أساطير العرب

وعسيت تقول: إن كان هذا هكذا، فملكة الأساطير مستقرة في كل نفس، مشاعة في كل جنس، فما بال أمم نراها لا تلزم بالأساطير حدًّا، وأمم أخرى كالعرب مثلًا تنزر بينها جدًّا، وتعد فيها مشخصات الطبيعة عدًّا؟

نقول: إن هذه الملكة وإن كانت من الملكات المشاعة، إلا أن ظواهر الطبيعة التي بها تتلبس الأساطير وعليها تدور حوادثها، لا تتراءى في كل إقليم على وتيرة واحدة، ولا تطرق خيال الأمم على نسق فرد، وإنما تتفتق الملكة وتسخو على قدر ما يعروها من هول تلك الظواهر، وتوالي طوارقها عليها.

وما أحسن ما كتب المسعودي في هذا المعنى إذ يقول: «إن ما تذكره العرب وتكني به من ذلك، إنما يعرض لها من قبيل التوحد في القفار، والتفرد في الأودية، والسلوك في المهامه الموحشة؛ لأن الإنسان إذا صار في مثل هذه الأماكن يوجد له تفكر ووجل وجبن، وإذا هو جبن داخلته الظنون الكاذبة والأوهام المؤذية الفاسدة، فصوَّرت له الأصوات، ومثَّلت له الأشخاص، وأوهمته المحال بنحو ما يعرض لذوي الوسواس، وقطب ذلك وأسُّه سوء التفكير وخروجه على غير نظام قوي أو طريق مستقيم سليم؛ لأن المتفرد في القفار مستشعر للمخاوف، متوهم للمتالف، متوقع للحتوف؛ لقوة الظنون الفاسدة على فكره، وانغراسها في نفسه، فتوهم ما يحكيه من هتف الهواتف.»

فهذا كلام سديد، ولكنه شتان مخاوف البطحاء المكشوفة والأودية المعروفة، ومخاوف بلاد كالهند مثلًا — بلاد تجللها الأسرار فكل ما فيها رائع فخم — فمن أطواد سامقة يعمر سفوحها الخراب، وينقطع دون رءوسها السحاب، إلى آجام تمادى بها القدم حتى غاب من جذوعها في التاريخ أكثر مما غاب في التراب، إلى بروق ورعود فيها من الوعيد أضعاف ما فيها من الوعود، إلى تماسيح في الأنهار وتنانين في القفار، إلى أسود ونمور، وبزاة ونسور، وكهوف وصخور، وطوفانات وبحور، إلى غير ذلك مما يجسم الوهم الطفيف، ويفسح للمخيلة مجال التصوير والتكييف.

ألم ترَ أن العرب لما ابتدعوا أساطيرهم كانت مما يجيء من قِبل الحواس، لا من قِبل الخيال، وكانت هواتف وأصداء وهاما تسمعها الأذن ولم تكن أشباحًا تبرز للمخيلة؟ وما هكذا كانت أساطير الآريين الذين قد يصفون لك الشبح من أشباح الأساطير وصف العيان والتحقيق، ويفصلون لك من سماتها كيف كانت أرؤسها وأبدانها، وكيف أظافرها وأسنانها، وكيف شياتها وألوانها. ثم يتلون عليك من الحوادث ما يوافق تلك الملامح والمخايل مع براعة وقوة مستمدة من روح نباضة وطبيعة فياضة.

ولم نعرف في أساطير العرب روحًا جبارًا يهيمن على فلك من الأفلاك، أو يشتمل على ظاهرة طبيعية رائعة مدهشة، فحتى شياطينهم شياطين هينة يؤاكلونها ويزاملونها، ولا يختلف خوفهم منها عن خوف الرجل من الفرس العائر أو الكلب العقور، فكأنما هي فصيلة داجنة من الجن، وأما الغول والرخ والسعادين فهي إن كانت اختراعًا فلا تنطوي على رمز جليل، وإن كانت مبالغة في جوارح وكواسر موجودة، فللمخيلة فيها عمل ضئيل، ولهم خلال ذلك أقاويل في النجوم تشبه الأساطير، كزعمهم في رواية ابن دريد أن الشعريين أختا سهيل، وكانت كلها مجتمعة، فانحذر سهيل فصار يمانيًّا، وتبعته الشعرى اليمانية، فعبرت البحر أو المجرة فسميت عبورًا، وأقامت الغميصاء مكانها، فبكت لفقدهما حتى غمصت عينها، أو أن العيوق عاق الدبران لما ساق إلى الثريا مهرًا وهي نجوم صغار نحو عشرين نجمًا فهو يتبعها أبدًا خاطبًا لها، ولذلك سموا هذه النجوم القلاص … إلخ إلخ. فهذه الأقاويل على كونها من باب الحدس Fancy لا من باب الخيال Imagination ليست هي بالمستكثرة على العرب وهم ما هم ترصدًا للأجرام ومواقيتها، وترقبًا للأنواء ومهابها لما هم مضطرون إليه من متابعة الإساد ومواصلة الارتياد.

وكالعرب في هذه الخصلة كل أمة تقطن السهول والدياميم القاحلة، لا فرق بين آريين وساميين. فالأمة الميدية — وهي أمة آرية — كانت قليلة الأساطير جدًّا، ولم تكن في ديانتهم آلهة للشر لقلة ما يرهبون من قوى الطبيعة، وكانوا لا يلبسون معبوداتهم بالقوى الطبيعية، ولا ينصبون لها نصبًا وأصنامًا، وفي زعمهم أن إلههم الأكبر يقيم بمكان بعيد عن هذه الأرض لا يدنو إليه أحد من الناس، ويهبط إليهم منه بالوحي ملائكة يرون الناس من حيث لا يرونهم — تلك كانت عقائد الميديين في الإلهيات والعالم الأخير، فهم والعرب في هذا المجال سواء.

•••

وهناك سببان آخران لندرة الأساطير عند العرب؛ أولهما يظهر من تطبيق رأي سبنسر والثاني من تطبيق رأي مولر — وهما رأيان لا يخفى أنهما لا يرفضان كل الرفض — فسواء أخذنا بعبادة الموتى وهي رأي سبنسر، أو أخذنا بالاستعارة اللغوية وهي رأي مولر فالنتيجة واحدة، وهي أن الأمة العربية لا تكون بحسب واحد من هذين الرأيين كثيرة الأساطير والحكايات التي تجري مجراها.

فإذا أخذنا بتعليل عبادة الموتى فالعرب لم ينسوا حديث آبائهم الذين كانوا يعبدونهم، ولم يزل معمروهم إلى ما بعد الإسلام يذكرون أن اللات إحدى آلهتهم كانت في الأصل رجلًا صالحًا يلت السويق للحجاج، فلما مات مثَّلوا له مثالًا وعبدوه، وهذا ابن القيم يقول في كتابه إغاثة اللهفان:

فطائفة دعاهم الشيطان إلى عبادتها «الأصنام» من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما يُروى عن هشام عن أبيه أنه قال: كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر قومًا صالحين، فماتوا في شهر، فجزع عليهم ذوو قرباهم، فقال رجل من بني قابيل: يا قوم، هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم غير أني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحًا؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم، فكان الرجل يأتي أخاه وعمه وابن عمه فيعظمه ويسعى حوله حتى ذهب ذلك القرن الأول. ا.ﻫ.

وأما الاستعارة اللغوية فمولر يبني رأيه فيها على أساسين:
  • أولهما قدم الاستعارة: ونضرب لها مثلًا كلمة الطبيعة التي أصل معناها الحبلى — سموا الطبيعة بهذا الاسم لأنها أكثر الأشياء إنتاجًا وولادة، ثم نُسي سبب التسمية حتى صاروا إذا قال القائل «الطبيعة» لم تدل عند السامع على الحبلى كما كان يفهم واضعو هذا الاسم، وإذا قال: إن الطبيعة تلد النبات والماء والحيوان عسر على الذهن أن يذهب إلى ذلك المجاز البعيد، وسبق إليه أن صاحبة «العلم» أم حقيقة، وأن هنالك أسرة أمها الطبيعة وأبناؤها وبناتها الأنهار والأشجار والأنعام. ثم تنشأ الأسطورة بهذا المعنى.
  • وثانيهما المترادفات: وذلك أنهم كانوا في إبان طفولة اللغة يسمون الشيء بأشهر أعماله وأظهر أوصافه، فكان يقال للأخت: «التي تحلب»؛ لأن عملها في البيت حلب الماشية، ويُقال للأخ: «الذي يحمل»؛ لأنه يعاون أباه في حمل الأثقال، ثم تُنسى هذه الأعمال والأوصاف ولا تبقى منها إلا أعلام منوطة بمسمياتها. فمن ذلك أنه كان للأرض في السنسكريتية واحد وعشرون علمًا كلها صفات كالعظيمة والواسعة والعريضة … إلخ، ولما كانت الأشياء تتشابه في الصفات فقد كان يتفق أن يُسمى الشيئان المختلفان باسم واحد. فإذا اتفق الأسد والشمس مثلًا في الاسم ألحق الناس بالشمس كل ما هو للأسد من الصفات، فتسمع حينئذ بلبد الشمس وبراثنها وبفرائسها وعرينها، وتسمع بالشمس الفاتكة، والشمس المزمجرة، والشمس المرعبة، ثم يتألف من ذلك قصص تسير مسير الأسطورة، ويتعهدها الخيال فلا تزال حتى تخفى جذورها في فروعها.

ولنرجع إلى الألفاظ المستعارة عند العرب، فقد نجد أنها في الغالب كلمات ما برح معنويِّها يمتزج بحسيِّها إلى الآن، ويندر بين مفرداتها كلمة تجردت لما استعيرت له دون ما استعيرت منه، فأنت تقول: خجل فلان من الفعل القبيح، ثم تقول: خجل في الثوب؛ أي تعثر فيه، وخجل البعير في الوحل؛ أي تحير، وكتب القلوص أو كتب الكلمة قيَّدهما. وهكذا لب اللبيب ولب الفاكهة، وعقل الرجل وعقل الناقة، وزاملت الرجل صادقته، وزاملته أيضًا رافقته على الزاملة، وبايعت المَلِك على المُلك، أو بايعت التاجر على السلعة. وتقول: رجل محب وامرأة محب، كقولك: جمل محب؛ أي بارك لا ينهض، كأنهم يكنون عن حب المرأة بإناخة الإبل عند خبائها.

ونحن نقول: الجمال أو العفاف، ونعني بهما شيئًا معنويًّا، والجمال عندهم مأخوذ من الجميل؛ أي الشحم، والعفاف من العفافة؛ أي بقية اللبن.

وحسبك أن الميول والعواطف والحقائق هي في اللغة العربية كلمات لم تغلب عليها الصبغة المعنوية بعد فتسند إلى أنزه المعاني، كما تسند إلى أكثف الأجسام. بل إن الروح والنفس والنسمة لا تزال مشتركة بين مدلولاتها وبين الهواء١ كأقدم ما سميت به في لغة من اللغات، ولم تكد تبدأ بينها الفوارق كما بدأت في اللغات الأخرى.

وأما المترادفات في كلام العرب فما كان منها جامدًا فهو منقول بحروفه عن اللغات التي تفرعت منها اللغة العربية، وما كان مشتقًّا فهو حتى اليوم صفات شتى لاسم أو أكثر. خذ مثلًا لذلك مرادفات السيف: اليماني، والهندواني، والقساسي، والحسام، والمشطب، والعضب، والصارم، والجراز، إلى آخرها، فهل ترى إلا أنها صفات مشتقة أو منسوبة؟ وقس عليها أغلب المترادفات التي لم تتغلغل في القدم بحيث تخفى أصولها فتتوالد منها الأساطير على نحو ما ألمع إليه مولر. إذ كلها حديثة الاشتقاق لا يدخل البحث عن جذورها ومصادرها في عمل الباحث اللغوي؛ لأنه عمل يستطيعه النحويون والصرفيون.

ولو استبحر بالعرب الذين وصلت إلينا لغتهم عمران، أو استتبت لهم مدن وأمصار ورفعت لهم فيها البيع والهياكل تتلى فيها الصلوات بالغداة والعشي ويصدر منها الكهنة إلى الناس بالأسرار والألاقي، لكان لهم على الأقل أساطير وتخرصات على منوال الإسرائيليات التي عادوا فاقتبسوها بعد الإسلام، وإن كانت لهي أدخل في باب الرؤى المباحة لكل نائم منها في باب الخيالات التي لا تجود بها إلا قريحة يقظة جوالة، ولكنهم كانوا قبائل رحلًا يؤمون المدن في مواسم تتقسمها العبادة والتجارة والخطابة، فائتمر التاريخ والإقليم واللغة على أن يكون العرب أمة بلا خيال، وأهون بذلك لولا أن سعة الدنيا من سعة الخيال، وأن حلى الحياة إنما تصاغ من معادنه وكنوزه.

١  كان المتوحشون لا يفهمون من الروح إلا أنها هي النَّفَس المتصاعد بين الزفير والشهيق؛ لأنهم يرون الواحد منهم بخير ما تنفس، فإذا مات أو أغمي عليه سكن صدره. قال جرانت ألن في كتابه «نشأة العقيدة بالله»: «ما هو ذلك الجزء الذي يغادر الجسم وينأى عنه في الأحلام، إلا أن يكون هو الروح أو النفس الذي يرى الوحشي أنه شيء منفصل قائم بذاته. ثم إذا مات الإنسان ألا يشاهد الوحشي أن هذه الروح أو النفس يبتعد عنه؟ وإذا جرح جرحًا بالغًا ألا يتوارى وقتًا ما ثم يرتد إليه؟ ثم أليست هي تخلي الجسد أو تعبث به أحيانًا في حال الإغماء والتشنج وغيرهما من الحالات الطارئة؟ ولا حاجة بي إلى الإفاضة في هذه الفكرة فقد فصَّلها المستر هربرت سبنسر والدكتور تيلور. وبحسبنا أن نقول: إن الإنسان الأول أخذ يعتقد من تاريخ سحيق بأن الروح أو الحياة شيء مرتبط بالتنفس، وأنها شيء يبرح الجسم أو يحل فيه حسب مشيئته.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤