على أطلال المذهب المادي١

كلما انحط الإنسان في القوة العقلية قلت مساتير الوجود في نظره، فكل شيء عنده يحمل معه تفسيرًا لكيفية وجوده وسبب حدوثه.

شوبنهور

للأستاذ البحاثة فريد وجدي فضيلة خاصة قلَّ أن رأيناها لأحد غيره من كُتَّاب مصر وعلمائها في هذا العصر، وهي فضيلة المثابرة على العمل وخلوص النية للعلم والبحث، فهو لا يفرغ من تأليف مؤلفاته العديدة إلا ليشرع في تأليف جديد. وكفى من آثار هذه الخصلة النادرة أنه استطاع أن يتم دائرة معارفه في وقت لم يكن أصعب فيه من تأليف الكتب، والمطول منها على الخصوص؛ لأنه وقت الحرب. وناهيك بمشاق الطبع في ذلك الوقت واستجلاب كتب المراجعة، وما هو أعظم من ذلك في عقبات الحياة الأدبية عندنا وهو ضيق الصدور وقلة صبر الناس على المطالعات الجدية المطولة، وانكباب أكثرهم على القصص التافهة والموضوعات الفارغة التي لا محصل لها من علم أو خلق أو ذوق، ويقيننا أن الأستاذ وجدي على تقدير الكثيرين بيننا لفضله وثنائهم على جده وإخلاصه وإعجابهم بنزاهته لا يزال مغموط الحق، لا يستوفي حظه الواجب من الإنصاف، وسيعرف له المستقبل عمله أكثر من معرفة الحاضر به.

والكتاب الذي بين أيدينا اليوم من مصنفاته الكثيرة الميمونة هو كتابه «على أطلال المذهب المادي»، وهو سِفر قيم في ثلاثة أجزاء تبلغ زهاء خمسين وثلثمائة صفحة من القطع الكبير. واسم الكتاب ينم على موضوعه، فهو مخصص لنقض المذهب المادي، وإيراد أقوال طائفة من كبار الفلاسفة والعلماء على بطلانه، والدلالة على قصر نظر المتشبثين بالمادية البحتة يظنونها آخر ما يُعرف من حقائق هذا العالم، ويُخيَّل إليهم أن «لا» التي يقولونها ليس بعدها «نعم» ولن يأتي بعدها جواب آخر. ويكاد يكون محور الكتاب معنى الجملة التي اقتبسناها من شوبنهور وصدرنا بها هذا المقال.

وأقل ما لهذا السِّفر من الأثر هو أنه يُعلِّم مَن له استعداد للتعلم كيف يشك في شكوكه، وكيف يستضخم هذا الكون الأزلي الأبدي عن أن يكون له حل واحد بسيط يقنع بقبوله أو رفضه، ثم يستريح منه بنعم أو بلا كما يستريح من حل مسألة حسابية عرف جوابها وروجع ميزانها. وجزى الله الأستاذ خير الجزاء على هذه الأريحية العلمية، فإنه أراح طائفة أغرار الملحدين من عبء النظر في عشرات الكتب النفيسة التي لا تصل إليها أيديهم، ولا يظنونها تنفعهم شيئًا، أو تحول نظرهم إلى اتجاه جديد بعد الحكم المبرم الذي أمضوه على هذا الوجود وفرغوا من شأنه. ولو سُئلت رأيي لأبيت إلا أن أكلفهم ثمن الإفاقة من هذا الغرور بكد عقولهم وتلظي نفوسهم؛ لأن الخروج من الجهل الذي أسبغوه على أنفسهم ليس بالمطلب السهل الرخيص المنال. ألا تراهم يمنون على الناس بإيمانهم وتصحيح عقولهم ويجلسون مجالس القضاء فيقولون: «إن العقائد التي رويتموها لنا مشوبة بالأوهام والترهات والخطأ الظاهر للحس، فلا حرج علينا من رفضها حتى يجيئنا من العقائد ما يقوم البرهان على صحته؟» وإنه لقول ينبئ عن قصور في فهم الواجب على الباحث خاصة وعلى الناس عامة؛ إذ أي سلطان في الدنيا يلزم طائفة من الناس واجب التنقيب عن الأدلة المثبتة للعقائد الصحيحة ويطرح عبء هذا الواجب عن الطائفة الأخرى؟ ولماذا تنتظر هذه الفئة من أغرار الملحدين في مكانها كأنها الشاري في الحانوت يجلس على كرسيه ويقوم البائع بعرض السلع عليه واحدة بعد واحدة، فيقبل ويرفض وهو متكئ في موضعه؟ لِمَ يكون هذا البحث واجب ذلك البائع ولا يكون واجبها؟ لِمَ تنتظر أن يجيئها اليقين من غيرها ولا تعمل لاستخراجه من ذات نفسها؟ وهب كل دليل أتى به الناس من قبل على صحة الإيمان قد بطل وانتفى، فهل هذا مسقط عن أحد منهم فريضة التماس الهداية؟ أترى هذا الكون شركة مساهمة لسمسار أو سماسرة قد استأثروا بمصادره وموارده ليروجوا له ويقنعوا الناس بفلاحه وربح أسهمه، فيشتري منهم من يشاء، ويعرض عنهم من يشاء؟ كلا! فإنما الكون شركة الجميع، ولكل من الناس حصته فيه وعلى كل منهم واجب البائع، والشاري، والمروج، والرابح، والخاسر، والوسيط في آن واحد. فلنطلب الحقيقة كلنا ولا يحتج أحد منا إلى زخرفتها وتمويهها فما هي ببضاعة لأحد، ألا ولتكن قليلة أو كثيرة، ومشوبة أو خالصة، ومرة أو عذبة، وكريهة أو شهية، فمن استقلها فليكثرها، ومن رأى فيها الزغل فلينقها، ومن عافها أو كرهها فليصلح منها ما عاف أو كره، وليس لامرئ أن يقول: أروني أصل كونكم هذا لأقول لكم هل أصبتم أو أخطأتم، وهل أفلحتم أو حبط سعيكم. بل تعالَ أنت فاخدم نفسك معنا، فليس أحد منها بخادم لك ولا أنت بضيفنا في الكون، فنمهد لك منه ما لا تريد أن تمهد بيدك.

ولكن الأستاذ وجدي مشفق على هؤلاء الأغرار، يستصعب عليهم هذا الطعام القوي، فيسوي لهم اللقمة ويجهزها للتناول، فلعلهم يزدردونها سائغة، ولعلها تنفعهم على سهولة متناولها. ولو أدى هذا الكتاب الغرض المؤلف لأجله، لكانت فائدته الوطنية الأخلاقية أكبر من فائدته الدينية، لأني أعتد إلحاد الطائشين آفة في الأخلاق وطبيعة النفس ولعنة فادحة تعتور أعمال الإنسان قبل أن يكون لها أثر في معتقده وفكره. إذ ما هو الكفر في معناه الحقيقي؟ إنه الارتياب في نظام الوجود، في حكمة الحياة، في نفس الإنسان، في غاية أعماله وأهوائه، في حبه وبغصه، وأمله ويأسه، وسعادته وشقائه، وشرفه وضعته، وفي كل ما هو فيه وما هو خارج عنه أنه وقفة الإنسان بين عوالم لا يأمنها على نفسه ولا يطمئن منها إلى ملاذ قرير. فهو فيما بينها طريد شريد غاضب مغصوب عليه. ولكم خطر لي — لهول معنى الكفر في نفسي — أن الإنسان لن يكون في طاقته أن يجحد الله صدقًا ولو قال ذلك بلسانه واعتقده في روعه، كما ليس في طاقته أن يجحد نفسه ولو أنكرها بقوله واعتقد أنه كاره لها متبرم بوجودها. ولم يخطئ الأقدمون في هربهم المرعب من الكفر، بل ربما كنا نحن أحق منهم بالرعب؛ لأنهم كانوا يكفرون بإله ليؤمنوا بإله آخر، وينبذون نحلة ليأخذوا بنحلة غيرها، كانوا يكفرون بألسنتهم وقلوبهم مطوية على اليقين، أما نحن فمن يكفر منا فقد أراد أن يجتث نفسه اجتثاثًا من شجرة الوجود، وباء بلعنة دونها تلك اللعنة المعهودة في نذر الأقدمين. فإن كان الكافر منهم على نظرة من خسارة الحياة المقبلة، فالكافر منا معجل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة.

ولقد قلنا: إن فائدة كتاب وجدي الوطنية الأخلاقية أكبر من فائدته الدينية؛ لأننا نعلم أننا لم نصب في نهضتنا الوطنية من ناحية أضر من ضعف اليقين وقلة الثقة بمبادئ الأخلاق السامية، وهي عيوب في النفس — قلنا — قبل أن تكون عيوبًا في طرق التفكير. ولولا هؤلاء الهلافيت الذين ملأهم جهلهم حتى لم يبق فيهم فراغًا لجهل أو لعلم، والذين لا غفلة عندهم إلا غفلة الاعتقاد بأن هذا الكون فيه ربح للنفس غير الغذاء والكساء وغلائظ الشهوات، لما كانت حالتنا الآن ما ترى.

فعلى هذه الفوائد المضاعفة نشكر الأستاذ الجليل، راجين له التوفيق في جهاده الصادق، ولنا بعدُ كلمة نظنه على رأينا فيها وهي أن أخطر الشكوك ما داخل الفكر من ناحية العقائد الباطنة، لا من ناحية المشاهدات الحسية، وأن أنجع البراهين ما يحسم شكوك النفس، لا ما يقنع ظاهر الحس. فالعناية بهذه البراهين العقلية النفسية مقدمة على العناية بما كان من قبيل تحضير الأرواح وما يُروى عن أعمال المحضرين، ولو كان كل ما يُروى عنهم صحيحًا.

•••

نقول ذلك لأننا نشك في أكثر الروايات من هذا القبيل، غير أننا لا نشك فيها تغليبًا للمادة وإنكارًا للمغيب المجهول كبعض الذين ينكرون الأرواح وتحضيرها، وإنما يعترينا الشك من ناحية واحدة؛ وهي تنزيه العالم المغيب والتماس الوحدة والارتباط بين ما نستشفه من قوانينه وأغراضه، وبين ما نراه من ظواهره التي يقع الحس عليها، وقد يبدو لنا أن انتهاء البحث القديم المعضل في أمر الروح بإظهار الروح نفسها للباحثين فيها لهو كالاختبار بامتحان يعطى فيه نص الجواب مع السؤال، أو كالفراغ من دست الشطرنج برفع الشاه ووضعه في العلبة بدلًا من متابعة اللعب إلى النهاية. ولنفرض مثلًا أن رجلًا أمر أبناءه بالسفر في رحلة مجهولة، وجعل على كل منهم مبلغًا من المال يكسبه لتصلب على العمل أجسامهم وتحصف بمزاولته عقولهم، وليختبر بتحصيلهم ذلك المبلغ ما استفادوه من علم بمسالك الأقطار، ومصاعب السفر، وتقليب الأسعار والسلع. وأنهم لما تفرقوا عنه وبلغوا من الرحلة عقبتها، ومن التجربة معضلتها، أنفذ إلى كل منهم أن اذهب إلى مكان كيت وكيت تجد المبلغ الذي فرضته عليك فخذه واحمله إليَّ لتسرني بنجاحك فيما أخرجتك من أجله. ولا يكون ذلك غريبًا؟ ألا نراه مبطلًا لغرض الرجل من تدبيره، معطلًا لسعي أبنائه، ملغيًا لرحلتهم من مبدئها إلى معادها؟

وهذا العالم الإنساني قد درج في كل عهد من عهوده، وفي كل عمر من أعمار وجدانه وجماعاته على أن يمارس الحقائق ممارسة ولا يلقنها تلقينًا.

وما كشف سرًّا للطبيعة، ولا اتقى لها ضررًا، ولا استخدم قوة فيها، ولا فض الأغلاق عن أصغر قانون من قوانينها إلا بعد أهوال شداد، وأغلاط تبدأ وتُعاد، وغصص تجرعها قطرة قطرة ثم توارثها فترة بعد فترة، وليس بين تواريخ الإنسانية ذات الشِّعِب والمناحي المختلفة ما هو أحفل بالضحايا والآلام من تاريخ العقيدة، ونعني به تاريخ الروح الباطنة، أو تاريخ البحث عن الروح في الإنسان وفي الوجود. ويا له من سجل دموي رهيب.

فلقد خاض الإنسان نار الجحيم في معراجه إلى تلك السماء، فلوثته دماء القرابين الآدمية، وشقي دهورًا بالمذابح والحروب الدينية، واقترف أشنع الآثام وأبشع الفظائع وهو يزعمها هداية وصلاحًا، ويتقرب بها خاشعًا متبركًا، ويرجو المثوبة عليها وهو في ظاهر الأمر بالعقوبة أولى. ففي أي شيء حمل تلك الجهالة، وفي أي سبيل ذهبت تلك الضحايا؟ لقد كان يخوض جهنمَ بعد جهنم من تلك التجارب لينتقل من عبادة خشبة إلى عبادة خشبة غيرها قد تكون مثلها من جميع الوجوه، وقد تفضلها من وجهة نظرة خفية بعيدة لا تستحق في الظاهر كل هذا الشقاء والمطال. وكانت له صرعات تتكرر ومحن تتوالى في شوط الوثنية وحده، فما تنقل من أسفل دركاتها إلى أعلاها حتى صلي منها ألوانًا من العذاب لا يحصرها الوصف، ثم وراء ذلك جهاده في التوحيد والتنزيه، ووراء جملة تاريخ العقيدة الخاص بها تواريخ ضحايا أخرى؛ هي ضحايا العلوم والفنون والصناعات وهي التي ساعدت على تصحيح النظر إلى الكون، وتثقيف العقول، وتهذيب المشاعر، وتقويم الأديان، ومن ثم امتزجت بتاريخ العقيدة الذي لا تاريخ للإنسان في الحقيقة سواه، فلو أنه كان ينفع الإنسان أن يلقن سر الحياة بلمحة واحدة من العين أو بلفتة واحدة من الأذن، وأن ينتقل من الجهل إلى المعرفة، ومن الضلالة إلى الهدى بدفعة واحدة من قوة خارجة تدفعه، كما تدفع الآلات وليس بجهاد نفسه وعناء فكره، لكان عبثًا طول ذلك الانتظار، ولكان قسوة بالغة كل تلك الآلام والأخطار، ولكان باطلًا ما اقترن بها ونشأ عنها وأنشأها من تجاذب في الأفكار، وتفاوت في الأقدار، وتباعد في الأقوام والأمصار.

نعم فجميع أولئك كانوا خلقاء أن يطلعوا على السر الأعظم بلمحة واحدة في لحظة واحدة، ولكن الله لم يشأ ذلك، وإنما شاء أن لا يرتقي الإنسان إلى درجة من المعرفة أو الدين حتى يستحقها بعمله واستعداده واعتماده على نفسه، وما به جلت قدرته وتعالت حكمته من عجلة. فالأبد مديد، وساحة التجربة واسعة، والتكمل الحر المهتدي في ظاهره بالاختيار دون الاضطرار جدير بضحاياه وبأكثر منها. ولا ضحايا في الحقيقة لأن التضحية هي الفقد ولا يُفقد شيء في هذا الكون المحكم الرحيب.

على أن الناس إما مقلد يؤمن بالقدوة، أو مجتهد يؤمن بالبحث. فأي هذين يصلحه ظهور الأرواح له عيانًا؟ فأما المقلد فإنه في غنى عن ظهور الأرواح؛ لأن كلمة أئمته عنده كالبينة الملموسة أو أشد وقعًا، وأما المجتهد فقد شككته أسباب لا يكون لإيمانه قيمة أو يقتنع ببطلانها ويتدارك علة الزيغ فيها، والذي نعرفه أن الذين تظهر على أيديهم الأرواح ليس لسوادهم فضل يؤثر لا في الإيمان التقليدي، ولا في الإيمان الاجتهادي، ولا في الإيمان اللدني، فما معنى اختصاصهم بهذه المقدرة؟

تخطر لي هذه الخواطر فأشك في تحضير الأرواح، ولكني لا أقطع الشك باليقين؛ لأننا قد نخطئ في استقصاء القياس من الماضي، وقد نكون على أبواب طور للإنسانية لا يُقاس على ما سلف، وكل ما هو مجهول فحجته فيه.

١  نشرت في عدد يوم ٢٨ أغسطس سنة ١٩٢٢ من جريدة الأفكار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤