رءوف عبَّاس صاحب الوجه العلماني١

عبد المنعم رمضان

في الثمانينيات قابلت الدكتور رءوف عبَّاس — أستاذ التاريخ الحديث — مرتين؛ كانت الأولى في مدينة نصر تحديدًا في مقر «دار فكر» التي أسَّسها الراحل طاهر عبد الحكيم، وكنت برفقة صديقي الشاعر أحمد طه. آنذاك كان كلاهما يعمل بالدار المذكورة؛ الدكتور رءوف مستشارًا للدار أو ما يُشبه ذلك، وأحمد طه ضمن الشغيلة. هذا التمييز ضروري لأنَّ ناصر الأنصاري عندما تولى رئاسة دار الكتب المصرية أخطأ في حق الدكتور ولم يُفرِّق بين الموظفين والأساتذة الذين يخدمون الهيئة بدافع وطني وليس نفعيًّا، والدكتور كان يقوم بالإشراف على مركز تاريخ مصر المُعاصر التابع لدار الكتب. المرة الثانية التي قابلته فيها ما زالت أحداثها غائمةً في ذاكرتي. اللقاءان عابران، ولكنهما منحاني ثقةً كبيرة في الرجل، وألزماني بتقديره واحترامه ذلك التقدير والاحترام اللذان هو جدير بهما، خاصةً أنَّ اللقاء الأول جاء بعد اطلاعي على مُساجلة له حول المأسوف عليه هنري كورييل. أيامها شارك الناقد إبراهيم فتحي في المُساجلة، وربما أيضًا رفعت السعيد، وكان الكاتب الجميل «هنری كورييل رجلًا من طراز فريد، الحركة الشيوعية المصرية بمنتصف القرن»، تأليف جيل بيرو، ترجمة كميل قيصر داغر.

الحقيقة أنَّ كميل داغر ترجم الفصل الأول فقط من ذلك المؤلَّف الضخم الذي تناول حياة كورييل ونضاله في مصر ثمَّ بعد طرده منها عام ١٩٥٠م. كنَّا أيامها نقرأ الكتاب بشغف واهتمام لنؤكِّد لأنفسنا صحة آرائنا ومواقفنا، ومن أجل أن نستمتع بالمذاق اللغوي للترجمات اللبنانية، حتَّى الأخطاء الجغرافية التي ارتكبها كميل داغر فيما يتعلَّق بأسماء شوارع القاهرة كانت مُمتعة. هذه الخلفية حفَّزتني أثناء تجوالي وتوقُّفي أمام أكشاك وباعة الصحف على شراء ثمَّ قراءة كتاب الدكتور رءوف عبَّاس «مشيناها خطًى: سيرة ذاتية»، الصادر عن سلسلة كتاب الهلال ديسمبر ٢٠٠٤م، ثمَّ الصادر في طبعات أخرى لشدة رواجه، العنوان والتوصيف وصورة غلاف الطبعة الأولى حيث وجه المؤلف يحتل المساحة الأكبر. كل هذا استوقفني، وتذكَّرت بسرعة المُمثل المرحوم حسن البارودي، بملابسه الفقيرة وأسماله وهيأته التواكلية المعتمدة على الله، تذكَّرته يُردد بيته الشعري أو بيانه الشعري:

مشيناها خطًى كُتبت علينا
ومن كُتبت عليه خطًى مشاها

كان يُردِّده ببطء، باستطعام، بيقين، بصوت عميق، وقدرية وتسليم وأشياء أخرى غير مستغربة من حسن البارودي، ولكنَّها مُستغربة من رءوف عبَّاس، أقصد الدكتور رءوف عبَّاس، صاحب الوجه العلماني، والنظارتين، وتجاعيد الجبهة. أذكر أنَّ الكاتب القاص عبَّاس خضر أنشأ — ربما في سبعينيات القرن الماضي، أو بعدها قليلًا — سيرةً ذاتية تحمل مقلوب العنوان «خطًى مشيناها»، وكان عباس خضر أكثر قدرية من حسن البارودي لأنَّه جعل الخطى المكتوبة تسبق فعل المشي … المهم أنَّ الاثنين حسن البارودي وعبَّاس خضر لهما الحق كله في التسلُّح بتلك القدرية وذلك التسليم، أمَّا عنوان الدكتور رءوف عبَّاس فهو يتعزَّز دون قصد بعبارات تتخلَّل سيرته وتمنحها ذلك التسليم العفْوي الذي ينزف من حروف العنوان. يقول الدكتور على سبيل المثال عن أساتذته الذين أسهموا في تكوينه العلمي، يقول إنَّه مدين لثلاثة من أعظم أساتذة التاريخ الحديث في مصر والوطن العربي هم أحمد عزت عبد الكريم وأحمد عبد الرحيم مصطفى ومحمد أحمد أنيس، «وسيظل هذا موقفه إلى أن يلقاهم جميعًا في رحاب الله عندما تفرغ كأس الأجل». العبارة ليست مجازية، مرةً لأنَّها طويلة هكذا، ومرةً لأنَّها مسنودة بعبارات قليلة متناثرة في الكتاب تأتي وكأنَّها القرار الموسيقي للحن التسليم. يقول الدكتور في موضع ما: «وعندما يحتفل أعضاء الجمعية باليوبيل المئوي لها عام ٢٠٤٥م يومها سيكون الجميع في رحاب من يُغدق الجزاء على من أحسن عملًا، وآخر الأُمنيات أن يموت صاحبنا — يعني الدكتور — كالأشجار واقفًا وألَّا يسقط القلم من يده، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ وهو على كل شيء قدير.» إنصافًا للدكتور يجب أن ننتبه إلى أنَّ تسليمه العَفْوي جاء في كل مرة موصولًا بالموت، عمومًا الرجل لم يزعم أي زعم، أنَّه لم يشترك في أي حزب سياسي، لم يشترك في أي تنظيم، ولكنَّه يميل إلى اليسار؛ إلى اليسار القومي إذا جاز لنا أن نصفه.

مشيناها خطًى، سيرة ذاتية، كُنت بحاجة إلى قراءة الكتاب كله لأتمكَّن من عبور العنوان عندما كان توفيق الحكيم يعمل نائبًا عامًّا في الأرياف، وأثناء اشتراكه في جلسة مُملة في إحدى محاكم الأقاليم، ظلَّ يُغالب النوم لكنَّه تنبَّه فجأةً على صوت غريب لرجل غريب، كانت جنحة تشرُّد: «قال القاضي للرجل الغريب: أنت متهم بالتشرد. فاستنكر الرجل: أنا متشرد عيب. أنا حاوي يا سعادة البك. ويستمر الحوار بين القاضي والرجل الغريب إلى أن يقول الرجل: أنا فنان. ردَّ القاضي: فنان … ثمَّ التفت إلى توفيق، وهنا يتكلَّم الحكيم: البراعة شرط من شروط الفن. الحاوي بارع، ولكن هل البراعة وحدها يُمكن أن تصنع فنانًا؟ إنَّ الفن هو الشيء الزائد على البراعة، والفنان هو الذي يبقى بعد البراعة.» تذكَّرت توفيق الحكيم، وتذكَّرت أيضًا أنَّ فنون السيرة قد أصبحت واحدة من الفنون التي لارتفاعها تبدو وكأنَّها مستحدثة وكأنَّها بدعة، وأنَّها ابتعدت كثيرًا عن أشكالها البائدة. إنَّ السيرة الآن أصبحت هي الشيء الزائد على مجرد رواية الأحداث، على مجرد الصدق، وإلا كنَّا أمام شيء آخر يُشبه السيرة مثلما ألعاب الحاوي أو براعته تُشبه الفن.

وكتاب الدكتور على الرغم من فوائده العميمة، وشجاعته وتشريحه للفساد في مؤسسة التعليم ليكون دالًّا على فساد عام انتشر وذاع وعمَّ الوطن. هذا الكتاب أقرب إلى دفتر الجرد، إنَّه جردة صادقة وأمينة ونافعة أكثر من سيرة بفنونها وما تراكم داخلها من أساليب وصيغ وأشكال وهو ليس جردة حياة، إنَّه جردة أستاذ جامعي، ابتدأت وانتهت وقد رسمت لنفسها إطارًا لم تخرج عليه، لم تشأ أن تخرج عليه، جردة أستاذ منذ بداية تعلُّمه وتكوينه حتَّى أصبح رئيسًا للجمعية التاريخية، لم يعد مقبولًا رغم شيوعه ذلك الخلط بين فنون السيرة وكتب المذكرات والجردات التي يكتبها رجال السياسة ورجال الأعمال والفنانون والأكاديميون. كتاب الدكتور يبدأ بعد المقدمة بسنوات الطفولة، ولأنَّه شاء أن يصنع مسافةً موضوعية أثناء حكيه لحكاياته، فقد قرَّر الاستغناء عن ضمير المتكلم والاستعانة بضمير الغائب؛ في المقدمة أطلق على نفسه اسم الشيخ، وفي الكتاب كله سمَّى نفسه صاحبنا، وهذه الحيلة الشيخ والفتى وصاحبنا، التي انغمست فينا منذ سيرة طه حسين «الأيام» وأصبحت تقليدًا يُمارسه أدعياء كتابة مثل الدكاترة سمير سرحان، أو كاتب محدود الخيال، حتَّى إنني تمنَّيت لو أنَّ الدكتور وجد حيلةً أخرى بدلًا من الشيخ وصاحبنا، فالكتابة مثل التاريخ اجتهاد في سبيل الخروج على السائد.

كتاب الدكتور يبدأ بعد المقدمة بسنوات الطفولة، ومثل أغلب كُتب المذكرات والجردات، ومثل أغلب السير أيضًا تظهر فصول الطفولة باعتبارها الفصول الأجمل والأكثر عذوبة، وهي في كتابنا كذلك، خاصةً أنَّها تحلَّت بصدق لم يخجل من أي أصول اجتماعية، لم يخجل من أب كان عاملًا بالسكة الحديدية، وجدة تعمل خياطةً لجيرانها، وفقر يكاد يُوقفه عن التعليم. ومنذ سرده لحوادث الطفولة عثر الكاتب على نغمته الرئيسة التي ستحكم الكتاب كله، والتي ستصب فيها بعض النغمات الفرعية، لنخرج من نشيد الجردة بإحساس غير مشتبه في دقته، إحساس بأنَّ الكاتب يسعى إلى تصوير رحلة حياته العلمية منذ بدايتها على أنَّها رحلة صعبة معوقة جدًّا، لولا أنَّ صاحبها استطاع أن يقوم بعبور البحار السبعة التي حاولت دائمًا أن تعوقه؛ الفقر والوضع الطبقي في الطفولة والصبا، والفساد بصوره وآلياته المختلفة منذ التخرُّج وحتَّى نهاية الكتاب؛ فالطفولة والصبا في فصولها الخمسة الأُول منذ استدعاء الماضي، حتَّى التسلُّل إلى الجامعة، هذه الفصول الجميلة بصراحتها وبؤسها، كل كائناتها وأحداثها كانت مشدودة ومُعلَّقة بحبل وحيد، حبل الإصرار على التعليم؛ لذلك لم نتعرَّف على هذه الكائنات بعيدًا عن هذا الحبل، لم نتعرَّف عليها ككائنات حية، قدرة الدكتور هائلة في السيطرة على الأحداث والشخصيات، لم يسمح لأي منها بالحرية والظهور في مشهد خاص. هذه النغمة الرئيسة ظلَّت تعمل بالدقة ذاتها وهي تروي ما بعد التخرُّج، إنَّها مشدودة ومُعلَّقة بالحبل إيَّاه، حبل أستاذ الجامعة.

نستمتع كثيرًا ونحن نقرأ مواقف الدكتور ومعاركه مع الفساد، نفرح كثيرًا بعدم سقوطه، نؤيِّده في استخدامه للأسلحة العلنية المتاحة مثل الاستعانة بالصحافة إن لزم الأمر، والتربيط مع شرفاء مثل حلمي النمنم وعبد العال الباقوري ومجلة المُصوِّر وصحيفة الأهالي، إلا إذا صدرت لها تنبيهات من جهات سيادية.

سنتوقَّف طويلًا أمام ذلك التعنُّت غير الرسمي ضد الأقباط، سواء عند التعيين، وعند عضوية اللجان، واستبعادهم من وضع امتحانات الثانوية العامة، وافتراضهم أنَّهم أهل ذمة، وأنَّ أهل الذمة ينبغي الاحتراس وعدم الثقة الكاملة فيهم. نتساءل كيف تكوَّنت هذه الروح وتفشَّت في تلك القنوات غير الرسمية. أذكر عندما كنت أعمل باحثًا بالجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، وأتبع لمديرة مسيحية مستنيرة اسمها أنطوانيت، وعندما شرع السيد وكيل الوزارة ورئيس الإدارة المركزية في إعادة تسكين العاملين الذين تزايدوا وضاق بهم المبنى، وأصبح ضروريًّا أن يتشارك كل اثنين من المديرين في غرفة واحدة، وتحدَّدت غرفة أنطوانيت مع مديرة أخرى محجبة اسمها سميحة، تنشع بالتعصُّب.

فور معرفة التوزيع المكاني ذهبت سميحة إلى وكيل الوزارة، وبعد أن خرجت، أمر الوكيل بإعادة النظر في تسكين أنطوانيت. أقنعت زملائي أنَّ الاستهانة بأنطوانيت سوف تعني الاستهانة بنا نحن التابعين لها، وعدم مراعاة حقوقنا؛ لذا اتفقنا على كتابة طلب نقل جماعي بسبب الاضطهاد الديني الواقع على السيدة أنطوانيت. ارتجَّ وارتجف وكيل الوزارة وتراجع فورًا عن قراره. خيوط نسيج ما حكاه الدكتور يتصل بخيوط نسيج هذه الحكاية، مِمَّا يجعلني أُعيد السؤال: ما الذي حدث للمسلمين المصريين، الأصح أقلية منهم، لكي تشيع مشاعر عدم الثقة في الأقباط، خاصةً عند هؤلاء الأقرب في توصيفهم الطبقي لأن يكونوا من شرائح الطبقة المتوسطة، ربما شرائحها العليا.

تظل نغمة الدكتور رءوف عبَّاس الرئيسة تعمل حتَّى تصل إلى لحنها الختامي، فبعد عبور البحار السبعة المليئة بالطين والتماسيح والقراصنة وبقية العوائق، بعد عبورها دون بلل، كان لا بُدَّ أن نقرأ هذا الفاكس الذي كتبه البطل في إحدى نوبات احتجاجه، يقول: احتجاجًا على أسلوبك غير اللائق في التعامل مع الأساتذة ذوي القامات العلمية العالية، لا يُشرِّفني استمرار التعاون معكم. انتهت موسيقى الكريشندو، فيما كانت موسيقى التواضع العالي تنكمش وتحتجب كأنَّها شمس بيضاء مهانة، أو كأنَّها شمس سوداء.

جردة الدكتور رءوف عبَّاس جهيرة ذات صوت شديد الوطء، ذات جلجلة تُشبه ضجيج الجبل، تُشبه جلجلته. تمتلئ الجردة بأكاديميين صغار وكبار، مجهولين ومعروفين، كومبارس ونجوم، والكومبارس أسماء معتمة، بينما النجوم أسماء شفافة، وكلَّما تعلَّقت الحادثة بنجم من النجوم، ازداد فضولنا لأنَّ اسم النجم يزيد من حدة مفعول الحادثة التي تنفتح على مجال واسع غني بحوادث مُماثلة بطلها هو ذلك الشخص نفسه. تأمَّل وانظر إلى الدكتور وهو يحكي عن محمد حسنين هيكل، لا أُنكر أنَّه تجاوز حد استثارة الفضول إلى حد الشعور الخبيث بالرضا، ورغم خبثه الطاعن لا تأباه النفس.

يقول الدكتور: «بعد افتتاح المقر الجديد للجمعية التاريخية بشهر تقريبًا، تمَّ اللقاء مع هيكل بناءً على طلبه، وذلك بمكتبه الخاص على شارع النيل، أبدى الأستاذ اهتمامه برسالة الجمعية وقال إنَّ الشيخ سلطان القاسمي يُشْكَر على مكرمته يعني تأسيسه للمبنى الجديد وبناءه وتبرُّعاته الأخرى، ولكن رعاية الجمعية ماديًّا يجب أن تكون من واجب المصريين، ورأى الأستاذ أن تكون هناك مجموعة من الرعاة المصريين في حدود العشرة أفراد يتبرَّع كل منهم للجمعية بمبلغ عشرين ألفًا من الجنيهات سنويًّا ولمدة خمس سنوات، ووعد بأن يتولَّى بنفسه تكوين مجموعة من الرعاة وأن يكون أول المُتبرِّعين، ووافق من حيث المبدأ على أن يُلقي محاضرةً في الموسم الثقافي القادم مُحذِّرًا من أنَّ ذلك قد يجر المتاعب على الجمعية.»

في اليوم التالي للمقابلة حمل الدكتور رءوف مجموعةً من مطبوعات الجمعية وخطاب شكر لهيكل على المقابلة. بعد نحو أسبوع اتصل الأستاذ ليُعلن عن شكره على الكُتب المهداة، ثم قال إنَّ لديه سؤالًا مهمًّا حول الجمعية، قد يبدو تافهًا ولكنَّه مهم بالنسبة له: هل لِمَن يُسمَّى عبد العظيم رمضان علاقة بكم؟ أجاب الدكتور رءوف: إنَّ رمضان كان عضوًا منذ سنوات، ولكن أُسقِطَت عضويته لانقطاعه عن سداد اشتراكات العضوية، وإنَّه لا هم له إلا الهجوم على الجمعية ورئيسها. فقال الأستاذ: یعني مش سايب حد. على العموم شكرًا. وظلَّ الدكتور يتصل بمكتب هيكل على فترات متباعدة، فكان يتلقَّى ردًّا بأنَّ الأستاذ غير موجود أو أنَّه نبَّه إلى عدم إزعاجه. باختصار هرب الأستاذ.

أعود وأقول إنَّ حكايات الدكتور عن النجوم والكومبارس ظلَّت محصورة تقريبًا في مجالها الأكاديمي في مجال أستاذ الجامعة، وكأنَّ جردة الدكتور لا تتسع لحيواته الأخرى، حتَّى الذين اشتغلوا بالتاريخ الحديث من غير الأكاديميين لا نكاد نسمع عنهم كلمةً واحدة؛ صلاح عيسى ورفعت السعيد ومحمد عودة وطاهر عبد الحكيم وغيرهم، كما أنَّ حياة الجامعة خارج قسم التاريخ تبدو منعدمةً وضائعة، الرجل آثر أن يكتب عمَّا يعرف، وتكاد آراؤه في زملائه وأساتذته وتلاميذه أن تنحصر في الإجرائي والعملي والإداري واليومي، وتبتعد بإلحاح عن الفكري والنظري إلا فيما ندر. فعندما يذكر عزيز سوريال عطية الذي أجبره الاضطهاد على أن يترك جامعة القاهرة إلى الإسكندرية ثمَّ يترك مصر ويُهاجر إلى أمريكا، يقول عنه الدكتور عبارةً يظن أنَّها وافية: «ويُعدُّ برنارد لويس نكرةً مقارنة بعزيز سوريال عطية.»

قلنا من قبلُ إنَّ نغمة رءوف عبَّاس الرئيسية تدخلها نغمات فرعية تتكرَّر فتصنع للنشيد العام ملامحه الخاصة، سأضرب مثلًا على إحدى هذه النغمات، يحكي الدكتور عن أنَّه بعد أن استقال من الشركة التي عمل بها كمراجع حسابات عقب حصوله على ليسانس الآداب وتفرَّغ للدراسة، تصادف في الشهر الثالث من تفرُّغه، أن نُشِر إعلان في الصُّحف عن شغل وظيفة معيد تاريخ حديث في كلية الآداب جامعة القاهرة، الدكتور حصل على الليسانس والماجستير من جامعة عين شمس، نصَّ في الإعلان على تفضيل من يحمل درجة الماجستير في التخصُّص، فسارع بتقديم أوراقه، ولكنه فوجئ بأستاذه أحمد عزت عبد الكريم يُطالبه بسحب أوراقه لأنَّ هذا الإعلان محجوز لشخص بعينه، وبعد فاصل حريف من الإصرار على الحق وعدم التنازل عنه، ودون خوض في تفاصيل المعركة يتقرَّر تعيين رءوف عبَّاس في الوظيفة. تتكرَّر الحكاية مرةً ثانية بعد الحصول على الدكتوراه التي تكفل له الترقية في حالة إجازة لجنة الترقيات لأعماله بطريقة آلية دون الحاجة إلى إعلان، لكن أستاذه أحمد عزت عبد الكريم يعرض عليه أن ينتظر ثلاثة أشهر ليتم الإعلان عن درجة مدرس بآداب عين شمس يتقدَّم لها ويعود إلى بيته العلمي، إلا أنَّه رفض وأصرَّ على عدم التنازل عن حقه الذي كفله له القانون. وبعد صراع طويل حريف أيضًا عُيِّن مدرسًا في جامعة القاهرة.

هذه النغمة التي يُسمِّيها يحيى حقي الازدواجية، وهي إحدى الخصائص المميزة للاستاتيكية تظهر في مثال آخر؛ قسم التاريخ في كلية الآداب جامعة القاهرة دمَّره الفساد وخرَّبه ووصل به إلى الدرك الأسفل، وبعد أن يتولَّى الدكتور رئاسة القسم ينشط في سبيل إعادة إنتاجه وفق القيم والمعايير العلمية والأخلاقية، كذا ستصل الجمعية التاريخية إلى الدرك الأسفل من الانهيار والتخبُّط، وبعد أن يتولَّى الدكتور رئاسة الجمعية ينشط في سبيل إعادة إنتاجها وفق القيم والمعايير العلمية والأخلاقية، هذه النغمة الحاكمة تظهر في مثال ثالث؛ فعندما يصطدم الدكتور بعميد كلية الآداب بسبب السيدتين جيهان ونهى السادات وبسبب حرصه على كرامته، يقول للعميد، أنت تجلس على الكرسي الذي جلس عليه طه حسين وبتشتغل نخَّاس، وعندما يصطدم برئيس الجامعة سوف يقوله له: أنت تجلس على الكرسي الذي جلس عليه أحمد لطفي السيد.

يكتب يحيى حقي عن الاستاتيكية في رواية الثلاثية لنجيب محفوظ ويقول: فنجيب يُريد لنا خلق الأب عبد الجواد في الثُّلاثية فيحكي لنا قصة مخادنته لواحدة شهيرة من العوالم المغنيات، ويُطلعنا في تفاصيل عديدة على صورة دقيقة لدخيلة نفسه وعجائب طبعه، فيُحس القارئ أنَّه شبع وفهم السيد عبد الجواد حق الفهم من هذه الناحية، وأنَّه ليس في حاجة إلى مزيد، فإذا بنا نرى نجيب بعد قليل بحكم التتبُّع الزمني وحده يجعل عبد الجواد يهجر هذه العالِمة وينتقل إلى عالِمة ثانية هي نسخة مُكرَّرة للأولى، أقصد تكرار الدلالة، وكل هذا قد عرفناه بالكمال والتمام من المُغامرة الأولى. فأنت قد تتوهَّم أنَّ قصد الرواية هو أن تحكي لنا لا من هو عبد الجواد فحسب، بل كل الذي جرى له في حياته أيضًا؛ فهي أشبه بالسيرة، وسيرة الابن الأكبر يس الذي نقل الجانب الحسي عن أبيه، يصفه لنا نجيب وهو يحاول الاعتداء على خادمته، ويُطلعنا كذلك في تفاصيل عديدة على صورة دقيقة لدخيلة نفسه وعجائب طبعه، فإذا بنجيب وبحكم التتبُّع الزمني وحده يجعله يُحاول الاعتداء مرةً أخرى على خادمة ثانية. إذن ما هو الحد الحتمي الذي يجب الوقوف عنده، كان سؤال يحيى حقي يخص الرواية، وأنا أحب أن أجعله يخص الرواية والسيرة معًا باعتبار السيرة نتاجًا فنيًّا، ولكنَّه بالتأكيد لا يخص الجردة التي يمكن أن تحتمل هذا التكرار إلى ما لا نهاية.

أرغب أن أُشير إلى أنَّ هاجس الدكتور الأول في كتابه، هاجس الصراع واجتياز البحار السبعة من الفقر والفساد، هو الذي استدعى هذه الحوادث التكرارية وأيقظها. وأرغب أيضًا أن أُشير — على الرغم من أنَّني لا أكف عن محبة طه حسين كأحد أهم الذين لعبوا دورًا في تغيير مسارات الأدب العربي في النصف الأول من القرن الفائت — أنَّه المحولجي الأول، أرغب أن أُشير إلى أنَّه كإداري قد يكون أردأ كثيرًا مِمَّا نتصوَّر، ويكفي أن نتذكَّر معًا ما فعله مع الأساتذة محمد غنیمي هلال ومحمد نجيب البهبيتي ومع صديقه أحمد أمين وسواهم. وبالتالي تُصبح عبارة الدكتور التي وجَّهها لعميد الكلية، أنت تجلس فوق مقعد طه حسين، مجرد شقشقة من شقشقات الكلام الموروث. وإذا كان النجوم والكومبارس الذين ظهروا في كتاب رءوف عبَّاس قد حظي بعضهم بالذم — أو على الأقل كانت صورهم سلبيةً في بعض الأحيان — مثل محمد أنيس، فإنَّ النجوم والكومبارس الذين أظهرهم الكتاب في صورة إيجابية يُجبروننا على افتراض أنَّه قد غلبت على الدكتور محبته لنفسه فجعلته يتصالح مع من أطلقوا يده وبجَّلوه ووقَّروه، خاصةً مِن مسئولي وزارة الثقافة الذين أشاعوا فيها فسادًا يُماثل الفساد الشائع في الجامعة. لذا سأُفضِّل اعتبار أحكام الدكتور على شخصيات تنتسب إلى ما يجب أن تنتسب إليه الأحكام في فنون السيرة؛ أي تكون أحكامًا شخصية غير تابعة للأحكام الموضوعية؛ لأنَّنا بمجرد النظر إلى أسماء ممدوحيه من العاملين في وزارة الثقافة، سنكتشف إلى أي حد يُغفل الدكتور ما يعرفه عن كل شخصية.

إنَّ معركة الدكتور من أجل كرامة الأستاذ، والتي لا يجب أن يتنازل عنها أمام زوجة رئيس الدولة أو ابنته، جيهان أو نهى السادات، وهي معركة لا بُدَّ أن نمنحها حقها من واجب التصديق، لا بُدَّ أن نتغافل الشكوك الكثيرة التي تُحيطها؛ لكي تُصبح الحادثة النموذجية التي تدور حول شخصية أصبح اسمها علامةً على خصلة أخلاقية أو صفة من الصفات، هذه المعركة هي قابلة — كلما سنحت لها الفرصة — أن تمتلئ بمضامين جديدة، وهذا الامتلاء يجب أن يمنع صاحبها عن الحذر في أحكامه وتعاملاته مع شخصيات مُزيفة لا يحد عددها حد، ولا يُميزها عن الحقيقة مُميِّز. أرادت امرأة أن تنحت صورة الشيطان على حليها، وعندما تعذَّر الأمر على الصائغ خرجت المرأة إلى الطريق، ولمَّا وقعت عيناها على الجاحظ أتت به إلى الصائغ قائلة: مثل هذا. كنت أتمنى أن أقول أراد الدكتور أن ينحت في كتابه صورةً للفساد، ولمَّا وقعت عيناه على ذلك المسئول الذي عمل في معية السيدة الأولى أيام السادات، ورغم تغيير الأسماء والشخصيات ما زال يعمل العمل ذاته، وكأنَّه أستاذ وخادم في آنٍ، يكتب لكل سيدة نافذة الرسائل العلمية أو الخطب، ويُجيد الانحناء، كنت أتمنى للدكتور إذا وقعت عيناه على ذلك الرجل أن يُصيح: مثل هذا بدلًا من أن يمدحه.

كتاب الدكتور رءوف عبَّاس شهادة يكتمل بها احترامنا له، ويكفيه أن يخجل من جائزة الدولة التقديرية الممنوحة له ولا يذكرها أحيانًا، وأَعِد الدكتور أنَّني سأنسى أنَّه مُنِح هذه الجائزة حتَّى يظل ثوبه النظيف نظيفًا وأبيض، ويكفيه أنَّه في تقديره للمناقب العالية لم يتردَّد خشية النميمة، وامتدح في صدق مريم بنت خليفة بن حمد آل ثاني، وسلطان القاسمي وأجزل القول، حتَّى الدكتور إبراهيم نُصحي رئيس الجمعية التاريخية لمدة ٢٣ عامًا (١٩٧٦–١٩٩٩م)، والذي أوشكت الجمعية في نهاية عهده على الإفلاسَين المالي والعلمي، يظهر لنا كبطل تراجيدي نبيل يُحيِّرنا، فعندما اقترح الدكتور رءوف الرئيس الجديد للجمعية ضرورة الكتابة إلى الشيخ زايد بن سلطان، والسلطان قابوس، والشيخ سلطان القاسمي ووافق أعضاء الجمعية، نجد إبراهيم نُصحي الذي هاله أن تلجأ الجمعية المصرية للدراسات التاريخية إلى هؤلاء تطلب عونهم، ومصر هي التي كانت تُفيض عليهم بخيراتها، ورأى في تنفيذ الاقتراح إهانةً لا تُغتفر، وغادر غاضبًا ليمتنع نهائيًّا عن الحضور فيما بعد.

ما كنت أحب أن أهمس به خفيةً هو تلك الأخطاء اللغوية التي أصبحت فسادًا آخر في جامعة اللغة يفوق الفساد في جامعتَي القاهرة وعين شمس وغيرهما، وأنا أعلم أنَّ الروائيين بعضهم أخطاؤه اللغوية تزيد كثيرًا على أخطاء الدكتور عددًا وعدة، انظر روايات الفلاح الفصيح والروائيين الجدد، كذا بعض الشعراء الذين كانوا حُرَّاس اللغة ونافخي أبواقها حسب المفاهيم القديمة رحمها الله. هناك أمر آخر أُحب أن أهمس به لنفسي، كتاب الدكتور يتبع خطًا كرونولوجيًّا مُحدَّدًا، ولقد وقع الاختيار على أن يحتوي الغلاف صورة فوتوغرافية للمُؤلِّف تُشير إلى أنَّه سيكون النغمة الرئيسية في الكتاب، أهمس لنفسي، لماذا ظهر لي الكتاب وكأنَّه لا يُضمر حسًّا ثقافيًّا عامًّا، وكأنَّه محشور في خانة التخصُّص، لماذا ظهر الكتاب على هيئة رصيف صغير في حياة تُحب أن تتمرَّد وتمشي في نهر الشارع، في حياة أكبر من التاريخ. الدكتور رءوف عبَّاس إنَّني أنتظر الآن سيرة حنان الشيخ التي كتبتها عن أمها، أنتظر أن أعود بعدها إلى مشيناها خطًى، وأقرأها قراءة كتب التاريخ ثمَّ أطويها طي السجل.

١  مجلة الأهرام العربي، ٣ من يونيو ٢٠٠٦م، ١٠ من يونيو ٢٠٠٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤