خطًى نعتز بها١

سهير إسكندر

لا أعرف من أين أبدأ مع هذه «الخطى» المجاهدة الصادقة للدكتور رءوف عبَّاس. لم يكن الأستاذ الكبير بالنسبة لي شخصًا أعرفه ولا رأيًا أتبعه وأنا مغمضة العينَين. بعض كتاباته عن تاريخ الوفد كانت تقع مني موضع المخالفة أو التحفُّظ، من هذا الموقع بدأت أُقلِّب صفحات كتابه «مشيناها خطًى».

هذا الكاتب يقينًا أعرفه، إنَّه ليس المهم اتفاقك في الرأي أو المعتقد مع إنسان ما … الأهم أن نتفق معه في الإنسانية والوطنية. ما هذا الشلال النقي الذي هطل علينا يا دكتور رءوف ونحن نقرأ لك هذا الكتاب المُخلص الشجاع؟! أي نفس واثقة نعمت بصحبتها معك؟ … نفس مستقيمة تُزهق الباطل حين تراه، متمسكة بالحق وتُعلي من قيمة العلم والعلماء، وتحتفي بمصر عظيمةً مُتوحِّدة لا يجرؤ عليها التعصُّب أبدًا.

نقطة بداية لا بُدَّ أن تُسجَّل قبل أن أُطلع القارئ على بعض كنوز الكتاب. أعتقد أنَّ هذا الأسلوب في الكتابة الصريحة المسئولة يُعدُّ سابقةً قد لا يكون لها مثيل فيما نقرأ لكبارنا. أجل قد نجد الأكثرية تُمجِّد العلم والعلماء، لكن أحدًا لا يُشير إلى المخطئ المتجاوز بهذا الحسم.

كلنا نؤمن بالوحدة الوطنية وبالنسيج الواحد الذي يجمع المصريين إلى يوم الدين، لكن أحدًا لم يُحدِّد بالأسماء من انخرطوا في التعصُّب عن قصور أو نفاق. كُلنا يكره النفاق والوصولية لكن د. رءوف هو الذي يُشير بيد ثابتة إلى من اختاروا ذواتهم على حساب المصلحة العامة.

يُسجِّل الكتاب بيد مؤرخ كبير قصة التحوُّل الاجتماعي في مصر في نصف القرن الماضي. طبيعة «الحكَّاء البارع» واكبت التأريخ الدقيق لصورة حياة خاصة وعامة دون تزويق. فصل المؤرخ نفسه عمَّا هو شكلي من دواعي الوجاهة والادعاء، أطلق قلمه على فطرته يُحيطنا بأسلوب حياة ثرية وبطرق مكابدة مصرية صميمة. بانتمائه أسريًّا إلى الطبقة العاملة، يشعر د. رءوف عبَّاس بنوع من الدَّين الكبير لثورة يوليو ١٩٥٢م، أحدثت هذه الثورة نقلةً جوهرية بالنسبة لحقوق كل العُمَّال وأشاعت مُناخًا من المساواة.

إذا كانت الثورة «جمال عبد الناصر» لم تُضف كثيرًا إلى أبناء الطبقة الوسطى، فالأمر كان مُختلفًا مع أبناء الطبقات العاملة، كانت نصيرةً للعُمَّال ومُمثِّلة لمصالحهم، ذلك كان رهانها الأول، ووعدها الدائم. إذا كان ثمة تعليق تاريخي لا يُمكن فصمه لشخص «جمال عبد الناصر»، إنَّما يعود إلى هذا الجانب الذي ينحو إلى الإنصاف والمؤازرة والإحساس بمحنة الطبقة الكادحة.

أفرد د. رءوف عبَّاس فصولًا طويلة يحكي لنا قصة طفولته الصعبة والمُناخ الذي عاش فيه والمصاعب الاجتماعية التي لاقاها وقهرها. بكتابه المهم يُريد د. رءوف عبَّاس لمصر نهضةً بعد عثرة، وإباءً بعد عذاب، وصدقًا بعد طول الكذب عليها … يُريدها مثله مستعليةً على المحن، كبيرةً في وجه التحدي … منتصرةً وإن طال الظلام.

حينما عرض د. رءوف عبَّاس لخطى حياته الرئيسية، رسم في الوقت نفسه صورةً واضحة للحياة المصرية في أربع مراحل؛ الملكية ثمَّ عبد الناصر ثمَّ السادات وحسني مبارك.

أضاف د. رءوف عبَّاس إلى تقييمه العام للأحداث والشخوص دورًا رائدًا؛ حدَّد بالأسماء بعض من ظنوا أنَّ صولة الدكتاتورية تكفل لهم الحماية أبد الدهر. رفض المؤرخ الكبير بعرضه المُركَّز للمسرح السياسي والعلمي أن يجعل الحقائق تغيِّم والحقوق تُدفَن في رمال النسيان. بصفته العلمية أصدر أحكامًا للتاريخ تدق مسمارًا غليظًا في أسلوب التغاضي عن ملاحقة المخطئين في حق العلم والوطن والإنسانية.

عشنا مع الكاتب الحكَّاء إطلالته على ربوع مصر وأزمانها … استشعرنا مُناخ الفترة الناصرية بلمحات من وصفه الصادق. إلى جانب الانحياز إلى الفقراء، كان هناك الجو البوليسي والأمني المتضخِّم الجاثم على صدور المصريين. نتذكَّر من ناحية أخرى أنَّ التعليم والبحث العلمي لم يكن قد تهدَّم في تلك الفترة. كانت المدرسة نافذةً نُطل منها على عالم أوسع … الفنون والهوايات والرياضة كلها كانت أنشطةً حقيقية للمدرسة. الدفقة الوطنية العارمة أيام عبد الناصر … عدوان ١٩٥٦م ثمَّ نكسة ١٩٦٧م. المظاهرات التي خرجت تهدُر لأول مرة احتجاجًا من الطلبة على المحاكمات الهزيلة لمن تسبَّبوا في النكسة … يُسجِّل الكاتب معارضته لأسلوب الزعيم عبد الناصر في الحديث عن حرية المصريين، مُركِّزًا فقط على الأمان الاقتصادي والعدل الاجتماعي.

في الفصل الخاص بفترة أنور السادات، وعلى الرغم من نصر أكتوبر ١٩٧٣م والفرح الغامر به، فقد راع د. عبَّاس موقف السادات الناتج عن هذه الحرب.

يقول بحرارة متحدِّثًا عن نفسه بصيغة الغائب: «تمنَّى لنفسه الموت قبل أن يرى رئيس مصر معتليًا منصة الكنيست بالقدس، واضعًا ٩٩٪ من أوراق اللعبة بيد القوى الإمبريالية المساندة للصهيونية.» حرص أنور السادات على ضرب اليسار والاشتراكية، وفي استخدامه للتيار الديني بسياسة غير حكيمة أطلَّت أول فتنة طائفية في مصر منذ حقب طويلة.

أشار كاتب «مشيناها خطًى» إلى بعض الشخصيات الأكاديمية والسياسية التي اتخذت مواقف مُتعصبةً طاعنة لحق المواطنة نفاقًا واتباعًا.

ترعرع الفساد الجامعي في هذه الفترة وما تلاها حتَّى الآن، تمثَّل ذلك في أسلوب اختيار القيادات الجامعية بشكل يغلب عليه الطابع الأمني والسياسي. تجسَّد الفساد كذلك في ظواهر عديدة أهمها الصناديق الخاصة المُموَّلة من الطُلَّاب. استُخْدِمَت أموالها لمنح مكافآت شخصية للبعض لتلميع رؤساء الجامعات. أدَّى الحق في إضافة درجات تعويضية للطُلَّاب إلى التأثير على العدالة بشأن النوابغ الحقيقيين، ثمَّ استبدالهم بمتفوِّقين زائفين، يتم تصعيدهم للسلك الجامعي تحقيقًا لمآرب مختلفة.

١  جريدة الوفد، ١٧ من فبراير ٢٠٠٥م، ٣ من مارس ٢٠٠٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤