الملك إدوارد الرابع واليصابات جراي

أنا الملك

أدار الملك رأسه وهو على جواده يخبُّ به في الغابة حين رأى فتاة جميلة تجلس على مقربة من شجرة البلوط، كان وجهها يكشف عن جمال فاتن، وشعرها الذهبي يتدلى على وجه طفل تحمله بين ذراعيها، وكان على خديها آثار الاحمرار الخفيف كأنها مقبلة من رحلة بعيدة.

وبقي الملك في مكانه لا يتحرك عند ما رأى الفتاة التي خيل إليه أنها جنية ظهرت له من أعماق الغابة، وبينما كان منشغلًا بمراقبتها رفعت نظرها فرأته. وقامت من مكانها في شيء من الخجل، واقتربت من الغريب وهي تقول له: يا سيدي العزيز! إنني أبحث عن الملك، ولكنني لست على ثقة من الطريق، فهل يمكنك أن تدلني على الطريق إلى جلالته؟

ودهش الملك لهذه المفاجأة، ولكنه أخبرها أن «جلالته» يعيش في قلعة فوزرنجاي على بعد أميال عديدة، ثم سألها بعد ذلك دون اهتمام حتى لا يُشعرها أنه الملك: وماذا تريدين من جلالته؟

وترددت الفتاة قبل أن تقص على الغريب ما تريد من جلالة الملك؛ إذ كان الجو الذي تعيش فيه مملوءًا بأعدائها، ولكنه كان يبدو شابًّا ظريفًا رقيقًا سنُّه قريبة من سنها، كما أن نظرته كانت لا تخفي الإعجاب، فقالت له: لقد قتل الملك زوجي في حروبه الأخيرة، ثم انتزع من أطفالي أرضهم ومالهم، وأصبحنا اليوم ونحن لا نملك شيئًا! إنني أريد أن أستعطف جلالته لكي يرد للأطفال حقوقهم: أرضهم وألقاب والدهم.

وأجابها الغريب في هدوء دون غضب: أنا الملك.

وكانت صيحة صغيرة، هي صيحة العجب والخوف، وقعت على أثرها الأم الصغيرة جاثية على ركبتيها في ضراعة صامتة، ولم تجسر على أن ترفع عينيها لتنظر إلى وجه الملك؛ خوفًا من أن تقرأ فيه الغضب والحنق، ولم يسعها وهي في ذلك الموقف إلا أن تضم ابنها إلى صدرها بشدة في انتظار مصيرها.

وقال لها الملك في لهجة الجد: وما اسمك؟

وهنا غاض قلبها؛ إذ كانت تحمل اسمًا لا يكره الملك من أسماء أعدائه اسمًا مثله، اسمًا أقسم على أن يمحوه من وجه إنجلترا.

وبعد تردد طويل أجابت بصوت ضعيف لا يكاد يُسْمع: اليصابات جراي! وأبي هو السير ريتشارد ودفيل.

وظلت تنتظر وهي لا تزال جاثية على العشب، وفجأة شعرت بالملك إلى جانبها يساعدها بلطف على أن تقف على قدميها.

بين الأعداء

وحاول الملك أن يهدئ روعها، ولكنه شعر هو الآخر بعاطفة غريبة تغمره، ومع أن ملامحه كانت تدل على هدوء ظاهر، إلا أن عينيه كانتا تنمان عن قلق باطني هو الذي دعا إلى تضاعف ضربات قلبه، وقال لها: قد تجاب رغائبك. وسوف أحل الليلة ضيفًا عندكم!

وفي تلك اللحظة حضر بعض خدم الملك، فسلم إليهم الصقر الذي كان يستقر على معصمه، ثم عاون اليصابات وطفلها في امتطاء صهوة جواد، وركب معها بعد ذلك إلى قصر جرافتون بمقاطعة نورثمبتون حيث كانت تعيش مع والدها.

كان آل ودفيل من غير الأغنياء، وكانت الحرب الأخيرة بين أسرتي لنكستر ويورك قد زادت من فقر الأب؛ لأنه انضم فيها إلى جانب أسرة لنكستر المندحرة.

وذهب الملك إدوارد الرابع إلى قصرهم، ذهب إليهم ذلك الملك الشاب الذي تولى العرش باسم أسرة يورك المنتصرة، وكان حتى ذلك الوقت منشغلًا بالقضاء على فلول أعدائه، في حين كان ناصحوه ومستشاروه يجِدُّون في البحث له عن ملكة يمكن أن تضيف قوة جديدة وعظمة إلى اسمه.

وارتعبت اليصابات في بادئ الأمر من حماسة الملك في الرأفة بحالها؛ إذ إنها كانت تنظر إليه دائمًا نظرتها إلى ألد أعدائها، أفلم يقض على زوجها ويصادر أملاك أطفالها معتديًا على حقوقهم الموروثة؟!

ومع ذلك استمر إدوارد في مواساة اليصابات، وكان كلما تمكن من الهرب من أتباعه ورقابتهم الدقيقة امتطى جواده وسار في الغابة إلى جرافتون حتى تكتحل عيناه بمرأى الجمال ممثلًا في اليصابات، ولكي يصرح لها مرة جديدة بحبه وولهه.

وبعد مدة من الزمن أجابته، في رعدة وحياء، بشيء مما كان يبثها، وكان موعدهما دائمًا تحت تلك الشجرة الكبيرة، شجرة البلوط، حيث تقابلا للمرة الأولى، وكانت زهور الربيع الباسمة التي تفتحت أكمامها تكوِّن لهما مقعدًا وثيرًا، كما كانت الطيور تغرد لهما أناشيد السعادة والحب.

كان شكلهما بديعًا إذا ركبا جنبًا إلى جنب وسارا في طرقات الغابة الضيقة، وكان شعر اليصابات الذهبي يصل إلى وسطها وهو يكون لعينيها الزرقاوين، وفمها الأحمر الرقيق، وعنقها الأبيض الجميل ما وراء رائعًا.

مشاريع الزواج

كان إدوارد شابًّا جميلًا في عينيه نعاس قليل، إلا أنهما تدلان مع ذلك على أنه على ثقة من قوته العظيمة.

وكان الاثنان صغيري السن.

ومع كل هذا كان قلب إدوارد ورأسه في نضال عظيم وهو يعطف على اليصابات ويواسيها، وكان إذا عاد في المساء إلى فازرنجاي وواجه أمه أو إيرل وارويك، عمه وكبير مستشاريه، لم يجسر على أن ينطق أمامهما باسم اليصابات ودفيل.

كانت الأم كثيرًا ما تفكر، كما كان العم يفكر دائمًا، في زواج الملك الشاب، ومع أنهما كانا يختلفان فيمن يقع عليها الاختيار في النهاية، إلا أنهما كانا متفقين دون جدال على نبذ كل فكرة تتعلق بارتباط الملك بفرع حقير من فروع الأعداء.

وكان الملك يصغي إلى وارويك وهو يصف له مزايا زواجه بالأميرة بونا التابعة لسافوي، ويقول له: إنه فَكَّر له فيها نظرًا لأنها كفيلة بأن تضيف قوة جديدة وعظمة لا نزاع فيها إلى تاجه.

أما والدة إدوارد، وهي سيسيليا دوقة يورك، وكانوا يطلقون عليها لقب «سيس الفخورة»، فكانت لها هي الأخرى مشاريع خاصة بزواج ابنها الملك، وكان اختيارها قد وقع على اللادي اليصابات لوسي، ابنة بيت من أقوى البيوتات الإنجليزية في ذلك العهد، وكانت ترى فيها خير زوجة لابنها، ولا تمل من ذكر أفضليتها على غيرها.

وأما الملك إدوارد نفسه فكان لا يزال تحت تأثير الشباب ونشوة الحب، وكان قد اعتزم ألا يتخذ ملكة غير اليصابات ودفيل التي قابلها صدفة في الغابة.

ولكنه كان لا يعرف ماذا يصنع؟

وفي ذات ليلة

وأخذ يبدو بعد ذلك متحفظًا متسترًا، وكان يتحاشى مقابلة والدته، وإذا اضطر إلى الإجابة على أسئلتها الكثيرة التي تشتم منها رائحة الشك والاشتباه، لم يجبها بغير هزة من كتفيه يتهرب بها.

وكان يعرف أن حبه المتقد لاليصابات سوف يظهر عاجلًا أو آجلًا أمام الأنظار، وأنه سيرى العالم كله إذ ذاك معترضًا سبيل سعادته.

figure
اليصابات جراي.

ولكن لو فرض أنه في الوقت الذي تبدأ فيه الزوبعة يكون هو قد تزوج، فماذا يحدث؟ إن الأوضاع تحتلف في هذه الحالة بلا ريب.

ففي ذات ليلة ركب الملك جواده واخترق به الغابة قاصدًا منزل من يحب، ولما وصل إلى هناك أمر اليصابات بالاستعداد للخروج معه في الحال واصطحاب والدها ووالدتها.

واقتادهم جميعًا إلى كنيسة قرية جرافتون، وتركهم هناك في دهشة وحيرة وذهب هو يبحث عن الكاهن.

وفي ساعات الصباح الأولى كانت الشموع تلقي بضوئها الضعيف على المذبح وعلى وجوه الجمع الصغير.

وهناك وسط عالم نائم، تزوج إدوارد الرابع، ملك إنجلترا، سرًّا باليصابات ودفيل.

تزوجا، ولكنهما افترقا عند عتبة الكنيسة بعد أن تبادلا قبلة ملأى بالحب والإخلاص.

وعادت اليصابات إلى منزلها وفراشها الصغير لتنام وحدها وتحلم بالحب والأسى.

وعاد إدوارد إلى فازرنجاي ودخل إلى جناحه بمنتهى الحذر حتى لا يدرك أحد شيئًا عن خروجه أو عودته.

وتقابل العروسان بعد يومين، وكان الملك قد نظم رحلة صيد شرف في أثنائها منزل السيد ريتشارد ودفيل، ولم تُبدِ اليصابات في أثناء تلك الزيارة والرحلة ما يشتم منه رجال الحاشية وجود علاقة بينها وبين الملك.

وهكذا قضى الاثنان شهر العسل. وفي مذكرات السير جون هوارد وصف هذا الرجل «كيف قضى الملك هناك أربعة أيام لما زارته اليصابات سرًّا في أثنائها دون أن يعرف مخلوق على الأرض بذلك غير أمها.»

لقد تزوجت

ومرت الشهور الأولى من زواجهما تتخللها لحظات قصيرة من السعادة ثم الفراق، وعاد وارويك بعد ذلك من سافوي يحمل أخبارًا حسنة عن الأميرة بونا وجمالها وثروتها، ولكن والدة الملك أصرت على أفضلية اختيارها.

أما الملك فلم يظهر ميلًا إلى إحدى الاثنتين؛ ولذلك ألحَّا عليه لكي يتخذ قراره بسرعة ويبوح باسم من يميل إلى الزواج منها، ولما اشتد إلحافهما قال الملك بصوت ضعيف: لقد تزوجت.

وصاحا به: ممن؟

قال: من اليصابات ودفيل أرملة السير جون جراي! وبدأت الثورة؛ إذ تبين وارويك أن آماله قد انهارت بسرعة، فخلع رداء الناصح المستكين الخاضع، وتحول إلى طاغية مستبد يصيح بضرورة الطلاق السريع.

أما الملكة الوالدة فكان غضبها أشد من غضبه بكثير، وأقسمت ألا ترى تلك المرأة الشيطانية التي أوقعت ابنها في حبائل خداعها، وألا تغفر لها تلك الإهانة.

وثار الملك بدوره كذلك؛ إذ إنه سكت قبل ذلك خوفًا من افتضاح السر، وما دام السر قد عرف فما الذي يدعو إلى السكوت بعد ذلك؟

كان إدوارد محاربًا، وها هو ذا اليوم يجد شيئًا يجب أن يحارب من أجله؛ لذلك لم يزده غضبهما وتهديدهما وحججهما ورجاؤهما إلا عنادًا وإصرارًا على أن يتخذ اليصابات ودفيل لا زوجة فقط، وإنما ملكة متوجة.

وأخبرهما بذلك في صراحة قاسية.

ولما كان وارويك سياسيًّا محنكًا، فقد أدرك أنه غُلب على أمره، وأن أحسن ما يصنع في هذه الحالة هو أن يصل إلى خير النتائج من الحالة الراهنة.

أما الملكة «سيس الفخورة» فما كانت لتُسلِّم بالهزيمة، وقالت لابنها ثائرة: لا يمكن أن تجعل منها ملكة بحال من الأحوال؛ إن هذه المرأة لا يجري الدم الملكي في عروقها.

وقال لها الملك في برود: إن هذا القول من اختصاص علماء الأنساب، وسأطلب منهم الاجتماع للبحث عن هذا الدم الملكي في أجدادها.

الملكة

وأمر الملك باجتماع علماء الأنساب، فاجتمعوا وجدُّوا في البحث حتى تمكنوا من تحرير قائمة طويلة فيها أسماء أعضاء أسرة اليصابات ودفيل، وتمكنوا في النهاية من الوصول إلى ما يثبت انتسابها إلى أصل ملكي.

كان إدوارد قد تزوج من اليصابات في أوائل عام ١٤٦٤؛ ففي أواخر العام سار الاثنان من جديد إلى المذبح في كاتدرائية ريدنج وهما في أبهة الملك والعظمة، وعلى مرأى من اللوردات وعظماء المملكة، وعلى درجات سلم هذا المذبح قاد الملك إدوارد زوجته اليصابات ودفيل، فتاة الغابة المجهولة، إلى حيث تلقت تاج الملكة، وحيث قدم لها النبلاءُ فروض طاعتهم.

وكانت اليصابات في نفس ذلك الوقت تقرأ في عيني زوجها، حين نظرت إليه، جميع فروض الطاعة والخضوع التي يُسرُّ بها قلبُ المرأة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤