في إشاعة التشكيك بأفكاره ورفضها، وعلى أثر هذه
المواقف عمل أتباعُ المودودي وجماعتُه على تأليب الشارع
وتجييش الجمهور الباكستاني ضد فضل الرحمن، إلى حدِّ حدوث
سلسلة من الاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات انتهتْ
بتهديدِه بالقتل، وتخلِّي الرئيس أيوب خان عنه في تلك
اللحظة الحرجة. اضطر فضلُ الرحمن أخيرًا للاستقالة من
رئاسة المعهد الذي كان يقوده، والهجرة إلى الولايات
المتحدة.
حفظ فضلُ الرحمن القرآنَ بعمر عشر سنوات بتوجيه والده
وإشرافه. وتعلَّم على يده في المنزل معارفَ الدين التراثية،
وكان أبوه تعلَّم هذه المعارفَ في مدرسة «ديوبند» شمال
الهند. انخرط فضلُ الرحمن عام ١٩٣٣م في الكلِّية بلاهور،
ونال شهادةَ الماجستير من جامعة البنجاب عام ١٩٤٢م. وفي عام
١٩٤٩م، حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة أكسفورد. وأصاب
تكوينًا لغويًّا متنوعًا، فكان يعرف مضافًا إلى لغته الأم
الأُردية: العربية والفارسية والإنجليزية والألمانية
والفرنسية والتركية والإندونيسية، والإغريقية واللاتينية
القديمتَين.
يسعى فضلُ الرحمن في كتاباته المختلفة إلى أن يحيل
على القرآن، ويتخذه مرجعيَّةً في تفكيره واجتهاداته، وهو
في ذلك يحذِّر من أن يقع في أسر رؤيةِ المفسِّرين، أو يغرق
في آثارهم الغزيرة؛ فهو يرى أنَّ «التفاسير بطبيعةِ منهجها
لا يمكن أن تؤدِّي إلى تبصُّر كاملٍ بالقرآنِ الكريم،
وإعطاء نظرةٍ متماسكة عن العالم الغَنِيِّ الذي يزخر به.»
١١ لذلك يقترح منهجًا موضوعيًّا ينظر للقرآن ككل،
ولا يقطعه فيأخذه آيةً آيةً، وينظر إلى كل آية وهي منفصلة
عن سياقها القرآني الكلِّي. وينبِّه فضلُ الرحمن إلى أنَّ
أيَّةَ قراءةٍ ترمي إلى أغراض خاصَّة تنتهك حرمةَ القرآن،
عندما يقول: «القرآن يجب أن يُدْرَسَ دراسةً تُظْهِرُ
وَحْدته في كلِّيتها. أما اختيار بعض الآيات من القرآن
لتلبية الأغراض الذاتية للملاحِظ أو الدارِس، فإنَّ
الاختيارَ سيؤدِّي بالضرورة إلى انتهاكِ حرمة القرآن،
وينتهي إثر ذلك إلى اختصارات مبتسرة لا تُخفي خطورتَها.»
١٢
القرآنُ كتابٌ تسري فيه روحٌ واحدةٌ، مضامينُه
تتوحَّد في نسيج عضوي مُتماسِك، ويسوده نظامٌ كلِّي،
يتطلَّب فهمُه أنْ نكتشف المنطقَ الذَّاتي الذي يتحدَّث فيه
القرآنُ عن نفسِه. في القرآنِ تتحدَّث كلُّ فكرة ومفهوم
ومقولة للأخرى، وتتبصَّر كلُّ آية دلالتَها ووجهتَها في
أفق آياته الأخرى بمجموعها. القرآنُ كتابٌ تحيلُ فيه
الفروعُ على الأصول، والجزئياتُ على الكلِّيات، والصغرياتُ
على الكبريات. التوحيدُ هو حجرُ الزاوية في كل ذلك؛ إذ
ينبثق منه، ويتفرَّع عنه، ويعود إليه كلُّ شيء أورده
القرآنُ.
اتَّبع فضلُ الرحمن في فهمه للقرآن منهجًا يُبتنى على
«التركيب المنطقيِّ» للموضوعاتِ، ولم يعمد إلى الترتيب
الزمني، أو التفسير التجزيئي. إنه منهج يُضِيءُ القرآنَ
بلغتِه، ويكشفُ عن دلالاتِ شبكةِ مصطلحاتِه بمعجمه الخاص.
يقترح فضلُ الرحمن طريقةً في التفسير «تقوم على أساس حركة
مزدوجة: من الوضعية الراهنة إلى الأزمان القرآنيَّة، ثم في
عودةٍ إلى الزمن الراهن … بمقدار ما سيكون بإمكاننا أن
نقوم بهاتَين الحركتَين بنجاح، فسوف تصبح تعاليمُ القرآن
حيَّةً، وفعَّالةً مرة أخرى.»
١٣
مع أن هذا المنهج دعا إليه وتبنَّاه بعضُ المفسِّرين
والباحثين في العصر الحديث، غير أننا قلَّما نقرأ محاولةً
متماسكةً منتظمةً ترتقي إلى الضبط المنهجي والدقة التي
اتَّسمت بها جهودُ فضل الرحمن. لعلنا لا نبالغ حين نصف
منجزَه في هذا الحقل البالغ الأهمية بأنه مسعًى جادٌّ
لتكريس منهجٍ في فهم القرآن يحرِّره من أكثر أسوار الأفق
التاريخي التكراري المغلق للمفسِّرين الذي أفضى لانحسار
حضورِ القرآن في حياة المسلم، على الرغم من ضجيج أصواتِ
الإسلاميين وتفاقُم صيحاتِ شعاراتهم عن القرآن، وكلامهم في
نسبةِ ما هو على الضدِّ من منطقِ القرآن وما ينشده، إليه.
إن هذا الفهمَ تفرضه ضرورةُ إعادة اكتشاف الأبعاد المضيئة
للحياة الروحية والأخلاقية القرآنية، والافتقارُ المعنوي
للمسلم اليوم لهذه الحياة، وضياعُه في كهوف التراث التي لا
تقوده إلَّا لمزيد من الضياع.
مع أننا نجد فضلَ الرحمن في غير موضع من كتاباته
يدعونا إلى الانتباه لأولئك الذين «يُسْقِطون على القرآن
وجهات نظرهم، أو نظر المدارس الفكرية التي ينتمون إليها …
يجب رفض اتخاذِ القرآن سترةً تُخْفِي عورةَ الآراء
المنحازة لبعض المثقفين.»
١٤ لكن فضلَ الرحمن لم يتنبَّه إلى أنه لم يصل
المدياتِ التي كانت ترمي إليها دعوتُه، ولم يستطع أن ينجز
كلَّ وعوده؛ لأن قراءتَه للنص القرآني، ككل عملية قراءة
لأي نص، هي عملية تبادلية، يشترك في إنتاج المعنى فيها
النصُّ والقارئ. القارئُ ليس آلةَ تسجيل صامتة صماء،
تتلقَّى المعنى كما هو، فمثلما يبوح النصُّ للقارئ بمعناه،
يلوِّن القارئُ المعنى بالأفق التاريخي الذي يعيش فيه. حتى
التفسير الذي يتحدَّث فيه القرآنُ عن القرآنِ، والذي ينشده
فضلُ الرحمن وغيره، لا يمكنه الإفلاتُ من ذلك.
(٤) الرحمن اسم مرادف للفظ الله في القرآن
ينظر فضلُ الرحمن إلى القرآن بوصفه كتابًا أخلاقيًّا،
تتلخَّص رسالتُه في الرحمة والأخلاق، ففي تعليله للوحي يذهب
إلى أنَّ الوحيَ مظهرٌ لرحمة الله من جهة، وتعبيرٌ عن ضعف
خبرة البشر أو غيابها، في حين يخصُّ إدراكَه وحوافزَه
الأخلاقيَّة من جهة أخرى. ويشير إلى «أن الرحمن هو الاسم
النعتي الوحيد الذي يُستعمل كثيرًا في القرآن كمرادف للفظ الله.»
١٥ وينبِّه إلى أن «غريزة الرحمة» متأصِّلةٌ في
الرسول عليه السلام
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ،
١٦ وأنه المثلُ الأعلى في الأخلاق،
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
١٧
لا يكرِّر فضلُ الرحمن مفهومَ المتكلِّمين المسلمين
للوحي، بل يصوغ مفهومَه الذي يقترب من مفهومِ بعض
المتصوفة؛ فالوحي — كما يرى — تجربةٌ عميقةٌ يتفاعل معها
النبي، وتعمل على إعادة بناء البُعد الروحي لشخصيته. يكتب
فضلُ الرحمن: «إن تجارب الوحي تشمل تمدُّدًا أو توسُّعًا
لذات الرسول التي بواسطتها استطاع أن يطوِّق كلَّ الحقيقة
في شموليَّتها.»
١٨ أما القرآنُ فهو من منظور فضل الرحمن كلُّه
كلمة الله وكلُّه بلغة محمد (
ﷺ)؛ إذ يكتب: «القرآن
بتمامه كلام الله، وهو بالمعنى الحقيقي بتمامه كذلك كلام محمد.»
١٩ وكأنه يريد القولَ إن الوحيَ ظاهرةٌ
ديناميكيةٌ، وإن القرآنَ كتابٌ يتجلَّى فيه اللهُ للناس،
كما تتجلَّى فيه شخصيةُ النبي محمد للناس أيضًا، ففيه نستمع
إلى أصداءِ روح النبي الكريم، وانعكاسِ صورةِ الواقع الذي
يعيش فيه، وملامح رؤيته للعالم. وكان فضلُ الرحمن قد أشار
مبكرًا إلى هذه القضيَّة في كتابِه «الإسلام»، فأصبحت
الوثيقةَ الأبرزَ لإدانته، بموازاة الآراءِ الأخرى له
المخالفةِ للتيَّار التقليدي، ومنها رأيه في الفوائدِ
المصرفيَّة، وتنظيمِ الأسرة، والذبحِ الآلي. تشبَّث خصومُ
فضل الرحمن بتفسيره للوحي، واتُّهم بأنه يقول إن القرآنَ
كتابٌ اشترك النبي فيه مع الله. وقد كتب فضلُ الرحمن
مدافعًا عن موقفه هذا قائلًا: «دافعتُ عن فكرة أنَّ القرآن
نزل بوحي شفوي، وهو الاعتقاد الكوني، لكن بدا لي أنَّ
الروايات التقليدية المتداوَلة عن الوحي تنقل صورةً
ميكانيكية وخارجيَّة وظاهرية عن العلاقة بين محمد
(
ﷺ) والقرآن. يأتي جبريل وينقل إليه رسائل الله،
وكأنه ساعي بريدٍ يقوم بتوصيل الرسائل. يورد القرآنُ أنَّ
الملاك «نزل على قلب» محمد (
ﷺ). لقد قلتُ إنَّ
القرآنَ هو بكامله كلمةُ الله، بما يعني أنه معصومٌ عن
الخطأِ وخالٍ من الزور، لكنه جاء بكامله على لسان النبي
(
ﷺ) وهو نابع من قلبه.»
٢٠ وكأننا مع كلام فضل الرحمن نتحسَّس أصداءَ صوت
محيي الدين بن عربي الذي لم يجعل النبي متلقيًا
ميكانيكيًّا سلبيًّا للوحي، والذي اختصر مفهومَه للوحي
بقوله: «فمن شجرةِ نفسِه جنى ثمرةَ غرسِه.»
٢١
ونجد ما يحاكي هذا الفهمَ فيما سمَّاه عبدُ الكريم
سروش: «بسط التجربة النبوية»، و«كلام محمد»، وهو يتحدَّث
عن كيفية تلقِّي النبي للوحي، وكيف أنه كالنَّحلة التي
تعيدُ تكوينَ الرحيق عسلًا، وليس كالببغاء التي هي صدًى لما تسمع.
٢٢ «القبض» و«البسط» مصطلحان يستعيرهما سروش من
المعجم الصوفي.
تتجلَّى براعةُ المفكِّر في مقدرته على اجتراح قاموسه
الاصطلاحي في ضوء منظومته الفكريَّة، ويلتقي قارئُ فضل
الرحمن بشبكةِ مصطلحاتٍ لا يعثر على بعضها عند غيره؛ فهو
يعبِّر بما يسميه: «إسلام الحدِّ الأدنى» عن الموقف الذي
يختصر الشريعةَ بالأركانِ الخمسة، وقوانينَ الأحوال
الشخصية، في حين يسمِّي من يضيف إلى ذلك الحدودَ ﺑ «الإسلام السَّلْبي أو العقابي».
٢٣ ويناظر ذلك استعمالُ عبد الكريم سروش لمصطلح
«الأقلي والأكثري في الدين والفقه».
٢٤
تعتمد أعمالُ فضل الرحمن على القرآن، وتتخذه دليلًا
إلى ما تبحث عنه وترشد إليه من مفاهيم ومواقف. وهي ميزة لا
نعثر عليها في أكثر أعمال غيره، فيما يكتبه ويتحدَّث به عن
الدين والإسلام والقرآن من المفكِّرين الجدد خارج الفضاء
اللغوي للعربية.
(٥) كتاب الإسلام لفضل الرحمن
ألَّفَ فضلُ الرحمن كتابَ «الإسلام» عام ١٩٦٥م، وقدَّم
فيه عرضًا تحليليًّا مكثَّفًا، لا يخلو من نقدٍ لنشأةِ
وتطوُّرِ معارفِ الدين الإسلامي، وكيفيةِ تمثُّل المسلمين
لهذه المعارف في أربعة عشر قرنًا، والآثار التي تمخَّضَت
عن ذلك في ثقافتهم وأنماطِ تديُّنهم. يرسم لنا هذا الكتابُ
خارطةً ترشدنا إلى عالمِ مفاهيم فضل الرحمن، وجذورِ أفكاره
ونواتِها الجنينيَّة التي تجلَّت بوضوح في مؤلَّفاته
اللاحقة.
على الرغم من النقد المهم الذي يسدِّده فضلُ الرحمن
لتراث التفسير، والحديث، وعلم الكلام، الأشعري خاصة،
والفقه وأصول الفقه، والفلسفة والتصوف، وعلى الرغم من
إلحاحه على ضرورةِ إعادة اكتشاف رسالة الإسلام الأخلاقية
في سياقٍ قرآنيٍّ، وبناءِ فهم ديناميكي للتوحيد في سياق
قرآني، وإنتاجِ فقه في سياق قرآني، فإن فضلَ الرحمن لم
يحدِّثنا في كتابِه هذا أو آثارِه الأخرى عن آليةٍ
للتَّعاطي مع القرآن، تكشف لنا طاقتَه الحيويةَ
الديناميكية، ونتبصَّر فيها رسالتَه الأخلاقيَّة، أي إنه لم
يقترح أدوات نظر ومناهجَ بديلة، يتحرَّر فيها فهمُ القرآن
من أدوات نظر ومناهج القدماء التي أنتجت كلَّ ذلك التراث،
الذي يطالب فضلُ الرحمن بعبوره؛ لأنه لا ينتمي إلى عصرنا
بل إلى عصرِ إنتاجِه بكل ملابساته، ولأنه لم ينطق بروحِ
القرآن ويبوح بما ينشده، بل عمل على إهدار طاقة القرآن
الأخلاقية الروحية الخلاقة.
لم يضع فضل الرحمن مناهجَ بديلةً، وهو يعرف، كما يشير
إلى ذلك في أكثر من مورد في آثاره، أنه لا يمكننا أن ننتج
رؤيةً جديدةً وتفسيرًا يواكب العصر للقرآن والحديث في آفاق
أدوات النظر والمناهج الموروثة للمفسِّرين والمحدِّثين
والمتكلِّمين والأصوليين والفقهاء والمتصوفة والفلاسفة
والمناطقة والنحويين والبلاغيين. إن الفهمَ الجديدَ الذي
يصرُّ عليه فضلُ الرحمن يتطلَّب الانتقالَ من زاويةِ نظرِ
القدماءِ إلى زاويةِ نظرٍ تتموضع في الأفق التاريخي الذي
نعيشه.
لا شك أن حجرَ الزاوية في الفهم الجديد هو قدرتُنا
على إنتاج مناهجِنا ومنطقنا في الفهم وأدوات قراءتنا
للنصوص الدينية. مشكلةُ تفكيرنا الديني أنه لا يزال عاجزًا
عن عبور أسوارِ التراث المغلقة، وما دمنا نجول في مدارات
هذه الأسوار لن نتبصَّر الطريقَ الذي يقودنا للخلاص.
ختامًا تنبغي الإشادةُ بجهودِ الصديق د. حسون السراي
الذي نقل هذا الكتابَ إلى العربية، وحرصِه الشديد على
العودة إلى المراجع العربية في النصوص التي نقلها وترجمها
المؤلف. وقد تطلَّبَتْ عمليةُ التنقيب عن النصوص العربية في
مظانِّها من المترجم أن يطالع عدةَ مجلَّدات أحيانًا بحثًا
عنها. أعانَ المترجمَ إتقانُه للفرنسية بموازاة الإنجليزية
ولغته الأم العربية على تعريب ما ورد في الكتاب من نصوصٍ
ومصطلحات بالفرنسية.