مغني المجالس١

قيل للجمل زمِّر فاعتذر قائلًا: «بماذا؟ لا شفة ملمومة ولا أصابع مفسرة.»

كذلك سمعنا الفلاحين يروون عن الجمل، فإن كان ما يروون عنه صحيحًا فقد والله ظلمه العباس بن مرداس حين قال فيه:

لقد عظم البعير بغير لب
فلم يستغن بالعظم البعير

فإن الجمل — والحق يُقال — لهو إذن ألبُّ وأكيس من هؤلاء الذين يحترفون الزمر والغناء وينسون أنهم من ذوي المشافر المشقوقة والأصابع المضمومة، بل هو أعقل من كثير من أبناء آدم الذين يزمرون لك ويستبيحون أذنك من غير أن تقترح عليهم الزمر أو تدعوهم إليه، وهو على الأقل أعقل من مغنينا الذي أنا محدثكم عنه فيما يلي: والجمل يحمل أوزارنا، ويلم شملنا، ويصبر على العطش ليروينا، ويجود لنا بالوبر ليكسونا، فليس من الضروري بعد هذا كله أن يكون له أيضًا مشاركة في الفنون الجميلة. وحسبه هذه الفوائد التي لا يستغنى عنها، ولكن أي فائدة لإنسان لا عمل له في الدنيا غير الغناء وهو لا يحسن الغناء؟

دُعينا ليلة إلى مجلس سماع، فوجدنا المغني الذي سنسمعه قد سبقنا إليه وقد تولى عن صاحب الدار الترحيب بالمدعوين ومصاحبة القادمين إلى أماكنهم من المجلس. ولا عجب فهو صاحب الليلة ولا خسارة على صاحب الدار في أن ينزل له عن زائريه ليلة من لياليه. فحيانا عند قدومنا وبش لنا وأجلسنا بالقرب من مكانه احتفاء بنا، ورأيناه يتكلم وهو يبتسم، ويسكت وهو يبتسم، ويقعد ويقوم ويأسف ويعبس وهو يبتسم، وبالغ في اللطف، فكان يبتسم للراح وهي كما يقول الأقيشر: «لوجه أخيها في الإناء قطوب» ولا تشتغل شفتاه عن الابتسام إلا بالترحيب أو السلام.

لا بأس بالابتسام يزيل الكلفة ويبسط النفوس للمعرفة، ونعم التحية هو يسترعي الأبصار ويستميل نوابي الآذان. وكأي من رجل يمهد سبيله في الحياة بابتسامة تلازم شفتيه فيملك بها القلوب، ويفتح أصفاد الصدور. ولا نغمط مغنينا اقتداره في هذه الصناعة الشفوية، فلقد أثرت في أكثرنا ابتساماته أثر السحر أو أعظم، فسقطوا في يديه أسرى دماثته ورهائن بشاشته، قال أحدنا: ما أظرف المغني! إنه والله للظرف المجسد. وقال آخر: ما أحسبنا إلا سنسمع الليلة ما لا أذن سمعت، ونرى من مغنينا هذا ما لا عين رأت، ولا شك عندي في أنه مكين في فنه، بعيد العهد بممارسته، فأقل ما في الأمر أنه أطال مصاحبة أهل الفن حتى اقتبس منهم وتأدب بأدبهم، وهذه إشاراته وآدابه في التحية والملاطفة شاهد بذلك. وأهل الفن بمصر — كما تعلمون — لطاف لطاف لطاف إلى النهاية في اللطافة — لطف الله بهم — فإنهم ليكادون يتلاشون من اللطافة كما تتلاشى ألحانهم في الهواء.

ومضت بعد ذلك برهة في التشوف والانتظار، ثم مضت برهة ثانية في النقر وإصلاح الآلات، ومضت البرهة الثالثة ولا ندري كيف مضت؛ لأننا فوجئنا بزعقة هائلة لم نعلم أمن السماء هبطت، أم من الأرض صعدت، وصوت صارخة هي تعدد أم صوت قتيل يستنجد. أستغفر الله، بل لم نعلم أهي صوت إنسان أم عزيف طائفة من الجان. ولما أفقنا من غشيتنا وجدنا بعضنا ينظر إلى بعض وإذا بالمغني يصيح: يا ليل يا ليل، فما شككنا في أنه ينادي ليلة الحشر أو أبعد ليلة فيما وراء التاريخ، وأيقنا أنه صاحب الزعقة الأولى، يا ضيعة الأمل، أهذا هو المغني الظريف اللطيف ذو الشفة الملمومة والأصابع المفسرة؟ وانطلق الرجل يعوي وينهق ويصهل ويموء ويثغو وينعق ويصيح بصوت كل حيوان مزعج في الأرض، أهي بدعة جديدة في الغناء المصري، وهذا الرجل صاحب مذهب في الموسيقى قد أراد أن يقلد صياح هذه الحيوانات محاكاة لأصوات الطبيعة؟ لا فقد كنا نسمع منه صوت الإنسان مرة على الأقل في هذه المحاكاة.

وبعدُ، ألا يكون الرجل مازحًا؟ إنها إحدى اثنتين؛ فإما أن يكون مازحًا أو مجنونًا، وإلا فإن رجلًا معافى سليم العقل في شناعة صوته، وقبيح تلحينه، ورداءة طريقته لا يعقل أن يخدع نفسه في الغناء، وفي الغناء لا غير. فلقد كان أسهل له أن يدَّعِي الإمارة من أن يدعي الغناء؛ لأن بين الأمراء كثيرًا ممن هم أقل كفاءة منه، ولم أرَ من غير المغنين من هو أشنع منه صوتًا وأقبح تلحينًا وأردأ طريقة.

ترى لو سمع هذا المغني مثل غنائه هذا من أحد الناس، أكان يغطي على سمعه كما غطى عليه الآن، فلا يفهم أن مثل ذلك الصوت مما لا يسر سماعه، ولا يحسن إيقاعه، أم تراه كان يقدح فيه ويعيبه؟ ما نظنه إلا كان قادحًا فيه عائبًا له، وربما كان اشتداده على غيره بقدر اعتداده بنفسه. أما وهو مغنٍ وليس بسامع فقد تغير الحكم وكان الواجب أن لا يتغير، ولكن يظهر أن الإنسان قد أعطي حواسَه ليدرك بها غيره، ولم يعطها ليدرك نفسه. وصدق من قال: إن الإنسان لا يرى وجهه بعينيه.

وطفق الرجل يلحم دورًا بدور، ويضرب لحنًا بعد لحن، وكلما قلنا: قد انتهى، إذا هو يبتدئ أو قلنا: «ينجلي» إذا هو يجلو لك ويظلم. ونحن بحال لا يعلمها إلا مَن ابتُلي بمثل بليتنا في ليلة كان يظن أن ستكون من أسعد لياليه، فإذا هي كأنحس ما مر به من الليالي، فلا نحن نسمع شيئًا يحسن السكوت عليه، ولا يخلى بيننا وبين أنفسنا فنتسلى عن السماع بالسمر. ولما يئسنا من سكوته من لدن نفسه أوعزنا إلى أحد إخواننا أن يمازحه لعله ينصرف عن الغناء إلى المزاح، فما زاد على أن رد مزحته بابتسامة ومضى في صريخه. قلنا: يا سوء ما دبرنا إن كان ينوي أن يقابل كل حيلة لنا بابتسامة منه، فإنه ليس أكثر لديه من الابتسام. فأوعزنا إلى صاحب الدار أن يخفف عنا بعض ما قيضه لنا على غير قصد فيميل عليه بالراح لعلها تلجمه وتفل من غرب صوته، فما زادته — قاتله الله — إلا احتدادًا واشتدادًا كأنه الآلة البخارية يزيدها الماء ضوضاء وصريخًا. فلم يبق لنا من حيلة إلا أن نفاتحه مازحين أو جادين بطلب السكوت، فبعثنا إليه من يُذكِّره سرًّا بضرر موالاة الغناء على الحناجر، ويذكر له أناسًا أصيبوا في أصواتهم لكثرة إجهادها وضنهم عليها بحظها من الراحة، فكان كأنه لا يسمعه، وكأنما حال زعيقه بينه وبين أذنه التي في رأسه، كما حال بين أفواهنا وآذاننا فلم يصغِ إليه ولا أبه له. ولما لم يُجدِ تذكيرنا إياه بواجب الرأفة بنفسه لم نر بُدًّا من أن نُذكِّره بواجب الرأفة بنا، فقال له أحدنا: أيها الشيخ، إن كنت لا تعلم ماذا صنعت بنا فاعلم أنك قد أفسدت علينا الهواء، وضيقت بنا رحب الفضاء، وقال الثاني: نعم وقد أضجرتنا.

وقال الثالث: وقد أبرمتنا.

وقال الرابع: وقد أزهقت أرواحنا.

وهكذا دار الدور بالحاضرين فلم ينتهِ إلا وقد أتينا على جميع ألفاظ الضجر ومعانيه في اللغة العربية.

أما هو فإنه نظر إلينا هازئًا وقال وهو كأهدأ ما يكون: «يا للأسف ما كنت أحسب أن يبلغ بكم الجهل بأحكام الصناعة ما أرى، ولقد نسيتم أيها السادة أنكم لا تنقدونني أجرًا على غنائي، ولتعلموا بعد أنني لست متكفلًا بسروركم، وأنني إنما أغني لأسر نفسي فأنتم وشأنكم» ثم عاد إلى ابتسامه وغنائه.

إي وربك. إنه ليس متكفلًا بسرورنا كما قال، وقد صدق، ولكن أتراه كان متكفلًا بتنغيصنا؟ ونحن لا ننقده أجرًا، وهذا صحيح، فهل يكون في حِلٍّ من مضايقتنا لأنه يضايقنا مجانًا؟ كذلك قضى لنفسه علينا ذلك المشئوم ولم يستمع لنا مراجعة ولا اعتراضًا، فلا أراح الله آذاننا من صوته ملحنًا ومتكلمًا إن لم نرحها نحن بأنفسنا، وإن لم نصنع له بأيدينا ما لم يصنعه به عقل رجيح ولا ذوق سليم.

ولا نعلم بِمَ كنت قاضيًا عليه أيها القارئ لو كنت في موضعنا من الابتلاء به، ولكننا نعلم أن الأربطة والكمائم تكون قد خُلقت في الدنيا عبثًا إن لم يكن لها نفع في كف مثل هذه اليد عن التوقيع، وكم مثل هذا الفم عن الصريخ والتقريع. وكذلك صنعنا به، فقد عمدنا إليه، فكممنا فمه، وربطنا يديه، وأوثقناه بالمقعد الذي كان جالسًا عليه، والله يعلم أننا لم ننل منه بهذه المثلة بعض ما نال منا، فإنه ليس أضنى للنفس ولا أحق بالنقمة ممن يجبرك على سماع ما تكره أن تسمع، ويمنعك الحديث مع من تحب أن تُحادث، وليس أقدر من المغني الممرق على أن يجعل مجمع الأخلاء ومجلس الأصفياء شرًّا من العزلة والانفراد.

ولقد أتممنا سهرتنا فطاب لنا ما بقي منها بفضل المناديل والحبال بعد أن أبت أن تطيب لنا على يديه بفضل المعازف والمزاهر، ثم تركناه على تلك الحالة لا يقدر على أن ينبس بكلمة أو يحرك يده بنغمة، وخرجنا واحدًا بعد واحد وبودنا لو ننظر إلى مواضع ابتساماته تحت تلك الأربطة الكثيفة! ولكنا كنا ننظر إليه فنثق أنه كان يشتمنا بعينيه شتمًا لا يقل عما يعاقب عليه قانون العقوبات.

١  نشرت في العدد التاسع والعشرين من صحيفة الرجاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤