مقدمة وإهداء

في سبيل الحقِّ والجمالِ والقوةِ أحيا، وفي سبيل الحقِّ والجمالِ والقوةِ أكتب، وعلى مذبح الحقِّ والجمال والقوة أضع هذه الأوراق المخضلة بدم فكر ومهجة قلب، قربانًا إلى تلك الأقانيم العلوية، وهدية من السحاب إلى العباب.

•••

في الدنيا الحق، ولو كان كل ما نشهد من الدنيا باطلًا لوجب أن يكون وراء هذا الباطل المموه شيءٌ صحيحٌ لا تمويه فيه، وهذا الشيء هو جوهر الحياة؛ نصيب كل امرئ من الحياة على قدر نصيبه منه، وهو الحق، فمن عرفه لا يسعه أن يعرض عنه، ومن لم يعرفه فهو من هاوية الهلاك عنصره وإلى غير السماء قبلته. وكل ما لم يُقصد به وجه هذا الحق فهو من قشور الحياة المنبوذة لا من لبابها المدخر.

•••

وفي الدنيا الجمال، لا بل الجمال غاية الدنيا التي لا غاية بعدها، قد نعرف لكل شيء نفعًا يرمى إليه، ولسنا نعرف للوجود نفسه نفعًا نبتغيه من ورائه، ولا غاية نخلص إليها بعد مفارقته. كلا لا نفع ولا غاية وراء الوجود غير العدم! وإنما هو أمنية نتمناها لذاتها، وحالة نتطلع منها ولكن إلى صفة أخرى من صفاتها، إنما هو صورة تتملاها النفس لأنها تهواها، وليس بسلعة تطلبها لأنها تفتقر إليها. والكون كله ما كنهه وما ميسمه؟ أهو آية صانع مبتدع، أم مسعاة كادح منتفع؟ كذلك خير ما في النفوس ما كان جماليًّا كهذا الكون ولم يكن نفعيًّا كعروضه؛ لأن النفع عرضي ينتهي بغايته، وأما الجمال فأبدي لا نهاية له.

•••

وفي الدنيا القوة، لا بل هما شيء واحد. فما ضمنت الدنيا قط إلا قوة، وما عرفت الدنيا قط ضعفًا، لأن الضعف ما كان سبيلًا إلى فناء، ولا فناء على الحقيقة في هذا العالم الباقي. إنما يشكو الضعف مَنْ يعرض له الفناء بصورة من الصور، ومَنْ تتغير به الحال من حين إلى حين.

•••

قد تختصم القوة الصغيرة والحق الصغير، وقد يختلف الجمال المحدود والحق المحدود. ولكن القوة الكبرى والحق الأكبر لا يختصمان، والجمال الشامل والحق الخالد لا يختلفان. على أنه لا حق وراء هذه الحدود ينفرد عن قوة ولا جمال، ولكنها كلها عناوين شتى لقدرة واحدة، هي القدرة التي يبدأ منها كل شيء وإليها يعود.

فإلى تلك القدرة أتوجه بقرباني ليكون لها نصيب من عملي، وعسى أن يكون لعملي نصيب منها.

عباس محمود العقاد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤