المتأنقون

في التاريخ حوادث عظام لا تعد، أحدثها رجال على حالات مختلفة من الأخلاق والمواهب، ولكن لم يكتب لأحد من المتأنقين أن تجري حادثة منها على يديه، ولا أتيح لأحدهم أن يكون ذا قوة منشئة أو أثر دافع في تاريخ عصره، وقد يصل منهم من يصل إلى مقاوم الرفعة والنفوذ بفضل النسب والحسب، أو بفضل المال أو الصدف، ولكنه يظل بعد وصوله إلى تلك المقاوم ذلك العاجز الحصر الخابي النفس والعقل، الميئوس من همته واجتهاده. وتراه في دست الأحكام كما تراه في مجلس المدام: إنسانًا مستظرف المحضر، إن كان به ظرف، وإلا فمشجب حي عليه من أدوات الزينة ما كان قبل هنيهة على مشاجب أخرى من الخشب والحديد.

وفي تاريخ الكياسة والتأنق والأدب مثلان واضحان على هذا العجز الذي يبدو عند التصدي لعظائم الأمور وجسام الأعمال ممن جعلوا همهم في الحياة التأنق واللباقة، واتخذوهما وظيفة في الدنيا ينصبون لها ويزدهون بها، أحد هذين المثلين عصري والآخر أقدم منه بنحو قرنين.

فأما الأول فهو «دي شانل» الأديب السياسي الكيس الذي ارتقى إلى رئاسة الجمهورية في فرنسا بعد بوانكاريه. كان هذا الرجل كاتبًا بارع الإنشاء، مصقول العبارة، وسياسيًّا يُسمع له رأي في دوائر الأحزاب، وكان متأنقًا جد التأنق تتوجه إليه الأنظار ويقتدي به أنداده في هندامه وآدابه، فلما صعد أو صعدت به الظروف إلى دست الرئاسة، ظنوا به خيرًا وانتظروا منه الشيء الكثير، ولكنه لم يوفق لسوء حظه إلى تصديق ظنونهم وإرضاء تشوفهم، ولم تمضِ عليه هنيهة حتى ظهر عليه ضعف العقل الذي كان مكنونًا فيه قبل ذلك، والذي هو من طبيعة هذه الأمزجة المشغولة بالأناقة والمظاهر.

أما الآخر فهو لورد شسترفيلد الذي يعرفه كل دارس لآداب الإنجليزية، صاحب الرسائل البديعة التي خط بها لولده دستور الكياسة والظرف، فجاءت طرفة من طرف البلاغة وآية في جمال اللفظ والأسلوب، وُلد هذا الأديب في بيت من بيوت المجد والغنى، وتثقف عقله كأحسن ما تثقف العقول في عصره، ووصل إلى مجلس النواب، فحسب عارفوه ممن كانوا يلتفون به ويكبرون لباقته في الأندية ومجالس السمر أنه سيشرق على المجلس نجمًا ساطعًا، وسيرقى منه إلى أرفع منزلة في المملكة بجده وأناقته وحسن تخريجه للأمور! فما كان إلا أن خيب فيه كل أمل، ولم يُسمع له صوت يُذكر في المجلس، وقد لزم الصمت في دور نيابته، وكان خطيبًا مقبولًا، لسبب مضحك مزرٍ لكنه ملائم لطبيعة مزاجه. ذلك أنه كان بين الأعضاء رجل هزأة يحسن محاكاة الخطباء في حركاتهم وجرس أصواتهم ولهجاتهم، وكان إذا خطب الخطيب قام فردَّ عليه بصوت كصوته ولهجة كلهجته وإيماء كإيمائه، فيعرضه للضحك والسخرية أحيانًا، ويتغلب على سخريته الأعضاء الأقوياء كثيرًا.

فمن هذا الرجل خاف لورد شسترفيلد وقبع في المجلس لا يتكلم. فكان هذا السكوت منه خوفًا من الضحك، كتلك العناية الدقيقة التي يعنى بها في انتقاء كل قطعة من ملابسه لئلا تُعاب أو لا يستحسنها الناظرون.

ليس بعجيب أن يخفق أمثال دي شانل وشسترفيلد في عالم الجهاد السياسي، أو يظهر منهما ضعف العقل عند المعمعة. إذ ما هي طبيعة التأنق في لبابها؟ أليست هي أن يعيش الإنسان عند ما يستحسنه الناس منه ويلفت أنظارهم إليه؟ فالمعقول في هذه الحالة أن لا تكون للمشغولين بالتأنق تلك القوة الدافعة المتجبرة التي لا تحفل بآراء الناس، ولا يكرثها رضاهم وغضبهم، ولا يصدها عن طريقها استحسانهم واستهجانهم، والمعقول أن لا يكون منهم زعماء فاتحون لعهود جديدة، أو معتسفون أطوارًا كانت مجهولة؛ لأن الزعامة لا تتم بغير تلك القسوة الدافعة، فلا جرم يكون محل المتأنقين في السياسة إذا ولجوا بابها محلًّا خاملًا لا يؤبه له. نعم إن التأنق يستدعي بعض الغرابة للفت الأنظار، فيخيل إليك أن أصحابه على نصيب من الجراءة، ولكنها جراءة كاذبة، وغرابة مرجعها إلى ما يرضي الناس ويبهرهم ويروقهم. فهي منوطة بهم ومولية إليهم.

إن التيار الجارف هو الذي يشتق لنفسه طريقه ويقذف فيه بأمواجه، أما الماء الفاتر فلا محيص له عن الوقوف عند الشطوط يدور معها وينحصر في نطاقها، ومهما ظهر لك من مظاهر المتأنقين وقيامهم بما يغضب الناس منهم أحيانًا، وصبرهم على المخالفة في بعض المعضلات، فلا يغرك هذا من أخلاقهم وأذواقهم، فإنما أساسها كلها فقدان تلك القوة الدافعة التي يُقدم بها المرء على اقتحام العقبات، وقرارها كلها ذلك الماء الفاتر في طباعهم الذي يقف بهم أبدًا عند الشطوط.

والمتأنقون لأجل هذا كانوا أقل الناس صلاحية لقيادة الأمم، ولا سيما في عهد النهضات القومية؛ لأن النهضة تحتاج في كل عصر إلى المجددين المقتحمين، لا إلى الفاترين المتدللين، وتريد النفوس الطامحة القلقة، ولا تريد النفوس الوادعة المترفقة. وليس قوانين النهضات التوفيق بين الإنسان وبين ما يجده من ميسور حاله، وإنما قوانينها أن يتمرد الإنسان على حاضره شوقًا إلى ما يرجوه من مآله.

ولعلماء الجرائم الذين ليس أمامهم مثل للشذوذ ومخالفة البيئة غير أمثلة المجرمين وحثالة الناس أن يعتبروا الملاءمة بين المرء وبيئته نموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه آداب الفرد في الجماعة، ومثالًا للحياة المستوية السليمة، ذلك لأنهم يطلبون سلامة المجتمع ويحرصون على أن تجري الأمور في مجراها، ويحسبون ذلك غاية الأمم التي لا تنزع إلى أبعد منها، وقسطاس الشرائع والأنظمة الذي لا يقبل التغيير والتحول. لكنهم يظلمون العلم، ويظلمون أنفسهم، ويظلمون الحياة إذا جعلوا الملاءمة بينها وبين البيئة التي هي فيها قانونها الأسمى، أو حسبوا هذه الملاءمة طبيعة عنصرها والمحرك الأول لها. فإنما قانون الحياة الأسمى وعنصرها الأصيل قائمان على الشذوذ لا على مشابهة البيئة، وأول ما نشأت الحياة كانت شذوذًا مخالفًا لما حولها، وكذلك أول كل ارتقاء فيها كان اختلافًا مباينًا لسنة البيئة وثورة قائمة على النظام المألوف في الطبيعة، فكلما كان الإنسان أقرب إلى الحياة وأبعد عن الآلة الميتة كان شوقه إلى التجديد والاقتحام أشد وأقوى، وكلما كان أعمق مستقى من ينبوع الحياة وأوفر نصيبًا من دفعة تيارها كان الاختلاف بينه وبين عامة الأحياء كبيرًا بعيدًا، والاندفاع فيه إلى التغيير ملحًّا شديدًا، تلك سُنَّة الحياة منذ نشأت، وتلك هي الروح الإلهية التي تستفزها إلى طلب الكمال، وتحثها أبدًا على التوغل في أسرار الوجود والتزيد من حظوظه وأفراح فتوحاته. ولولا هذه الروح لركدت الحياة، وأسن ماؤها، وانعزلت في بؤرة حاضرها عن المجرى المطرد بين الماضي والمستقبل، ولولاها لكانت الحياة كالتربة القاحلة تلقى فيها الحبة، فتأخذها كما ألقيتها حبة واحدة لا تزيد ولا تتغير، اللهم إلا أن تكون زيادتها وضرًا ورجسًا، وأن يكون تغيرها تعفنًا ويبسًا، وإنما وظيفة الحياة أن تعطي أضعاف ما تأخذ، وأن تكون في داخلها أكبر مما يحيط بها من خارجها، لا أن تجعل ما تعطيه على قدر ما تأخذه، ولا أن تكون هي وما يحيط بها على حال سواء.

أليس من الغريب إذن أن يكون الوادع المتأنق الذي لا يشغله من الدنيا إلا الرضى من نفسه ومن غيره، قائدًا للأمم في نهضاتها وقدوة لها في إبان انطلاق آمالها ونشاط حياتها؟

بلى والله إنه لغريب طريف، وإنه لبدع في التأنق، ولكنه غير جميل ولا ظريف!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤