بورتريه١

حارس تكافؤ الفرص العنيد

شفَّاف كنَدَی الفجر الريفي الوديع … قوي كصخور المُقطَّم المُطلة على القاهرة في حنو … عنيد كمن تجري في شرايينهم دماء الجنوب الساخنة الطيبة. وديع … وعاصف، ساخر وألمعي.

شكَّلت تضاريس روحه … ترانیم كنائس شبرا، وتواشيح الفجر الرمضانية في بورسعيد، وطوخ وكفر الزيات … ورسمت ملامح كتابات الرافعي، ومحمد عبده، وقاسم أمين، ومحمد فريد، وانتفاضات العُمَّال، ومعاناة المُهمَّشين، وكتابات الاشتراكيين، ومرارة الظلم، وأحلام الفقراء، فآمن بمبادئ ثورة يوليو مُبكرًا، وجاء إنجازه العلمي المرموق ليُؤسِّس أول مدرسة مصرية في تاريخ الفقراء الاجتماعي، ليس لأنَّه واحد منهم فحسب، بل ولأنَّه كان وما يزال مؤمنًا بحقهم الشرعي في الحياة الحرة الكريمة.

لذلك كله انتمى الدكتور رءوف عبَّاس إلى «فريق الأكاديميين» الذين يؤمنون «فعلًا لا قولًا» بحتمية تفاعل الجامعة مع المجتمع، وأهمية الاشتباك مع الواقع الاجتماعي، وضرورة أن يُسهم العلماء في توجيه المجتمع، ومعالجة قضاياه الكبرى … فجاءت أبحاثه عن الحركة العمالية، والوحدة الوطنية، وقضايا وهموم الوطن السياسية والعلمية لتشتبك مع الأوضاع والمتغيِّرات التي شهدتها مصر منذ السبعينيات حتَّى الآن. ورغم انحياز رءوف عبَّاس للحركة الاشتراكية، وإيمانه بالعروبة وحق الفقراء في الحياة الكريمة، لم ينخرط في أي من التنظيمات السياسية، ورغم استقلاله عنها لم ينعزل يومًا في برج الأكاديمية العاجي وظلَّ مستقلًّا ومندمجًا رغم مؤامرات «مستشاري السلطة» ومحاولات التهميش والاضطهاد … ووقف بقوة واجتهاد في مواجهة الفساد والبيروقراطية مدافعًا عن القيم الجامعية العليا … مؤمنًا أنَّ دوره الحقيقي هو الدفاع حتَّى آخر رمق عن مبدأ تكافؤ الفرص الذي حقَّقته ثورة يوليو في مجالات الحياة المختلفة … مؤكِّدًا أنَّ هذا «الإنجاز التاريخي» هو المستهدف حتَّى الآن من ممثلي الرأسمالية الشرسة؛ لذا فهو ما زال يتعرَّض للمؤامرات والمحن.

ورغم انتسابه لرجال العلم، والنخبة العلمية المرموقة، فإنَّ رءوف عبَّاس لم يحصر نفسه فيها؛ فهو دائمًا — كما يقول — يجد نفسه بين بسطاء الناس، يطيب له الجلوس إليهم، ويُوقف عمله العام على خدمتهم والدفاع عنهم، أداءً لحق واجب في عنقه لمن خرج من بينهم، وورث عنهم حكمة العربي المصري القديم.

١  مجلة الموقف العربي، العدد ١٥٩، ١٧ من مايو ٢٠٠٥م، اتضح — فيما بعد — أنَّ كاتبها الأستاذ أسامة عفيفي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤