مهاتما غاندي١ (٢)

ظن بعض قرائنا أننا غمطنا البطولة حقها وأصغرنا من قدرها حين قلنا في عرض الكلام على مصطفى كمال: إن البطل لا يزال طول عمره طفلًا، وخيِّل إليهم أن الأخلق بالبطولة والأشرف لها أن توصف بالحنكة والحصافة والنضج قبل الأوان. فكتب إلينا قارئ أديب يستغرب ما قلناه ويستفسره ويحسبنا أخطأنا الرأي فيه وعدونا الصواب. ولو فطن إلى حقيقة ما أردناه لرأى أن الغمط لحق البطولة والإصغار من قدرها هو ما توهمه وقارًا جديرًا بها حين خطر له أنها أسرع من غيرها إلى إدراك تلك الحكمة الدنيوية التي أساسها أن لا يدخل المرء في ما لا يعنيه، وأن لا يعنيه إلا ما يعود على شخصه من خير وشر. فإن هذه الحكمة الرخيصة إنما يجاد بها على من ليس يرجى منهم خير لغير أنفسهم، ولا تفضل من قواهم بقية تزيد على مصالحهم. وأما الذين ندبهم الله لنفع أممهم أو لنفع الناس عامة، وأنساهم في الغيرة على هذا النفع العام غيرتهم على أنفسهم فقد سُلبوا — والحمد لله — هذه الحكمة، وجُردوا من هذه الحصافة، ولم يسلم منهم أحد من مظنة الجنون والغرارة، لا لأنهم أقل من غيرهم عقلًا وأبطأ إدراكًا، ولكن لأنهم أكبر نفسًا، وأبعد مطلبًا، وأعلى شأوًا في الحياة من عامة الناس.

ولسنا نند عن موضوعنا إذا نحن فصَّلنا هذا الرأي بعض التفصيل على القدر الكافي لدفع الالتباس والخطأ، فإن غاندي أيضًا ممن شرفتهم العناية الإلهية بروح الطفولة الخالدة. فلننظر هنا ما معنى الغرارة التي يوصف بها الأبطال، ولننظر قبل ذلك في معنى غرارة الطفولة ومعنى الحكمة الفردية التي تؤدي إليها التجربة.

يكون الطفل غرًّا لأنه لم يزن طاقته، ولم يقس نفسه على القوى المحيطة به، فهو لا يعرف أين يقف بهواه، ولا كيف يكبح شوقه؛ لأنه لا يعرف القدرة الضرورية لتحصيل مطالبه. ولا يزال يصادم «الظروف» والظروف تصادمه حتى يقيس ذرعه بمعيارها، ويلائم بين قوته وقوتها، ولا يذهب إلى أبعد من الحد الذي عرفه لقوته، فيقال حيئنذ: إنه رشد ونضج عقله وتعدى طور السذاجة الأولى؛ لأنه وفَّق بين نفسه والوسط الذي يعيش فيه. ولكن هل هذا النضج الذي يتاح لعامة الناس مما يمكن أن يتاح لنوابغ الأبطال؟ وهل في وسع بطل أرسلته العناية لإصلاح وسطه أن يُوفِّق بين نفسه وهذا الوسط الذي ليس يرضى عنه ولا همَّ له إلا أن يُغيِّره ويُهذِّبه على حسب ما يبدو له أنه الكمال والصواب؟ إنه إن فعل ذلك لم يكن أكبر من بيئته، والتهمته البيئة كما تلتهم اللجة غريقها، فلا يخرج من جوفها، ولا يبين له أثر في غمارها. وما كان العظيم عظيمًا إلا لأنه أكبر من البيئة المحيطة به، وأعلى مطلبًا من أن يندس فيها كما يندس سائر الناس. فإذا رأيته بعد تجربته للحياة «غرًّا» يقدم على تجربتها مرة أخرى وثالثة ورابعة فذاك لأن قوته لا يحدها زمنه، ولا ينتهي أملها عند معرفة ما يطلبه لنفسه. وما هو في الحقيقة بغر إلا من وجهة النظر إلى مصالحه الخاصة. أما إذا كان مقياس الحكمة في اعتبارنا هو أن يقيس الإنسان قوته على قوة بيئته، فالبطل هو المثل الأعلى للعقل الحي؛ لأنه في الحقيقة لا يمنعه أن يخضع للواقع إلا هذا السبب. وهو أنه قاس قوته على القوى المحيطة بها فوجد — شاعرًا بذلك أو غير شاعر — أنه قمين أن يكافحها ولا يخضع لها، وما دام بينه وبين دنياه هذا الكفاح فهو الطفل الكبير الذي تعاوده الغرارة ولا يفرغ في التجربة.

•••

ونستأنف الكلام على غاندي فنقول: إن غاندي — كما رأينا مما تقدم — صاحب زعامة خاصة بموقفه ومهمته؛ أي: إنه لم يُخلق ليكون زعيمًا على كل حال. ولا نقول ذلك بخسًا لشمائل الرجل ولا تنقصًا من قدرته، فإنه فضلًا عن فصاحته وسهولة اجتذابه للسامعين حاصل — كما نعتقد — على صفتين من ألزم صفات الزعامة على الناس، بل هما ألزم صفاتها قاطبة، ولولاهما لما أفلح داعٍ قط، ولا استحق الكرامة زعيم. وهاتان الصفتان هما الإخلاص والإيمان.

فإخلاص غاندي فوق كل شبهة، وإيمان غاندي قد صفته المحن، ومحضه النسك، وتنزه عن الشكوك الهادمة والوساوس القائمة. عرف له إخلاصه وإيمانه أبناء قومه فعظموه وأكرموه ورفعوه بينهم مكانًا لا مطمع فوقه لطامع. وما أدراك ما مكانه عندهم؟ إنهم يلقبونه النبي أو الروح العظيم «ماه-آتما» وهي منزلة ليس بعدها ولا أرفع منها في دين البراهمة إلا منزلة واحدة؛ هي الروح الكلية «بارام-آتما» وهي روح برهما: روح الله.

ولم ينفرد بتنزيه غاندي عن التُّهم أبناء وطنه من البراهمة والمسلمين، فقد شهد بنزاهته كذلك كل من رآه من الأوروبيين، حتى أنصار الاستعمار من الإنجليز، بل شهد له قاضيه الذي أمضى الحكم بالسجن عليه. ورأينا بين كُتَّاب الإنجليز من يقول في مجلة «نيشن» غير متلعثم ولا محترس: «إنه ليس من التجديف أن يُقارن بين غاندي والمسيح»، وهي كلمة كبيرة من إنجليزي مسيحي! ولم يستطع السير فالنتين شيرول أن يلقي عليه الغبار الأسود الذي لا يعيبه إلقاؤه على مخلوق يناهض الاستعمار البريطاني؛ فقال: إنه في الحركة الهندية «بلا فأس يشحذها لنفسه»، وهذه الفأس عندهم هي كناية عن المصلحة الشخصية والأغراض المريبة، وكم من فأس خلقها شيرول وشحذها على حسابه لأناس لا يحملون الفئوس!

وغاندي الآن يمشي في أول الحلقة السادسة من عمره، ولا يدري أحد كيف يتم هذه الحلقة. أيعود إلى الحياة العامة قريبًا، أم يتم أيامه في السجن فيكاد ينقضي من الآن دوره في سياسة بلاده؟ على أنه قضى في هذه الحياة العامة ما هو حسبه، قضى ثلاثين سنة في أشرف الأعمال وأطهرها لم تؤخذ عليه في أثنائها سيئة واحدة تشينه، ولم يخامر الشك أحدًا في صدق نيته، وإذا كان لا بد من الاستقصاء، فنحن نستثني تلك الحادثة التي جرت له في أفريقيا الجنوبية في أول عهده بالأعمال العمومية. فقد قيل: إن الهنود كادوا يقتلونه هناك لسوء ظنهم به واتهامهم إياه بالخيانة، وأنهم أوسعوه ضربًا حتى أغمي عليه وتركوه وهم يحسبونه قد مات. وهي ريبة غريبة يُعذرون عليها لفاقتهم وحاجتهم إلى الإنصاف، ولعلها خامرتهم من فرط تشدده في إنكار العنف، وكثرة إلحاحه بتوخي المسالمة والتزام حدود الاعتصاب الرصين. وكان القوم لا يفهمونه يومئذ فاتهموه وأضمروا له السوء، ثم ألفوا منه هذه الدعوة فزال ارتيابهم فيه.

ولقد رأيت أناسًا كثيرين كانوا يعتقدون حتى بعد محاكمته أنه إنما كان يوصي بالسلم والمودة احتيالًا على القانون وهربًا من العقاب، وليس أظلم للرجل من هذا الاعتقاد، فإنه لأرفع من أن يخشى عقابًا وهو الذي يدين بإنكار الذات والصبر على الآلام، ويرى المثل الأعلى للحياة في الاستخفاف بأكدارها وشرورها. وعدا هذا فإن وصايا غاندي قد نشأت قبل أن يولد غاندي، وقبل أن يضع الإنجليز قدمًا في الهند، وقبل أن ينشق حجاب التاريخ عن كيان الدولة الإنجليزية، نشأت من عبادة بوذا المبشر بدين الرحمة والإخاء القائل لتلامذته: «إن الواصل إلى الله لا يغش أحدًا، ولا يضمر حقدًا لأحد، ولا يحركه الغضب إلى الإضرار بأحد»، وأن «عليه أن يطوي قلبه على حب لا يحصر لجميع المخلوقات، يحبهم كما تحب الوالدة ولدها الذي تحميه بحنانها. ومن فوقه ومما دونه، ومن حوله فليمدد رواق حبه، وليكن حبًّا لا تعترضه الحواجز والعقبات ولا مسحة فيه من قسوة أو تحزب، وعليه واقفًا كان أو قاعدًا أو ماشيًا أو مضطجعًا إلى أن ينام أن يظل فكره عاملًا على الخير لجميع العالم.»

وهذه وصايا تكررها كتب الهند المقدسة بلا ملل ولا اختلاف، ولنذكر أن غاندي رجل متعبد ولدته أم متعبدة في أمة الديانات والنساك، فليس يجوز لمنصف أن يئول كلامه على غير معناه الصحيح.

بيد أننا لا نعجب من هذا الخطأ عجبنا من كُتَّاب الصحف الأوروبية الذين يأبون إلا أن يضطروا غاندي إلى اقتباس قواعد دينه من كتاب أو قصة يخترعها الغربيون أو أشباه الغربيين. فإنه لمن المضحك حقًّا أن يسترسل هؤلاء القوم في الغرور بمدنيتهم إلى هذا الحد فلا يسلمون لشرقي بمأثرة لا يكون لواحد من أبناء الغرب أصبع فيها. وهل تدرون من صاحب الفضل على غاندي في فلسفته وآدابه، ومن الذي لقنه أصول دين البراهمة؟ إنه هو تولستوي! كذلك قال شيخ صحافتهم لورد نور ثكليف غفر الله له بعد عودته من الهند!

وما لنا نلوك كُتَّاب الصحف وهذا رينان المؤرخ اللبيب والباحث النزيه يقارن بين الشرقيين والغربيين فيخالف المعروف المتفق عليه، ويميز الغرب على موطن الأديان ومهبط الوحي بخلوص النية وصفاء العقيدة وبراءة العاطفة الدينية من الزغل والمواربة! ويقول في هذا المعنى في صدد كلامه على معجزات السيد المسيح: «إننا نحن بما لنا من طبائع باردة مترددة، قلما نفهم كيف تستحوذ على الإنسان إلى هذا الحد فكرة كان هو صاحبها الذي ندب نفسه للدعوة إليها. فنحن أبناء الشعوب التي تأخذ الأمور مأخذ الجد، نفهم أن الاقتناع معناه إخلاص الإنسان بينه وبين نفسه. ولكن الإخلاص للنفس شيء ليس له كبير معنى عند الأمم الشرقية، فاليقين الصادق والادعاء نقيضان في عرفنا لا يقبلان التوفيق، أما في الشرق فالمنافذ الخفية والسراديب الملتفة التي تصل بين هذين النقيضين كثيرة لا تحصر. وكم من رجل من أرفع الناس نفوسًا كأصحاب الأسفار الدينية الضعيفة السند — ولنذكر منهم مثلًا دانيال وأخنوخ — قد اقترفوا بغير حرج من ضمائرهم أعمالًا قصدوا بها تأييد دعوتهم، لا يسعنا نحن إلا أن نسميها افتراء. فالتدقيق في الصدق الحرفي خصلة قليلة القيمة جدًّا في نظر الشرقي، وهو مفطور على أن ينظر إلى كل شيء من خلال خواطره ومصالحه وخوالج نفسه.»

وإذا كان هذا رأي مؤرخ بعيد عن الشبهات السياسية كرينان، فالحق أن نور ثكليف وغيره من سماسرة السياسة لهم العذر الواضح إذا هم خلطوا بين الحقائق والأهواء، وعبثوا بحرمة التواريخ والوقائع الملموسة، واقترفوا بغير حرج من ضمائرهم أعمالًا قصدوا بها تأييد دعوتهم لا يسعنا نحن إلا أن نسميها افتراء!

وعلى أنه إن كان لا بد من فضل للمدنية الغربية على غاندي، فإنه فضلها إذ علمته كيف يشمئز منها، ويحتقر أباطيلها وما يستوعب نفوس أبنائها وعقولهم من صغائرها وشهواتها. وهذا وايم الله فضل ليس بالقليل، وما فتئ النبي الهندي يشكره لها الشكر الجدير به.

١  الأفكار ١٨ سبتمبر سنة ١٩٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤