المؤرخ والبطل التاريخي١

حسین نصَّار

سؤال يُلحُّ في الأيام الأخيرة على ذهني إلحاحًا شديدًا لا هوادة فيه: هل يجب على كل من يتقلَّد منصبًا كبيرًا في مصر أن يشتغل بالسياسة، أو أن يكون له اشتغال بها؟ والسبب في هذا الإلحاح أنَّ أحد الزملاء في كلية الآداب — أعني أ. د. رءوف عبَّاس — قذفني أنا وبعض زملائه من المؤرخين خاصةً ببعض التهم المشينة، في كتاب له، ثمَّ في عدد من اللقاءات العامة، وفي مجلات مُتعدِّدة دون أن أدري سببًا لذلك.

ولن أتحدَّث عن الزملاء وإنَّما أُلقي بعض الضوء، الذي أرجو أن يكون كاشفًا وصادقًا. لقد كرَّرت في أكثر من لقاء مع صحفيين مختلفين أنَّني لست سياسيًّا، وأنَّني لم أنتمِ إلى أي حزب سياسي، ولم أُمارس نشاطًا سياسيًّا البتة.

واحترزت فقلت إنَّ موقفي لا يعني أنَّني أُدين الجامعيين المشتغلين بالسياسة، بل أرى ذلك فرضًا على كل قادر منهم لرفع مستوى الفكر السياسي المصري، وأرى أنَّ ذلك يجب أن يُباح للطلَّاب الجامعيين الذين يستطيعون المواءمة بينه وبين طلبهم العلم؛ وذلك لبث الدفء والنشاط والتجدُّد في حياتنا السياسية.

ولا يعني ذلك الموقف أنَّني أفتقد الوعي السياسي الوطني؛ فإنَّني ليبرالي يُؤمن أنَّ الديمقراطية الحقة هي التي تُنقذنا من مشاكلنا الداخلية التي يستغلها المستغلون، وتسير بنا نحو مجتمع النجاح والتقدُّم والرخاء، وأومن بأنَّ القومية العربية الحية الواعية هي أملُنا في البقاء أعزة.

وعلى الرغم من هذا الموقف الواضح لم أسلم من القذائف مرةً بعد أخرى؛ فعندما كنت رئيسًا لأكاديمية الفنون أخبرني الصديق المرحوم بهي الدين زيان أنَّ هناك من يُوزِّع في «السويد» منشورًا دوَّن فيه أسماء الساداتيين في مصر، وأنَّ اسمي مُدوَّن فيها.

وبعد إخراج الرئيس السادات من أخرج من أساتذة الجامعات في (أيلول) سبتمبر الأسود، وكان نصيب كلية الآداب بجامعة القاهرة أضعاف غيرها من الكليات، لجأ أحد الزملاء من العمداء، حين حصره طلبة البعثات هناك، إلى التخلُّص منهم بأن ذكر أنَّ صاحب القرار أطلعه على أسماء من يُريد إخراجهم من كليته فأبى وجادل إلى أن أفلح، فلم يطرد أحدًا، وأنَّ بقية العمداء عُرِضت عليهم الأسماء، فمنهم من وافق على إخراجهم، ومنهم من أضاف إليهم أسماءً من عنده، ومن الطبيعي أنَّني كُنت واحدًا من هذا الفريق أو ذاك. ويعلم كل من اتصل بهذا الحادث من السياسيين والجامعيين أنَّ شيئًا من هذا لم يقع، وأنَّ أحدًا لم يعرف الأسماء قبل إعلانها إلا من اشتركوا في تدوينها.

وعندما كنت في الأكاديمية، رمتني شكوى أُرْسِلت إلى الرئيس السادات رأسًا أنَّني احتضنت الشيوعيين، ومنحتُهم الرئاسات. ولن أتتبع كل ما قُذِفتُ وإنَّما أعطيت هذه الأمثلة لذلك الذي جعل كل هذه الأحداث تعود إلى الذاكرة وتُثير ما تُثير من أفكار.

ذكر أ. د. رءوف عبَّاس أنَّني استدعيته ذات يوم، وأنا عميد للكلية، فجاء وانتظرنا إلى أن خلا المكتب، فأعلمته أنَّ حرم السيد رئيس الجمهورية، وكانت حينذاك معيدةً بالكلية … تُريد أن تلتقي به، وأنَّها تأتي يوم الأحد لإلقاء محاضراتها. فغضب واستنكر مني أن أجعله — وهو الأستاذ المساعد — يأتي في يوم لا محاضرات له فيه، ليلتقي بمعيدة. وخرج غاضبًا، ثمَّ ذكر أنَّني رتَّبت الأمر بحيث تمَّ اللقاء في اليوم الذي أراده، وأنَّني تركتهما وحدهما وخرجت، ولكن اتفاقًا لم يتم.

ثمَّ ذكر أنَّني طلبت لقاءه بعد ذلك في يوم ثالث. وعندما التقينا منفردَين طلبت منه (في استحياء والحمد لله) أن يكتب رسالة عن حزب الوفد ليُقدِّمها إلى ابنة الرئيس، لتُقدِّمها إلى الجامعة الأمريكية، وأنَّ ذلك كان سبب الرغبة في الالتقاء به.

وأشكر كل الشكر المؤرخ الكبير أ. د. عبد العظيم رمضان الذي كتب مقالًا قيِّمًا في مجلة أكتوبر، فنَّد فيه أقوال أ. د. رءوف عبَّاس كلها، وكشف عن زيفها. ولكني أُحب بالنسبة لي أن أقول: هي كلمتي التي تُنكر ذلك جملةً وتفصيلًا في مقابل كلمته التي تحمل هذا الإثم، وأقول إنَّني أَدَع الأمر بين من يعرفونني ومن يعرفونه من القُرَّاء والزُّملاء، وأدعو الحق أن يُحِق الحق.

ثم أقول إنَّه رماني بتهمتين لا واحدة، دون أن يدري؛ رماني بالهبل إذ رأيته يأنف أن يأتي في غير يومه، وينتفض غضبًا وكبرياء وتفشل رئاسة الجمهورية معه، أيُعقل بعد غضبه من هذا الإثم الخفيف أن أطلب منه الإثم الأعظم، إلا إذا كُنت عظيم الهبل. لقد جاء بها مُتواريةً أنَّه كان خائفًا على ترقيته، جاء بها كلمة ليخدع القارئ؛ لأنَّ كلُّ من يعرف النُّظم الجامعية يعرف أنَّ العميد لا شأن له بالترقيات، وأنَّ ذلك في يد لجنة تتألَّف من كبار رجال التخصُّص في جامعات مصر، وليس جامعةً واحدة. قد يُعطِّل العميد الأوراق، ولكن ذلك على حين قصير، إن لم يكن قصيرًا جدًّا.

والتهمة الثانية أنَّني أردت التقرُّب من رئاسة الجمهورية لأحظى بمنصب ما. لقد كنت في ذلك الوقت رئيسًا لأكاديمية الفنون، وهو منصب مُعادل لمنصب رئيس جامعة، وأود أن أطلب للزميل المؤرخ أن يذكر لي مقالًا واحدًا تقرَّبت فيه من الرئيس السابق أو الرئيس الحالي. قد يذكر مقال «ابنة مصر» الذي نُشِر في الأهرام ١٤ / ١١ / ١٩٨١م، ولكن تاريخه يُعلن أنَّه كان بعد مقتل زوجها.

أمَّا أنا فأُشير إلى مقالاتي: صراع الأجيال (٢٥ / ١٠ / ١٩٨٢م) وحتمية الوحدة (٢٥ / ١٠ / ١٩٨٢م) والوحدة المفقودة (٢٣ / ٢ / ١٩٨٣م) وذلك الإنسان (٢٨ / ٦ / ١٩٩١) والديمقراطية والمجتمع (٨ / ٤ / ١٩٩٤م) والحوار الذي أثرته بمناسبة تصريح أ. د. حسين فوزي في إسرائيل بأنَّ المصريين ليسوا عربًا، وكلها مقالات منشورة في الأهرام. ونشرت في جريدة الوفد، الديمقراطية التي أعرفها (١٩ / ٩ / ٢٠٠١م) وأنقذوا الإنسان (١٠ / ١٠ / ٢٠٠١م)، وليس فيها أي مقال يُمالئ رئيسًا إن لم يكن فيها ما يُعارض بعض الأعمال والاتجاهات.

لقد ارتدى أ. د. رءوف عبَّاس في كتابه زي مَن هَاله الفساد الذي انتشر، وخاصةً في كلية الآداب، وأخذ على عاتقه محاربته. ولست أدري لماذا لم يفعل ذلك عندما كان وكيلًا للكلية. لقد ضلَّ الطريق إلى الإصلاح غفلةً أو قصدًا، ليُمسك بمعول يهوي به على من يشاء. وأُشير عليه أن يُحارب ما يعتقده فاسدًا في الجامعة من نظم؛ فالنظم هي الباقية، والأفراد زائلون، وكثيرًا ما يُخطئ الإنسان في التعرُّف عليهم.

فإن لم يدرِ الطريق إلى ذلك أُشير عليه بقراءة مقالاتي في الأهرام التي نقدت فيها نظام الاستثناءات (٢١ / ٣ / ١٩٧٩م) والدراسات الجامعية والعليا والبحوث (٢١ / ٧ / ١٩٨٩م، ٢٩ / ٩ / ١٩٨٩م، ٢٤ / ١١ / ١٩٨٩م، ٢٣ / ٢ / ١٩٩٠م، ١٦ / ٤ / ١٩٩٣م) والأستاذ الجامعي وتعيين العمداء (١٤ / ١٢ / ١٩٩٠م، ١٣ / ٩ / ١٩٩١م) وغير هذه المقالات (١٢ / ٢ /  ١٩٧٩م، ١١ / ٣ / ١٩٨١م، ٢٢ / ٦ / ١٩٨٢م).

قد يتساءل مُتسائل: لماذا تُوجَّه لي الاتهامات؟ فأقول ظنًّا يشبه اليقين: بسبب صلتي بالرئيس السادات والسيدة زوجته. أمَّا السيدة جيهان فقد كنت أحد أساتذتها مثل معظم أعضاء هيئة التدريس بقسم اللغة العربية. وأذكر أنَّ أحد أعضاء القسم الأحياء هو الذي أنبأني بالْتحاقها بالقسم بعد أن كانت في قسم اللغة الإنجليزية؛ لأنَّني كنت في ذلك الوقت أستاذًا زائرًا في العراق لمدة شهر. فكان تعليقي: لا أدري أتبشِّرني بخير كثير أم بشر كثير؟ وقد حدث الأمران. وليس ذلك بسببها مباشرة، وإنَّما بسبب أنَّ عيون الرُّقباء وضعت جميع أفراد القسم تحت رقابةٍ دائمة حمايةً لها، فعرفوا كل خباياهم.

وأمَّا الرئيس السادات فقد وصلني به التحاق السيدة زوجته بالقسم، وتعييني رئيسًا لأكاديمية الفنون. وقد التقيت به أكثر من مرة، وطال جلوسنا معًا أحيانًا. وأشهد أنَّنا لم نتبادل حديثًا سياسيًّا قط، إلا عندما دعا جميع أعضاء القسم بعد الصلح مع إسرائيل.

ويبقى تساؤل: لماذا يتهمني أ. د. رءوف عبَّاس أنا وبقية زملائه بما اتهمَنا به؟ أمَّا هو فيَدَّعي أنَّ رغبته في محاربة الفساد هي التي دفعته إلى ذلك. وأمَّا أنا فأظن أنَّ شيئًا آخر هو السبب.

لقد قضى الرجل عمره يشتغل بالتاريخ، يقف خارجه ويكتب عمَّن خلَّدتهم الأحداث. وأخيرًا أراد أن يكون واحدًا من الأبطال، فيدخل دائرة أبطال التاريخ، فابتكر لنفسه بطولةً وهمية، غافلًا عن أنَّ المؤرخين العظام لهم تاريخهم الخاص الذي لا يقل إشراقًا عن تاريخ هؤلاء الأبطال، والذي أبقى أسماءهم تُردِّدها ألسنة الإعزاز والتمجيد من قرن على قرن، وفي قُطر بعد قُطر، سواء كانت أصولهم إغريقيةً مثل هيرودوت، أو بريطانيةً مثل توينبي، أو عربيةً مثل المسعودي، والقائمة طويلة أكثر الطول. أظن أنَّ هذه الرغبة العارمة هي التي ساقته إلى اتهام زملائه واتهامي.

وأضيف إلى ذلك — في حالتي وفي حالة بعض زملائه أيضًا — أنَّني لست من قسمه، ولا تخصُّصه، ولم نتنافس في يوم على شيء مشترك؛ أُضيف أنَّ من الأسباب — ربما — كان إحساني إليه إذ اخترته رئيسًا لقسم التاريخ، مُفضِّلًا إيَّاه على زملائه، وكتابه يكشف أنَّه يحمل ضغينةً كبرى على من أحسن إليه، ولو كان من أقرب أقربائه، وصدق القول المأثور «اتقِ شرَّ من أحسنت إليه.»

١  مجلة المُصوِّر، العدد ٢٠٢٤٩، ٢٢ من أبريل ٢٠٠٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤