الملك إسكندر الصربي ودراجا ماشين

مقابلة بياريتز

في صيف عام من الأعوام كانت والدة الملك إسكندر الصربي تقيم في مدينة بياريتز، إحدى مصايف العظماء على ساحل فرنسا الجنوبي الغربي المسمى بالساحل الفضي، في قصر اسمه قصر ساشينو. وقد رأى الملك إسكندر أن يزورها في مصيفها؛ حتى ينسى مشاغل الملك الكثيرة فترة قصيرة.

فلما وصل إلى هناك لفت نظره جمال إحدى الوصيفات اللاتي يرافقن أمه، فلما سأل عن اسمها قيل له: إنها «دراجا ماشين». وقد أعجب الملك بشكلها إعجابًا عظيمًا، ولم يُخفِ ذلك الإعجاب عن والدته.

وفي ذات يوم كان الملك يستحم في البحر وكانت دراجا واقفة مع بعض صديقاتها عند الشاطئ، وكان البحر مضطربًا في ذلك اليوم، والملك لا يتقن السباحة؛ فما لبث أن أشرف على الغرق، ولما لحظت دراجا أنه يغالب الأمواج، وكانت تراقبه بنظراتها من الشاطئ، اندفعت إلى البحر مسرعة تحاول إنقاذه قدر استطاعتها. وكانت تبذل مجهودًا عظيمًا في ذلك جعل جميع المجتمعين على الشاطئ يعجبون بها ويتساءلون عنها، وقد تمكنت في النهاية من إنقاذ الملك؛ فأسرته بجميلها وإخلاصها بعد أن أسرته بجمالها في بادئ الأمر.

ماضي دراجا

وعلى الرغم من أن دراجا كانت تكبر الملك بتسع سنوات، إلا أنها كانت تبدو لمن يراها أصغر سنًّا منه بكثير، وكانت قد تزوجت قبل ذلك ثم مات زوجها، فأبت أن تتزوج ثانية؛ لأن سوء الطالع قد أوقعها عند زواجها الأول بين براثن رجل سيئ الخلق، حاد الطباع، أساء معاملتها حتى مات وتركها دون أن يخلف لها غير مبلغ صغير من المال.

وعاشت دراجا المسكينة مدة من الزمن وهي تتألم لضيق ذات يدها، ولم يكن لها تسلية غير الذهاب إلى المجتمعات الدينية والاشتراك في الأناشيد، فكانت تجلس مع العامة على المقاعد الخشبية البسيطة وهي تنشد وترنم. وعلى مقعد من هذه المقاعد، في أحد الاجتماعات رأتها الملكة ناتالي، والدة الملك إسكندر، فأعجبت بجمالها، وتأثرت باستقامتها وعقيدتها الدينية؛ فضمتها إلى حاشيتها واتخذتها وصيفة خاصة لها. وعرفت الملكة بعد ذلك أن دراجا حفيدة لرجل اسمه نيقولا لونيفيتزا كان من أعز أصدقاء الأمير ميلوش أوبرينوفتش، جد الملك إسكندر؛ فزاد تقديرها وحبها لها.

الإشاعات

وكان للمدة التي قضاها الملك إسكندر من فصل الصيف في مدينة بياريتز أعظم الفضل في ازدياد الصلات بينه وبين دراجا، فلما عادت مع والدته الملكة إلى العاصمة بلغراد، كان يراها باستمرار ويحادثها ويدعوها إليه في كثير من الأحيان، ويستشيرها في بعض الأمور، وكان من أثر ذلك أن بدأت الإشاعات تنتشر في القصر أولًا، ثم ما لبثت أن تسربت إلى خارجه، وكلها تلغط بذكر علاقة الملك بوصيفة والدته، وقد قيل إذ ذاك: إن الوزراء شكوا من أن الملك لا يبتُّ في شيء قبل استشارة دراجا، وأنه كثيرًا ما يغادرهم يتناقشون في موضوع لكي يحدثها تليفونيًّا ويسألها رأيها هي في ذلك الموضوع.

وزادت الإشاعات بعد ذلك حتى تناولت احتمال زواج الملك بالوصيفة، وأقبلت إحدى زميلات دراجا في البلاط تُهنِّئها مقدمًا على ما ينتظرها من عظمة ومجد في المستقبل حين تشارك الملك ملكه، ولكن دراجا غضبت لحديث صديقتها وصاحت بها: كفاكِ هذيانًا! نعم، إن الملك يحبني، وأنا لا أنكر ذلك، بل إنني أعترف به وأنا أشعر بالفخر؛ إذ إنني أحبه أنا الأخرى إلى حد العبادة، ولكن لن يكون معنى حبي وإخلاصي لجلالته أن أحول بينه وبين واجبه نحو البلاد ونحو العرش: ذلك الواجب الذي يحتم عليه أن يختار زوجة تنتسب إلى أصل ملكي أو قيصري؛ حتى تجد بلادنا حليفة قوية تقف إلى جانبها دائمًا! أما أنا فحسبي أن أضحي بسعادتي في سبيله!

كانت دراجا تفوه بهذه الألفاظ بقوة وحماسة تجعل من يسمعها يتأكد صدقها وإخلاص قائلها لملكها وبلادها، أما الملك فكان يزداد في كل يوم تعلقًا بدراجا حتى صار لا يقدر على فراقها لحظة، وقيل إذ ذاك في معرض النقد: إن دراجا لم تعد وظيفتها في القصر وصيفة الملكة ناتالي، ولكن وصيفة الملك إسكندر.

تنبوءات عراف

ولم تكن الملكة ناتالى تهتم بشيء مما يقال عن علاقة ابنها الملك بوصيفتها؛ إذ كانت تدرك أنها علاقة ثائرة لا بد أن تنتهي قريبًا بعد أن يسأم الملك دراجا، ويشعر بالرغبة في غيرها أو بالرغبة في الزواج! ولكن حدث في عام من الأعوام أن كانت الملكة في باريس، فمرت على عراف اشتهر بمقدرته على كشف حوادث المستقبل، وكان من بين ما قاله ذلك الرجل للملكة: احذري يا مولاتي! إنني أرى حية سامة تحتفظين بها جلالتك في صدرك، احذري منها؛ فها هي ذي تلدغك لدغة مميتة!

الزواج

وكان أول من اتجه إليه فكر الملكة — وهي تفكر في الحية السامة — دراجا! فلما عادت إلى بلغراد أخذت تشعر نحوها بالنفور، ثم حدث بعد ذلك أن عثرت مصادفة على خطاب أرسله ابنها الملك إلى دراجا، فقرأته وراعها أن تتبين في سطوره مقدار تأثير الوصيفة على الملك وخضوعه لها، وشعرت بغضب عظيم وغيرة شديدة، ثم نادت دراجا وأمرتها بمغادرة القصر في الحال، فأطاعتها دراجا بسكون؛ إذ كانت تتوقع حدوث مثل هذا من مدة طويلة بسبب الوشايات والدسائس التي تملأ القصور الملكية.

كانت الملكة مخطئة في تصرفها لما طردت دراجا من القصر؛ إذ إنها لما فعلت ذلك جعلت ابنها الملك يزداد تعلقًا بها، وحبًّا لها؛ فقد أسرع إليها يواسيها ويكرر على مسامعها استعداده للزواج منها، ويقال: إن الملك كان قد طلب يد دراجا أكثر من مرة قبل ذلك، وإنها هي التي كانت ترفض في كل مرة، وتصرح له بأنها لا تستحق هذا الشرف، ولكنها بعد أن طردت من القصر وأخذت تشعر بأنها مهددة، وبعد أن أحست بأن تأثيرها على الملك سيزول بابتعادها عنه، فلن تجد لها نصيرًا ولا صديقًا، وبعد أن فقدت عطف الملكة الوالدة.

بعد هذا كله كان يجب أن تفكر مليًّا قبل أن ترفض طلب الملك كما رفضته في المرات السابقة، وكرر الملك طلبه بإلحاح فقال: إنكِ عندما تصيرين زوجتي تكونين في أمان من أحداث الدهر، ولن يكون لمخلوق أي سلطة عليكِ، فدعيني أتولى حمايتك والدفاع عنك!

وامتثلت الوصيفة دراجا لأمر الملك وقبلت طلبه! وذاع خبر عزم الملك على الزواج من وصيفة والدته؛ فأحدث الخبر دويًّا هائلًا في البلاد، وأسرع الوزراء إلى الملك وتقدموا إليه بالرجاء حتى يعدل عن هذا الزواج، وأخذوا يشرحون له ما قد يفضي إليه من نتائج سيئة، ولكنه لم يهتم بكلامهم، وغضب عليهم ثم قال لهم محتدًّا: ليست هناك غير امرأة واحدة في هذا العالم أحبها وأفضلها على كل شيء، حتى على التاج! هذه المرأة وحدها قادرة على إسعادي، وعلى مقربة منها فقط يمكن أن أنسى متاعبي وآلامي، فأنا أريد هذه المرأة زوجًا لي مهما كانت النتيجة.

وعلى الرغم من إرادة الجميع تزوج الملك إسكندر من دراجا ماشين فصارت ملكة صربيا.

الأب والزواج

ولد الملك إسكندر أوبرينوفتش في عام ١٨٧٦، وقد تولى الحكم في عام ١٨٨٩ وهو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره؛ بسبب استقالة والده لأسباب سياسية، وقد عين عليه إذ ذاك بعض الأوصياء، ولكنه لما بلغ السابعة عشرة من عمره في عام ١٨٩٣ أخذ مقاليد الحكم في يده.

وكان والده الذي اعتزل العرش يعيش في باريز، وهو يتتبع أخبار ابنه وبلاده باهتمام، فلما سمع برغبته في الزواج من دراجا اشتد غضبه وتردد في تصديق الخبر، ولكنه لما تأكد منه حنق على ابنه، ونُقِل عنه أنه قال لأحد جلسائه: إنه لخبر مرعب حقًّا يكاد لا يُصدَّق! إنني على ثقة من أن الصربيين لا يرضون بمثل هذه المرأة ملكة عليهم! هل يرتكب ابني إسكندر هذه الفعلة الشنعاء، ابني الوحيد! إنها امرأة كفيلة بأن تلحق به العار الأبدي! لقد كنت دائمًا أخاف على ابني من أن يقع في حبائل النساء سيئات الخلق، وها هو ذا قد وقع فعلًا، وسيجر العار على أسرتي كلها، أسرة أوبرينوفتش العظيمة.

وتم زواج الملك إسكندر من دراجا في عام ١٩٠٠، فأحدث استياءً عامًّا في طول البلاد وعرضها، وبدأ أعداؤها وحسادها يدبرون لها المؤامرات. أما زوجها فكان حبه لها بعد الزواج قد ازداد، حتى إنه أخذ يدللها، ويجيب كل طلباتها، وينفذ جميع رغائبها؛ فيزيد بذلك من كراهية الشعب لها.

الدعوة ضد العرش

وأخذ الفوضويون يبثون الدعوة ضده في البلاد، وينادون في الناس بوجوب «تطهير العرش ممن دنسته»، ويبالغون في أخبار تبذيرها وإسرافها، كما ادعوا أنها لا تريد أن تخلف لزوجها ولدًا يكون ولي العهد، حتى تمهد السبيل لارتقاء شقيقها عرش البلاد! وكانت هذه التهم الخطيرة تلقى أذنًا صاغية من كثيرين، وخاصة بين رجال الجيش.

وفي ليلة ١١ يونيو من عام ١٩٠٣، دخل الملك إسكندر مع زوجته الملكة دراجا مخدعهما ليناما وهما لا يعرفان شيئًا مما خبَّأه لهما القدر، ولما ساد السكون في القصر الملكي، وخفت كل صوت، انسلَّ بعض الضباط المتآمرين إلى القصر من باب خلفي بعد أن رشوا الحراس هناك.

النهاية

وكان الضباط الذين وقع عليهم الاختيار لدخول القصر قد أفرطوا في شرب الخمر؛ فساروا في الردهات وهم يقتلون برصاصهم كل من يعترض طريقهم من رجال الحرس، حتى صعدوا إلى الطابق العلوي حيث يوجد مخدع الملك، ووقفوا هناك عند بابه ثم ترددوا في الدخول.

وكان الملك والملكة قد أفاقا من نومهما على صوت الرصاص؛ ففهما كل شيء في الحال، ووقفا متلاصقين وراء الباب وقد أخذا يرتجفان خوفًا من مصيرهما.

وتشجع المتآمرون بعد ذلك، فحاولوا فتح الباب إلا أنهم وجدوه مغلقًا بإحكام بحيث لا يمكن فتحه بسهولة؛ فأرسلوا في الحال من يستحضر لهم فأسًا لتحطيمه، ووصل في تلك اللحظة رئيس الحرس، فحاول أن ينقذ الملك ويبعد الثائرين السكارى عن باب مخدعه حتى يساعده على الفرار، إلا أنه لم يفلح في إدراك غرضه، وكانت الفأس قد وصلت إذ ذاك؛ فبدأ الضباط يحطمون الباب بها دون هوادة أو تردد.

وجهًا لوجه

وأدرك رئيس الحرس أنه لا فائدة ترجى من وراء المقاومة؛ إذ وجد القصر كله مطوقًا بالجنود، فأخذ يهدئ من ثائرة الضباط، ووعدهم بأن يطلب من الملك أن يفتح لهم الباب بنفسه إذا أقسموا له أن يتقدموا إليه بشكواهم ومطالبهم دون أن يلحقوا به أي أذى. وأقسم بعض الضباط على ذلك، فتقدم رئيس الحرس وخاطب الملك من وراء الباب فقال له: افتح لهم يا مولاي باب المخدع؛ فإن الطارقين من ضباط جيشك وهم لا يريدون بك شرًّا.

ولما سمع الملك صوت رئيس حرسه — وكان يعرف إخلاصه — اطمأن قليلًا وفتح الباب في الحال، فوجد المتآمرون الثائرون أنفسهم وجهًا لوجه أمام الملك والملكة وهما بملابس النوم، وقد استعادا رباطة جأشهما وثباتهما. وتقدم الملك خطوة إلى الأمام، ثم وجه الحديث إلى الضباط فقال لهم بلهجة حازمة متزنة: ماذا تريدون مني في هذه الساعة المتأخرة؟ أهذا دليل إخلاصكم لملككم؟

وشعر الضباط برهبة الموقف، وترددوا فلم يحرِ أحدهم جوابًا، ولم يعرفوا ما يجب أن يُفعل أو يُقال وهم في ذلك الموقف، إلا أن ضابطًا ثملًا من بينهم كان يمتاز بالجسارة والإقدام صاح بهم: ماذا أصابكم أيها الجبناء؟ هل شلَّ الخوف ألسنتكم وأيديكم؟! انظروا! هأنذا أقدم للملك رمز ولائي.

وأخرج مسدسه في الحال وأطلق رصاصة منه على الملك؛ فخرَّ صريعًا بين ذراعي زوجته! وكأن لهذه الرصاصة الأولى تأثير الكهرباء في نفوس الآخرين؛ فأسرعوا جميعًا وأخرجوا مسدساتهم، وأطلقوا النار على الملك والملكة، وأخذ الرصاص ينهال من كل ناحية على الجثتين حتى مزَّق جلدهما، ولم يكتفِ القتلة بذلك، بل استلوا سيوفهم وأعملوا فيهما تمثيلًا حتى صاح قائدهم: ألقوا بهما من النافذة، اقذفوا بهما إلى الكلاب.

وجروا جسد دراجا أولًا حتى النافذة، ثم ألقوه منها إلى حديقة القصر، وألقوا بعد ذلك بجثة الملك وراءه.

وارتفعت بعد ذلك أصوات هتافهم في الفضاء ابتهاجًا بإتمام عملهم، وبجريمتهم الفظيعة، وكانوا يصيحون: فليحيا الملك بطرس.

وكانوا يقصدون بطرس قرة جورجفش الذي خلف الملك إسكندر على العرش.

وكأن القتلة قد ثملوا بخمر الجريمة، فأخذوا يجوبون أنحاء القصر وينتقلون من غرفة إلى أخرى وهم يصيحون ويرقصون ويهتفون بأعلى أصواتهم، ويحطمون كل ما يقع تحت أيديهم من الأواني النفيسة، أو القدور الفنية الغالية، وحطموا بالفأس فراش الملكين.

واستمروا في أعمالهم المنكرة، وخاصة بعد أن شربوا خمرًا من القصر، فأخذوا يقتلون جميع الموالين للملك من وزراء وضباط، وكان من بين من قتلوا أكثر أقارب دراجا، ويقال: إن سفير النمسا لما وجد أن المسألة قد خرجت عن حدها؛ هدد القتلة بزحف الجيش النمسوي على بلغراد في الحال إذا لم يكفوا عن فظائعهم، وكان لهذا التهديد أثره؛ فامتنعوا عن القتل قرب الفجر فقط!

وبقيت جثتا الملكين إسكندر ودراجا في حديقة القصر ساعات طويلة والمطر يهطل عليهما، وقد تمزقت ملابس النوم فكشفت عن أجزاء كثيرة من جسميهما، حتى حضر سفير الروسيا بنفسه وأمر بإدخالهما إلى القصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤