ريا وسكينة١

بين لومبروزو وأناتول فرانس

من عادة الناس أن يربطوا بين باطن المرء وظاهره بسبب، فإذا أعجبتهم أو أدهشتهم مقدرة فائقة من رجل أو صفة شاذة في خلقه تاقوا إلى رؤية وجهه ليعرفوا من تقاسيمه وملامحه أي رجل هو، ويشهدوا مكان تلك المقدرة أو الصفة من ذلك الوجه. فإن لم يتمكنوا من رؤيته عيانًا سألوا عن أوصافه وبحثوا عن صورته، وكلنا نعلم مقدار أسف الأدباء على أنهم لا يرون اليوم صور ملوك العرب وشعرائهم وعظمائهم ممثل إلى جانب سيرهم وأخبارهم، مقرونة بأشعارهم وآثارهم. وهم لا يستفيدون من صورهم شيئًا وإنما هي العادة، بل نكاد نقول الغريزة تشعرهم بالحاجة إلى مشاهدتها وإجالة النظر في معارفها.

وأنت قد تسمع المغني يردد غناءه فتلتذه وتطرب له، ولكنك إذا حال حائل بينك وبين وجهه استشرفت له ولم تقنع بسماع الصوت الذي هو بغيتك منه، وربما كان دميم الوجه لا يزيدك النظر إليه سرورًا بغنائه، بل قد تعرض عنه إن رأيته صامتًا، ولكنه الإنسان قلما يشغف بمعنى مجرد أو صفة محجوبة، ولا غنى له عن تشخيصها وتجسيمها في شكل من الأشكال المنظورة. ولو شئنا لرددنا إلى هذا الطبع فيه تخيل أربابه الأولين ورفع النصب والأصنام لعبادتها، بل لرددنا إليه حبه للجمال في الوجوه الآدمية؛ لأننا مهما أبعدنا في تفسير هذا الجمال فلن نخرج به عن كونه مظهرًا تتعلق به غريزة حب البقاء والخلود في نوع الإنسان.

ولا نغالي إذا قلنا: إن هذا الطبع عريق في الحيوان قبل الإنسان، فإنك قد ترى حيوانين يتقابلان فيحدق أحدهما بصاحبه ويطيل النظر إلى عينيه، كأنما يريد أن يستشف منهما نيته وكمين قوته. وهي عادة ترجع في الحيوان إلى غريزة حب الذات والحيطة لسلامتها، وتترقى في الإنسان وراء ذلك مراحل شتى.

ولا أظن هذا الميل وجد في الإنسان عبثًا، أعني به الميل إلى رؤية أولئك الذين يسمع عنهم ما يدهشه ويلفت عنايته. فلا بد أن تكون ثمة صلة بين البواطن والظواهر، وبين قوى النفس وملامح الوجه. أقرب مظاهرها إلى الحس الفرق بين نضرة الصبا وغضون الشيخوخة، وأخفاها الفرق بين نظرة العالم ونظرة الجاهل، والاختلاف بين سمة الرزانة وسمة البلادة. وصدق لافاتر منشئ الفراسة الحديثة إذ يقول: إن بين لحظات الفيلسوف ولحظات النجار الساذج تباينًا لا يستطاع إنكاره، فإن لم ينفذ العلم اليوم إلى سر هذا التباين أو تعذر على الباحثين تقسيم حدوده وترتيب أنواعه، فليس لأحد منهم أن يجزم بإنكاره أو يقلل من شأنه. وربما كان تقسيم تلك الحدود وترتيب تلك الأنواع مستحيلًا، بيد أن الفرق بينهما يبقى مع ذلك ثابتًا محققًا، كثبوت الفرق بين الأجناس البشرية مع استحالة تمييزها بفواصل قاطعة في العصر الحاضر.

اشتغل لمبروزو العالم الإيطالي الكبير بهذا البحث في عصرنا هذا، وألَّف فيه كتبًا عدة أشهرها كتاب «الرجل العبقري» وكتاب «الرجل المجرم»، وفي كلا الكتابين يثبت المؤلف علامات في الوجوه والأجسام يستدل بها على العبقرية أو طبيعة الإجرام. ولقد استرسل في التعميم حتى تناول الجسم جارحة جارحة، وأظهر ما يتوسمه فيها من الخواص المميزة، فأتى بحقائق لا نقول: إنها كل الصواب، ولكننا لا نراها كذلك كل الخطأ. فإلى أي حد يا ترى تفيد حقائقه وتُجدي ملاحظاته؟

أسأل هذا السؤال وبين يدي صور أربعة من كبار المجرمين: أربعة لم نسمع بأبشع من جرائمهم وآثامهم في بلدنا هذا وفي وقتنا هذا، تهافت الناس على صورهم كما يتهافتون على صور العظماء، لا حبًّا في اقتنائها ولا إعجابًا بأصحابها، بل لكي يروا كيف تكون تلك الوجوه التي تخفي وراءها قلوبًا تعيش فيها شياطين الجرائم، وأسرار الدماء، وتستقر فيها الجيف في هاوية عميقة من الشرور٢ يسألون أنفسهم: أتكون تلك الوجوه كوجوه الناس؟ تلك هي صور المرأتين سكينة وريا، وزوجيهما محمد عبد العال وحسب الله سعيد، وهم المتهمون في جرائم إخفاء النساء بالإسكندرية. فماذا يتوسم الناظر فيها؟

يُخيل إلى بعض القراء أنه سيرى في تلك الصور وجوهًا يفر منها هلعًا ورعبًا كما يفر من أشباح جرائمهم وبشاعة نفوسهم. وهذا هو مصدر الخطأ في إنكار الفراسة، ونفي العلاقة بين سمات المرء وأعماله، فقد يقترف المجرم أشنع الكبائر، ثم لا يكون ذلك متأتيًا عن نفس مرعبة تغلي بالشر وتتوثب إلى العدوان، بل يكون كل ما في الأمر أنها نفس ميتة يمر بها الناظر فينقبض لمرآها، كما ينقبض لمرأى العظام النخرة والجثث المشوَّهة، فإذا لم يجد في صورها من بواعث الرعب والهلع مثل ما تبعثه في خياله جرائمها وذنوبها توهم الخطأ في آراء القائلين بالفراسة وخفي عنه مصدر الخطأ من تصوره.

وكذلك صور هؤلاء المجرمين، فإنها لا تشف عن طمع قوي، أو غيظ سريع، أو حيوية ضالة جهنمية، وإنما تشف عن بلادة الموت وخمود العقل. وكلما اندس منظرهم بين المناظر العادية التي تُشاهد في كل يوم، كان ذلك أدل على اختلاف طبائعهم وتميز نفوسهم؛ لأن الذي يقترف أفظع الآثام ولا تبدو على وجهه آثارها جلية شاخصة، لا يكون مخلوقًا عاديًّا من عامة الناس.

ولا يفوتنا أن نُنبِّه هنا إلى الذي نعنيه بكلمة الجريمة في هذا البحث فنقول: إننا لا نعني جرائم العرف لأنها مما يتغير بتغير القوانين والمجتمعات التي تسنها، فما يكون جريمة في عصر من العصور أو مجتمع من المجتمعات قد لا يكون كذلك في عصر آخر، أو في مجتمع غير ذلك المجتمع. ومن البديهي أن مثال هذه الجرائم العرفية لا يلزم أن تصدر عن طبيعة خاصة، ولا أن تبدو لها على ظاهر الجسم علامة موسومة؛ لأنها جرائم ترجع إلى مصطلحات الوقت لا إلى طباع الناس، ونحن لا نعنيها — كما قلنا — حين نذكر الجريمة، ولكننا نعني تلك الجرائم التي ينافي شيوعها سلامة الإنسانية بأسرها، والتي يستنكرها جميع الناس بالفطرة ولا يتعلق استنكارها بعصر دون عصر، ولا بقبيل دون آخر.

يتساءل أناتول فرانس: «أنقول مع مودسلي: إن الجريمة تستكن في الدم، وإن في المجتمع طائفة مجرمة، كما أن بين الغنم شياهًا سوداء الرءوس، وإن تمييز الأولين من السهولة بحيث لا يختلف عن تمييز تلك الشياه من قطيعها؟ أنخوض في آراء رجل من أشد الباحثين اقتناعًا بمذهبه؟! ذلك الإيطالي مؤلف «الرجل المجرم».

ثم يقول: «الحق أن الباحث الإيطالي لن يُوفَّق إلى حصر جميع المجرمين في صنف معين، وعلة ذلك أن المجرمين بطبيعتهم مختلفون بعضهم عن بعض، وأن الاسم الذي يجمعهم لا يحضر في الذهن شيئًا واضحًا. والسنيور لمبروزو لم يفكر في تعريف كلمة المجرم، فلهذا تراه يقبلها على معناها الدارج، وبهذا المعنى يسمى الرجل مجرمًا إذا اقترف بدعًا خطيرًا في الآداب وشذوذًا عن أحكام الشريعة. ولما كانت الشرائع كثيرة والآداب غير محدودة، فقد صارت أصناف المجرمين بلا قيد ولا حد. والواقع أن ما يسميه السنيور لمبروزو مجرمًا إن هو إلا مرادف لكلمة السجين، ولا بد أن يتشابه السجناء، فإن تشابههم في المعيشة يُحدِث بينهم على الأقل تماثلًا يميزهم عمن يعيشون أحرارًا. وقُلْ مثل ذلك في جميع الطوائف المستقلة بأزيائها، فإننا قد نعرف أفرادها وإن خلعوا ملابسهم.»

وفي هذا القول الذي يقرره أشهر المنكرين اليوم جانب صحيح؛ وهو تعذر الفصل بين طبقات المجرمين وحصرهم في صنف واحد. أما قوله: إن التشابه بين مجرم ومجرم يأتي من تشابه المعيشة في السجن فرأي سطحي بعيد عن الحقيقة؛ لأن الاستعداد للقتل أو السرقة أولى بأن يخلق الشبه من الاشتراك في المطعم والمسكن سنة أو عدة سنين.

على أن أناتول فرانس يوغل في الإنكار إلى أبعد مداه فيقول: «إن الجريمة في أصلها ملتبسة بالفضيلة، وهي لم تنفصل عنها إلى اليوم بين القبائل السوداء في أواسط أفريقيا. فهنالك كان يقتل الملك متيزا ملك طوارج ثلاثًا أو أربعًا من نسائه كل يوم، وقد أمر بإحدى نسائه أن تُقتل لأنها أجرمت بتقديم زهرة إليه. على أن متيزا هذا حين اتصل بالإنجليز أظهر ذكاء عجيبًا واستعدادًا يُذكر لفهم أفكار الشعوب المتحضرة. ولعمري كيف نستطيع الإنكار؟ إن الطبيعة لهي التي تعلم الجريمة. فالحيوانات تقتل مثيلاتها لتلتهمها أو غيرة منها أو لغير سبب قط. وإن بينها لعددًا عظيمًا من المجرمات، تلك هي الجريمة، فإن كانت العجماوات المسكينة غير مسئولة عنها، فلا مناص من اتهام الطبيعة.»

هنا نرى أن تعميم لمبروزو مهما توسَّع فيه أجدر بالمتابعة من تعميم أناتول فرانس؛ لأن الأول يقول شيئًا والثاني لا يقول.

وليس يزعم أحد أن الصفات التي يذكرها العلامة الإيطالي ستغني الحكومات عن الشهود والقرائن والتحقيقات وتتخذ أدلة ينص عليها في القوانين. بل لا أنكر أن صور المجرمين الذين نتكلم عنهم قد تمر دون أن يُلتفت إليها، ولا سيما صورتي الرجلين. فإن بلادة الشر على وجهي المرأتين أظهر منها على وجهي زوجيهما، وأثر الإدمان فيهما أقبح وأبلغ. ولكن الأمر الذي لا أشك فيه أن بلادة الحس ظاهرة على وجوههم جميعًا ظهورًا لا يتخطاه النظر أحيانًا، إلا لأن البلادة من طبيعتها أن لا تلفت الأنظار، ولا حاجة بنا إلى أكثر من هذا الأثر البارز للدلالة على ما وراءه من النفوس.

١  نشرت هذه المقالة في الأهرام يوم ٣٠ نوفمبر سنة ١٩٢٠.
٢  كان هؤلاء المجرمون ومن معهم يقتلون النساء ويدفنونهن في حُجر النوم، ويأكلون ويقصفون فوق رفاتهن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤