السلوى١

نعمة من أنعم الله الكبرى، وترياق للنفس الحزينة مركب في الطباع ترجع إليه في بلواها، كما يرجع الجمل إلى سنامه يغتذي منه كلما طال عليه السغب، ومسه الضر، وأقفرت من حوله الديار. وخير الدواء ما كان من مكمن الداء منبته، ومن مادة النفس عنصره، ومن جرثومة الشكوى طبيعته. لا يعرف صدق ذلك أحد كما يعرفه أطباء الأجسام والأرواح، أو أشباه الأطباء ممن عالجوا في أنفسهم ما يعالجه الأطباء في أنفس الآخرين. قال ابن الرومي:

إن من ساءه الزمان بشيء
لجدير إذن بأن يتسلى

وما أظنه جديرًا بالسلوى فحسب، فإنما هو مفتقر إليها ومرغم عليها وغير مصروف بأي صارف عنها. وإلا فما تراه صانعًا إن لم تثب نفسه إلى أمل في السلوى، أو إلى سلوى في الأمل؟ إنه لم يصنع خيرًا من هذين شيئًا.

ولقد تقارب الشبه بين الأمل والسلوى حتى لقد حسبتها أخته، أو حسبته توءمها على خلاف المألوف في التوائم، وإن كان لا بد من نسب فأبوهما الفقدان وأمهما الرغبة. أخذت هي من خشوع أبيها أكثر مما أخذت من جمال أمها، وأخذ هو من جمال أمه أكثر مما أخذ من خشوع أبيه، وكما أن من الأمل صادقًا وآخر كاذبًا، كذلك السلوى منها الصحيح المقبول، ومنها الزائف المغشوش. فأما السلوى الصحيحة؛ فهي التي تُغني صاحبها عما فقده إلى أن يجد سواه، أو يجد ما هو خير منه. وأما السلوى الزائفة فهي التي لا يزال صاحبها فاقدًا خاسرًا، ولا ينتقل بها من خيبة إلا إلى خيبة أفدح منها، فهو يتسلى عما ليس يملكه بما ليس يملكه. ليس في دفتره حساب، بل ليس له دفتر يصلح للمحو والإثبات، بل هو نفسه مضاف على حساب الخسارة في دفتر هذا الوجود.

والسلوى كالأمل دليل غنى النفس، وغزارة مواردها، ووفرة ذخيرتها، واستكمال عدتها لملاقاة الخطوب ومنازلة الحوادث، فمن كانت ذخيرته من السلوى ناضبة، كان كالتاجر الفقير الذي تعصف برأس ماله أول صدمة من صدمات السوق، ثم يقعد بعدها خاوي الوفاض منقطع الأسباب. وليس كذلك التاجر العامر؛ فإنه لن يعدم من ماله أو من الثقة به حيلة يتلافى بها خسارته ويصلح شأنه، ويترقب من ورائها الربح الجزيل، بما يكون له منه سداد لدينه، وعوض ينسيه ما فاته.

على أن الأمل لا يؤذن له في كل مكان تدخله السلوى. وقد يكل الأمل عن غاية من الغايات، فيقف دونها أو يُحجب عنها، وتبلغها السلوى فتنزل فيها بين الرضا والحفاوة، وماذا يجدي الأمل شيخًا فانيًا فُجع في وحيد له أودعه من الدنيا كل أمله وغاية مطامعه؟ أو ماذا يجدي الأمل مكفوفًا ذهب عنه بصره إلى حيث لا يرده عليه طب ولا مال ولا يرجو له معجزة تخرق نظام الحياة من أجله؟ أو ماذا يجدي الأمل ملكًا خُلع عن عرشه وأُبعد عن ملكه إلى حيث لا نجاة ولا رجعة لغير التراب؟ عند السلوى لهؤلاء ومن شاكلهم زاد كثير، وليس لهم شيء عند الأمل. فليتبلغوا بزاد السلوى إذا ارتد عنهم الأمل يائسًا. وويل للنفس إذا يئست من السلوى بعد يأس الأمل منها، فإنها تكون قد نضبت واصفر نصيبها من الدنيا، فلم يبق لها إلا الموت أو الجنون، وطوبى للنفس السالية، فإن المصائب لن تأخذ منها كل ما يؤخذ من النفوس.

ومن الغرائب البينة في خيال الناس أنه مهما توالى من تجربة الإنسان لحوادث الأيام، وبالغة ما بلغت خبرته بلواعج الحزن، فإنه لا يبرح يستخف حمل المصائب البعيدة عنه، ولا يتمثلها على حقيقتها، ولا يشعر بالألم في نفس غيره كما يشعر به في نفسه. قال روشفكول: «كلنا أولو قدرة كافية على حمل مصائب سوانا.» وكأني به يعيب على الناس هذا الخُلُق وما به من عيب، ألسنا نحب أن تخف عن عاتقنا مصائبنا؟ فما بالنا نطلب أن تثقل علينا مصائب غيرنا؟

ولو فكرنا قليلًا لرأينا الطامة الكبرى التي تحيق بالناس لو أنهم طُبعوا على غير هذا الخُلُق. فإننا نرى كثيرًا من الضعفاء والأقوياء يبهظهم أن ينهضوا بحصتهم من الأثقال، ويشق عليهم ما يمسهم من الشدائد والأهوال، فكيف بهم لو ألقيت عليهم مع حصتهم حصص الخلق جميعًا، فأصبح كل ميت عزيز لسواهم، كأنه ميت عزيز عليهم، وكل أمنية يفقدها أحد، كأنما هي أمنية ضائعة منهم، وأصبح ما يشكي العالمين فردًا فردًا يشكيهم على السواء في لذعة الحزن وحرارة الأسف؟ إذن تقتل الهموم ذويها وغير ذويها، ثم لا يجدون من يكشف عنهم غمتها ويسري لوعتها.

وليس بنا من حاجة إلى أن ترهق الناس أعباؤنا كما ترهقنا، وإنما حاجتنا أن يشعروا بأعبائنا ويتلطفوا في تهوين وقعها علينا. وهل تراهم يفعلون ذلك إلا حين يجدونها خفيفة شائعة من حيث نجدها نحن جسيمة نادرة، أو حين يكونون أقل منا جزعًا لها ودهشة من طروقها؟ ولعل أحب أصدقائنا إلينا هو الذي يكون مع عطفه وخلوص نيته أقدر على تلطيف آلامنا ساعة نحمد له ذلك، وإن بدا منه في تلك الساعة أنها لا تؤلمه، كما تؤلمنا ولا هو يكبرها كما أكبرناها.

أعرف صاحبًا ظريفًا كان إذا روَّح عن مهموم أو عاد مريضًا، يمزح فيظهر العجب ممن يجزعون من الهم، أو يشتكون المرض ويتأففون منه ويقول: إني والله لأحسب المرض سميرًا مسليًا ورفيقًا مؤنسًا، وكأنما مع الإنسان شخص آخر في إهابه يناجيه ويتسمع له، ويتحرى رضاه فيلطفه بالطعام المنتخب والشراب الموصى عليه، وينفرد به في ليله ونهاره. وكنا نقول له: وما رأيك في مرارة العقار، وحبسة الدار، والإقصار عن الأوطار؟ فكان يقول: وماذا في هذا؟ أليس لكل صداقة قيود؟

وألَّمت بصاحبنا هذا ضائقة فأفرط في الاهتمام لها والاشتغال بها، وقطعته عن عاداته من الدعابة والتبسط في الحديث، وأردنا العبث به فقلنا له: لشد ما احتفيت بصاحبك هذا الجديد، فعساك تحمد عشرته؟ فاستلقى ضاحكًا وقال: قاتل الله الأصدقاء! ما بقي في الدنيا صاحب موافق قط.

وعندي أن المرء يغبط على هذا المزاج الذي لا يعيي صاحبه أن يتخذ من الهموم والسقام رفقاء وسمارًا، يحفظ عهدهم وإن لم يحفظوا عهده، ويأبى رفدهم وهم يطلبون رفده. وليس كلامنا هنا إلا على الذين يحتاجون إلى السلوى، فأما الذين لحظتهم العناية وحالفتهم الجدود المقبلة، فأصبحوا يتقلبون في حياتهم من نصر إلى نصر، ومن نجاح إلى نجاح، لا يقفون لحساب خسارة، ولا للتدبر بموعظة، فأولئك يغنيهم الله عن صداقة الأوصاب والشجون، ومشاورة الأحقاب والقرون، وأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

١  نشرت في العدد الثامن من صحيفة الرجاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤