آراء في الأساطير١

المذهب التشخيصي اللغوي

الرأي التشخيصي هو أصوب الآراء في تعليل منشأ الأساطير، وأقربها إلى الإقناع، وأجمعها لأوجه التطبيق والتأويل. وفحوى هذا الرأي أن من ديدن الإنسان أن يخلع شخصيته على الموجودات، ويتمثل ذاته في القوى والعناصر المجردة، فيرى لها — عامدًا أو غير عامد — شخصًا كشخصه، ونية كنيته، وحياة كحياته، وإن هذا الوهم الذي لا محيص للمرء عنه، يظهر أشد الظهور في الطفل والرجل الشرس السيئ الخلق، فترى الطفل يضاحك الأشياء ويغاضبها ويحنق عليها، والرجل الشرس يصيح بها ويسبها ويقتص منها، كأنها تفهم ما يقول أو تقصد ما تعمل.

وقد يظهر في الرجل الرشيد إذا ملكه الحزن أو الغيظ، فيخاطب ما لا يعقل خطاب العقلاء. ومنذ زمن لا عهد لنا بمبدئه وصفت اللغات الأشياء بصفات الآدميين، ونحلتها أعضاءهم وأفعالهم، وحمدت منها أو ذمت ما يحمد أو يذم من الناس، وقسمت ما ليست له ذكورة ولا أنوثة إلى ذكر وأنثى. ولولا غريزة التشخيص لما سُمِّيت بعض الأشياء بأسماء المذكر وبعضها بأسماء المؤنث حسب ما يتصوره فيها الإنسان مما يقابل صفة الرجل عنده أو صفة المرأة، وقد أسهب في تحليل هذه الغريزة الأستاذ الإيطالي تيتو فينولي٢ في رسالته الموسومة «بالخرافة والعلم» ولخصها في قوله: «لم يفتأ علماء الناس وجهلاؤهم يتكلمون عن الجمادات كأنها تعقل وتشعر، وفي ذلك إشارة إلى الأصل البعيد للمذهب القائل بتشخيص الإنسان لجميع المواد الطبيعية، كما فيه إشارة إلى أن عقولنا لم تتخلص بعدُ من هذه العادة، ولذلك تتردد الكلمات عفوًا على ألسنتنا في سياقها العتيق فنسمعنا نقول: جو طيب وجو رديء، وريح خرقاء أو هوجاء، وبحر غدار، وصخر عنيد إذا صعب علينا تحريكه. وقد نُعنِّف الموانع والعراقيل كأنها تسمعنا. ونقول: فصل متقلب أو خداع، وأن الشمس كئيبة لا تشاء أن تضوء، وأن السماء تتوعد بالثلج، وهذا نبات قد خنقه الحر، وهذه تربة عصية، وتلك تربة ليست بالمستوحشة؛ أي إنها تصلح للزرع. والأرض تضحك خصبًا وإيناعًا، وتختال زهوًا وإمراعًا، ويقال: نهر سوء، وبركة تبتلع الناس، وصعيد عطشان يترشف الماء، وإن النبات يخاف البرد. ويقول أهل بستوجا: إن بعض أشجار الزيتون لا تتوجع للضرب، ولا تخاف كيت وكيت، أو إنها تعيش ولا تأبه لمر السنين. ويقولون أيضًا: إن شجر الزيتون لا يهاب المناجل ويلتذ قطعها فيه إذا أعملتها يد ماهرة. وغير هذا ألوف من الأمثلة يمكن إيرادها. فمن رام التوسع من قرائنا فعليه بكتاب جيلياني (اللغة التوسكانية الحية).

ولا نقنع بأن ننحل الأشياء أفعالنا وشعورنا، بل ننحلها كذلك هيئاتنا وجوارحنا، فنقول: رأس الجبل وكتفه وخلفه وقدمه وأضراسه وأحشاؤه، ونقول: ذراع من البحر، ولسان من الأرض، وثغر المرفأ أو الكهف أو البركان، ووجه المنزل، وقرن الهوة، وعين السماء، وشريان المنجم، وإن جبال الألب صلعاء؛ أي جرداء، والثرى أجعد، وهذا شيء ميمون الطالع أو منحوسه، وجبل عملاق أو قزم … إلخ إلخ.»

ومن هذه الغريزة تولدت الأساطير والحكايات التي يرويها القدماء عن الكواكب والأشجار والبحار، وما ينسبونه إليها من خلائق الإنسان كالغرام والولادة والانتقام ورغبات أخرى مما لا يحصل من غير بني آدم.

مذهب سبنسر

وللفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر رأي غير الرأي التشخيصي في منشأ الخرافات والأساطير، فعنده أنها ترجع إلى عبادة الموتى، وتفسير ذلك أن الهمج كانوا يعبدون أرواح أسلافهم وآبائهم، ويعزون إليها ما يصيبهم من الخير والضر، ويعتقدون أنها تتغذى مثلهم وتنكح وتشتهي من متع العيش ما يشتهي الأحياء، فيتقربون إليها بما يرضيها، ويدفنون النساء مع الهالكين ليلحقن بهم. وأن قومًا من هؤلاء الأجداد كانوا يُدعون باسم الشمس والقمر والعناصر الطبيعية، ثم يموتون وينسى الناس تواريخهم وأشخاصهم، فينسبون ما حفظوه عنهم من النوادر والأخبار إلى مسمياتهم؛ يعني الشمس والقمر والعناصر الطبيعية، فيقولون: الشمس أحبت، والقمر صنع كذا وكذا. والحقيقة أن الرجل الذي كان اسمه القمر أو الشمس هو الفاعل الأول لتلك الأفعال.

وهذا رأي وجيه يسهل به تعليل كثير من الأساطير الهمجية، ولكنه لا يُعارض الرأي التشخيصي، ولا ينفي أن الإنسان قد جُبِل على أن يفترض للكائنات شخصًا يرسمه في مخيلته على مثال شخصه، ويجعل له إرادة ورغبة مثل إرادته ورغبته، ويأنس بها ويحاذرها أحيانًا. ومتى كان مجبولًا على ذلك، فلماذا يُستغرب منه اختراع تلك الأساطير، ثم الإيمان بها، ولا سيما إذا عرفنا أن الغريزة التشخيصية عريقة في الحيوان قبل الإنسان؟ ونحن نعرف ذلك لأنه ظاهر من عدة مشاهدات ملحوظة نسوق منها ما قصَّه دارون في كتابه أصل الإنسان عن كلبه حيث يقول: «كان الكلب راقدًا على العشب في يوم قائظ، وعلى مسافة قريبة منه مظلة مفتوحة هبت عليها نسمة رخية فحركتها حركة كان لا يلتفت إليها الكلب لو أنه أبصر بجانب المظلة إنسانًا، ولكنه كان كلما اهتزت المظلة عوى عواءً شديدًا، وأظنه خطر له بسرعة وعلى وجه غير محسوس أن الاهتزاز بغير محرك ظاهر يشير إلى وجود فاعل خفي.» واستنتج دارون من ذلك أن للحيوانات إلهامًا بالأرواح، وهو بعيد، وكل ما يؤخذ من عمل الكلب أن الحيوان يوجس من الجماد إذا اضطرب أو تقلقل؛ لأنه لا يسعه الحكم باستحالة صدور الأذى منه. وقبل أن نلجأ إلى استنتاج دارون، ينبغي أن نتأكد من أن بديهة الحيوان تفصل بين طبيعتي الحياة والجمود. فهل هذا معقول؟ ومن منا لم يرَ سنورًا يعبث بالخرق والريش كما يعبث بالفأر، أو يرَ جوادًا يجفل من الأغصان كما يجفل من الثعبان أو يتحاشى بعض الأشجار كلما دنا منها كأنه يتوقع عندها مكيدة؟ وقد أورد صاحب كتاب الخرافة والعلم مشاهدات كهذه شهدها في بعض الحيوانات لا حاجة بنا إلى إيرادها لكونها مألوفة مسلمة.

على هذا درج الإدراك الحيواني مشخصًا في العجماوات قبل الإنسان، فلا داعي إلى القول بأن ما يُتحدث به من أساطير الأقمار والكواكب والعناصر منقول عن رجال عرفوا بأسمائها في الزمن القديم، وليس من الجائز أن يكون الإنسان قد تبطن كنه الأجرام السماوية حين عبد موتاه، فعرفها تمام المعرفة، ولم ينظر إليها نظره إلى الحي الذي يريد ويعمل ويناط به السعد والنحس. وعلى أن تسميه الناس بأسماء الكواكب يشهد بصحة المذهب التشخيصي وعمق مصدره من المخيلة، وإلا فهل كان الهمج يسمون زعماءهم بأسمائها أو يسمونهم بسيمائها إن كان ليس لها في نفوسهم شخصية، وليس بينها وبين زعمائهم مشاكلة؟

المذهب اللغوي

ورأي ثالث في منشأ الأساطير للبحاثة اللغوي ماكس مولر. يقول هذا البحاثة: إن وصف الكائنات بصفات الإنسان ضرورة أوجبها ضيق اللغة في الأيام الفارطة. فكانوا إذا جعلوا الشمس أمًّا فعلى سبيل الاستعارة، كقولنا مثلًا: إن إيطاليا أم الفنون، ولكنهم لضيق اللغة كانوا يعممون ذلك في حديثهم، فيسري منه إلى المخيلة عفوًا وعلى غير قصد، وهذا القول من المذاهب المعوَّل عليها في تفسير طائفة من الأساطير الإغريقية والهندية. إذ لا ريب أن الاستعارة اللغوية أصل وشيج من أساطير الأمم نابت بعضها من بعض كما يقول مولر. ولكن ضيق اللغة إذا جاز أن يكون سببًا لتسمية الجمادات بأسماء الإنسان فما هو بمغنٍ في تأويل خوفهم منها وتأميله فيها فضلًا عن تأويل ذلك في أطفال لا يتكلمون، وفي عجماوات لا تعوزها اللغة، ومولر نفسه قد أتى في عرض كلامه على مقابلة الأساطير بشذرات هي مؤدى المذهب التشخيصي برمته فقال: «كيفما صرفنا اللغة لم نجد كلمة مجردة إلا وجدنا أنها في أصل اشتقاقها كانت صفة ثم صارت اسمًا، وإن من أعسر المسائل على الذهن أن يدرك الصفة في هيئة ما مجردة إن لم نقل: إن ذلك محال من الوجهة المنطقية. فإذا قال قائل مثلًا: «أنا أحب الفضيلة» لم تقترن بكلمة الفضيلة أية صورة؛ لأن الفضيلة ليست كائنًا، ولا هي بحال من الشخصية أو القالب أو الصورة الخارجية، وليس لها هيئة تؤثر في عقولنا أثرًا ملموحًا، وإنما هي تعبير مختزل من جملة طويلة. وأول ما قال قائل أحب الفضيلة فإنما كان يعني «أحب كل شيء فاضل»، وقال مولر أيضًا: «ليس في طاقتنا أن نستحضر في أخلادنا العاطفة التي بها كان ينظر الأقدمون إلى آيات الطبيعة إذ كل شيء عندنا بقانون قاهر وحسبان مقدور، وفي استطاعتنا أن نحصر قوة الجو العكسية ونذرع مد الفجر في كل سماء، وشروق الشمس عندنا حقيقة نحن لا نشك فيها إلا كما نشك في أن اثنين واثنين أربعة. ولكن هب أننا استطعنا أن نعود كأسلافنا فنؤمن بأن في الشمس ربًّا على مثالنا، وأن في الفجر روحًا يشاطرنا العاطفة، واستطعنا برهة أن نتخيلها كائنات مطلقة من ربقة النواميس، معبودة كما تعبد الآلهة، فما أشد ما يتغير إحساسنا ببزوغ النهار.

فاعلم أن قولنا: إن الشمس ستشرق حتمًا جزم لم يفهمه الأقدمون من عباد الطبيعة. وإذا طرأ عليهم شبهة من انتظام الشمس والأفلاك في دورانها فما أن يزالوا يحسبون أنَّها أسرى مغلولة إلى أجل مسخرة في طاعة قدرة أعلى وأكمل، ولسوف يخلى عنها في يوم من الأيام كما سيخلى عن هرقل فترقى إلى المقام الأسنى. وقد يلوح لنا من السذاجة الصبيانية ما نقرؤه أحيانًا في «الفيدا» من أمثال هذه الأسئلة: ترى هل تطلع الشمس غدًا؟ أيرجع صاحبنا القديم الفجر؟ أيظفر إله النور بجنود الظلام؟ ومتى ذر حاجب الشمس عجبوا لها كيف تقوى في المهد على تجديل أفاعي الليل، وكيف تطيق الوليدة عبور السماء. وسألوا ما بال طريقها نقية من الغبار، وكيف لا تنقلب فتسقط؟ ثم لا يلبثون أن يحيُّوها تحية الشاعر العصري «مرحبًا أيها الظافر الشرقي بالليل العبوس» … إلخ إلخ.»

وخلاصة هذه الآراء أن الإنسان مشخص برغمه، فهو إذا تمثل قوة مجردة أو محسة، وهبها زيَّه وبسط عليها زواله ونحلها أعماله.

١  من كتاب «ساعات بين الكتب».
٢  Myth and Science by Tito Vignoli.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤