سر تطور الأمم

كتاب من الكتب القيمة وضعه عالم فرنسي جليل، وعرَّبه وزير مصري عامل. والكتاب على صغر حجمه وإيجاز أبوابه من الأسفار التي قلَّ أن يلج مثلها إلى عقول المصريين من جانب اللغة العربية. وأيسر ما يقال فيه: إنه سيعود القراء أسلوب البحث الجديد فلا يركنون إلى تلك المباحث التي مدارها على التلفيق، والتي هي براء من المعنى براءتها من صدق النظر والتحقيق. وما أكثر الكُتَّاب الذين كانوا ينظرون عندنا إلى أعضل مسائل الاجتماع وأغلق أبواب المستقبل، فيشكلونها أشكالًا كما يتخيل الواهم صور الجمال والثعابين والحيتان في قطع السحاب المذعذعة في السماء. وما هو إلا أن تتم في ذهن أحدهم صورة ملفقة على هذا النمط حتى يبرزها للناس قضية مسلمة، ويبني عليها النتائج البعيدة والنظريات الخطيرة.

أفرد المؤلف أكثر فصول الكتاب لتجلية الفكرة التي يحوم حولها في أكثر كتاباته؛ وهي أن لكل أمة روحًا تُسيِّر أعمالها، وأن هذه الروح هي التي تكيف أطوار الأمة وتشكل ملامحها الظاهرة، وإليها يُعزى سبب كل حركة من حركاتها. وقد غالى في وصف ما لهذه الروح من الأثر في كافة أحوال الأمة إلى حد يوهم أنه يُنكر ما للعوارض الطارئة من الأثر الثابت في حياة كل أمة، والحقيقة أن هذه العوارض ذات شأن كبير في تاريخ الأمم لا يحسن إغفاله، ولا سيما من وجهة النظر السياسي؛ لأن السياسي الحاذق يجلس مجلسه من السفينة ليرقب ما يهب عليها من الأعاصير، ويثب إليها من الأمواج، ولا يغنيه علمه بأدوات سفينته وفجاج البحر الذي تسلكه عن الدربة على قيادتها بين تلك العوارض، وإلا فإن ثورة واحدة منها خليقة أن تهوي بالسفينة إلى القرار. وهل العوارض الطارئة إلا الخيوط التي يُنسج منها روح الأمة ويتكون من مجموعها سلسلة اختباراتها وذكرياتها الماضية! فهي لا تجعل في الأمة شخصًا غير شخصها، ولكنها تغير بنية ذلك الشخص، ولا شك أن لروح الأمة دخلًا في تاريخها، ولكن بقدر ما للإرادة في تاريخ الفرد، وكثير ما تكون الإرادة منفعلة بما يطرأ عليها ولا تكون هي الفعالة إلا إذا جاءت الحوادث بما يوافقها. فالمؤلف مبالغ في تقدير طول الزمن الذي يرسخ فيه المبدأ فيصير عقيدة موروثة وجزءًا من أجزاء تلك الروح، وهي مبالغة غير محمودة؛ لأنها تقف المصلحين موقف الحذر الشديد عند كل حركة جديدة، وتصغر من قيمة الفرص الوقتية في حسابهم. لا سيما إذا علمنا — كما يقول المؤلف — أنه لا سبيل إلى تشخيص روح الأمة ومزاجها تشخيصًا يقطع الشك باليقين، فيعتمد عليه السياسي دون الاعتماد على الفرص العارضة الوقتية، وذلك واضح من غموض الفكرة في كتابه ومن إلمامه بها إلمامًا لا يضبط دقائقها. حتى إن القارئ ليخرج من الكتاب وهو لا يدري حد الفارق بين روح الأمة الإنجليزية والأمة الفرنسوية، مع أن هذا المبحث يكاد يكون موضوع الكتاب الذي جاهد المؤلف غاية الجهد لتبيينه وتفصيله، ولا ريب أن مثل هذه الفوارق التي لم يعتمد فيها المؤلف على الحس القريب لا يصح أن تكون أساسًا للأحكام العريضة التي سجلها على أكبر مبادئ العصر، بل على الدين الجديد في عرفه ونعني به الاشتراكية، فإن كان الغرض من تقرير تلك الفكرة المبهمة الإشارة إلى اختلاف الأمم في الأمزجة فذلك ما لا نزاع فيه، أما إن كان يرمي به إلى أبعد من ذلك فالحق يقال: إن قدمي هذه الفكرة لا تحملانها إلى أبعد من تلك الغاية؛ إذ ليس في الكتاب ما يبين بيانًا جازمًا أن الحادث الذي يقع في هذه الأمة لن يقع مثله في أمة أخرى، وليس فيه حجة دامغة تنفي القضايا التي قررها علم مقابلة التواريخ وأيد بها قول القائلين: إن للأمم أطوارًا تمر بها كل أمة حية، وإنه إذا اختلفت الأزمان بعدًا وقربًا فذلك لاختلاف المناسبات والطوارئ ولشيء قليل من تباين الأمزجة، ولكن هذا التباين لا يمنع الأمة أن تعتنق كل رأي في حينها المقدور لها، وإن كانت ربما دعته بغير ما يُدعى به في الأمم الأخرى. تبعًا لاختلاف اللغات، وتفاوت الأحوال والعادات.

فليس في مجلس إنجلترا مثلًا حزب اشتراكي كحزب فرنسا الاشتراكي، ولكن فيه حزبًا للعمال، وكلا الحزبين غايته واحدة ومطالبه متشابهة وهي إنصاف طبقات العمال من أصحاب الأموال. والدكتور لوبون يقول مع ذلك: إن الاشتراكية شاعت في فرنسا لأن مزاج أهلها يميل بهم إلى الاعتماد على الحكومة، ولم تشع في إنكلترا لأن الإنكليز أهل استقلال لا يعولون على غير أنفسهم، دع ذلك وانظر صوب ألمانيا، فإنك ملاقٍ فيها شعبًا اشتراكيًّا صريحًا وحزبًا يمثل الاشتراكية في مجلسها هو أقوى الأحزاب وأوسعها نفوذًا. والألمانيون — كما تعلم — شعب سكسوني قريب مزاجه من مزاج الأمة الإنجليزية، فما باله في هذه الحالة أشبه بفرنسا اللاتينية منه بإنكلترا السكسونية؟ وكأن الدكتور آنس ركة في تعليله في هذه النقطة، فجعل الاشتراكية آفة أوروبية عامة، وعبر المحيط الأطلسي ليجد له في الدنيا الجديدة برهانًا يدعم به رأيه، فقال: «وإذا أردنا أن نعرف بكلمة واحدة ما بين أوروبا والولايات المتحدة من التفاوت قلنا: إن الأولى مثال ما يمكن أن تنتجه الأمة التي قامت فيها الحكومة مقام الفرد. والثانية مثال ما يمكن أن تنتجه همة الأفراد الذين خلصوا من كل ضغط رسمي. وليس لهذه الفروق الكلية منشأ إلا الأخلاق، ومن المحقق أن الاشتراكية الأوروبية لا تجد لها مكانًا تنزل به في البلاد الأميركية؛ لأن الاشتراكية آخر دور من أدوار استبداد الحكومة، فلا تعيش إلا في الأمم التي شاخت بعد أن خضعت قرونًا طويلة إلى نظام أفقدها الأهلية لحكم نفسها …» ا.ﻫ.

ولكنا نقول للدكتور: إن الاشتراكية قد سبقته إلى الولايات المتحدة أيضًا، وأنها ليست في بلد من البلدان أجهر صوتًا مما هي هناك.

فقد طاردت حكومة الولايات المتحدة منذ سنوات أكبر شركات الاحتكار، فحلتها وألزمتها غرامة فادحة. وكان الجمهور الأميركي يهلل لها ويثني عليها. وربما ظهر ميل الجمهور الأمريكي إلى الاشتراكية بمظهر أقوى من هذا في برامج الأحزاب أيام الانتخابات، وفي تسابقها جميعًا إلى إرضاء طوائف العمال ومهاجمة كبار الماليين، وفي تحبير الصحف الفصول الطوال في تقبيح مطامع الأغنياء والعطف على الفقراء، فإن كان الدكتور يعنى بالاشتراكية فليهدأ بالًا فليس في أمريكا ولا في أوروبا، لا بل ولا في الدنيا بأجمعها اشتراكية.

•••

أما فيما خلا وصف روح الأمة وشرح ما لهذه الروح من التأثير في تكوينها، فالكتاب بجملته حملة منكرة على المساواة والاشتراكية، يخيل إليك أن الدكتور لوبون يكتب عن المساواة بقلم شارل الأول أو لويس السادس عشر، وأنه يكتب عن الاشتراكية بإيعاز من روتشيلد أو روكفلر، فتراه ينعي على مبدأ المساواة، ولكنك لا تعلم منه كيف يكون عدم المساواة، وتراه يتشاءم من الاشتراكية كما يتشاءم الناس من نعيب البوم. لا يعلمون لذلك التشاؤم سببًا.

فمن أقواله عن المساواة: «غاب عن بعض الفلاسفة تاريخ الإنسان، وتقلب ماهية قوته العاقلة، وتغير قوانين تناسله الطبيعية، فقاموا ينشرون في الناس فكرة المساواة بين الأفراد وبين الشعوب.»

«خلبت هذه الفكرة أذهان الجماعات، فارتكزت في عقولهم ارتكازًا قويًّا، وآتت أكلها بعد زمن يسير، فزعزعت أسس الجمعيات الأولى، وولدت أعظم الثورات، ورمت أمم الغرب في اضطرابات شديدة لا يعلم مصيرها إلا الله.» ثم يقول: «إلا أن العلم تقدم وأثبت بالبرهان بطلان مذاهب المساواة، وأن الهوة التي أوجدها الزمان في عقول الأفراد والشعوب لا تزول إلا بتراكم المؤثرات جيلًا بعد جيل.» ثم يقول بعد ما تقدم: «ما من عالم نفسي، ولا من سائح ذي نظر، ولا من سياسي مجرب إلا وهو يعتقد الآن خطأ ذلك المذهب الخيالي؛ أعني مذهب المساواة الذي قلب الدنيا رأسًا على عقب، وأقام في القارة الأوروبية ثورة ارتجَّ الكون منها، وأذكى في القارة الأميركية نار حرب الأجناس، وصيَّر جميع المستعمرات الفرنسوية في حالة محزنة من الانحطاط، ومع ذلك فقل ما يوجد بين أولئك المفكرين من يقوم في وجهه بمعارضة ما …»

كل ذلك جرى من سريان مذهب المساواة! على أن دعاة المساواة لم يشطوا في مذهبهم، ولا قالوا: إن الناس طبعوا على غرار واحد في العقل والفضل. وهل ترى أن دعوتهم إلى تساوي الناس في الحقوق أمام القانون تعطل تنازع البقاء بينهم، وتذهب بمزايا التفاوت بين قادرهم وعاجزهم؟ أليست هي أحرى أن تفسح المجال لهذا التنازع، وترفع العوائق التي يضعها في طريق المنافسة استئثار بعض الناس ببعض المنافع بلا موجب للاستئثار؟

يحق لأعداء المساواة أن ينكروا على دعاتها كل الإنكار، ويحق لهم أن يحتجوا عليهم بأن العلم تقدم وأثبت بالبرهان بطلان مذاهب المساواة، يحق لهم ذلك إذا كان دعاة المساواة في شك من هذه الحقائق، أو إذا كان قد قام منهم قائم يمني العامل الجاهل بأن يتبوأ منصة الفيلسوف في الجامعة، أو يُسوِّل له أن يُطالب بوظيفة الطبيب أو المهندس. ولكننا نعلم أن داعيًا كهذا لم يقم ولن يقوم؛ لأن مديري البيمارستانات لا يفرطون في مثله إذا ظهر. وكل ما يُمني به الداعي إلى المساواة ذلك العامل الفقير أنه يكون متساويًا مع سائر الناس في الأمن على حياته. وهل في ذلك من ضير؟ ومتى كان مبدأ المساواة لا يمنع إنسانًا حق التمتع بثمرة تفوقه في المعارف أو المواهب العقلية على سواه فأي ضير فيه؟

يَصِم الدكتور هذا العصر بأنه عصر الجماعات، وأنه يبيح الفرد الجاهل من الحقوق السياسية ما يبيحه المتعلم، وأن صوت الدكتور الفيلسوف كصوت الزارع الغبي في إنابة النواب وانتخاب الحكام … إلى آخر ما يقول في تنديده بروح الديمقراطية، ولكنه ينسى أن التساوي في أصوات الانتخاب ليس إلا تساويًا صوريًّا، وأن لكل إنسان من الأصوات في الواقع بقدر ما له من العقل والقدرة على إقناع سواه باختيار من هو أفضل من غيره للنيابة، وكذلك يصبح أكبر الناس عقلًا واستعدادًا للإقناع أكبرهم قسطًا في سياسة بلاده. فإن كان بعض الموسرين يستعين بالمال على شراء الأصوات، ويستخدم تلك الأصوات المتعددة في غرض واحد، فذلك ما يشكو منه الاشتراكيون الذين ينقم عليهم الدكتور لوبون.

وهبنا أبطلنا اليوم مذهب المساواة. فمن يا ترى يحكم بين الناس ويُقدر لكل منهم ما هو أهل له من الحقوق السياسية والأدبية؟ أترانا نلجأ في ذلك إلى الحكومة؟ ذلك ما يأباه الدكتور؛ لأنه يريد أن يقصر عمل الحكومة على الضروري الذي لا يسع الأفراد القيام به. فأولى به — وهذه إرادته — أن لا يدعها تتدخل بين الناس حتى في ترتيب أقدارهم وتمييز درجاتهم، كأنما هم كلهم موظفون في دواوينها — فلم يبق إذن إلا أن نترك الناس يدعي كل منهم من الحقوق ما يقدر على تحصيله بذراعه — وبمثل هذا النظام نثوب إلى الصواب ولا نكون قد تركنا أضغاث أحلامنا بالمساواة العامة تغشى بصائرنا، لأننا «إذا تركنا أضغاث أحلامنا بالمساواة العامة تغشى بصائرنا كنا أول ضحاياها، فما المساواة إلا بين المنحطين وهي مطمح آمال صعاليك العقول يحلمون بها وهم بأحلامهم من التعساء» … إلخ إلخ، أليس كذلك؟

•••

ذلك حديث صاحب الكتاب عن المساواة. أما الاشتراكية فهو كما يرى من الشذرات التي نقلناها عنه شديد الطيرة منها، وهو يمثلها تمثيلًا مشوهًا، ويعمد إلى شر مذاهبها فيعرضه على القارئ في حالة مشنوعة ثم يعمم حكمه على مذاهب الاشتراكية بحذافيرها. فتارة يحكم بأنها ستؤدي بالأمم إلى أرذل درك الانحطاط حيث يقول: «نعم لا حاجة لأن يكون الإنسان ضليعًا من علم النفس ولا من علم الاقتصاد لينبئ بأن العمل بمقتضى مبادئ الاشتراكية يفضي بالأمم إلى أرذل درك الانحطاط وأخزى صور الاستبداد.»

وتارة يعرضها لك كما تتصورها أذهان الجهلاء الواهمين، فيسبق إلى ظنك أن هذه الاشتراكية صنف من الأفيون استورده أئمة الاشتراكية من بكين. فهي كما يقول الدكتور: «تُمثِّل في ذهن النظري الفرنساوي صورة جنة تساوى الناس فيها فتمتعوا بالسعادة الكاملة في ظل الحكومة، وتُمثل للعامل الألماني حانة طبق دخانها وطفق رجال الحكومة يقدمون لكل قادم أطباقًا من لحم الخنزير والكرنب المملح ودنانًا من الجعة … إلخ».

ولا يخلو كلام الدكتور من بعض الصواب، ولكن أي مذهب من مذاهب الاجتماع، أو دين من أديان الأمم سلم مما تعرضت له الاشتراكية من التحريف والتشويه؟ وأي فكرة كبيرة أمكن أن تصل إلى أذهان العامة على حقيقتها دون أن يمزجوها بأحلامهم ويضيفوا إليها من تفسيراتهم وخطرات أوهامهم ما هي بريئة منه؟ فمن الظلم أن تعد هذه الأحلام أكثر من ظل للاشتراكية يقترن بها ويحاكيها، ولكنه شيء آخر منفصل عنها. وقد تكون هذه الأحلام لازمة لها كما تلزم الأحلام كل نحلة ورأي، ولكنه يجب أن لا يخلط في الحكم بينها وبين مبادئ الاشتراكية وقواعدها العملية. وهذه المبادئ والقواعد لا تُدحض بالسفسطة، ولا تُنقض بالتعوذ والحوقلة؛ لأنها نشأت من حاجة ضرورية شعر بها الناس وتكلموا فيها قبل أن يعلنها الفلاسفة وأهل النظر. وكيف تدفع الحاجة إلى الاشتراكية بالسفسطة والمغالطة أو بالمنطق والبينة، وهي كما يقول الدكتور: سر «لا يعرفه إلا علماء النفس الواقفون على أسرار الحياة» و«لا تأتي الأدلة التي تقنع به من طريق العقل»؟

يقول بعض الكُتَّاب كما يقول الدكتور: إن الاشتراكية نذير الانحلال والضعف، وإنها لا تفشو في الأمم إلا على وشك من إدبار مجدها واختلال نظامها ونفاد ما فيها من قوة حيوية. وبين القائلين بما يقرب من هذا الرأي رجل يقتبس آراءه في الاجتماع من أطوار التاريخ المصري وهو العلامة فلندرس بتري الباحث الأثري المشهور. فهذا العلامة قد استخلص من أبحاثه في تقلبات الدولة المصرية أن الدول تنشأ في مبدأ ظهورها على يد فرد قوي مستبد، ثم تنحدر منه إلى فئة من العلية والمقربين، ثم تنحدر إلى الحكم الديمقراطي أو حكم الطبقات الوضيعة فيعتريها من هنا الضعف فالسقوط في قبضة مستبد جديد. وهكذا دواليك. وقد طار أعداء الاشتراكية فرحًا بهذه الشهادة وراحوا يقذفونها في وجوه الاشتراكيين معتدلين ومتطرفين، وحملوهم وزر إسقاط الدول والجناية على الحضارة. كأنما هذا الترتيب الذي استنبطه بتري — على فرض صحته — قاطع في الدلالة على أن الاشتراكية أو الديمقراطية هي علة السقوط الذي يعتري الدول، وأنها لا يجوز أن تكون عرضًا من أعراضه ونتيجة من نتائجه! وكأنما يكفي لمداواة ذلك السقوط أن تُمحى الاشتراكية ويُمحق الاشتراكيون، ولا يجوز أن يكون الدواء الناجع مرتبطًا بدواء العلة الدفينة التي أطلعت الاشتراكية وأطلعت أعراض السقوط معًا، وإذا كانت الاشتراكية على هذا التقدير عرضًا للعلة وليست هي العلة نفسها، فماذا يجدينا أن نمحوها ونكم أفواه الداعين إليها؟ وماذا في محوها من الدواء للانحلال والتدهور الذي لا مفر منه؟ ألا يكون ذلك كمعالجة الجدري بنزع قشور طفحه من ظاهر البشرة وترك جرثومته تسري في الدم وترتع في باطن الجسم ولا من يلتفت إليها فيعمل عمل الجد على استئصال شأفتها أو تخفيف ضررها؟ فإن كان ثَمَّ دواء فليكن الدواء للعلة الأصلية، وإلا فلا معنى للقدح في الاشتراكية ولا فائدة من اضطهاد دعاتها.

والحقيقة أن نظام مجتمعنا الحاضر مشتمل على نقائص ومثالب لا ينفرد بالسخط عليها وطلب تبديلها الاشتراكيون. ومن العلماء من لا يحسبون أنفسهم من الاشتراكيين، ولا يحسبهم الاشتراكيون منهم وهم مع هذا يشكون ظلم النظام الحاضر شكوى غلاة الاشتراكية، ويرون رأيهم في بعض الحلول التي يقترحونها؛ ومن هؤلاء العلماء السير أوليفر لودج، رجل لا يُتهم في هواه ولا في تفكيره من هذه الناحية، ولا شبهة عليه من جانب الاشتراكية، ولا من جانب أي حزب اجتماعي آخر، ولكنه يقترح في فصل كتبه عن وظائف المال أن تهتم الحكومة بشخصية الحائزين للمال، كما تهتم بشخصية الحائزين للسلاح؛ لأن المال ربما كان أخطر في يد الشرير من السلاح في يد القاتل، وفي رأيه أن الثروات العظيمة خطر على المجتمع، وأن هذه الثروات تكثر من جراء أنظمة مصطنعة يمكن تبديلها، وليست هي مما تفضي به طبيعة سير الأمور، وأنه يجب أن يُعاد النظر في قانون التوريث وأن يُنقَّح، أو يقول في فصل آخر عن «الإصلاحات الاجتماعية» بعد التساؤل عن علة مصاعبنا الحاضرة في ملكية الأرض: «ولا يسعني إلا القول بأن عادة السماح للأفراد بحق الملك المطلق على الأرض بدلًا من المجاميع هي أساس كثير من هذه المصاعب.» وليس السير أوليفر لودج بالوحيد بين العلماء المخلصين الذي يصفون أدوية الاشتراكية ولا يدخلون في غمار أهلها.

فالواجب على ولاة الأمر في كل أمة أن يعترفوا بنقائص المجتمع، ولا تفتنهم عن إصلاحها عصبية الطبقات؛ لأن الكثير من هذه النقائص قابل للإصلاح والتخفيف لولا تعنت من بعض الطبقات القوية يجر إلى تعنت الطبقات الأخرى وتفاقم النزاع بينها على غير جدوى. ومن حق جميع الطبقات أن تنال كل حظها من المعيشة الصحية، وأن يُسوَّى بينها في فرص العمل التي تؤهلهم لها كفاءتهم الطبيعية، ولا نذهب بالمساواة إلى أبعد من هذا الحد، فإن كل مساواة لا يُنظر فيها إلى الفوارق الطبيعية بين أخلاق الناس ومداركهم ومواهبهم المختلفة لا تكون عدلًا ورحمة، بل ظلمًا وإجحافًا معكوسًا مناقضًا لسنن الطبيعة.

إن الاشتراكية الصحيحة ليست أسطورة من الأساطير، ولا هي وعد خيالي يُبشر الناس بالتعادل في الأقدار والتشاكل في المنازل والأرزاق. كلا! فليست المساواة بين الناس من همها، ولكنها إنما تدعو إلى المساواة بين الأجر والعمل، وتطلب أن يُعطى كل عامل ما يستحقه بعمله، وأن ينتفع المجموع بأكبر ما يمكن الانتفاع به من قوى الأفراد.

فإن كانت الدنيا قد حم أجلها وكارب يومها لأن جائعًا يريد أن يشبع، ومنهوكًا يتمنى أن يستريح، ومظلومًا يود لو ينتصف، فلشد ما هزلت هذه الدنيا وضعف مزاجها وتبدل حالها بعد أن احتملت في ماضي العصور طغيان الجبابرة وبطر النبلاء، وبعد أن صبرت على دسائس الدعاة وأكاذيب الدجالين.

ومن العجيب أن الدكتور لوبون لا يستقبح من أنظمتنا الحاضرة شيئًا إلا كان له دواء حسن، أو علاج لا بأس به في الاشتراكية، فإذا تجاوز هذا الدواء إلى غيره وقع في الحيرة والتضارب. مثال ذلك: أنه يصف الدواء لنهوض الأمم المائلة إلى السقوط فيحيلها إلى النظام الجندي ويقول: «فأهم الشروط التي تلزم لنهوض الأمم المائلة إلى السقوط تعميم نظام الجندية، وجعله قاسيًا جدًّا، وأن تكون الأمة على الدوام مهددة بحروب طاحنة.»

ويعتقد الدكتور أن الجندية سوف تُرجع للرجل المتحضر رجولته واستقلاله، وتشفيه من مرض الاشتراكية التي هي «فناء الفرد في الدولة»، والتي «تفضي بالأمة إلى أخس درجات الاسترقاق، وتقتل في نفوس من خضعوا لحكمها كل همة وكل استقلال». ولكنا لا نخاله يجهل أن الرجل أضيع ما يكون استقلالًا في الجندية، وأن الجندي في الجيش ليس إلا آلة تتحرك بإشارة من القائد، وليس لها أن تعرف إلى أين هي مسخرة، ولا في أي غرض يسخرونها. فإن كان في الجندية شيء من الخشونة، فليست كل خشونة تعد رجولة واستقلالًا، ولا نخاله نسي أيضًا أن ألمانيا هي أكثر الأمم جندية، وهي كذلك أكثر الأمم اشتراكية. فكيف اجتمع فيها هذان النقيضان المتباعدان في رأيه؟

ويقول الدكتور في الفصل الرابع من الباب الأول: «أشار توكفيل إلى تدرج الفرق الذي نبحث فيه بين طبقات الأمم في زمن لم تبلغ الصناعة فيه من الارتقاء مبلغها في الوقت الحاضر فقال: كلما توسع الناس في تطبيق قانون توزيع العمل ضعفت قوة العامل، وحد عقله، وزادت تابعيته لغيره. فالصناعة تتقدم والصانع يتأخر، والفرق ينمو كل يوم بين العامل ورئيسه.»

وهي ملاحظة صادقة من توكفيل؛ إذ لا مراء في أن النظام الاقتصادي الحاضر قد صيَّر العامل قوة آلية وسلبه كل وسيلة لاستخدام ذكائه وحذقه، فبعد أن كان العامل يصنع الأداة وحده، فيفرغ ذكاءه في تجويدها ويتفنن في تكميلها وتحسينها، إذا هو الآن يتناول الجزء الصغير من تلك الأداة فيصنعه بلا روية، ويجيء المهندس أو رئيس الصناع فيؤلف من تلك الأجزاء تلك الأداة على الوجه الذي رسمه. فإذا خرج الصانع من المعمل لم ينتفع بصنعته، وعجز عن العمل على انفراد، ففقد مزية الاستقلال.

وهذا النظام الاقتصادي المودي بالمواهب، المعطل للعقول، هو النظام الذي تثور عليه الاشتراكية، فما قامت الاشتراكية إلا لترقي مدارك العامل وترفع عنه حيف صاحب المعمل، وتجعله إنسانًا ذا رغبة في عمله وغيرة عليه، وليس كما هو الآن آلة تدير آلة. وخير للدكتور أن يُفتش عن الاستقلال الذي يريده للفرد في مبادئ الاشتراكية من أن يفتش عنه في ثكنات الجنود.

•••

والاشتراكية ليست من مصطنعات هذا الجيل، ولكنها قديمة ظهرت في كل مكان يحرم فيه العامل ويغنم العاطل، وتطور هذا العصر في فهمها وتوسع في تطبيقها تبعًا للتطور الشامل لكل مرافق الحياة، ومن بينها علاقات الأفراد والأمم.

وهكذا كانت تدور دورتها فيما مضى: كانت الأمم الغازية تفتتح البلاد، فيستأثر قواد الجيش الفاتح وجنوده بأطيب الأرزاق، ويميزون أنفسهم عن سائر الأمة بمزايا يحرسونها بالقوة ويذودون عنها بالسلاح، ثم تئول هذه المزايا بالوراثة إلى أعقابهم، فتصير حقوقًا ثابتة، ويجنح هؤلاء الأعقاب إلى الدعة والكسل جيلًا بعد جيل، فيجنون ثمرة ما لا يزرعون، ويجشمون غيرهم مشقة السعي وهم نائمون، وتفسدهم البطالة فيتمادون في اللهو والخلاعة، ويتهالكون على المجون واللذة، ولا يزالون ذلك دأبهم حتى يضجر الناس منهم ويحنقوا عليهم، فتنقض عليهم في هذه الآونة جارة ترقب غفلتهم، فلا تصادف فيهم إلا سراة لاهين ورعية ساخطين.

كذلك ثار أرقاء الرومان على سادتهم، وكذلك ثار الفرنسيون على نبلائهم. فقال المؤرخون في الأولى: عبيد تمردوا، وقالوا في الثانية: سوقة عربدوا. وما هي إلا الاشتراكية تبدو وتخفى في تاريخ الناس من حين إلى حين.

لسنا نحن في عصر يتحكم فيه سادة على عبيد، أو يستبد فيه شرفاء على سوقة. ولكن المسألة ظهرت في طورها الجديد، وكان ظهورها في هذه المرة بين أصحاب الأموال وطوائف العمال.

ومنذ أخرج العلم للناس تلك الآلات الضخمة، أصبح كل صاحب معمل يتمتع بتعب الألوف من الصناع الذين يستخدمهم في معمله. فكان التعب والحرمان من نصيب فريق، والراحة والربح من نصيب الفريق الأقل، فتجددت الشكوى القديمة، وعادت الاشتراكية، ولكن هل تراها عادت اليوم لتشهد خاتمة هذه المدنية؟ وهل لا مفر من هذه الخاتمة بعد عودة هذه الاشتراكية الجديدة؟

لا نظن ذلك؛ لأننا اليوم في مأمن من غارات القرون الأولى، ولأن العلم والنظام قد أصبحا في هذه العصور مِلكًا للإنسانية عامة، وليسا من خواص أمة يذهبان بذهابها.

•••

وإذا صح رأي نوردو في كتابه التأخر والاضمحلال Degeneration فهذا الضعف الذي استولى على الجيل الحاضر أثر من آثار النظام الاقتصادي، فلقد أفرط الناس في إجهاد أبدانهم إفراطًا حطَّ من قواهم وأتلف أعصابهم. وكلما أحسوا بالضعف انكبوا على المنبهات من خمر وحشيش وتبغ وقهوة إلى أشباه ذلك فزادتهم ضعفًا على ضعف. ولو أُنقصت ساعات العمل قليلًا، وزيدت الأجور زيادة تُمكِّن العامل من تعويض خسارته اليومية بالطعام وأسباب الراحة، لكانت الاشتراكية قد أنقذت الجيل القادم من غوائل هذا الاضمحلال. وبهذا الرأي — أي: رأي نوردو — يسهل تعليل قول الدكتور في ختام الفصل الأول من الباب الثاني، إذ يقول: «فالأمم تموت متى ضعفت صفات خلقها التي هي نسيج روحها، وضعف هذه الصفات يكون على قدر حظ الأمة من الحضارة والذكاء.» إذ لا تخفى علاقة بعض أنواع الضعف العصبي بالذكاء.

قال عبد الله بن معاوية: «ما رأيت تبذيرًا قط إلا وإلى جنبه حق مضيع.» وغريب أن يهتدي كاتب من كتاب القرن الثاني الهجري إلى هذه الحكمة الجامعة. ولو شاء زعيم من زعماء الاشتراكية اليوم أن يتخذ لمذهبه شعارًا لما زاد على تلك الحكمة حرفًا. فالاشتراكية الصحيحة تقوم اليوم لتسترد ذلك الحق المضيع، ولا مطمع لها في العدوان على إنسان.

•••

يتذمر الدكتور لوبون تارة «من انحطاط الخُلُق العام وفقدان أفراد الأمة ملكة ضبط نفوسهم وانصرافهم عن المرافق العامة إلى حب الذات»، ويأسف حينًا لتلك الحقائق القاسية التي «جلبت على أهل العقول الصغيرة فوضى الأفكار التي يمتاز بها المرء في هذا الزمان، وغيَّرت تلك الشكوك أطوار الشبيبة المشتغلة بالآداب والفنون، فغرست فيها جمودًا مشوبًا بالكآبة وذلك أفقدها الإرادة، ونزع منها القدرة على الاهتمام بأي أمر، وجعلها تعبد المنافع الذاتية الوقتية دون سواها.»

وقد تكلم ماكس نوردو في كتابه المتقدم عن هذا الخُلُق الذي دعاه الدكتور لوبون عبادة المنافع الذاتية. ومن رأيه أنه ناشئ عن أمراض الاضمحلال التي ألمعنا إليها، وأنه شعبة من جنون الأنانية Egomania، ونقول: إن حب الذات ينشأ عن ضعف حاسة الواجب، وهو مرض من الأمراض العقلية. ولكن يزيده إعضالًا تأكد الناس من فقدان التوازن بين حقوق العاملين وواجباتهم، فيرون كيف يُثرى الوسيط ويُعدم التاجر، وكيف يُكرم القوَّاد الوضيع، ويُهان العامل الأمين، وكيف أن الكسب المباح يُحسب بالدانق والسحتوت، وأن ربح الاحتيال يُعد بالدنانير والبدر، ومتى رأوا ذلك فأي أمل لهم في الاعتراف بما لهم من حقوق، وأي باعث عندهم على القيام بما عليهم من واجبات؟ وكيف بعد ذلك لا تغلب عبادة المنافع الذاتية على روح الواجب وصوت الضمير؟

لا أمل في الخلاص من هذه السوءات إلا إذا ساد اعتقاد الناس بتضامن الإنسانية، وأيقن كل فرد أن على حقوقه حارسًا من أمته، وأنه موضع عناية الإنسانية أجمع، بذلك تثوب الخواطر ويرعى الناس حرمة الواجب. وإلا فلو ظن الإنسان أنه ليس ثمت ضمير عام يؤنب الناس كافة على ما يحل به من الغبن والأذى، وأنه لا حق له في الرحمة أينما يمم وجهه، فقد مات ضميره وغلبه الحرص فتعلق بالجشع، ونبذ المبادئ والفضائل، إلا ما وافق منها هواه، وفشت فوضى الأخلاق، فارتفعت الحدود، واندثرت معالم الشرائع، إلا في الدفاتر والأوراق.

يقول الدكتور لوبون: «اليوم تميل الأمم القديمة إلى السقوط، فهي تهتز من الوهن، ونظاماتها تتداعى واحدًا إثر واحد، وعلة ذلك فقدانها كل يوم شيئًا من إيمانها الذي قامت عليه حتى الآن، فإذا فقدته كله قامت حتمًا مقامه حضارة جديدة مؤسسة على معتقد جديد.»

نعم فلا بد للأمم من معتقد جديد. أفتدري ما هو هذا المعتقد؟ نحسبه هو وحده الإخاء، أو هو التضامن الإنساني، أو هو — في بعض مظاهره التي يفهمها سواد الناس — الاشتراكية.

ذلك أنك إذا زرعت في قلب الإنسان ثقته بعطف الإنسانية أكبرته في عين نفسه، ومسحت عن قلبه ذلة المخلوق الذي نبذته السماء ولم تعبأ به الطبيعة إلا كما تعبأ بأحقر المخلوقات.

وينبغي أن يعتقد الإنسان أنه يعمل للإنسانية لا ابتغاء المثوبة أو خوفًا من العقوبة، ولكن مسوقًا بمحرض من غرائزه التي لا طاقة له بالخروج عنها. فإذا عمَّت هذه العقيدة رضي كل إنسان بحظه، ولم يطلب الجزاء على عاطفته النوعية في غير إرضاء تلك العاطفة ومطاوعتها فيما توحي به.

للإنسانية اليوم حاسة تسمى «الضمير العام» ولكنها ضيقة الحدود، لا يحتمي بها في كل أمة غير أبناء تلك الأمة. وقد أشار الدكتور إلى ذلك في قوله: «إنك لا تجد بين ساسة الإنجليز واحدًا لا يرى جواز استعمال أمور في جانب أمة أجنبية لو أتاها في بلاده لأنزلت به السخط من كل ناحية.» والحقيقة أن ذلك دأب ساسة الأمم كلها وليس الإنكليز وحدهم. بيد أننا نرى حدود ذلك الحرم تمتد يومًا بعد يوم حتى يوشك أن يشمل كل أمة جديرة بالدخول في لحمة الأخوة العامة. وكذلك كانت عهود الأخلاق في مبدأ أمرها، فإنها لم تكن مرعية إلا في حق أبناء القبيلة وحدهم. قال دارون في كتابه أصل الإنسان: «ولكنها — أي: أصول الأخلاق — لم تكن معتبرة إلا فيما بين أبناء كل قبيلة على حدتها، وكانوا لا يعدون مخالفتها في حق أبناء القبائل الغريبة جريمة مستنكرة، ثم ما زالت هذه الأصول تنداح من نطاق إلى نطاق أوسع منه حتى شملت أبناء الجنس الواحد، ثم شملت أبناء كل دين على تباين أجناسهم، ثم أصبح الناس يسلمون بها نظريًّا في حق نوع الإنسان بأسره، وإن خالفوها عملًا. وهم سائرون في طريق الوحدة، والطبيعة تقوم بعملها لهذه الغاية فتقرض الشعوب الذابلة ولا تذر منها إلا ما هو أهل للرعاية والبقاء؛ تمهيدًا لوحدة الإنسانية وشمول أحكام الضمير العام.»

•••

لا يفوتنا بعد أن نقدنا ما خلنا فيه شيئًا من الغلو من آراء الدكتور لوبون أن نعرض لما في كتاب «سر تطور الأمم» من الآراء الصائبة والأفكار القويمة الحقيقة بإنعام النظر وطول التدبر. ونقول على وجه الإجمال: إن المؤلف لو أخلاه من الأحكام والنتائج وقصره على الملاحظات والآراء لما كان فيه مأخذ يُنتقد. فإنه لا العلم ولا الفن ولا الأدب جمع حتى الساعة الأدلة والمقدمات التي تكفي لإصدار تلك الأحكام المبرمة والنتائج المحتمة.

ومن تلك الملاحظات والآراء ما يهمنا نحن المصريين؛ لأنه ينطبق على حالتنا تمام الانطباق.

فيظهر أننا لا نفهم بعدُ معنى الوطن حق الفهم. قال الدكتور: «كان وجود الروح أولًا في العائلة، ثم انتشر منها في القرية، ثم في المدينة، ثم في الإقليم، ولم يعم جميع السكان إلا في أزمان قريبة منا. هنالك وجدت فكرة الوطن بالمعنى المفهوم لنا في هذا العصر؛ لأنها لا تصير واضحة إلا إذا تم تكوين الروح، ولهذا لم تترق فكرة الوطن عند الإغريق إلى أبعد من فكرة المدينة، ودامت مدائنهم في حرب مستمرة؛ لأن كل واحدة منها كانت أجنبية في الواقع عن البقية. كذلك لم تعرف الهند منذ ألفي عام غير وحدة القرية، فعاشت من ذلك الحين تحت حكم الأجنبي تقوم فيها ممالكه بسهولة كما تدول بسهولة.»

وذلك شبيه بمعنى الوطنية في مصر، فإنها لا تعرف غير وحدة القرية، وما أظن هناك أن أمة غير الأمة المصرية تُقام فيها المناحات لسفر قريب أو صديق من إقليم إلى إقليم يجاوره، ويُقْسِم فيها الرجل بغربته وهو في عاصمة وطنه. ولا أحسب أن لهذه الحالة دواء أنجع من نشر الكتابة والقراءة وذيوع الأدب المصري بين قراء المصريين في كل قرية ومدينة.

والمصريون لا يكاد يُؤلف بينهم شيء من وحدة المشاعر، ويكاد يكون أبناء النيل اثني عشر مليون فرد ولا أمة. ولا ريب أن ذلك إنما نجم عن اختلاط العناصر وتوالي الأمم الفاتحة، كما أنه يُعزى إلى سوء فهم الوطنية الذي قدمنا ذكره. ومن الحكمة استحياء أشد العصبيات أخذًا بقلوب هذه الشراذم المبددة، ولا فرق بين أن تكون عصبية مصلحة، أو عصبية تاريخية، أو عصبية وطنية١ ما دامت تفضي إلى لمِّ شعثهم وتوجيه نفوسهم إلى وجهة واحدة.

ومن عيوب الأمة المصرية فقدان التخصص وشدة التقارب بين الصنائع والصناع وهو نقص بيِّن «فإن مستوى العقل — كما يقول الدكتور — يكاد يكون واحدًا عند جميع أفراد الأمم الدنيا ذكورًا وإناثًا … وأما عند الأمم الراقية فالقاعدة هي اختلاف الأفراد وكذا النوع اختلافًا كبيرًا.»

وقد نرى أن للخصوبة دخلًا في هذا النقص. فإن الزراعة في البلاد المخصبة لا تبعث الحاجة إلى المنافسة كما تبعثها الصناعة؛ والمنافسة هي باب التفاوت والتنوع في الحرف والمصنوعات. ولن يطول الزمن حتى تضطر الأمة إلى الصناعة؛ لأن الزراعة لا تقوم في هذه الأيام بمطالب الناس. وربما رجعنا بشيء من إحجام الأغنياء عن فتح باب المنافسة بإنشاء المصانع وتبادل النفع مع الأمة إلى احتفاظهم حتى اليوم بنحلهم الغريبة عن البلد، فقد ظل أكثرهم إلى زمن غير بعيد ينظر إلى القطر المصري نظرة المهاجر إلى هجرته، ويعامل المصريين معاملة الأجانب عنه. وكان أهل الثروة من أبناء النيل في الجيل الماضي أقل شأنًا من أن يستقلوا بعمل، وأجهل من أن يُقدِموا على غير الزراعة. ولكنا أصبحنا نرى سراة مصر يستوطنونها ويولون وجوههم صوبها وترتبط مصلحتهم بمصلحتها، فلا يبعد أن يكون شأنهم في المستقبل غير شأنهم في الماضي، ولا سيما متى عمَّت الوطنية سكان مصر على السواء، وعُدَّ من أبنائها كل من ينفعها وينتفع فيها من الوطنيين والنزلاء. فإن مصر بحاجة إلى تآلف الأغراض ألفة تشبه ما يعوزها من وحدة المشاعر.

•••

ولا ننسى الأخلاق. فقد لحقتنا كل أضرار المدنية الغربية ولما نصل إلى شيء كثير من مزاياها. ولا جرم فقد سهل على حواسنا أن تدرك ملذاتها فانغمست فيها وقصرت عقولنا عن إدراك معانيها فحيل بيننا وبينها. ولا يخفى أن اقتباس ظواهر المدنية سهل على من يريده لا يكلفه قسطًا كبيرًا من الدراية والمزايا النفسية. فلو أنك حملت زنجيًّا حقيرًا إلى باريس لتمتع بكل رذائلها في أسبوع واحد، ولكنه لن يقدر على التمتع بمعارفها وآدابها ولو طال عمره؛ لأن الفرق في الحواس قريب بين أرفع الناس وأحطهم، ولكنه بعيد جدًّا في العقول والسجايا.

فنحن اليوم نعب من إباحية المدنية الأوروبية ومنكراتها، ولا نذوق قطرة من عظمتها وطيباتها، وما كنا لننتظر أن نجني ثمرة المدنية بغير شوكها. فإن المدنية شباب الإنسانية، وفي سن الشباب تتولد الشهوات كما تتفتح القوى وتنمو المدارك. وليست طهارة الفطرة إلا كطهارة الطفولة التي لا تأثم؛ لأنها فارغة من الشهوات كما أنها فارغة من القوى والمدارك. ولكن الرزيئة أن نضيع سلامة الفطرة ولا نبلغ رقي المدنية، وذلك ما نوشك أن نصنعه.

ولقد أصاب الدكتور لوبون كل الإصابة إذ يقول: «الخُلُق لا العقل هو الذي تقوم عليه الجمعيات البشرية وتُؤسس الديانات وتُبنى الممالك، وهو الذي يجعل الأمم تحس وتعمل، وما كان كسب الأمم كثيرًا من شحذ الأذهان والتعمق في التفكير.»

إي والله، فإن الإنسان بغرائزه، وإن الحياة بخيرها وشرها لا شيء إذا نظرنا إليها من ناحية الطبع، ولكنها من ناحية الغرائز كل شيء، بل لا شيء سواها. وليست الفضيلة ما سلم به الإنسان بتعليل عقله، ولكن الفضيلة ما نشأ عليها وتضمنه طبعه وزجلته إليه فطرته.

فلتكن عنايتنا بالأخلاق فوق عنايتنا بالعلوم، ولتتضافر على هذا العمل المدارس والمحاكم والكتب. ومما يُهوِّن الأمر أن الإصابة محصورة في طائفة قليلة من ناشئة المدن، فإذا وقيت الأمة من عدواها كان الأمل في الجيل القادم وثيقًا.

ولا ننكر أن الأمر يلزمه شيء غير يسير من التضحية والمفاداة. ولا بد له من قادة من عظماء الأخلاق والنفوس يقفون في وجه أهل الفساد ولا ييأسون من إصرارهم، فإنهم على التفاتهم لتسرح فيهم كلمة الحق، كما تسرح شرارة النار في ألفاف الأجمة اليابسة.

يقول الدكتور لوبون: «إن الفارق بين الأوروبيين وبين الشرقيين هو اختصاص أولئك بفريق راقٍ من العظماء دون هؤلاء.»

كلا. بل لكلٍّ نصيبه من العظماء؛ فللغرب عظماء العقول وللشرق عظماء النفوس. وما أحوج الشرق اليوم إلى عظيم من أولئك العظماء الذين كان يجود بهم أحيانًا، فيقوم من أوده، ويعزر من أيده، ويأخذ في طريق الحياة بيده.

١  وجدت هذه العصبية القوية — والحمد لله — في الحركة الوطنية الحديثة التي بدأت ظواهرها على أثر الحرب الكبرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤