نظرات في فلسفة المعري١ (١)

مذهب النشوء

إن مذهب دارون حديث ولكن تنازع البقاء قديم، شعر به الناس منذ وجدوا، وصرَّح به حكماؤهم وشعراؤهم في الأمثال والأشعار كلٌّ على طريقته ومنواله. فمنهم من وصفه ولم يفطن إليه، ومنهم من فطن إليه ولم يعممه، ومنهم من شعر به شعور المتألم منه المنكر عليه.

ولعل أشد شعراء الأمم نقمة على تنازع البقاء وذكرًا له في نظمه ونثره أبو العلاء المعري، ولا عجب في ذلك؛ فإن المعري نزل إلى معترك هذه الحياة العصيب أعزل من الأسلحة المنجحة فيه، نزل إليه يتيمًا فقيرًا سوداوي المزاج مفرطًا في الحس، وكان أرفع خُلُقًا من أن يسف إلى منافسة أمثاله الشعراء على ما يتكسبون به. وكان رحيمًا رحمة كادت تكون مرضًا، وناهيك بمن يشفق على البرغوث أن يُقتل، وعلى النحل أن يشتار عسله. وليس بواحدة من هذه الخلال يحمد المرء غب تنازع البقاء، أو يكون ممن يغفلون عن وطأته وينظرون إليه بعين الرضا والارتياح، وهو ما هو عنفًا وقسوة وأثرة وخداعًا وانتهاكًا في معظم الأحيان لحرمات الأخلاق الفاضلة والمبادئ الرفيعة. فلذلك شعر به المعري شعور المقاتل الأعزل بالهزيمة، وأوحى الألم والإشفاق إلى وجدانه قبل تسعة قرون ما أوحاه الاطلاع والاستقصاء والتنقيب إلى فكر دارون في الزمن الأخير.

ولو كانت إشارة المعري إلى تنازع البقاء كلمة بنت لحظة ابتعثها الألم فسطرها القلم، لما كان في هذه الإشارة ما يجيز لنا أن نقرن اسمه بتنازع البقاء، ولكان الأحرى بتلك الإشارة أن تردد في معرض الاستشهاد كغيرها من الخواطر الشعرية. ولكن إشارات المعري في هذا المعنى كانت أشبه بالتدقيق العلمي منها باللمحة الشعرية، وأقرب إلى التأمل الدائم المتسلسل منها إلى النظرة العارضة التي لا تبدأ في الخلد حتى تنتهي وينطوي أثرها. فإنك لا تُقلِّب صفحة من اللزوميات أو غيرها إلا سمعت منها أنة أو أنات يتغير موضوعها ومبناها، ولا يختلف مضمونها وفحواها، وكلها نعي وتبكيت للعالمين على ظلمهم وتنافرهم ومكر بعضهم ببعض، وكأن الآلام المبرحة التي يعرفها المخذول في كل حرب ويجهلها الظافر، قد جسَّمت هذه الحالة له وغلظتها، فأحاط بدقائقها البعيدة، ولم تخف عليه خافية من وجوهها المختلفة بين أنواع المخلوقات، فبدأ بالشكوى من التنازع بين الناس ولحظه على حقيقته، وهو أقرب الأشياء إلى أذهان الناس لو التفتوا إليه، ولكنك على كثرة الشعراء لا تقرؤه مُمثَّلًا في شعر أحد، كما هو مُمثَّل في شعر المعري، فمن قوله في ذلك:

أما لكمو بني الدنيا عقول
تصد عن التنافس والتعادي
أذاة من صديق أو عدو
فبؤسًا للأصادق والأعادي

وأوضح منه في هذا المعنى قوله:

تنازع في الدنيا سواك وما له
ولا لك شيء في الحقيقة فيها
ولم تحظ في ذاك النزاع بطائل
فمتفقوها مثل مختلفيها

وأوضح من قوليه هذين قوله:

تناهبت العيش النفوس بقوة
فإن كنت تسطيع النهاب فناهب

وزاد على ذلك فبيَّن ضرورة هذا الخلاف فقال:

لولا التخالف لم تركض لغارتها
خيل ولم تقن أرماح وأسياف

وأحسبه استطرد من النظر في أطوار الإنسان إلى النظر في أطوار المخلوقات كافة، فأجمل الحكم عليها في هذا البيت الجامع:

ولا يُرى حيوان لا يكون له
فوق البسيطة أعداء وحسَّاد

وفصل هذا القانون العام في عدة مواضع من لزومياته فقال:

يغادر غابه الضرغام كيما
ينازع ظبي رمل في كناس
سجايا كلها غدر وخبث
توارثها أناس عن أناس

وقال:

تدري الحمامة حين تهتف بالضحى
أن الأجادل لا تطيل جدالها

وقال وفيه إلماع إلى توارث الخوف بين الحيوانات:

تتبع آثار الرياض حمامة
ويعجبها فيما تزاوله النقر
تهم بنهض ثم تثني برغبة
فما شعرت حتى أتيح لها صقر

وهو لا يُفرِّق بين الأقوياء والضعفاء في هذا النزاع، بل يشملهم به جميعًا كما جاء في قوله:

ظلم الحمامة في الدنيا وإن حسبت
في الصالحات كظلم الصقر والبازي

ومن كلامه ما يصح أن يعد تلميحًا إلى غاية هذا النزاع وهي بقاء الأصلح، وانتفاع الغالب برجحانه على المغلوب كما يؤخذ من قوله:

ولو علمتم بداء الذئب من سغب
إذن لسامحتم بالشاة للذيب

ومثله قوله:

ولولا حاجة بالذئب تدعو
لصيد الوحش ما اقتنص الغزال

ومثله أيضًا:

وسخط الظباء بما نالها
تولد منه رضى الحابل

وأحيانًا يتجاوز القول بتنازع البقاء وبقاء الأصلح إلى تقرير هذا الرأي الذي قرره النشوئيون حديثًا؛ وهو أن لكل حي على الأرض سلاحًا خاصًّا يتقي به عدوه ويكدح به لنفسه، وليس أصرح في هذا الرأي من هذا البيت:

وما جعلت لأسود العريـ
ـن أظافير إلا ابتغاء الظفر

وأقل منه صراحة في ذلك البيتان:

إذا كف صل أفعوان فما له
سوى بيته يقتات ما عمر التربا
ولو ذهبت عينا هزبر مساور
لما راع ضأنًا في المراتع أو سربا

فإذا راجعت الأبيات المتقدمة مع كثير من أمثالها التي اكتظت بها دواوين المعري، أمكنك أن تجزم بأن الرجل سبق أسبق المتأخرين إلى إدراك تنازع البقاء وما يلابسه من الأفكار. أدركه متكررًا جامعًا لا متفرقًا طارئًا. فإذا قيل: إن دارون واضع المذهب في عالم العلم، ساغ لنا أن نقول: والمعري واضعه في عالم الأدب والشعر.

ويظهر أن فرط الشعور بتنازع البقاء لا ينفك عن فرط الشعور بالمحافظة على الذات. وهذا أمر طبيعي معقول. ولا يعرف قيمة الشيء كمن يعرف مقدار التزاحم عليه، ولذا كثر كلام المعري في حب الحياة والافتتان بالدنيا، كما كثر كلامه في التنافس والتباغض. فهو يردده في قصائده ولا يبرئ منه نفسه، ويتهم من يُظهر خلاف ذلك بالكذب والمراء كما قال في لزومياته:

شقينا بدنيانا على طول ودها
فدونك مارسها حياتك واشقها
ولا تظهرن الزهد فيها فكلنا
شهيد بأن القلب يضمر عشقها

وكما قال أيضًا:

ومن العجائب أن كلًّا راغب
في أم دفر وهو من عيابها

إلى كثير غير ذلك. وهو لا يكتفي هنا أيضًا بالحكم على الإنسان فحسب، بل يشمل بحكمه الأحياء جميعًا فيقول:

أرى حيوان الأرض يرهب حتفه
ويفزعه رعد ويطمعه برق

ويقول كذلك:

تسريح كفك برغوثًا ظفرت به
أبر من درهم تعطيه محتاجًا
كلاهما يتوقى والحياة له
حبيبة ويروم العيش مهتاجا

وتعميم المعري الحكم على الإنسان والحيوان معًا كلما نسب إلى الإنسان خُلُقًا من الأخلاق طريقة ذهنية عجيبة لا نستطع تأويلها، إلا إذا قلنا بأن الرجل كان يعتقد أن الإنسان والحيوان من عنصر واحد، وأنه كان في صميم نفسه نشوئيًّا بالغريزة، وإن لم يُعلم بذلك فكره علمًا يصح الاستدلال به.

في التشاؤم

على أن هذا الارتباط بين الشعور بتنازع البقاء والشعور بحب البقاء يفسر لنا سر فلسفة المغالين في التشاؤم المبالغين في النقمة على الوجود، فليسوا هم بأشد الناس كرهًا للحياة، كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، ولكنهم أشد الناس حبًّا لها وضنًّا بها. وهم لا يسبون الحياة سب المحتقر المزدري، بل سب الرجل المرأة التي يتوله بها ويعبدها، ثم لا يحظى بطائل منها، ولا يجد عندها صدى غرامه بها.

وقد انتهى النظر في هذا المعترك الضروس بالمعري، كما انتهى بعده بإمام المتشائمين أرثر شوبنهور إلى نهاية واحدة، فكلاهما يقول لك ما خلاصته: ما دامت الدنيا كفاحًا لا راحة فيها، وما دام الغالب اليوم يُغلب غدًا، والموت يهلك الغالب والمغلوب على السواء، فالحياة وقر فادح، والعيش عبث، والعدم أفضل من الوجود. إلى آخر ما اتفق عليه مزاجهما من إيثار العزلة، والاستئناس بالحيوان، والقول بإرادة الحياة مع التنفير منها واحتقار النساء وتحريم الزواج. ومن هنا يظهر خطأ الاثنين، بل خطأ المتشائمين جميعًا في التعقيب على تنازع البقاء. إذ لا شك أنه لو وقعت هذه الخواطر لأناس ذوي مزاج مختلف عن مزاجهم لما استخلصوا منها هذه النتيجة، ولرأوا أن الأولى بهم أن يقولوا: ما دامت الدنيا غلابًا فكن أنت الغالب، وما دام الموت قضاء لا مفر منه، فلا يهممك أمره، وليهممك أن تنال من الحياة أقصى ما ينال فلان، يدركك الموت سيدًا خيرًا من أن يدركك مسودًا، وليس العجيب أن يتفاوت حكم الناس في المسألة الواحدة من النقيض إلى النقيض، ولكن العجيب أن نعلم بما للدنيا من ألوان لا عداد لها، وبما للناس من حالات وميول لا يحصرها الفكر، ثم نطالبهم بالاتفاق على الكبائر والصغائر، أو نقدح مثلًا في فلسفة المتشائمين؛ لأنهم يرون الحياة من جنبها المظلم، ونحن لا نراها إلا من الجانب الأبيض المنير. ومن الخطأ أن يرفض النُّقاد فلسفة التشاؤم جملة لبعد أصحابها عن حياة الأعمال الدنيوية، ولا يذكروا أن هذه الدنيا غاصة بالنقائص، وأن هناك جبلات أسرع إلى استكناه هذه النقائص من سواها، وأنها ليست بطبيعة الحال جبلات أهل الأعمال؛ لأن هؤلاء مصروفون بأعمالهم عن مشاهدة ما يقع حولهم، ومن أين للمقاتل المنهمك في المعركة أن يحيط بما يجري في غضونها؟

وإنما قلنا: اتفق مزاج المعري وشوبنهور، ولم نقل اتفق عقلهما؛ لأننا نعتقد أن المتشائمين كلهم من مزاج واحد، وأن هذا هو علة اتفاقهم في الأقيسة التي يذهب فيها الناس مذاهب شتى، وإدراكهم المسائل على وتيرة واحدة، وإن كانت مما تتشعب فيه الأفكار. فقد اتفق المعري وشوبنهور على كل رأي اشتركا في الإلمام به، ولو لم يكن من أصول فلسفة التشاؤم، وإليك مثلًا إدراكهما للزمان؛ فإن المعري يتصوره كأنه نَفَس طائر في أثر نَفَس، وكأنه أجزاء متفرقة يجمعها كل واحد فيراقبه مراقبة من لا يسهو عنه، ويتبع كل نفس يمر بحسرة المشيع الآسف، ومن هذا النحو قوله:

نفس بعد مثله يتقضى
فتمر الدهور والأحيان

قوله:

لهفي على ليلة ويوم
تألفت منهما الشهور

وقوله:

أما المكان فثابت لا ينطوي
لكن زمانك ذاهب لا يثبت

ويلحق به قوله:

قدم الزمان وعمره إن قسته
فلديه أعمار النسور قصار

وكذلك يقول شوبنهور مع الفرق بين الأسلوبين الشعري والفلسفي: «الزمن هو ذلك الذي يفتأ يجعل الأشياء لا شيء في أيدينا، فتفقد بذلك قيمتها.» ويقول: «نحن نسلب يومًا كل مغرب شمس.» ويقول: «إن وجودنا مستقر على الحاضر الذي ما يني أبدًا متسربًا طائرًا فلا بد له؛ أي لوجودنا، من أن يتلبس بالحركة الدائمة الدائبة بلا أمل في الوصول إلى الراحة التي ننشدها، مثلنا في ذلك مثل المنحدر من جبل عالٍ فهو يسقط إذا حاول الوقوف.»

ولا يشعر بالزمن هذا الشعور إلا الذي يحصي كل لحظة تمر به سآمة وألمًا، كأنه السائر المتعب يلتفت بعد كل خطوة يخطوها إلى المسافة التي خلَّفها وراءه والمسافة التي لا تزال أمامه. ولا تخطر فكرة استقرار الوجود على الزمن إلا لمن يرى أن الحياة إن هي إلا زمن يمر لا تكوين يستتم قواه وجزء من الطبيعة يأخذ منها وتأخذ منه. ولسنا نقول: إن الزمن ثابت، والمتشائمون يخطئون إذ يتصورونه غير ذلك، وإنما نقول: إن تصورهم هذا خاص بمزاجهم، فكم من الناس حتى الفلاسفة والمفكرين والعلماء لا يشعرون بالوقت منعزلًا عن الحياة؛ لأنهم يقيسون الحياة بحركاتهم التي هم مستغرقون فيها، لا بحركات الأفلاك والسيارات. وكم من الناس في قرار وجدانهم لا يتصورون للوقت وجودًا فضلًا عن تصورهم أن الوجود مستقر عليه.

والمعري وشهوبنهور سيان في الرأفة بالحيوان واستطلاع أطواره وعاداته. ولقد رأينا كيف كان المعري يستعرض أخلاق الإنسان في طبائع الحيوان، فانظر رأي شوبنهور في ذلك، يقول هذا الفيلسوف: «أي لذة تداخلنا عندما نرى حيوانًا مطلقًا يدبر شئونه بنفسه غير معترض ولا مسوق. تراه إما يتلمس طعامه، أو يتعهد صغاره، أو يخالط الحيوانات من جنسه إلى نحو ذلك. وإن هذا لهو الذي ينبغي أن يكون، وهو الذي لا يمكن أن يكون سواه. فإن كان ذلك الحيوان طائرًا متَّعتُ نفسي بالنظر إليه برهة من الزمن، لا بل فليكن فأرًا مائيًّا أو ضفدعًا، فذلك لا ينقص من سروري بالنظر إليه. ويعظم سروري به إن كان قنفذًا أو عظاة أو أيلًا أو غزالًا. وما كان التأمل في أحوال الحيوانات ليسرنا لولا أننا نأنس فيها حياتنا مصغرة بسيطة.»

ولم يعدُ شوبنهور الصواب في هذا التعليل، إلا أننا لا نجد الناس كلهم يسرون بالتأمل في أحوال الحيوانات كما يسر بذلك المتشائمون. ونظن هذا السرور آتيًا من فرط إحساسهم بالحياة، فلذلك يعطفون على كل حي، ويبحثون عن مظاهر الحياة في جميع طبقاتها. وسيطول بنا الشرح لو تمادينا في المقارنة بين المعري وشوبنهور على هذا النمط، وما المقارنة بينهما إلا بمثابة تحليل لمزاج واحد. ولكن لعل أعجب ما اتفقا عليه وفاؤهما لوالديهما وفاء لم نعهده في الفلاسفة الذين يغتبطون بالحياة ولا يشكون غصصها. فشوبنهور أهدى كتابه الدنيا كإرادة وفكرة إلى والده وأثنى عليه أطيب ثناء في كلمة الإهداء، والمعري رثى أباه أبلغ رثاء وهو القائل:

على الولد يجني والد ولو أنهم
ملوك على أمصارهم خطباء
١  نشرت هذه المقالة والتي بعدها في عددي سبتمبر ونوفمبر من مقتطف سنة ١٩١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤