ضروب الإلحاد

يقولون: إن نواميس المادة غفل من القصد الأدبي، فالنار تحرق من يقتحمها سواء أكان المقتحم متطوعًا للخير رحيمًا بالضعفاء يغيثهم ويجازف بحياته من أجلهم، أم كان لصًّا أثيمًا يسطو عليهم ويسلبهم متاعهم، والسيل قد يسقي الأرض البور، وقد يجرف الأرض العامرة، ولا حساب في حركة من حركات هذا العالم لوجود الأحياء كأنما هم واغلون فيه ينزلون من ساحته في غير العنصر الذي خُلق لهم. ليس يختل قانون من قوانينه قيد شعرة لإعفاء نفس صالحة من أحكامه الصارمة، ولا للإبقاء على أمة كاملة ولا نوع بأسره. يقولون ذلك ويستدلون به على خرق هذه النواميس المادية وجريانها على حكم الضرورة العمياء، ثم لا يقفون عند هذا الحد، بل يتخذون منه دليلًا على خلو الكون من الحكمة المدبرة والنظام المقصود!

والظاهر من قول هؤلاء المعترضين أنهم يريدون من المادة أن تحابي، وأن تقف موقف الحكم بين الأخيار والأشرار، فتساعد على عمل الخير وتُمانع في عمل الشر. وحينئذ يخرج الرجل فيقتحم النار إذا نوى الخير فلا تحرقه، ويخوض الماء فلا يغرقه، وتصادفه العقبات فتتطامن له، والمصائب فتتنحى له عن طريقه. ويخرج الشرير فيجد أمامه من السهل جبلًا، ومن الفضاء أسدادًا، ويجرد السلاح الرميض فيكل في يمينه، ويعالج تسخير المادة فتلتوي عليه، فيتوب مجبرًا عن نيته.

هب ذلك كان، فهل يسمونه حينئذ نظامًا مقصودًا وحكمة مدبرة؟ وهل يكون الخير خيرًا والشر شرًّا على هذا التصريف؟

كلا! بل الذي يكون أن تنتقل حرية الإرادة من النفوس الحية الناطقة إلى المادة الميتة الصماء، ويصبح الإنسان في العالم وهو أحط ما فيه من الأشياء، تختار له وهو لا يختار لها، وتحكمه وهو لا يحكمها، وتسوقه فينساق، وتوصد أمامه الطريق فيعتاق. فلا مشيئة له بل لا حياة. فهل هذا ما يؤثرون؟

ويقولون: إن الإنسان نفسه لا يتبين في حادثة من حوادث العالم ما يشتم منه علو الخير على الشر ورجحان الحق على الباطل. فقد يعيش الرجل كئيبًا محسورًا، ثم يموت بغصة المغبون وهو في صف الحق عاش وفي صفه مات، وقد يعيش سعيدًا موفقًا إلى النجح، ثم يموت ظافرًا قرير النفس، وما قرت نفسه بغير التشفي من ذي حق، ولا نجح إلا في مؤازرة باطل، فأين الله وما هي الغاية؟

وكأن هؤلاء يرضيهم أن يعيش كل إنسان حتى يرى حادثة يغلب فيها الخير غلبًا تامًّا، ويفشل فيها الشر فشلًا تامًّا، وتكون الوقعة الفاصلة التي لا يُخشى بعدها مساجلة، ولا تُنتظر لها بقية، إذن يؤمنون بالغاية في الوجود!

ولا نجيب هؤلاء بأن تحققهم من غلبة الخير دائمًا، وفي كل حالة، هو تحقق ينفي معنى العقيدة ويخالف طبيعة الثقة بالمجهول، ويثبط بواعث الجهاد في الحياة، ولا نقول لهم: إن بواعث العمل في الحياة لا تتوقف على ما يطلبون، وإن الرغبة في التحقق من غلبة الخير إنما هي رغبة عقيمة لا تؤدي إلى عمل. لأن الشكوكيين الذين تعوزهم الأدلة لا يعملون، واليقينيين الذي يعملون لا تعوزهم الأدلة، لا نجيبهم بهذا ولا بذاك، ولكنا نسأل: هل البرهان الذي يطلبونه ليؤمنوا معقول وجيه؟ وهل البصيرة الرشيدة تحتمه ولا يقر قرارها إلى سواه؟

ولكي نجيب على ذلك نفرض أن الإنسانية كُتب لها من العمر على هذه الكرة مليون عام. فالمعقول هو أن الغاية من هذا العمر القصير في سياق الأبد لا تتحقق إلا في أواخره، وأنه إذا وُضِع نظام لسياسة هذه الإنسانية كلها، فإنما يُحسب في أدواره وتقلباته حساب مليون عام لا عشرة ولا مائة ولا ألف. فإذا طلب كل إنسان أن يرى تحقق هذه الغاية ليوقن بها في أثناء حياته، ألا تراه كأنما يطلب أن تنتهي سياسة الكون ثم تبدأ من جديد مرة في كل ستين أو سبعين سنة؟ لا بل مرة كل يوم، بل كل ساعة! لأن السنة التي توافق السبعين من حياة إنسان قد تكون السنة الأولى من حياة إنسان آخر، والعاشرة من حياة غيره وهلمَّ جرَّا.

وفيم كل ذلك؟ فيم يختل اطراد القوانين الطبيعية؟ وفيم تنشأ الحوادث ليستدل بها الإنسان لا لتعمل عملها؟ في شيء هو إلى العبث والتلهي والفرجة أقرب منه إلى الجد والحكمة، في منظر عارض تتوق إليه نفس فارغة، في حجة جدلية إذا كانت هي المؤسس الوحيد لبواعث الإيمان في هذه الدنيا فلا حاجة إليها؛ لأن الدنيا على ذلك لا تكون مستحقة أن يؤمن بها، ولا تكون في ذاتها إلا دليلًا ناقصًا على لا شيء. وإذا لم تكن النفس من التمكن من ينبوع الوجود بحيث يسري إليها الإيمان به من داخلها، كما يسري عصير الحياة إلى الشجرة اليانعة من مغرسها، فسريان الإيمان إليها من الخارج مستحيل.

إن القلب ليشك، ولكنه إذا شك بحق فلن يلبث أن يؤمن بحق أكبر وأعلى، وليس بقليل عدد أولئك الذين سلكوا هذه الطريقة من الإيمان الأعمى، إلى الشك، إلى دفع الشكوك، إلى الإيمان البصير.

ومن المنكرين غير من أشرنا إليهم آنفًا من يغريه الخيال بالإلحاد، فلا يجيء إلحاده عن بحث ولا وسواس ضمير، وذلك إذ يسترسل الخيال في تصور هذا الكون متروكًا إلى نفسه متخبطًا في دياجير الأبد المجهول، لا عين تراه، ولا رائد يرسم له خطاه. كون ضال حائر في ظلمات اللانهاية! يا لها من صورة يرتع فيها خيال الشاعر فترة، فتلهيه عما وراءها من اليبوسة والعقم والخواء. وما من شاعر ألحد، إلا كان له من تلك الصورة شراك خلابة واستهواء.

ومن الإلحاد ما تدعو إليه الرغبة في التمرد وحطم القيود الموضوعة. وكلما كانت القوة التي يناصبها الملحد أهول وأعظم، كانت المعركة أجل وأشبه بالبطولة الرائعة المعجبة التي يُسمع عنها في أساطير المردة ووقائع الجِنَّة والشياطين. وهذا إلحاد يفرض صاحبه وجود القوة التي ينكرها ليوثب نفسه بمعاندتها وتحديها. وهذا أيضًا من الإلحاد الشعري، وهو إلحاد لا يُدفع بالحجة، وإنما يدفعه الخيال الذي أتى به.

•••

ولحكمة ما شاعت كل هذه الضروب من الإلحاد في القرن الماضي. فقد كان الناس في حاجة إلى من يقيمهم على صراط الإيمان السوي. كانوا يؤمنون بالله ولا يدركون عظمة الكون، ولا يفقهون شيئًا من أسراره، ولا يشعرون بجمال الله في خلقه، ولا يملئون نفوسهم من نشوة هذه الحياة التي يبثها في وجوده. ولكنهم كانوا يؤمنون به على النسيئة انتظارًا لعالم آخر تتجلى فيه قدرته، ويرون فيه من آياته ما لا يرونه هنا. كأنما ليس في هذا العالم الكفاية للإيمان القوي الصحيح، وكأنما ليس لله حق الإيمان عليهم إلا من طريق ذلك العالم الذي ينتظرونه، وهذا ضلال شنيع. بل هذا هو الكفر بعينه. أليس الكفر هو الجهل بالله؟ فأي جهل بالله أشنع من هذا الضلال الذي يتراءى لنا في ثياب الرشاد؟ وإنما الإيمان الذي يُبنى على غير تقدير من النفس كالإعجاب الذي يُبنى على السماع، وكالحب الذي يُبنى على الوهم، كلها شعور فارغ لا يصدر عن صميم النفس ولا يدل على عطف بعيد الغور، ولكنه عبث وقشور. وتعالى الله أن يرضى من أحد بالعبث والقشور، ولا سيما في الإيمان بأسرار الحياة ولباب الوجود.

إذن كيف كانت النفوس تهتدي إلى الصواب وتتجه في عقائدها إلى الوجهة المُثلى؟ كان لا بد لها من الالتفات بكل ما تملك من أمل وشعور إلى هذه الحياة. كان لا بد لها من أن تقصر عليها الرجاء زمانًا؛ لترجع إلى كهوفها المهملة وسراديبها المهجورة ومحاسنها المجهولة فتنقب عنها، وتجلو الغبار عن نفائسها، وتدفعها الحاجة إلى الرضى بخيرها وشرها، فتعرف قدر ما كانت تزهد فيه من غير تجربة، وقيمة ما كانت ترفضه من غير روية، وتستكشف من ثمَّ هذه الحياة التي كانت تعيش فيها وكأنها من غير أهلها، فتنكشف لها معالم الإيمان الصحيح من هذه الطريق، ولا طريق سواها إلى الله.

وهذا ما تكفلت به المادية في القرن التاسع عشر، وتلك هي رسالتها في هذا العالم! وهكذا ما من شيء في هذا العالم إلا له رسالة يدعو إليها، وعليه فريضة يقوم بها. حتى الكفر قد تكون له رسالة يؤديها في سبيل الإيمان الذي لا إيمان أصدق منه ولا أسمى؛ لأنه إيمان بعظمة هذه الحياة. وكل شعور بعظمة الحياة، فإنما هو شعور بعظمة الله الحقيقية، وهو الإيمان الحق المقصود، وكل ما عداه فمن جرثومة الكفر وإن هتف باسم الله، ومن معدن الإلحاد وإن صلَّى وصام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤