تحت القبة وهم

كانت الجامعة عند صاحبنا حلمًا ورديًّا، بعد أن قُدر له أن يكون من طلابها، وكانت صورة الجامعة عنده هي تلك التي عرفها في آداب عين شمس؛ الاهتمام بتكوين الطلاب علميًّا، ورعايتهم. كان مثله الأعلى أحمد عبد الرحيم مصطفى الأستاذ القدير الذي يصادق تلاميذه، وأحمد عزت عبد الكريم الذي يعامل تلاميذه معاملة الأبناء، ويرعاهم، ويوفِّر الحماية لهم. حقًّا كانت هناك نماذج أخرى مختلفة إلا أنها كانت خروجًا على القاعدة؛ فقد كان أساتذة عين شمس — عندئذ — يحرصون على أن يرقَوا بمستوى خريجيهم، في تنافس واضح مع جامعتَي القاهرة والإسكندرية.

وعندما داعبت صاحبَنا أحلامُ الانتماء إلى هيئة التدريس بالجامعة، كانت صورة المُناخ العلمي بآداب عين شمس هي النموذج الذي يتوقَّع وجوده بالجامعة. ولكن التحاقه بقسم التاريخ بآداب القاهرة، وما واجهه من مُناخ مغاير تمامًا، هزَّ صورة الجامعة عنده؛ فاهتمامات الأساتذة في جلساتهم الخاصة بالنميمة، وتناقل أخبار «معسكر الأعداء» داخل القسم هي السائدة. أمَّا القضايا العلمية والمنهجية، فلم يجدها إلا في مجلس محمد أنيس، وكان ذلك نادرًا.

كذلك أدَّى استوزار الثورة لأساتذة الجامعات، والتركيز على جامعة القاهرة في هذا الصدد، إلى تآكل استقلال الجامعة، نتيجةَ تملُّق أعضاء هيئة التدريس للسلطة، وقَبولهم لِمَا فرضه القانون الخاص بالجامعات من ضوابط قيَّدت الحريات، وأخضعت الجامعة لسلطان أجهزة الأمن، فكان طه ربيع مدير إدارة الأمن بوزارة التعليم العالي يمارس نفوذًا على الجامعات يفوق سلطات الوزير نفسه، وتسابق المنافقون لتملُّقه؛ فهو الذي يملك السماح لهذا بالسفر، وتعطيل سفر ذاك، ويملك تبديد فرصة الإعارة لمن يشاء. وبلغ التملُّق ذروته عندما حصل الرجل على درجة الدكتوراه من إحدى كليات الآداب. وتكرَّر نموذج «دكترة» مدير أمن التعليم العالي، بل ومديري أمن الجامعات.

هان الأساتذة على النظام، عندما هانت عليهم أنفسهم، فلم يستطع الحريصون على استقلال الجامعة وتقاليدها تنظيم حركات احتجاجيةً على ما يجري للجامعة. وإذا كان هذا المُناخ لم يكن محسوسًا بآداب عين شمس، فليس معنى هذا أن جامعة عين شمس سلمت من هذا التلوُّث، فسرعان ما انتقلت إليها العدوى بعد تشكيل الاتحاد الاشتراكي. وبدأت منذ ذلك الحين تظهر حمى التنافس في غير المجال العلمي. فتملُّق قيادات التنظيم السياسي، والتطوُّع للتعاون مع أجهزة الأمن (كتابة التقارير عن الزملاء)، كانت الطريق التي سلكها الانتهازيون للحصول على المكافآت؛ مناصب المستشار الثقافي بالسفارات المصرية بالخارج، ومناصب الهيئات الدولية، وانتظار «حلول الدور» لتولي منصب «الوزير».

ولن ينسى صاحبنا حرص أساتذة بعينهم على التواجد بالكلية أيام التعديل الوزاري، وتعليقاتهم بعد تشكيل الوزارة الجديدة، فهم عند كل تعديل يحاولون في أحاديثهم استشفاف ما قد يكون لدى الطرف الآخر من معلومات، وخاصةً إذا بدت عليه علامات الاطمئنان. وحدث يومًا أن أسرَّ أستاذ مساعد بقسم التاريخ بآداب القاهرة لطالب دراسات عليا من تلاميذه، أنه حظي بلقاء طويل مع الرئيس عبد الناصر، أصرَّ فيه الرئيس على توليته وزارة التعليم العالي، وأنه ظل يتمنَّع حتى أقنعه الرئيس بأنه الأنسب لتولي المنصب، ولمَّا كان ذلك الطالب قريبًا لأحد محرِّري أخبار اليوم، فقد أسرَّ إليه بما سمع من أستاذه، فلم يتحرَّ الصحفي الدقة، وسارع بنشر الخبر في مكان بارز. وتعمَّد صاحبنا الحضور إلى الكلية يوم نشر الخبر، فقوبل باستقبال الفاتحين، وحظي بوصلات تملُّق، وهو يرد عليها بالتأكيد أنه فوجئ مثلهم بما نُشر. ولم يكن الرجل مرشَّحًا، ولم يكن هناك أساس للقصة كلها.

حدث يومًا أن ذهب صاحبنا إلى القسم بعد التشكيل الوزاري الذي جاء فيه عبد العزيز حجازي وزيرًا للمالية، فوجد تجمُّعًا من الأساتذة الذين يحتلون مواقع بالتنظيم السياسي، وهم يُعبِّرون عن غضبهم لأن الرجل الذي نال الوزارة «ليبرالي رجعي» لا علاقة له بالاتحاد الاشتراكي، كما أنه أحدث منهم عهدًا بالحصول على الدكتوراه. وأضاف أحدهم في تعداده لمبرِّرات ما حدث من «تجاوز»، بأن عبد العزيز حجازي كان لا يعرف شيئًا عندما وصل إلى لندن مبعوثًا للحصول على الدكتوراه، وأنه (المتحدث) كان على وشك الحصول على الدكتوراه، فكان لا يحسن التصرُّف إلا بمساعدته، وأنه كان ضعيفًا في اللغة الإنجليزية، فاستعان بموظف إنجليزي بالمكتب الثقافي المصري لكتابة الرسالة له، فكيف يستطيع من كان مثله أن يدير مالية البلاد؟! والعجيب أن الجلسة انتهت بكتابة كل منهم برقية تهنئة للوزير ﺑ «الثقة الغالية»، وأرسلوا ساعي القسم إلى مكتب التلغراف لإرسالها!

وشهد صاحبنا ما حدث أثناء الحملة الانتخابية لوحدة الاتحاد الاشتراكي بالكلية، عندما وقف أحد المرشَّحين من الأساتذة على السلم الرئيسي المؤدِّي إلى مكتب العميد، يعرض برنامجه في خطبة عصماء (ركَّز فيها على المطالبة بتحسين الأوضاع المادية لأعضاء هيئة التدريس)، وأنهى خطابه بتحذير «الزملاء» من إعطاء أصواتهم لعميد الكلية يحيى هويدي؛ لأن أخاه (أمين) كان رئيسًا للمخابرات. وردَّ عليه العميد من الشرفة المطلة على السلم قائلًا بصوت جَهْوري: «يا دكتور (فلان)، أنا لي الشرف أن يكون أخي رئيس المخابرات، لكن تحب أقول للناس دي مين اللي بيكتب تقارير عن زمايله للمخابرات وغيرها من أجهزة الأمن؟!» ولم ينبِس صاحبنا ببنت شفة، واختفى عن الأنظار.

وبلغ تملُّق أعضاء هيئة التدريس للسلطة مداه في عصر السادات، فعُدِّلت قواعد القَبول بالجامعات لتسمح لحملة اﻟ GCE، وهي شهادة التعليم العام البريطانية التي تعادل الإعدادية (من حيث المستوى العام)، حتى يتسنَّى لزوجة الرئيس وبناتها الالتحاق بالجامعة، فكانت الآداب وجهتهن، وكال الأساتذة الدرجات لهن. وكانت رسالة الماجستير التي تقدَّمت بها زوجة الرئيس، فصلًا محزنًا في تاريخ الجامعات المصرية. أُذيعت المناقشة كاملةً بالتليفزيون المصري، وأُعيدت إذاعتها مرةً أخرى؛ فقد حضرها الرئيس. وجاء على لسان أحد أعضاء اللجنة (بعد أن ألقى قصيدة مدح من نظمه) أن الرسالة تستحق عن جدارة درجة الدكتوراه وليس الماجستير، ونعى على القانون قصوره في هذه الناحية، واضطُرت سهير القلماوي أن تتدارك الموقف، وتفسِّر ما قاله الأستاذ المنافق بأنه شكل من أشكال التعبير عن الإعجاب بالرسالة.

كانت جيهان السادات بعد تخرُّجها بامتياز قد عُيِّنت معيدةً بقسم اللغة العربية، وكانت تدرِّس مادة اللغة العربية لطلبة الفرقة الأولى بقسم اللغة الألمانية، وتخصَّصت إحدى عضوات هيئة التدريس (وكانت بدرجة أستاذ مساعد) من قسم اللغة الألمانية في استقبالها عند حضورها إلى الكلية، وإعداد القهوة لها بنفسها، وكوفئت بعد ذلك على هذه «المهمة الوطنية» بتولي منصب المستشار الثقافي بسفارة مصر بألمانيا. وتسابق أعضاء هيئة التدريس في تقديم الالتماسات إلى المعيدة «السيدة الأولى»، فهذا يطلب تعيين ابنته في وظيفة هامة، وذاك يطلب «شقةً» لكلٍّ من ولدَيه، إلى غير ذلك من طلبات. وتولَّى بعض أساتذة قسم اللغة العربية التدريس لها في منزل الرئيس، وكوفئ منهم من كوفئ بمناصب المستشار الثقافي، والمراكز الرئيسية في حزب السلطة. ولكن ذلك لا يبلغ ما بلغته مكافأة عميد الكلية الذي صعد إلى منصب نائب رئيس الجامعة، ثم كان أول رئيس لمجلس الشورى، وكوفئ رئيس الجامعة بتوليه رئاسة مجلس الشعب.

وعندما حصلت جيهان السادات على الماجستير عُيِّنت مدرسًا مساعدًا، وكان الإجراء المتبع في الجامعات المصرية تطبيقًا لقانون الجامعات هو اعتماد الدرجة العلمية بمجلس القسم ومجلس الكلية، ثم اتخاذ قرار التعيين بالجلسة التالية (بعد شهر)، ولكن تمَّ تغيير الإجراء في الجامعة كلها، فأصبح اعتماد الدرجة يتم في البند الأول من جدول أعمال المجلس، ثم يتم التعيين في البند الأخير بالجلسة نفسها، وأصبحت تلك البدعة الإجرائية هي الإجراء المتبع حتى اليوم في تعيين المدرسين المساعدين والمدرسين.

ولعل جيهان السادات لم تطلب ذلك؛ فأغلب الظن أنه جاء بمبادرة من جانب العميد، أقرَّها رئيس الجامعة. ولا أدلَّ على ذلك ممَّا لقيه العالم الجليل حسن حنفي من تنكيل الرجلَين (العميد ورئيس الجامعة) به لمجرَّد اعتراضه على حصول جيهان السادات على درجة «ممتاز» في الليسانس، واحتجاجه على فساد ذمم من كالوا لها الدرجات، فتأخَّرت ترقية الرجل (رغم أن تقرير اللجنة العلمية أوصى بترقيته عن جدارة) حتى رحل عميد الكلية ورئيس الجامعة ليتربَّعا على مقاعد المجلسَين النيابيَّين. فقام الدكتور إبراهيم بدران بعرض التقرير على مجلس الجامعة، بعدما أفهمه بعض الشرفاء من أساتذة الجامعة حقيقة الموقف. وشتان بين هذا الرجل وسلفه؛ فقد كان عالمًا جليلًا منصفًا، لا يخشى في الحق لومة لائم.

ولم يكن الأخذ بمبدأ انتخاب العميد (الذي نصَّ عليه قانون تنظيم الجامعات وأُلغي فيما بعد) أداةً فعالة للإصلاح ولتمتُّع أعضاء هيئة التدريس بحق اختيار رئاستهم العلمية. يرجع ذلك إلى النص على أن يختار رئيس الجامعة من بين الثلاثة الأُول من يُعيَّن عميدًا. ولم يُنصَّ على مبدأ الترشيح، بحيث يتقدَّم من يرغب في ترشيح نفسه للعمادة بطلبٍ بهذا المعنى، فتكون هناك فرصة لأعضاء هيئة التدريس للاطلاع على برنامج كل مرشح والمفاضلة بين المرشحين حسب تاريخهم الشخصي، وما يمكن أن يؤدِّيه كلٌّ منهم للكلية. وقيل في تبرير ذلك إن الترشيح سيؤدِّي إلى تراشق المرشحين بالكلمات وكشف عورات كل منهم أمام أعضاء هيئة تدريس الكلية؛ ممَّا يجعل موقف من يقع عليه الاختيار ضعيفًا. واقتصر على أن يشترك أعضاء مجلس الكلية والأساتذة فقط من غير أعضاء مجلس الكلية في اختيار العميد؛ أي إن القاعدة العريضة من أعضاء هيئة التدريس (المدرسين والأساتذة المساعدين) لا صوت لهم في ذلك الانتخاب.

ولكن كان من يرغب في المنصب يتصل بهذه الدائرة المحدودة من أصحاب الأصوات فردًا فردًا، ويَعِد هذا بأن يستبعد فلانًا من بين من يختاروهم لمنصب الوكيل (لأن صاحب الصوت على خصومة معه)، أو يَعِد شخصًا بعينه (قد يكون صاحب الصوت أو من يزكِّيه للمنصب) ليصبح أحد الوكيلَين. ووصل الأمر إلى حد زيارة البيوت، وطلب القَسم على المصحف للتأكُّد من الحصول على الأصوات. وهي مهزلة بكل المعايير لا علاقة لها بالديمقراطية من قريب ولا من بعيد؛ فقد كان من له حق التصويت أن يختار ثلاثة أسماء من بين القائمة التي تضم أسماء أساتذة الكلية حسب أقدميتهم، ثم تُحصر الأصوات، ليكون هناك في النهاية ثلاثة أسماء يُبيَّن أمام كل منها عدد ما حصل عليه من أصوات، وتُرتَّب أسماء الفائزين ترتيبًا تنازليًّا (أول – ثانٍ – ثالث)، ثم تُرسل لرئيس الجامعة ليختار واحدًا منهم ويصدر القرار بتعيينه، وهو (عادةً) يختار من لا يعترض الأمن على اختياره.

فقد كانت لأجهزة الأمن الكلمة العليا في الترشيح للمناصب الإدارية الجامعية عامة، ومنصب العميد خاصة؛ نظرًا لأهمية منصب العميد في تحديد أسلوب التعامل مع الطلاب، و«طبخ» انتخابات اتحاد الطلاب على مستوى الكلية التي كانت دائمًا قضية «أمن» بالدرجة الأولى. لذلك وقع اختيار رؤساء الجامعات — في بعض الحالات — على من جاء في الترتيب الثالث وحصل على أصوات لا تزيد على ١٠٪ من مجموع أصوات الناخبين. ناهيك عن حرص المتطلِّعين إلى المنصب على حسن تقديم أنفسهم للأمن (من خلال من لهم صلة بالأمن من مؤيِّديهم). ولمَّا كان منصب العميد بداية الصعود إلى مناصب القيادة بالجامعة (نائب الرئيس والرئيس)، وهي مناصب لا ينالها إلا من لا يعترض عليه الأمن، فقد كان معظم العمداء المنتخبين يبنون علاقةً «حميمة» مع أجهزة الأمن، تبدأ بحسن الأداء في عملية «طبخ» انتخابات اتحاد الطلبة، والاستجابة لطلبات الأمن بهذا الخصوص لمنع طلاب بعينهم من الترشُّح. وهنا تتجلَّى قدرات العميد الهُمام، فيُحيل الطلاب (الذين يطلب الأمن إبعادهم) إلى التحقيق بأي تهمة، ولكن تهمة «الإخلال بنظام الدراسة» هي أبرز تلك التهم، ويمتد التحقيق إلى انتهاء موعد الترشيح، وحبذا لو استمرَّ إلى ما بعد الانتخابات، ثم توقع على الطلاب عقوبات تافهة بعد أن ينتهي الغرض الذين حُوِّلوا للتحقيق من أجله.

أمَّا العميد «العُقر» الخادم المخلص للأجهزة الأمنية، فيوحي إلى أعضاء هيئة التدريس بالإعلان لطلابهم أنه لن تكون هناك محاضرات يوم الانتخابات، فإذا امتنع أحدهم عن القيام بذلك، فهناك عشرات من زملائه يتمنَّون رضا العميد عنهم لتسهيل مصالحهم الشخصية. وتكون النتيجة عدم وجود الحد الأدنى من الناخبين يوم الانتخاب؛ ممَّا يعطي الحق القانوني للعميد الهُمام أن يعيِّن أعضاء اتحاد الطلبة. وقائمة الأمن جاهزة دائمًا.

فإذا رفض العميد الاستماع إلى «النصائح الملزمة» التي يقدِّمها له رجال الأمن، فإنه بذلك يغامر بمستقبله الإداري، فعليه ألَّا يتوقَّع ترشيحه لمنصب نائب رئيس الجامعة الذي يضعه كل عميد نصب عينَيه أثناء أدائه لعمله. كما أن مطالب الكلية — في عهده — لن تلقى استجابةً من رئيس الجامعة (إذا لم يكن على شاكلة إبراهيم بدران). فلا يستجيب رئيس الجامعة لطلبات الكلية في المسائل المالية ولا الإدارية، وتتعثَّر قرارات مجلس الكلية في الاعتماد من رئيس الجامعة أو من مجلس الجامعة.

فإذا أصبح العميد نائبًا لرئيس الجامعة، وضع نصب عينَيه التربُّع على «الكرسي الكبير»؛ أي رئاسة الجامعة، فيزيد من إبراز «ولائه» لأجهزة الأمن بتقديم «خدمات» عامة أو خاصة في مجال اختصاصه. ولكن الأمل الأكبر هو «الكرسي العالي»؛ أي الوزارة، التي تتطلَّب تحرُّكات من نوع آخر خارج الجامعة، مع المتنفذين من رجال حزب الحكومة، ومع من يتيح له قربه من الرئيس اقتراح بعض من يُختارون لمناصب الوزارة.

أمَّا اختيار رئيس الجامعة فيتم من خلال تزكية أجهزة الأمن لأحد المرشحين الثلاثة الذين يتقدَّم وزير التعليم العالي بأسمائهم إلى الرئيس. وأحيانًا يأتي القرار بتعيين شخص لم يرد اسمه بين المرشَّحين، كما حدث عند تعيين مفيد شهاب رئيسًا لجامعة القاهرة. لذلك كان رئيس الجامعة أحرص الجميع على التفاني في خدمة أجهزة الأمن، ولا يرفض لأحد من كبار ضباطها طلبًا «شخصيًّا». وتجاوز أحدهم حدود إبداء الولاء للأمن بعدم تطبيق القاعدة القانونية التي جرى اتباعها، وهي بقاء من يتولَّى منصبًا إداريًّا من الأساتذة في ممارسة أعمال منصبه حتى نهاية العام الدراسي (آخر يوليو) في حالة بلوغه سن الستين قبل هذا التاريخ. فقام رئيس جامعة القاهرة بتعيين عميد للتجارة بديلًا للعميد القديم فور بلوغه الستين (في منتصف العام الدراسي)؛ لأنه رفض طلب الأمن الذي أبلغه له رئيس الجامعة بالعمل على استبعاد مجموعة من الطلاب من الترشُّح لانتخابات اتحاد الطلاب. ولمَّا نبَّهه رئيس الجامعة إلى أنه «موظَّف حكومي» وأن عليه أن يطيع «أوامر الحكومة»، ردَّ عليه الرجل بأنه «أستاذ جامعي — أولًا وأخيرًا — وأن ضميره لا يسمح له بأن يتردَّى إلى هذا المستوى في التعامل مع طلابه.»

رئيس الجامعة هذا طلبَ من عميد الآداب في اليوم الأول لتوليه منصبه رفع اسم أحد أساتذة قسم التاريخ (وكان رئيسًا سابقًا للقسم) من جدول التدريس بمرحلة الليسانس، ولمَّا كان قرار تعيين ذلك العميد أول ما اتخذه الرئيس الجديد من قرارات، فقد وعده خيرًا. وعندما اطلع صاحبنا على طلب رئيس الجامعة (وكان صاحبنا وكيلًا للدراسات العليا) حذَّر العميد من التورُّط في هذا العمل غير القانوني؛ لأنه لا يجوز وقف عضو هيئة تدريس عن العمل إلا بناءً على قرار سلطة التحقيق في حالة ارتكابه مخالفةً جسيمة من تلك المنصوص عليها بالقانون. ولمَّا كان الأستاذ المطلوب رفع اسمه من جداول الدراسة يتعرَّض بذلك للوقف عن العمل دون مبرِّر، فإن ذلك يعرِّض العميد نفسه للمتاعب من جانب أعضاء هيئة التدريس بالكلية، كما أنه يعطي للأستاذ المعنى الحق في مقاضاته شخصيًّا؛ لأنه يتحمَّل وحده وزر منع زميله من العمل دون أن يكون هناك قرار رسمي مكتوب من رئيس الجامعة بهذا الصدد.

وقعَ العميد الجديد في حَيص بَيص، ثم اقترح على صاحبنا وزميله (وكيل شئون الطلاب) أن يصحباه لمقابلة رئيس الجامعة وتسوية الأمر معه. وذهب ثلاثتهم إلى المكتب الذي كان غاصًّا بالمهنئين، فطلب صاحبنا من رئيس الجامعة أن ينتحي بهم جانبًا لأمر مهم، وعندما استجاب الرجل، سأله صاحبنا عن أسباب طلب منع الأستاذ إياه من التدريس، فأجاب رئيس الجامعة: «ده عامل قلق للدولة المصرية.» فقال صاحبنا: «هل رسب عنده أحد أبناء أو بنات مسئول في المخابرات؟» فردَّ الرئيس: «طب ما انت عارف أهو … أنا قلت ما يدرسش يعني ما يدرسش.» قال صاحبنا للرئيس: «سيادتك تجلس الآن على كرسي أحمد لطفي السيد، مدير الجامعة الذي رفض المساس باستقلالها، ولا يجب أن تقدم على تصرُّف مخالف للقانون.» فقال: «ما وجه المخالفة للقانون.» فشرح له حكم القانون في وقف عضو هيئة تدريس عن العمل، ونصحه باستشارة المستشار القانوني للجامعة (وكان عميدًا لكلية الحقوق)، فإذا أيَّد موقفه، فعليه أن يصدر قرارًا مكتوبًا يوجَّه لعميد الكلية للعمل بموجبه. وانصرف الثلاثة، واتصل رئيس الجامعة بالعميد في صباح اليوم التالي، ليُعلمه بعدم وجود داعٍ لرفع اسم الأستاذ من الجدول، وأن يبقى الحال كما هو عليه. وهذه الواقعة بالغة الدلالة على مدى تفاني بعض رؤساء الجامعات في إرضاء نزوات كبار ضباط الأمن.

ولعل أبرز دليل على اختلال معايير اختيار رؤساء الجامعات، ما اكتشفه صاحبنا بعد عدة شهور، من أن رئيس الجامعة نفسه الذي ذكَّره بأنه يجلس على كرسي أحمد لطفي السيد، لم يكن يعرف من هو أحمد لطفي السيد الذي كانت قاعة اجتماعات مجلس الجامعة تحمل اسمه!

فقد كان صاحبنا عضوًا بلجنة موسعة شكَّلها رئيس الجامعة للإعداد لاحتفالية ضخمة بالعيد التسعين لجامعة القاهرة، ضمَّت معظم عمداء الكليات ونُواب رئيس الجامعة وبعض وكلاء الكليات، وبعض الأساتذة الذين لتخصُّصاتهم علاقة بالاحتفالية. وكانت اللجنة تنعقد مرةً كل أسبوعَين برئاسة رئيس الجامعة لمدة عام دراسي كامل، فقد كان رئيس الجامعة حريصًا على أن يجعل من المناسبة «حملة علاقات عامة»، يروِّج فيها لنفسه تطلُّعًا إلى «الكرسي الكبير» (الوزارة). وفي أحد تلك الاجتماعات كان صاحبنا يعرض على اللجنة قائمةً كُلف بإعدادها عن رؤساء الجامعة السابقين ليتم تكريم الأحياء منهم بهذه المناسبة وتكريم ذكرى من رحلوا منهم. وكانت هناك نسخة من القائمة بيد كل عضو من أعضاء اللجنة يتصدَّرها اسم «أحمد لطفي السيد»، تليه أسماء من تولَّوا رئاسة الجامعة بعده، وقد سبقت أسماؤهم المختصر الدال على «أستاذ دكتور (أ. د.)»، ففوجئ صاحبنا برئيس الجامعة يستوقفه ويقول: «لقد وجدنا غلطةً لفلان بك … من فضلكم ضعوا أ.د. أمام اسم أحمد لطفي السيد.» فإذا بالكل يَشرَعون أقلامهم ويضعون الإضافة، ممَّا أصاب صاحبنا بالانزعاج؛ فقد يكون رئيس الجامعة يجهل أحمد لطفي السيد، فهل شاع الجهل بين العمداء والوكلاء ونواب الرئيس، والأعضاء من الأساتذة، أم إنه النفاق؟ واعترض صاحبنا بقوله: «يا ريس، أحمد لطفي السيد لم يحمل الدكتوراه، ولم يحصل على درجة الأستاذية؛ فقد كان أعلم ممن حملوا الدكتوراه، وكان أستاذًا لأجيال متعاقبة من المصريين.» فضحك الرئيس (وضحك لضحكه الجميع)، وقال موجهًا الكلام لصاحبنا: «يعني عملوه مدير جامعة لأن ما كانش عندهم غيره؟!» ولا تعليق.

استنَّ النظام منذ عهد السادات سُنةً قُدر لها أن تدوم، وهي اختيار عناصر منتقاة معروفة بولائها للنظام أو محسوبة على أحد أركانه لتتولَّى رئاسة كل مؤسسة من القطاع العام إلى الوزارات إلى الجامعات، واعتبار معيار الولاء هو المحدِّد الأساسي في الاختيار، وترك كل من يتولَّى أمر مؤسسة يديرها وكأنها «عزبته» الخاصة، يفعل بها ما يشاء دون حسيب أو رقيب. بل لم يعد للأجهزة الرقابية تلك الهيبة التي كانت لها قبل عهد السادات، فالعبرة برسوخ أقدام المسئول، وقوة الشخصية التي يستند إليها، أو يُعد من محاسيبها. وانعكس ذلك على اختيار رؤساء الجامعات في معظم الحالات، فإذا أفلت أحد ممن اختير رئيسًا لجامعة من تلك المواصفات، وأوقف جهده لإصلاح شأن الجامعة دون اعتبار لضغوط أجهزة الأمن ومحاسيب النظام، كان عرضةً للإزاحة من منصبه، كما حدث مع محمد محمود الجوهري الذي كانت عمادته لكلية الآداب عهد إصلاح وإعادة هيكلة الأداء الأكاديمي بالكلية، وعندما أصبح نائب رئيس جامعة القاهرة لشئون فرع الفيوم، حمل على عاتقه — بأمانة — مهمة استكمال منشئات الفرع ووضع هيكله الأكاديمي، وعندما أصبح رئيسًا لجامعة حلوان، قدَّم نموذجًا يُحتذى لبناء جامعة من بين كليات ومعاهد متناثرة، ويضع هيكلها الأكاديمي، ويدعم هيئة التدريس بأكثر العناصر كفاءة، ويُكمل منشئات الجامعة بأنسب الشروط في زمن أصبح الفساد فيه هو القاعدة والمصلحة العامة هي الاستثناء. ولكن أداء الجوهري كان «نشازًا» وسط جَوقة أصحاب «العزب»، فتناهشته الذئاب، وأُزيح عن منصبه لعجزه عن إرضاء مصالح صُناع الفساد ونزواتهم.

ولم يكن أسلوب اختيار القيادات الجامعية وحده أبرز مظاهر الفساد الجامعي الذي بدأ مع عهد السادات، وترعرع بعده واستشرى واستوحش، فقد ابتُدعت في العقدَين الأخيرَين من القرن العشرين آليات للفساد هي؛ دعم الكتاب الدراسي، والصناديق الخاصة، ولجان الممتحنين.

ودعم الكتاب الجامعي يبدو أمرًا إيجابيًّا وحيويًّا، وخاصةً أن النظام قد قطع شوطًا طويلًا في إلغاء الدعم على السلع التي يستهلكها السواد الأعظم من الشعب، فالإبقاء على دعم الكتاب الجامعي يُعد — من هذه الناحية — استثناءً إيجابيًّا. غير أن تمويل دعم الكتاب الجامعي تقدِّمه هيئة المعونة الأمريكية، وهي — على أرجح الأقوال — صاحبة الفكرة، تتخذها سلاحًا ذو حدَّين، تهدئة الأمور بين الطلاب لمصلحة النظام، فيكون دعم الكتاب — على هذا النحو — بمثابة صِمَام الأمان، وإثارة المتاعب للنظام — من ناحية أخرى — في حالة التوقُّف عن تمويل دعم الكتاب الجامعي فجأةً كسلاح للضغط السياسي.

على كل، مبدأ دعم الكتاب الجامعي له جانبه الإيجابي، وخاصةً إذا وصل الدعم لمستحقيه، ولكن ما يحدث فعلًا هو تحديد عدد محدَّد من الكتب تُعطى للطلاب بنسبة تخفيض عالية، يتم اختيارها بما يخدم مصالح أساتذةٍ بعينهم في كل قسم لضمان توزيع كتبهم في زمن قصير، وتحصيل عائدها المادي. هذا فضلًا عن الحالة المتردية التي وصلت إليها الكتب الجامعية (في معظمها) من حيث المحتوى وأسلوب المعالجة، والتخلُّف عن مواكبة الجديد في التخصُّص، واتخاذها سبلًا للتكسُّب على حساب طلاب طحنتهم وذويهم الأزمة الاقتصادية. ويجد الطالب نفسه مضطرًّا لشراء كتاب لا نفع فيه بسبب الأساليب الدنيئة التي يتبعها معظم أعضاء هيئة التدريس لضمان تصريف الكتب والمذكرات، بل أصبح بعضهم يبيع المذكرة، ثم ملحقًا لها يضم بعض الأسئلة النموذجية وإجاباتها، ثم يطرح للبيع قُبيل الامتحان ملخَّصًا للمذكرة التي تُعد — في حد ذاتها — عرضًا ملخَّصًا للمادة. وترتَّب على ذلك انحطاط المستوى الدراسي بالجامعة من ناحية، وخلل العلاقة بين الأستاذ والطالب من ناحية أخرى، حين يتحوَّل الأستاذ إلى شخص يتطلَّع إلى ما في جيوب تلاميذه، ولا يعنيه أمر ما قد يكون في عقولهم.

ولو كانت المصلحة العامة هي المعيار، لاستُخدم دعم الكتاب الجامعي في تحسين مستوى التأليف، والتشجيع على التأليف الجماعي لمراجع معتمدة في المقرَّرات الدراسية، مقابل مكافأة محدَّدة، على أن يتولَّى قسم النشر بالجامعة (المطبعة) نشر تلك الكتب وبيعها بأسعار معتدلة. كما يمكن أن يتم تزويد مكتبة الكلية بنسخ كافية منها ليستعيرها غير القادرين على اقتناء الكتب.

والبدعة الثانية «الصناديق الخاصة»، وهي لا تقل أهميةً عن دعم الكتاب الجامعي من حيث الشكل، ولكنها أكثر فسادًا من حيث المضمون؛ فلمَّا كان التعليم مجانيًّا بجميع مراحله وفقًا للدستور، اخترع المجلس الأعلى للجامعات مبدأ أن يكون بكل كلية «صندوق خاص» يتم تمويله من مبالغ إضافية يدفعها كل طالب إلى جانب الرسوم المحدَّدة بحكم القانون. وأُطلق العِنان لتحديد المبالغ الإضافية التي قد تصل إلى ما يتراوح بين ٣٠–٥٠ ضعفا من قيمة رسوم القيد. ووُزعت هذه المبالغ بشكل يضمن حصول إدارة الجامعة على حوالي الربع وتحتفظ الكلية بالباقي الذي يصل إلى ما يقرب من عشرة ملايين جنيه في الكليات ذات الأعداد الكبيرة، من المفروض أن تُصرف على الخدمات التعليمية؛ أي توفير ما تحتاجه الكلية من وسائل تعليمية وأجهزة وأدوات معملية، إلى غير ذلك من مستلزمات، كما يتم منها رعاية الطلاب. ولمَّا كانت هذه المبالغ التي تموِّل الصناديق الخاصة، لا تُعد من موارد الخزينة العامة للدولة لأنها لم تُفرض بقانون باعتبارها «رسومًا»، فهي لا تخضع للرقابة المالية التي تخضع لها حسابات الجهات الحكومية، ولا تُدرج في الميزانية الخاصة بالكليات أو الجامعة باعتبارها أموالًا «خاصةً» وليست «عامة»؛ ولذلك لا يراجعها أو يراقبها «الجهاز المركزي للمحاسبات»، كما أن الصرف منها من سلطة العميد (على مستوى الكلية) ورئيس الجامعة على مستوى الجامعة.

كان من الممكن أن تُستخدم هذه الأموال الطائلة لدعم البحث العلمي، وتمويل مشروعات بحثية في مختلِف التخصُّصات، أو دعم المعامل بأحدث الأجهزة العلمية، وإنشاء ما ليس موجودًا منها. كذلك كان من الممكن استخدامها في دعم النشاط الثقافي والرياضي للطلاب، غير أن هذه الأموال تُستخدم — في الغالب — لخدمة مصالح من لهم حق التصرُّف فيها، وليس سرًّا أن الكثير من رؤساء الجامعات يمنح مكافآت شهريةً من تلك الصناديق لبعض المحاسيب من الأساتذة الذين تُقدَّم لهم مبالغ شهرية تحت مُسمَّى «مكافأة مستشار»، ولرئيس الجامعة الحق المطلق في تحديد أرقام تلك المكافآت، وينال بعض الصحفيين منها نصيبًا تحت مختلِف المسميات لزوم «تلميع» صورة رئيس الجامعة على صفحات صُحُفهم، كما تُموَّل منها الهدايا العبثية التي يقدِّمها رئيس الجامعة في بعض المناسبات للشخصيات التي يبني الجسور معها، والكثير من رؤساء الجامعات يتعامل مع الصناديق الخاصة وكأنها إيراد «العزبة» يبعثره كيف شاء.

حقًّا استخدم بعض العمداء هذه الأموال في تجديد المباني وترميمها وتجهيزها بالوسائل السمعية وتزويد المدرَّجات بأجهزة التكييف، ولكن ذلك كان يتم أيام أن كان «الحزب الوطني الديمقراطي» يعقد مؤتمره السنوي بحرم الجامعة، فيتم إيقاف الدراسة بالجامعة لمدة أسبوع، وتُعد المدينة الجامعية لسكنى الأعضاء، فيتم تجديدها وتزويدها بوسائل الراحة، التي حُرم منها الطلاب، على حساب الطلاب أنفسهم من أموال الصناديق الخاصة. واتجه بعض العمداء إلى تجديد أثاث مكاتبهم فاستبدلوا به أثاثًا «مستوردًا»، إلى غير ذلك من مظاهر تبديد هذه الأموال التي لا حسيب عليها ولا رقيب، والتي تُعد بابًا واسعًا للفساد والإفساد.

أمَّا الآفة الثالثة، فهي «لجان الممتحنين»، وهي آلية تقرَّر العمل بها في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، تُعطي للعميد حق تشكيل لجنة برئاسته أو رئاسة وكيل الكلية لشئون الطلاب، للنظر في نتيجة المادة التي يقل مستوى النجاح فيها عن ٥٠٪، فتقرِّر اللجنة إضافة رقم محدَّد من الدرجات إلى الدرجة التي حصل عليها كل طالب في تلك المادة، بما يكفل رفع نسبة النجاح إلى ما يصل إلى ٥٠٪ أو يتجاوزها قليلًا.

وأخذًا في الاعتبار لمُناخ الفساد السائد في تلك الجامعة، يبدو أن هذه «البدعة» وُضعت لخدمة أبناء بعض أهل الحظوة الذين تعثَّروا في بعض المواد؛ لأن تطبيقها في السنوات التي عاصرها صاحبنا كان الهدف منه خدمة أبناء بعض الأساتذة، أو المسئولين الكبار، أو كبار ضباط الأمن. وقيل في تبرير هذه الجريمة إن رسوب الطلاب في مثل تلك المواد يؤدِّي إلى اكتظاظ الكلية بالطلاب المتخلِّفين، ويوجد صعوبة في تدبير أماكن لهم بلجان الامتحان.

وتتم هذه العملية في الغالب دون الرجوع إلى أستاذ المادة إذا كان من ذوي المكانة، فتتم من وراء ظهره، أمَّا إذا كان صاحب المادة ممن يسهل الضغط عليهم، فإنه يقوم بإجراء التعديل بنفسه حتى لا يغضب العميد، فيضع العقبات في طريق إعارة أو ترقية ينتظرها، وهو لا يتأخَّر عادة عن الاستجابة للطلب، طالما كان من حق العميد أن يعدِّل النتيجة عن طريق «لجنة الممتحنين».

أخطر ما في الأمر، أن الدرجات تُضاف لجميع الطلاب فلا تساعد الراسب فقط على النجاح، ولكنها ترفع تقدير الناجح ليصبح «جيد جدًا» بدلًا من جيد، أو «ممتازًا» بدلًا من «جيد جدًّا»، فيؤثِّر هذا التعديل على فُرص خريج معيَّن في التعيين في وظيفة معيد، وهو ما يتم عادةً لصالح طلاب بعينهم، ويفسِّر المستوى المتدني للخريجين عامةً والمعيدين خاصة.

وامتدَّ الفساد ليتناول تعديل شروط الإعارة للجامعات الأخرى المنصوص عليها في قانون تنظيم الجامعات. كان القانون السابق عليه يُجيز الإعارة لمدة ثلاث سنوات كحد أقصى، فجاء القانون الحالي ليجعلها لمدة عامَين قابلة للتجديد مرةً واحدة (أي أربع سنوات)، ولعضو هيئة التدريس الحق في الإعارة لمُدد تبلغ مجموع سنواتها عشر سنوات خلال مدة الخدمة.

وحدث أن كانت سيدة تشغل درجة الأستاذية بإحدى كليات جامعة القاهرة معارةً للسعودية، وطلبت مد إعارتها لمدة ثالثة (ست سنوات)، ولمَّا كانت تلك السيدة شقيقة رئيس الوزراء، فقد حصل حسن حمدي رئيس الجامعة على موافقة مجلس الجامعة على إعارتها بالرغم من رفض مجلس الكلية لذلك، واستند رئيس الجامعة إلى فتوى فصَّلها له المستشار القانوني للجامعة باعتبار أن تقدير مدى ضرورة مد الإعارة من صلاحيات رئيس الجامعة وحده.

وظنَّ رئيس الجامعة أن المسألة ستتوقَّف عند هذا الحد، ولم يدرِ أنه — بمجاملته لرئيس الوزراء وكسره القانون — قد وضع سابقةً لا فكاك منها؛ فقد شاع خبر المد الاستثنائي لمدة عامَين إضافيَّين بين المعارين في السعودية والخليج، وحصل الكثير منهم على موافقات من جهة الإعارة على المد عامَين آخرَين، أو حتى عام واحد (خامس). وأُمطرت مجالس الأقسام بطلبات المد، فكان يتم رفضها، ثم تُعرض على رئيس الجامعة فيوافق عليها. وعندما تفاقمت الظاهرة حوَّلها مجلس الجامعة إلى قاعدة عامة، فأصبح من حق كل مُعار أن يتغيَّب عن الجامعة ست سنوات كاملة، بل تفنَّن بعضهم، وبحث لزوجته عن عقد عمل، ليستمر موجودًا في الجامعة التي يعمل بها بحجة «مرافقة الزوجة»، ليظل بذلك عشر سنوات بعيدًا عن الجامعة، يتم ترقيته خلالها إلى الدرجات الجامعية الأعلى، وقد يعود إلى الجامعة أستاذًا بعد أن تركها مدرِّسًا.

وامتداد الفساد إلى تعديل شروط الإعارة بالمخالفة للقانون مسئول عن تردِّي المستوى العلمي لأعضاء هيئة التدريس، واختلال معايير تقييم أعمال المتقدِّمين للجان الترقيات نتيجة خراب ذمم بعض مقرِّري وأعضاء تلك اللجان، وسهَّلت قواعد عمل هذه اللجان، بما حوته من ثغرات، حصول الكثير من المتقدِّمين على ترقيات لا تؤهِّلهم لها الأعمال التي يتقدَّمون بها للترقية، ممَّا ينعكس سلبيًّا على أدائهم الجامعي؛ تدريسًا وإشرافًا. فإذا كان المتقدِّم للترقية إلى درجة جامعية أعلى من أهل الحظوة أو من أصحاب «النفحات»، اختار له أصحاب الذمم الخربة من بعض المسيطرين على لجان الترقيات، لجنةً ثلاثية لفحص أعماله، تناسب المقام (ممن هم على شاكلتهم)، فتجعل من التبن تِبرًا، ومن الحصى لؤلؤًا. أمَّا إذا كان من غير هؤلاء، اختيرت له لجنة ثلاثية من الأساتذة «المتشدِّدين» (وهو المصطلح الذي يطلقونه على الأساتذة الشرفاء)، ولمَّا كان هؤلاء أساتذة بحق، فهم لا يُرقُّون إلا من كانت أعماله تؤهِّله للدرجة المتقدم إليها.

فإذا تقدَّم عالم رفيع القدر في تخصُّصه، تحظى أعماله العلمية باعتراف دولي، لوظيفة الأستاذية من خارج الجامعة، حرصوا على إبعاده عن الجامعة، حتى لا يغطِّي وجوده عليهم، ويكشف حقيقة مستواهم العلمي. حدث هذا مع العالم الجليل أيمن فؤاد سيد عندما تقدَّم لوظيفة أستاذ في التاريخ الإسلامي أعلنت عنها جامعة حلوان. وكانت اللجنة العلمية (عندئذً) مكوَّنةً من سبعة أعضاء، كان رئيسها وأربعة على الأقل من أعضائها من فصيلة الموظَّفين بدرجة أستاذ ذوي الإمكانيات العلمية المتواضعة، فاختاروا له لجنة فحص من أناس لا يصلحون للتتلمذ على يدَيه، رأوا عدم صلاحيته للأستاذية. وبعد أربع سنوات من التقاضي رد القضاء العادل له حقه، ولكن بعد أن حُرمت الجامعة من وجوده فيها طوال تلك السنوات.

ولا يمكن أن يتوقَّع المرء أن يكون أداء الدراسات العليا في جامعة غالبية أساتذتها من الموظَّفين الذين يحملون درجة الأستاذية، والقلة منهم هم أساتذة بحق على مستوًى يليق بأم الجامعات العربية، أو يكون مستوى البحوث فيها (في قطاع الإنسانيات على الأقل) مواكبًا للتطوُّر العالمي في مجالات تلك العلوم؛ فلا توجد مشروعات بحثية عند أساتذة التخصُّصات، يوجِّهون تلاميذهم إلى اختيار نقاط البحث في إطارها، حتى إذا تكاملت محاور المشروع، كان إضافةً علمية معرفية لها قيمتها، بل يُترك الأمر للصدفة، ولمدى قدرة الطالب على الاختيار أو استعانته (من وراء ظهر أستاذه) بأحد الأساتذة المتميِّزين ليُساعده على الاختيار. وهَمَّ الأستاذ (من أولئك الموظفين بدرجة أستاذ) أن يجمع تحت إشرافه أكبر عدد من الرسائل حتى وصل العدد عند بعضهم ٢٥ رسالةً (في أحد فروع الطب)، ناهيك عن الدراسات الإنسانية التي زاد عدد الرسائل المُسجَّلة عند البعض إلى أكثر من أربعين رسالة. وإن دلَّ ذلك على شيء، فإنما يدل على الابتذال والفوضى، فلا يظن صاحبنا أن ذاكرة الأستاذ تتسع لمثل هذا العدد من أسماء الطلاب المسجَّلين تحت إشرافه، ناهيك عن موضوعات رسائلهم التي لا بد أن يكون كلٌّ منها «قضيةً» في حاجة إلى متابعة دقيقة من الأستاذ، خاصةً في مرحلة الكتابة، ولا بد أن يكون الأستاذ عبقري زمانه حتى تسع ذاكرته ذلك الكم الهائل من «القضايا»، فما بالنا لو كان تكوينه العلمي هشًّا على نحو ما تقدَّم!

نتج عن ذلك أن تعامل الأساتذة مع الطلاب باعتبارهم مجموعةً من الأقنان. كان أحد أساتذة التاريخ (ممن تسلَّقوا مناصب الإدارة العليا) يعامل المعيدين معاملة الخدم، يكلِّف أحدهم مثلًا بالوقوف في طابور خزينة كلية الهندسة ليسدِّد الرسوم بدلًا من نجله، ويكلِّف المعيد بجمع مادة علمية لطلاب سعوديين يعملون تحت إشرافه، ويبقى المعيد في كل رسالة سبع سنوات وربما أكثر، بينما لا تستغرق المدة التي يحصل فيها الطالب الخليجي معه أكثر من عام بالنسبة للماجستير من تاريخ التسجيل وعامَين بالنسبة للدكتوراه. فإذا سُئل عن أسباب تأخُّر المعيد، زعم أنه بذلك يريد «إنضاج» المعيد خدمةً للتخصُّص. وهو — في حقيقة الأمر — ينشد إذلاله، وإبقاءه مطيةً له لأطول فترة ممكنة.

ولن ينسى صاحبنا تلك المعركة التي دارت بين أستاذَين بقسمه تنافسا على الإشراف على طالب تقدَّم لتسجيل الدكتوراه من آل ثانٍ (حكام قطر)، وعندما وجَّه أحدُ أهل التخصُّص انتقادًا لمشروع الرسالة الذي تقدَّم به الطالب، صرخ أحدهما قائلًا: «يكفينا أن سعادته اختار قسمنا للدراسة فيه … شرف كبير والله العظيم.»

وعندما وضعت مجالس الدراسات العليا بالجامعات حدًّا أعلى لعدد الرسائل التي يُشرف عليها الأستاذ جعلتها جامعة القاهرة عشر رسائل، ثم فُتح باب الاستثناء لخمس أخرى، وجعلتها عين شمس خمسة عشر رسالةً مع إمكانية الاستثناء بحجة «ندرة» التخصُّص. فعندما كان صاحبنا وكيلًا للكلية للدراسات العليا وعضوًا بمجلس الدراسات العليا بالجامعة، عُرض على المجلس النظر في استثناء أستاذ بطب القاهرة لديه ٢٥ رسالةً من قيود التسجيل حتى يمكن أن يسجِّل رسائل لتسعة طلاب جدد من الطلاب العرب بحجة ندرة التخصُّص. وعندما اتجه المجلس إلى رفض الطلب لتجاوزه عن الحد المسموح بخمس عشرة رسالة، فإذا سجَّل التسعة أصبح التجاوز ٢٤ رسالة، أرجأ رئيس المجلس (نائب رئيس الجامعة) التصويت إلى الجلسة التالية (بعد شهر). وفي بداية الجلسة الموعودة، أُخطر الأعضاء أن رئيس الجامعة (الذي تولَّى بعد ذلك منصب وزارة التعليم العالي) قد اقتنع بما قدَّمه الأستاذ من حجج، ووافق له، وأن هذا من حق رئيس الجامعة!

وعندما كان صاحبنا وكيلًا للدراسات العليا، أقنع مجلس الكلية بضرورة تطوير الدراسات العليا بالكلية، وشُكلت لجنة لهذا الغرض استمرَّ عملها عدة أشهر، ووضعت مشروعًا يضع من الضوابط والقيود ما يكفل رفع مستوى الدراسات العليا، ومواكبتها لإيقاع التطوُّر في المجال الأكاديمي العالمي بقدر الإمكان. ولقي مشروع اللجنة عند العرض على مجلس الكلية من الحذف والإضافة ما أفقده ٥٠٪ من قيمته، وعندما أُجيز بعد عام آخر، كان هم الأقسام الأساسي التحايل للالتفاف حول الضوابط التي وضعتها اللائحة الجديدة، ولم يرتح لهم بال إلا بعد إلغاء العمل بها عام ٢٠٠٣م.

هذا غيض من فيض عايشه صاحبنا تحت قبة الجامعة، التي ظنها يومًا مثالًا للنزاهة والنقاء خلت من الآفات التي يعانيها المجتمع. كان يظن أن الجامعة «بيت الحكمة»، العقل المفكر الذي يرسم للأمة خطاها، فاكتشف أنه كان واهمًا، وتبيَّن له أن الجامعة خلية من خلايا المجتمع، تتأثَّر بما يصيب بقية الخلايا من عطب، ومن أمراض. وأدرك أن الجامعة مرآة تنعكس على صفحتها صورة المجتمع بما فيه من تناقضات، وما تعانيه من علل وأوجاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤