جدارية مصرية تشع حبًّا وأملًا … وحرية١

أسامة عرابي

يشغل د. رءوف عبَّاس لا شك موقعًا متفرِّدًا بين أبناء جيله في تاريخ مصر الحديث ودراساته المتشعِّبة، راح يبحث عن حقيقته في أعطاف التاريخ المهمَّش والمُهمَل، وعمد إلى استنطاق المسكوت عنه بمسئولية تُدرك موقعها من حركة التاريخ، وتسعى إلى مستقبلها عبر سردية مكَّنته من مساءلة ذاكرته الوطنية والمعرفية، ومحاورة الوطن، والوعي الجمعي في درسه العلمي لتمثُّلات الماضي ومشهد الحاضر، وقد عزا الدكتور رءوف عبَّاس الفضل في تكوينه العلمي إلى ثلاثة من أعظم أساتذة التاريخ الحديث في مصر والوطن العربي هم: أحمد عزت عبد الكريم، وأحمد عبد الرحيم مصطفى، ومحمد أحمد أنيس … فإذا كان قد تعلَّم المنهج من عبد الرحيم وأنيس، فقد تعلَّم أصول الكتابة وفن تحرير الأعمال العلمية المشتركة وتنظيم الندوات العلمية وإداراتها وأصول الترجمة على يد أحمد عزت عبد الكريم … وتعرَّف على فكر كلٍّ من فيتفوجل حول تطوُّر المجتمعات النهرية، وروستو حول مراحل التطوُّر الاقتصادي التي عارض بها الماركسية، كما تعرَّف على فكر ماكس فيبر. ولم يكن تعرُّفه على تلك الأفكار مُجرَّدًا، فحظي صاحبنا بقدر كبير من المعرفة، كان له أعمق الأثر في تكوينه العلمي، وعلى إنتاجه العلمي في العقدَين التاليَين، على حد تعبيره في كتابه الأخير الموسوم باسم «مشيناها خطًى، سيرة ذاتية» (ص١٣٩، ١٥٣)، الصادر عن دار الهلال، والذي نُحاول هنا إلقاء الضوء على بعض جوانبه، بوصفه وثيقةً تاريخية حيَّة … وتأريخًا موضوعيًّا دقيقًا لتطوُّر مجتمعنا العلمي والسياسي خلال ما يربو على خمسين عامًا خلت … ودعوةً جادة إلى الحوار حول حاضر هذه الأمة ومستقبلها.

من هنا، قدَّم لنا د. رءوف عبَّاس جداريةً تلخِّص في تعبيرها البليغ مسيرة وطن، وهموم مُثقَّف لم يحِد يومًا عن نهجه الذي اختطَّه لنفسه في الحياة، فوضَعَنا أمام أسئلة مُحدَّدة تستأنس بعقل نقدي بمنأًى عن التعصُّب والانغلاق، الأمر الذي يدعو القارئ إلى قراءة واقعه وما أصابه من تحوُّلات وتبدُّلات بمفردات جديدة، تحرِّره من إسار رؤيته التجزيئية الضيقة، والانطلاق إلى آفاق أكثر شمولًا ورحابة.

غير أنَّ الكتاب دعوة إلى إنقاذ الجامعة المصرية مِمَّا يرين عليها من فساد وتحلُّل وتردٍّ أخلاقي وتراجع لدورها المنوط بها، وتحذير وتنبيه من تداعيات ذلك كله الكارثية على المجتمع المصري، كما فعل د. محمد أبو الغار في كتابه المهم «إهدار استقلال الجامعات». فتاريخ جامعة القاهرة — كما قال د. رءوف عبَّاس — مليء بنزيف الكفاءات العلمية، بسبب فساد الجو الأكاديمي في هذه الجامعة العريقة (ص٧٥)، كما كان قسم التاريخ بآداب القاهرة مقسَّمًا إلى شيع وأحزاب لا علاقة للعلم ومدارسه بها، بل كان العلم لا يظهر على السطح إلا لخدمة غرض شخصي إن إيجابًا أو سلبًا. كما كانت برامج الدراسة بآداب القاهرة تُقدِّم للطالب خليطًا غير متناسق من مواد من مختلِف عصور التاريخ، وُضِعت تلبيةً لرغبات ومصالح أساتذة التخصُّص في تاريخ كل عصر من تلك العصور، فتحدث مزاحمة بالمناكب من أجل زيادة حصة كل عصر على حساب الآخر … وبلغت المأساة ذروتها عندما شغل كرسي التاريخ الإسلامي وكرسي التاريخ الوسيط متخصِّصان في تاريخ المماليك، مِمَّا يعني غلبة المصالح الشخصية على الهدف الأسمى، وهو التكوين العلمي للطالب (ص٧٧). كما اكتشف د. رءوف مصادفةً أنَّ فصول كتاب لأحد أساتذة التاريخ بآداب القاهرة عبارة عن ترجمة لبعض فصول كامبردج في تاريخ ذلك العصر! (ص٨٣).

ناهيك عن الصراع الدائر بين أساتذة جامعتَي القاهرة وعين شمس، ونظرة الأولى إلى الثانية نظرةً لا تخلو من استعلاء وترفُّع مقيتين … كذلك استنَّ النظام منذ عهد السادات سنةً قُدِّر لها أن تدوم، وهي اختيار عناصر منتقاة معروفة بولائها للنظام أو محسوبة على أحد أركانه لتتولَّى رئاسة كل مؤسسة من القطاع العام إلى الوزارات إلى الجامعات، واعتبار معيار الولاء هو المُحدِّد الأساسي في الاختيار، وترك كل من يتولَّى أمر مؤسسة يُديرها وكأنَّها عزبته الخاصة، يفعل بها ما يشاء دون حسيب أو رقيب، بل لم يعد للأجهزة الرقابية تلك الهيبة التي كانت لها قبل عهد السادات، فالعبرة برسوخ أقدام المسئول، وقوة الشخصية التي يستند إليها، أو يُعدُّ من محاسيبها. وانعكس ذلك على اختيار رؤساء الجامعات في معظم الحالات … كما حدث مع محمد محمود الجوهري الذي كان نشازًا وسط جَوقة أصحاب العزب، فتناهشته الذئاب، وأُزيح عن منصبه لعجزه عن إرضاء مصالح صُناع الفساد ونزواتهم. ولم يكن أسلوب اختيار القيادات الجامعية وحده أبرز مظاهر الفساد الجامعي الذي بدأ مع عهد السادات وترعرع بعده واستشرى واستوحش، فقد ابتُدعت في العقدَين الأخيرَين من القرن العشرين آليات للفساد هي؛ دعم الكتاب الدراسي، والصناديق الخاصة، ولجان الممتحنين (ص٢٦٤، ٢٦٥).

وامتدَّ الفساد ليتناول تعديل شروط الإعارة للجامعات الأخرى المنصوص عليها في قانون تنظيم الجامعات (ص٢٧٢)، كما حدث مع شقيقة رئيس الوزراء التي أعانها حسن حمدي رئيس الجامعة على الإعارة إلى السعودية رغم رفض مجلس الكلية لذلك، واستند رئيس الجامعة إلى فتوى فصَّلها له المستشار القانوني للجامعة، باعتبار أنَّ تقدير مدى ضرورة مد الإعارة من صلاحيات رئيس الجامعة وحده (ص٢٧٢). أمَّا إذا تقدَّم عالم رفيع القدر في تخصُّصه، تحظى أعماله العلمية باعتراف دولي لوظيفة الأستاذية من خارج الجامعة، حرصوا على إبعاده عن الجامعة، حتَّى لا يُغطِّي وجوده عليهم، ويكشف حقيقة مستواهم العلمي … حدث هذا مع العالم الجليل أيمن فؤاد سيد عندما تقدَّم لوظيفة أستاذ في التاريخ الإسلامي أعلنت عنها جامعة حلوان، وكانت اللجنة العلمية عندئذٍ مكوَّنةً من سبعة أعضاء كان رئيسها وأربعة على الأقل من الأعضاء من فصيلة الموظفين بدرجة أستاذ ذوي الإمكانات العلمية المتواضعة، فاختاروا له لجنة فحص من أناس لا يصلحون للتلمذة على يديه، رأوا عدم صلاحيته للأستاذية. ولكن بعد ست سنوات من التقاضي رد القضاء العادل له حقه. غير أنَّ ثالثة الأثافي التي أشاعها نظام السادات وتركها تتغوَّل من بعده وتستشري، فكان تسخير أساتذة الجامعات لإعداد رسائل الماجستير والدكتوراه لزوجات كبار المسئولين وأبنائهم ليحوزوا المجد من أطرافه، على نحو ما حدث مع زوج الرئيس السابق، وتكرار الأمر مع ابنتها نهى التي كانت تدرس الماجستير في تاريخ الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية، وطلبت من عميد كلية الآداب جامعة القاهرة أن يُدبِّر لها لقاءً مع صاحبنا ليُعد لها البحث المطلوب عن حزب الوفد لأنَّه الوحيد الذي له كتابات بالإنجليزية، وأنَّها في حاجة إلى من يكتب لها البحث، فهبَّ صاحبنا واقفًا من هول ما سمع، وانفجر في العميد قائلًا: إنت عارف قاعد فين؟! قاعد على كرسي طه حسين، وبتشتغل نخَّاس، بتبيع أساتذة الكلية في سوق العبيد! وخرج من الغرفة صافعًا الباب خلفه! إلخ …

إنَّ الكتاب يُمثِّل قصة كفاح مشرِّفة وملهِمة، رواها بشكل سلس عذب، وأسلوب ناصع مشرق، لم ينَل من عنفوان جماله ورائق جريانه سوى خطاياه النحوية الجَمة، غير أنَّ نبل التزامه العلمي حدا به إلى أن يستهدي وقع خطوات عميد الأدب العربي وصدق توجُّهه، فلاذ بتميمته اللغوية «صاحبنا» في الأيام.

ويتميَّز الكتاب بروح الإنصاف التي وسمت مؤرخًا كبيرًا مثله، وقدرته على أن يلمح الجوهري والثابت الأصيل في نفس من خالطهم والتقى بهم من أساتذة، رغم مِمَّا لقيه من عنت ورهق شديدَين من بعضهم، كالدكتور محمد أنيس الذي اختلف معه وأساء فهمه، غير أنَّه حزن على رحيله المبكِّر، وألقى محاضرةً بنادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، بيَّن فيها فضله على الدراسات التاريخية في مصر وعلى صاحب المحاضرة وأبناء جيله.

١  جريدة العربي، ١٣ من فبراير ٢٠٠٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤