خطرات وشذور١

الشرق والغرب

الفروق بين أساليب الشرقيين والغربيين في التفكير كثيرة، ولكن لعل أوجزها وأجمعها فرق واحد؛ هو أن الشرقي طُبع على النظر إلى غايات الأشياء، وأن الغربي طُبع على النظر إلى عللها، وربما كان سبب هذا الاختلاف أن الشرقي وجد ثمرات الطبيعة مجهزة أو سهلة التجهيز فنظر إلى معناها وفحواها، وأن الغربي احتاج إلى استخراجها فنظر إلى أسبابها ومناشئها.

العدل والقوة

أيهما خير للناس جميعًا وللأقوياء والضعفاء معًا: أن يكون القوي عادلًا ينصف الضعفاء من نفسه، ولا يستأثر بحظ من حظوظ الحياة دونهم، فيظل قويًّا بلا منفعة له من قوته، ويظلون هم ضعفاء بلا ضير عليهم من ضعفهم، أم أن يكون مفتئتًا طاغيًا يؤرث باستعلائه وكبريائه نيرانهم، ويتغلغل بسطوته في دخيلة نفوسهم وفي حيث يخامر الذل قلوبهم، فلا يدع ثَمَّ موضعًا من مواضع الدعة إلا زلزله، ولا عدة من عدد النهضة إلا شحذها، حتى يضطرهم اضطرارًا إلى تنكب أسباب الضعف والأخذ بأسباب القوة؟

الذي يحصل هو هذا، والذي يتمناه الناس هو ذاك، ولكن الذي يحصل هو الخير والرحمة، والذي تمنوه هو الضير والوبال.

ما دام في الأرض ضعف وقوة فمن الرحمة بالعالم أن لا يتساوى الضعفاء والأقوياء.

نشر الدين

الغيرة على نشر الدين مقصورة على الموحدين، ولا أظن الوثنيين كانوا يرتاحون إلى مشاركة الأجناس الأخرى لهم في نحلهم وأديانهم؛ لأنهم يعتزون بامتيازهم بدين خاص لهم اعتزازهم بجنسهم ونسبهم ولغتهم، ويرون آلهتهم كآبائهم وأجدادهم ينبغي أن تكون لهم بلا شريك.

محاكاة الطبيعة

القول بأن الشاعر يُغني محاكاة للطير في شدوه لا يقل في الغرابة عن القول بأن الإنسان يطهي الأطعمة محاكاة لأكلة البرسيم ونهشة اللحوم من الدواب. إن حاجة الشاعر إلى الغناء كحاجة الطير إلى التغريد، فلِمَ يكون أحدهما حاكيًا؟

حكم طبيعة المرأة عليها

الله مذكر في اللفظ. ولو أمكنك أن تخطف أجوبة الرجال والنساء من قرارات أفكارهم وعلى غير انتباه منهم وسألتهم: هل الله مذكر أو مؤنث؟ لأجابوك على الفور: بل هو مذكر. فللإله صفة الذكورة الوهمية في بدائه الرجال والنساء على السواء؟ ونعني بالبدائه ذلك الجانب الذي لا يعيه الذهن، حيث مستودع التصورات والأخيلة التي لا سلطان للبحث ولا للروية عليها. فالمرأة لن تستطيع أبدًا أن تتصور في أبعد خبايا نفسها أن يكون هذا الإله الفرد بصورة الأنثى، ولن ترى من حق تنزيه الإله عليها أن تتصوره كذلك. فكيف تراها تصدق في الإعراب عن حكم طبعها إذا قالت: إنها لا ترى فرقًا بين الرجل وبينها؟

شواغل الحاضر

شواغل الحاضر الضئيلة قادرة على أن تحجب عن بصيرة الإنسان جلال الأزل والأبد بما تهيج من عواطفه وتبلبل من خواطره. كما تحجب الكف القريبة من العين اتساع الفضاء الذي لا نهاية له.

أمن الصغير

لا يهز الإعصار الجارف ماء الحوض الصغير، ولكنه يقيم الخضم الواسع ويقعده.

المجاملات

الصادقون في عواطفهم لا يبالون بالتحيات ومظاهر المجاملة. والذين لا يشعرون بصدق العاطفة يحسبون أن هذه المجاملات هي الإخلاص بعينه والحب في لبابه. وقد يتفق أن يرغب المخلصون في مجاراة الناس فيتكلفوا المجاملة، فيبدو عليهم كأنهم يراءون في إشاراتهم وأقوالهم وكأنهم يظهرون من العطف للناس غير ما يبطنون لهم، على أن غيرهم يجامل بلا كلفة فيلوح عليه الإخلاص والصدق وهو بعيد عنهما.

ولسنا نقصد بالإخلاص هنا ما يقابل الختل والغش، وإنما نقصد به اشتمال العاطفة على النفس وشيوعها في كل جزء من أجزائها، ونقصد بما يقابله ذلك الشعور السطحي الذي لا تعرف النفوس الضئيلة نوعًا من الشعور غيره، وهو شعور لا يبالي صاحبه قبلته منه أو رفضته؛ لأن محوه أو استئصاله لا يكلفه إلا أن ينزع عن نفسه غشاء رقيقًا مفصولًا عنها لا يمس نزعة اللحم والدم. أما شعور الإخلاص الحق فشديد على نفس صاحبه أن يفارقها؛ لأنه يخرج منها خروج الحياة من أوصال الجسم، فيزعجها من أعماقها، وكثيرًا ما يُساء الظن بالمخلصين فيكون احتقارهم لمن يسيء بهم الظن شديدًا ويزيدهم احتقارًا للمرتابين فيهم أن يروهم يحسنون الظن بغير المخلصين. ومن ثمَّ خرج أصلح الناس للحب الطاهر من هذه الدنيا وهم متهمون جهلًا باحتقارهم الناس وبغضهم إياهم، وقل في عارفيهم من يعلم أن لهذه الجفوة سببًا هم منصفون فيه غير ملومين.

الشر النافع

لا يندر أن يكون القضاء على رجل شرير قادر في شره، أضر بالعالم من القضاء على رجل غفل لا يُرجى نفعه ولا يُرهب له أذى.

العصبية

لا يقدر أحد على أن يخدم الناس جميعًا، وإذا نصب نفسه لذلك أوشك أن لا يخدم أحدًا. فلا بد من العصبية التي تجعله قوة فاعلة في جانب من الجوانب، فيؤدي ما عليه من واجب عام من طريق الواجب الخاص.

أنانية الإنسانية

العالم الإنساني شديد الأثرة، فهو لو علم أنه ينال الخير ممن يسديه إليه ولكن بعد تحطيمه وإتلافه لم يحجم عن ذلك، ولم يذكر للمحسن إليه حق الشكر، ولا خطر له أنه مدين به لذلك المحسن المغمور. وكثيرًا ما يكون الانتفاع بالخير وإهلاك جالبه أقرب طرق الإنسانية إلى اغتنام ذلك الخير.

بين الموت والحياة

أقمت زمنًا في «الإمام»، وكنت أرى الموت هناك في كل ساعة، فكان يتمثل لي كأنه وحش فاتك، لكنه من الدواجن التي تقيم بين البيوت، وكان يخالجني في معظم الأوقات شعور لا أدري أهو الاستهزاء بالموت أم الاستهزاء بالحياة، ولعل الشعورين بعد متقاربان، فما استهزأ أحد بالموت، إلا كان للحياة نصيب من ازدرائه.

وكان يوم عيد. فقيل لنا: إن هذه المدافن كثيرًا ما تكون مواخير للفجور يغشاها الفُسَّاق أيام الأعياد والمواسم قضاء للبانات الهوى بين العظام النخرة والجثث البالية والذكريات المحزنة، فقال أحد الحاضرين ولعله كان متهكمًا: هذا حسن! هذا انتصار للحياة على الموت، أليست الشهوة من الحياة؟

ولا أدري بعدُ، لِمَ لا يكون هذا الفجور في المقابر انتصارًا للموت على الحياة؟ أليس هو انتصارًا للدعارة على الخُلُق الوثيق والطبع السليم؟ نعم، وما أقرب الدعارة من الموت، وما أضيع الحياة بغير خُلق وثيق وطبع سليم.

إرادة الراحة

لو كانت الراحة غرض الحي من الحياة لوجب أن يكون الكسل أصلح حالة يستقيم عليها نظام الجسم، وهذا خلاف المُشاهد، فإن الكسلان المتراخي تتداعى قواه النفسية والعقلية والجسمية ويهبط شيئًا فشيئًا إلى الضعة والعته والسقم. فإذا كان قولهم: إن المادة تقتفي الطريق المريح صحيحًا في الجمادات، فليس بصحيح أن تقاس حركات الحياة على هذا الحكم كما فعل سبنسر، ولا بد من تعديله عند النظر إلى الأحياء، ومع هذا أرى أي قول من الأقوال في بيان المحرك الأكبر للحياة سواء أكان قولهم بإرادة الوجود أم بإرادة القوة أم بإرادة المعرفة أو السعادة أو الاتصال، خيرًا وأشرف من القول بإرادة التطفل التي ذهب إليها «نوردو» غلوًّا في تطبيق رأي سبنسر. لأن الأقوال الآنفة تُعيِّن لنا أغراضًا نسعى إليها، وأما قول سبنسر أو قول نوردو فلا يُعيِّن لنا إلا مهربًا من أغراض شتى. وإلا فماذا في قولك: إن الإنسان يريد أن يستريح من العمل أو يريد أن يعمل له غيره؟ ثم ماذا يعنينا أن نعلم أن المادة في الإنسان خاضعة لأحكام المادة العامة إذا كنا نعلم أن الحياة هي قوة تحرك مادته فتنقاد لها، وأن هذه القوة لا تملك زمامها حيال قوى أخرى مجهولة؟ نعم ماذا يعنينا أن نعلم أن الحجر يُؤْثر السكون وهو لا يملك لنفسه الحركة أو السكون، ولا مناص له من قوة تقذف به مرة من المرات لأنه لا يقذف بنفسه؟ إن الذي ينبغي أن نبحث عنه هو طبيعة هذه القوة لا طبيعة الحجر. فهل هذه القوة تُؤْثر الراحة؟ كلا، فالذي يبني علم الأخلاق على حب الإنسان للراحة ويجعلها مرمى كل حركاته وسكناته هو كمن يبني علم «الميكانيكا» على طبيعة الثقل في الأجسام، لا على أحكام القوى المحركة لها. وهذا الذي فعله سبنسر ومن حذا حذوه في علم الأخلاق.

حب المرأة

كل اهتمام قوي وشيك أن ينقلب في نفس المرأة إلى حب، حتى الاهتمام بالاحتقار، على أن الاحتقار شعور قلما يتفق للمرأة أن تطيل فيه إلى أن يبلغ حده؛ لأنها إذا أخذت في احتقار رجل لم يلبث أن يتحول احتقارها إلى مقت أو شفقة، وبين المقت والشفقة وبين الهوى في نفس المرأة حجاز لا تطول شقته، ولا سيما إذا كان المحتقر رجلًا لبق اللسان بصيرًا بأهواء القلوب.

الأنانية

اعتاد الناس أن ينظروا إلى الأنانية كأنها أحبولة ينصبها الحي ليصطاد بها الحياة. فلماذا لا ينظرون إليها كأنها أحبولة تنصبها الحياة لتصطاد بها الحي؟ إننا نعلم أن الحي لم يطلب الحياة ولم يدعها إليه، ولكنها هي التي طلبته ودعته إليها. فالأولى أن تكون هي التي تخدعه بالأنانية لتقنعه بأنه رابح منها، وتضطره إلى الصبر على ملازمتها. وليتقرر ذلك في أفهامنا نفرض أن الأحياء خُلقوا بلا أنانية، ألا تراهم حينئذ يخلعون ثوب الوجود لأول صدمة يلقونها في سبيله ويرونه أهون عليهم من أن يصبروا له على ألم أو يتعللوا من أجله برجاء؟ وإذا فعلوا ألا تكون الخسارة إذن كونية عامة لا أنانية محصورة؟ فالأنانية الصحيحة هي الإيثار الأكبر في هذا الوجود. والذي يعمل «لمصلحته» إنما يعمل لشيء أكبر منه في الحقيقة، ولهذا تتقارب الأنانية والغيرية في النفوس العظيمة حتى يوشك أن لا يختلفا ولا يمكن الفصل بينهما.

جناية آداب المدنية

كل اضطراب نفساني شديد لا يظهر أثره على العضلات والأعضاء ينقلب إلى شعور مكظوم. ومن هنا نرى جناية المدنية على الأخلاق؛ إذ تضطر الناس إلى كتمان غضبهم وامتعاضهم فتغرس في نفوسهم الحقد والضغينة، وتبدلهم من عدوان الغضب عدوانًا هو شر منه وأضعف. وعندي أن كظم الغيظ ما لم يكن مظهرًا من مظاهر ضبط النفس وغلبة الإرادة على الأهواء فهو هزيمة لا انتصار، ورذيلة اضطرارية لا فضيلة مختارة.

طلب السعادة

إن طلب السعادة — إن صحَّ أنه العامل الوحيد في حياتنا — لا يفسر في الترفيه عنهم. فلا بد أن يكون هناك غرض آخر وراء السعادة إذا اصطدم بها أهملها الإنسان مختارًا أو مكرهًا لأجله. وقوام هذا الغرض الضمير.

الرياء والصراحة

بعض الرياء خير من بعض الصراحة. أما الرياء الذي يُفضَّل على الصراحة فهو رياء من يحس في قلبه مثلًا أعلى للأخلاق، ويشعر من نفسه بالتقاصر عن شأوه فيتجمل بستر عيوبه ليظهر للناس على مقربة من مثله الأعلى. وهو رياء مبعثه حب الكمال وحسن الظن بمستقبل الإنسان.

وأما الصراحة المذمومة فهي صراحة من لا يرجو للناس أملًا وراء حاضرهم المحسوس. يرى العيوب فاشية، والعصمة معدومة، ولا يجد أحدًا براء من نقيصة، أو مستجمعًا لكل ما يحمد من فضيلة، فيخلع العذار ويجهر بالفجور كأنه في حِلِّ من إتيان ما يشتهي من منكر إذ كان الناس لا يخلون من مثله، وهذا خلق أشبه بالرياء منه بالصراحة؛ لأنه يجعل قوام الفضائل كلها موافقة الناس، فلا يشعر صاحبه في قلبه بحب الفضيلة لذاتها ولكنه يحبها إذا وجد حوله من يشاركه في حبها.

فذاك رياء أصحاب الطبائع الصادقة الذين ينظرون بعين البداهة فيعلمون أن الناس على نقصهم الحاضر أملًا في الكمال، وأنهم ما زالوا يتكلمون منذ خُلقوا.

وهذه صراحة أصحاب النفوس الناضبة التي تمشي ضمائرها وراء حواسها ولا تسبقها، فعالمها كله مشاهد محسوس وليس لها عالم مغيب مأمول؛ وخلائقها تستمد القوة من خارجها وليس لها من قوة دافعة في باطنها.

لهذا لا نعجب من اقتران رياء الإنجليز بقوة السليقة في الشعر، والدهاء البديهي في السياسة، ولا نعجب من اقتران الصراحة الفرنسية بالفصاحة المزوقة التي لا عمق لها، والجري في السياسة وراء «النظريات» التي تعوزها الخبرة العملية والأصالة الفطرية، وتتعالى عن منطق الطبائع الفعال في شئون الأمم على ما فيه من غرارة ظاهرة وبساطة مضحكة.

الكد والترف

إن في الشغل الشاق من البهيمية بقدر ما في الترف والتهالك على الشهوات، وما أقرب الكادح المستغرق في عمل بدنه من المترف المخلد إلى لذاته! ذاك يحتمل التعب؛ لأنه جسد صرف، وهذا يخلد إلى الدعة واللذة؛ لأنه كذلك جسد صرف. فهما شبيهان على بعد ما بينهما في الظاهر، ولذلك يوجدان جنبًا إلى جنب في المدنية المضمحلة، وكلاهما تنبئك حاله عن روح ميتة لا مطلب لها وراء مطلب اللحم والدم.

الدم المهدر

كان الملوك الأقدمون يهدرون دم من يغضبون عليه فلا يُطالب أحد بحقه، وهذه العادة باقية. فالعرف اليوم يهدر دم من يخرجون عليه ولا يقرونه على عيوبه، فإذا حقوقهم كلها مضيعة، وإذا الإساءة إليهم محللة لمن يشاء. وكأنما الناس لا ينتظرون إلا الترخيص من العرف ليستجيزوا هذه الإساءة التي لا تجوز.

المذبذبون

إذا كان الرجل خليطًا من الشرف والنذالة لم يكد يصنع في الحياة شيئًا ذا خطر؛ لأن الخُلقين يتجاذبانه من ناحيتيهما فيقف في موضعه كالمشلول أو كمن شد إلى الحبل بين متنازعين على قوة متقاربة، وإنما يندفع إلى الأعمال الكبيرة من غلب عليه الشرف أو غلبت عليه النذالة.

السخر بالحياة

من الناس من يسخر بالحياة سخر الممعود بالمائدة. ومنهم من يسخر بها سخر المتخوم المكتظ بطعامها. فالأول يسخر بالحياة؛ لأنه لا حظ له فيها، والآخر يسخر بها؛ لأنه أصاب منها جميع حظوظها. وربما كان الأول أفطن إلى العيوب وأسرع وقوعًا على القبائح المتوارية من صاحبه؛ لأن رغبته في إظهار هذه العيوب والقبائح مقرونة بألم السخط والحرمان.

خداع الأغبياء

إن خداع الأغبياء قد يحوج الخادع إلى قسط كبير من الغباوة، وإلا لم يكن سبيلًا إلى التفاهم، ولم يتح له التسرب إلى جهات الغفلة التي يُؤتى المخدوع من قِبَلِها وينفذ منها إلى شكوكه وظنونه ومهاد ثقته وطمأنينته، فالأوروبي مثلًا لا يتأتى له خداع الزنجي كما يتأتى ذلك لزعيمه الجاهل، لا لأنه أضيق من ذلك الزعيم عقلًا وأقصر حيلة، ولكن لأنه أوسع منه عقلًا وأرفع حيلة. وما يقال عن هذا الزعيم يقال عن زعماء الغوغاء في كل أمة، فإنهم أقدر على إقناع أتباعهم من أقوى المناطقة حجة وأصدقهم بيانًا.

العقل الصحيح

العقل الصحيح في الجسم الصحيح — كلمة حق — ولكن لها تعقيبًا يجب أن يتبعها ويتممها، وهو أن العقل الصحيح والعقل الممتاز ليسا بشيء واحد.

قد يكون العقل صحيحًا ولكنه غير ممتاز، وقد يكون ممتازًا ولكنه غير صحيح. ولا بد للناس من تصحيح الأجسام والعقول، ولا غنى لهم عن ثمار العقول الممتازة. فلنطلب كلًّا منهما في موضعه ولا نرجح الصحة على الامتياز إذا كانت لا تغنينا عنه ولا تبلغ شأوه في كل حال.

الطاعة

الطاعة من دلائل النظام وفضائل الأمم القوية، والأمم التي لا طاعة فيها لا يعرف أفرادها الواجب ولا يلتزم أحد فيها حده. إذ الطاعة هي أن يعرف كل إنسان حدًّا لنفسه يلتزمه وحدًّا لغيره يحترمه، وحيث لا واجب ولا تبعة لا يكون عمل شريف ولا فضيلة نبيلة. على أن هناك فرقًا بين الخوف والطاعة؛ فإن الخوف اضطراري، والطاعة اختيارية.

الحقائق والشعر

ليس الشاعر مطالبًا بالقضايا العلمية ولا بالدقة التاريخية، ولكن هل هو مطالب بنقض القضايا المقررة ومسخ الأخبار الثابتة؟ ليس من الضروري أن يقول لنا الشاعر: إن (٥ + ٥ يساوي ١٠). ولكن هل من الضروري أن يقول: إن (٥ + ٥ يساوي ٨ مثلًا أو ١٢)؟ وإذا لم يذكر الشاعر في قصيده أن نابليون وُلد في سنة ١٧٦٩ بجزيرة كورسيكا فليس من يلومه على هذا الإهمال، ولكن هل لو ذكر أنه وُلد في القرن الخامس للميلاد ببلاد اليابان أتراه كان يسلم من اللوم لأنه ليس بالعالِم الممحص للقضايا ولا بالمؤرخ المحقق للأخبار والأقدار؟

يجب أن لا يخالف الشاعر ظاهر الحقيقة إلا ليكون كلامه أوفق لباطنها، فأما أن يتخبط في أقاويله يمينًا وشمالًا مخالفًا ظاهر الحقيقة وباطنها، مدابرًا أحكام الحس والعقل والصواب لغير غرض تستلزمه خدمة الحقائق النفسية، أو تصوير الضمائر الخفية، فذلك سخف ليس من الشعر ولا من العلم.

المذاهب الحديثة

إذا نجم للمذهب أعداء فقد ولدت فيه جرثومة الانتصار؛ لأنه لا يثير العداوة إلا القوة، والقوة تجذب وتدفع.

طرق المزاحمة

طريقتان للمزاحمة في الحياة؛ أن تجذب مزاحمك إلى الوراء فلا تمكنه من سبقك، وأن تتجاوزه في خطوه فتسبقه. والظاهر أن أولى الطريقتين هي الطريقة الغالبة في بلاد الشرق.

اليأس والأمل

اليأس الكبير خير من الأمل الصغير، ومن العجائب أن الأمم الممعنة في الضعف والاضمحلال لا يكثر بينها اليأس فيما تزاوله من شئونها؛ لأن مطالبها صغيرة، والوسائل إلى هذه المطالب خسيسة لا تعجزها، بل هي مما يعين عليه الضعف وفسولة الطبع.

الزهد المريض

قد تمرض النفس فلا تشتهي شيئًا فإذا شُفيت طلبت غذاءها، كما يمرض الجسد فيعاف الطعام فإذا اشتهاه كان ذلك من علامات الإبلال.

مزية الخطأ

إن الحيوانات لا تخطئ في أعمالها، وإنما الخطأ مزية الارتقاء، وكلما عظم الإنسان كثر تعرضه للخطأ في أعماله؛ لأنها تعظم وتتعدد جوانبها وتتباعد أقيستها فيطرقها الزلل من حيث تداخلها أسباب الكمال.

تنازع البقاء

رجلان دخلهما متساوٍ وبيئتهما واحدة. أحدهما يفقه مطالب الحياة فيُربِّي أبناءه تربية حسنة، ويروح عن نفسه، ويروض جسمه وعقله، ويلتذ جمال الفنون والأذواق. والآخر غبي ثقيل الطبع، يدخر ثلثي دخله ولا يفهم للرياضة والمطالب النفسية معنى، أي هذين يصرع صاحبه في ميدان الحياة؟

خطأ المذاهب

مصدر الخطأ في مذاهب الإصلاح الاجتماعي أو الديني أن دعاة هذه المذاهب يبنون مذاهبهم على النظر إلى غرض الإنسان من أعماله، لا إلى الدافع الذي يستاقه إلى الإتيان بتلك الأعمال، ولو فطنوا إلى قوة سلطان الدوافع، وأن أغراض الإنسان بنت دوافعه في الحقيقة لأصلحوا كثيرًا من أغلاطهم النظرية، أو لالتفتوا على الأقل إلى الجهة التي يجب الالتفات إليها والصدور عنها.

الكتب

إن الكتب قماقم سليمانية لا تزال الأرواح والوجدانات محبوسة فيها حتى تفك أرصادها فتنطلق من معقلها، وتنشب في قارئها فتستعيد حياتها فترة قصيرة في نفسه. ولو كانت تلك الوجدانات والعواطف تجيش في صدور الكتب كما كانت تجيش في صدور أصحابها لأحرقت صفحاتها زفرات الوله والوجد، ولسوَّدت وجوهها لواعج الغم والعذاب، ولأصم الآذان ما ينبعث من أحشائها من التأوه والأنين، وفتت الأكباد ما يرتفع من جلودها من النشيج والحنين، بل لكان يفزع الناس منها فزعهم من أشباح الموتى، ويهون عليهم أن يمروا بساحة الوغى بعد مقتلة شنعاء ولا يمروا بباب مكتبة.

لذة المطالعة

إننا نقدر الكتاب بما يوحيه، لا بما تدل عليه حروفه ومعانيه. وإن القارئ وهو يتلو الكتاب قد يؤلف في ذهنه كتابًا غير الذي يقرأه، ويفهم فيه من المعاني غير ما أراده مؤلفه، ولكنه يحسب أنه يقرأ كتاب المؤلف وينسب الفضل فيما يشعر به من اللذة إليه، وربما تناول أحدنا الكتاب الثمين في ساعة ضجره ثم أقفله وهو يتأفف، ويتناول الكتاب الغث وهو منشرح الخاطر مفتح نوافذ الذاكرة فيرتاح إليه وتتوارد على ذهنه الخواطر والطرف من كنوز الذاكرة المدفونة، فيُثني على الكتاب وكاتبه، وإنما اللذة لذته لا لذة الكتاب أو صاحبه، ومن ثم كان الكتاب لا تعرف قيمته البتة من قراءة واحدة، ووجب على الناقد أن يكرر قراءته في حالي سآمته ونشاطه قبل أن يحكم عليه.

وأذكر أنني أعوزتني الكتب يومًا، فعمدت إلى قائمة بعض المكاتب الإفرنجية فجعلت أتصفحها بشوق وتأمل كأنها سفر مفعم بطلي الأخبار وحلو الفكاهة.

وكنت إذا استوقفني اسم كتاب فيها تمثل لي مصنفه وسنحت لي آراؤه ومواقفه في حياته ولطائف ما يؤثر من نكاته وأعماله، فكنت كأنني عاشق قديم يراجع أسماء أحبابه فيقف عند كل اسم منها وقفة تسترسل فيها نفسه، ويهيم خياله في فجاج الماضي، فيجمع تاريخ أشواقه في لحظة، ويستشعر لذة كل قبلة والتزامة، وغبطة كل نظرة وابتسامة، ولو أننا نحكم على الكتاب بما يولينا من المسرة والرضى لكان طابع تلك القائمة من أئمة الكتاب في العالم.

كلام الناس

من الناس من يعلم براءتك من وصمة، فإذا سمع قومًا يصمونك بها صغُرت في عينه وهو أعلم بكذبهم وافترائهم عليك.

المكابرة

المكابرة قرينة الضعف في كل حال، وهي تمويه لا حقيقة، وحيلة لا قوة، وتسليم لا مقاومة. وكل الفرق بين مكابرة وتسليم؛ أن التسليم صريح واضح، ولكن المكابرة تسليم مراءٍ يخاف ظهور ضعفه فلا يعترف بنفسه، مثلها كمثل الدخان الذي يفشيه المنهزم بينه وبين عدوه مداراة لهزيمته، ومن عكف على أن يقول: لست ضعيفًا لست ضعيفًا، فإنما يقول بلسان أفصح وأصدق: لست قويًّا لست قويًّا، وما رأيت إنسانًا يكابر فاحتجت بعدها إلى دليل على صغر عقله وضعف نفسه.

شارلي شابلن

عجبت إحدى الصحف الفرنسية من الحفاوة التي قُوبل بها شارلي شابلن في لندن، وقارنت بين فتور الجماهير قبل أصحاب الفضل عليها من المخترعين والمصلحين وبين شغفها بالمضحكين وتهليلها لهم وإقبالها العظيم عليهم، وضربت الصحيفة مثلًا بالطبيب فنسان صاحب لقاح التيفوس، فقالت وهي تستغرب ما تقول: ترى لو كان هذا الطبيب بين الجموع المهللة لشارلي شابلن أما كانوا ينحونه عن الطريق ويزورون عنه ليقبلوا على بطلهم العزيز؟

نقول: ليس ذلك ببعيد، ولكن هل من الظلم حقًّا أن يظفر شارلي شابلن بذلك الإعجاب، وأن يُحرمه أمثال فنسان في حياتهم؟ لعمري إن الإنسان ليرى شيئًا من العدل في هذه الأطوار التي تُشاهد في الجماهير، فإن الممثل الهزلي لن يظفر بعد موته بكثير ولا قليل من الإعجاب الذي هو حقيق به. فمن الإنصاف أن يكافأ في حياته هذه المكافأة على إضحاك الناس وتسرية همومهم وتنشيط عقولهم وقلوبهم، وما هو بالعمل الحقير ولا القليل الشأن في هذه الدنيا المفعمة بالشواغل والهموم، والأمر على خلاف ذلك مع فنسان وأمثاله، فإن ذكرهم لا يُنسى بعد موتهم، والإعجاب بهم يبقى زمانًا وهم تراب في لحودهم. وليس هذا الإعجاب بالعملة الزائفة، وإنما هو عملة صحيحة مقومة يقبلها كل إنسان جزاء لأعماله.

وهناك ضرب من الاقتصاد الشعوري غير مقصود في حركات الجماهير من هذا القبيل. فالطبيب فنسان يفيد بعلمه ولو لم يلق هتافًا وتهليلًا، أما شارلي شابلن فهل تراه يسخو بمواهبه بغير الهتاف والتهليل؟ أو هل يمكن التفريق بين الوقت الذي يضحك الناس فيه والوقت الذي يهللون له فيه ويهتفون؟

١  نشرت طائفة من هذه الشذرات في صحيفة الرجاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤