حوار مع جريدة آفاق عربية١

أجراه: عبد الفتَّاح مغاوري

بمداد من حنظل قدَّم الدكتور رءوف عبَّاس — أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة ورئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية — تشريحًا دقيقًا للواقع الاجتماعي المرير الذي نعيشه، وبلور من خلال سيرته الذاتية «مشيناها خطًى» حجم الفساد الحكومي الذي سيطر على عديد من قطاعات الدولة مثل القطاع العام وقطاعات الثقافة، فضلًا عن المؤسسة التعليمية التي أوضح فيها أنَّ أجهزة الأمن سيطرت بالكامل عليها، فتم قتل الحركة الطلَّابية وضاعت قدوة الأساتذة، واستشرى الفساد السياسي في المجتمع.

«ثقافة وفكر» حاورت المؤرِّخ الدكتور رءوف عبَّاس حول سيرته الذاتية التي تُعتبر وثيقةً تاريخية شاهدة على فترة مهمة من تاريخ مصر.

من وجهة نظرك، ما الأسباب التي جعلت هذه السيرة تحظى بالتفاعل معها من قِبَل المثقفين؟

– أعتقد أنَّ كم الصراحة في الكتاب هو السبب، على الرغم من أنَّني لم أقل شيئًا مجهولًا على أحد؛ فما ذكرته عن الفساد الجامعي أساتذة الجامعات يعرفون ما هو أشد قسوةً ومرارة منه.

هل هناك ما هو أقسى ممَّا ذكرت عن الفساد الجامعي؟

– نعم، ولكنَّني لم أرَه بعيني ولكن أخبرني به الأصدقاء، ولم أشهده ولا أستطيع أن أكتب عن أشياء استودعها صديق في مكمن أسراري، ولكن الذي ذكرته شاهدته بعيني سواءً كنت طرفًا في الموضوع أو قريبًا منه، وأي شخص في الوسط الجامعي يعرف أنَّ هناك مهازل أكثر من هذا، ولكن لا أحد يجرؤ على الكلام.

وهل ما كتبته عن دور الأمن في الجامعة أو دور الأمن في اتحاد الطلَّاب يُعدُّ سرًّا؟!

– مؤكَّدًا لا، ولكن لم يجرؤ أحد على الكتابة عنه، وعندما أكتب أضع عيني على الجامعة كمؤسسة، وعيني على الوطن، فلا يُمكن أن أنتظر من شباب مصر الذين يُمثِّلون ثلثَي السكان وسيرفعون على أكتافهم وعي هذا الوطن في القرن الحالي، أن يكونوا إمعات وليس لديهم وعي سياسي ويخشَون من الأمن؛ فماذا أنتظر من هذا المواطن عندما يكون في موقع؟ وبالتالي نحن في طريق الضياع.

ولكن دائمًا ما يقول النظام: إنَّ الجامعة ليست مكانًا للعمل السياسي؟

– ليس صحيحًا أنَّ السياسة تكون خارج الجامعة؛ لأنَّ الوعي السياسي قد تعلَّمناه على مقاعد الدراسة في المدارس الثانوية والابتدائية، فأين الجامعة؟!

ذكرت أنَّ نظام يوليو عمل على «استوزار» أساتذة الجامعات، فهل هذا هو الذي يجعل الأمن مسيطرًا على مجريات الأمور في الجامعات، وخروج التقارير الأمنية منها؟

– ثورة يوليو كانت تعلم أنَّ الحركة الطلَّابية هي «الدينامو» المحرِّك للعمل الوطني السياسي على مر تاريخها، والثورة تُريد أن يكون كل العمل السياسي من خلالها وبالتالي لا تسمح لأي شخص بالخروج عن هذا النطاق، فلم تسمح بمجرد الرأي، وبالتالي كانت لا بُد أن تُسيطر على الحركة الطلَّابية، وكذا الحركة العُمَّالية وذلك من خلال جهاز الأمن، وإرهاب كل من يُحاول أن يتحرَّك خارج إطار التنظيم السياسي المعتمد، حتَّى من كانوا داخل التنظيم السياسي التابع لهم مثل منظمة الشباب التي تعرَّض عدد من كوادرها للتعذيب عندما بدءوا يتكلَّمون بغير ما تلقَّنوه، وهذا ما كتبه عبد الغفَّار شكر؛ ولذلك بعد السيطرة على الحركة الطلَّابية والحركة العُمَّالية غُيِّبت القوى الفاعلة، وتمَّ عزل سياسي لكثير من العُمَّال، وعندما يُدير هذا كله — من وراء الستار — جهاز الأمن، فهذا يُربي عند الناس أشياء غير أخلاقية — خاصةً الوصوليين — فيتطوَّعون بكتابة التقارير على زملائهم، وكذلك كان الأمر عند أساتذة الجامعة.

هل وصل الحد إلى أن يُصبح أستاذ الجامعة مجندًا لدى الأمن؟

– الأستاذ هو الذي يُجنِّد نفسه، وأنا أزعم أنَّ الذي اشتغل لحساب الأمن بدأ متطوعًا طمعًا في الوصول إلى المناصب؛ فالعناصر التي تتطلَّع إلى المناصب تُقدِّم نفسها لا من خلال عمل وطني ولكن من خلال أقصر الطرق.

وما الذي أوصلنا لهذه المرحلة؟

– عدم السماح بالرأي الآخر — حتَّى اليوم — هو السبب في هذه الحالة، وقد تلقَّيت تحذيرًا من أناس يُحبونني بأنَّ هذا الكتاب سيُسبِّب لي مشكلات كبيرة؛ لأنَّ الناس لا تتصوَّر أنَّ أحدًا يقول هذه الحقائق وينجو.

إلى أي مدًى يُمكن أن ينصلح الحال في الجامعات المصرية بعد هذه الصورة التي رسمتها عن هذا الفساد الهائل؟

– الإصلاح مُمكن في كل شيء، ولكن لا يتم هذا إلا في إطار إصلاح سياسي عام؛ لأنَّ الجامعة خلية من خلايا المجتمع، فإذا فسد المجتمع فسدت الجامعة، فانعكاس الفساد داخل الجامعة يأتي من المجتمع. وعندما يكون معيار اختيار القيادات هو الأداء لصالح الوطن وليس المحسوبية لأجهزة مُعيَّنة أو قرابة من فلان أو غيره، سيحتاج هذا إلى إعادة صياغة لنظامنا السياسي.

الآن تمَّت السيطرة على العمل الطلَّابي بالكامل ولم يُسمح لأي تيار مُعارض أن يكون له نشاط خاصةً التيار الإسلامي، فما تعليقك على هذا؟

– هذا الأمر بدأ في نهاية عهد السادات، ولو استمرَّ لكان على الحال نفسها، وما أُريد أن أقوله إنَّ أجهزة الأمن هي التي كانت وراء كل هذا.

بمعنى؟

– أجهزة الأمن هي التي تُشير على أجهزة السلطة بأنَّ إتاحة الفرصة لهؤلاء غير مُفيدة، ولكن علينا أن نأتي بالطلَّاب ونقوم نحن بتدريبهم، وهو ما تحدَّثت عنه من تشكيل كوادر من الحزب الوطني من خلال ما يُسمَّى بمعهد الدراسات الوطنية الذي أشرت إليه من قبل. وكل هذه الأمور تؤثر على العمل الوطني، ودائمًا من يجلس على كرسي السلطة يُزعجه أن تقول له: إنَّ التيار الفلاني سيُسبِّب قلقًا في مكان ما.

ولكن المُلاحظ باستمرار أنَّ المُحارَب هو التيار الإسلامي، فهل لا توجد رؤية لاستيعاب هذا التيار كأحد مُكونات المجتمع؟

– عندما تتحدَّث عن التيارات سيكون هناك التيار الإسلامي، وكذلك التيار الشيوعي، على الرغم من اختلاف الأوزان كأغلبية لصالح التيار الإسلامي، وهناك وجهة النظر الليبرالية، وصلاح هذا البلد لا يُمكن أن يتحقَّق إلا إذا فُتح العمل الوطني أمام المصريين، ويكون الترمومتر الذي يُقاس به هو مدى الإخلاص الوطني لما يُطرح، فلماذا لا تجمعنا مؤسسات الدولة بجميع الاتجاهات؟

من وجهة نظرك متَّى تتحرَّر الجامعة المصرية من سيطرة الأمن؟

– عندما تتحرَّر الحركة السياسية في مصر.

عودة إلى الدراسات التاريخية … هناك تشكُّك فيمن يكتبون التاريخ لأنَّ الكاتب قد يتبع السلطة أو أيديولوجيا معينة أو غير ذلك، فما المعايير التي بها نطمئن لكتابة التاريخ؟

– أولًا كتابة التاريخ ذات شقين؛ الأول: يتعلَّق بمادة التاريخ كمعلومات ومادة خام، وهي الأحداث التي حدثت والشواهد الموجودة لها سواء أكانت هذه الشواهد وثائقيةً أم لا. الشق الثاني يتعلَّق بإعادة رسم صورة الماضي من خلال الكتابة التاريخية؛ بمعنى أن يتم تفسير آليات الحركة بالنسبة للحدث التاريخي. وهنا على المؤرخ أن يتمثَّل هذه المادة فهو يُقدِّم رؤيته لما يكتب عنه، وهذه الرؤية تكون مرتبطةً بثقافته وتكوينه، ومن هنا فدارسة التاريخ لا تنتهي؛ فليست هناك صيغة من الكتابة التاريخية معتمدة، فكل واحد يُقدِّم رؤيته للحدث والمُتلقِّي يُعمل عقله أيضًا.

في كتابك أثنيت على سمير راغب — رئيس دار الكتب الأسبق — على الرغم من أنَّ عهده شهد ضياع كثير من الوثائق والمخطوطات، لماذا؟

– أنا أحكم على الأشخاص من خلال تجربتي معهم، وأمَّا مسألة اختفاء وثائق من دار الكتب فهذا غير صحيح، وأنا على صلة بهذه الدار من سنة ١٩٨٠م، وأعمل منذ ذلك التاريخ رئيسًا للجنة المسئولة عن الضم والاستغناء، ولم يحدث اختفاء للوثائق من هذه الدار … ولكن الوثائق التي تختفي تكون من دار المحفوظات الموجودة بالقلعة «وهي تتبع مصلحة الأموال المقررة»، وهذا يرجع إلى أنَّهم عند ضيق المكان بالوثائق يقومون بعمل لجان داخلية وتقوم غالبًا بدشت هذه الوثائق، وحدث أنَّ تاجرًا من الإسكندرية اشترى من دار المحفوظات وثائق على أنَّها «دشت» ثمَّ جاء إلى دار الكتب ليبيعها عندما عرف قيمتها التاريخية، وقد نبَّهنا دار المحفوظات لهذا دون جدوى؛ فالإهمال من دار المحفوظات وهناك تُجار قنَّاصون يُتاجرون بهذا، أمَّا دار الوثائق فلا يخرج منها شيء.

لاحظ قارئ «مشيناها خطًى» أنَّك كنت قاسيًا على أسرتك، فلماذا كل هذه القسوة؟

– ليست قسوةً ولكنَّها واقع؛ فأنا لست ناكرًا لجميل الأسرة فلم أُلقِ باللائمة على الأسرة في شيء، وإنَّما أُصوِّر واقعًا لقطاع عريض من المصريين كيف يعيشون، ومع ذلك عندما يكون هناك هدف واضح للإنسان يُمكنه التغلُّب على كل ظروفه حتَّى لو كانت بهذه القسوة.

في بعض الأحيان استعملت رموزًا لأسماء كانت في مناصب ومع مرور الوقت يصعب التوصُّل إليها، مع أنَّ هذا الكتاب يُسجِّل شهادةً وثائقية من مؤرِّخ اجتماعي مرموق؟

– أنا في البداية لم أكن أقصد أفرادًا بعينهم، ولكن كنت أناقش ظواهر، وهذه الظواهر إمَّا كنت طرفًا فيها أو سمعتها بأذني، وما يتعلَّق بقسم التاريخ، تكلَّمت عن الناس بأسمائهم بحكم أنَّ هذه الظواهر موجودة في كل الأقسام، وعندما تكلَّمت عن ظواهر أخرى على مستوى الكلية أو حتَّى على مستوى الوطن في اختيار قيادات، فقد ذكرت التواريخ فهي مفتاح لمن يُريد أن يتحرَّى الحقيقة، ولكن ليست المسألة الأشخاص … يعني مثلًا العميد الذي طلب مني كتابة بحث لابنة «السادات» أعتبر أنَّه مرَّ بلحظة من لحظات الضعف الإنساني، فلم أُحبِّذ الإشارة إليه بالاسم وأنا أحترمه، فلا أقصد التشهير بالناس وقد قلت إنَّه في وقت كذا، وأي شخص يعرف ينظر في سجلَّات الكلية سيعرف من هو العميد المقصود، وأي شخص وقت مناقشة جيهان السادات سيعرف العميد.

إذن ما دام هذا الأمر متاحًا للقارئ ويستطيع التعرُّف على هذه الرموز، فلماذا لم تذكرها؟

– حتَّى لا تكون المسألة تصفية حسابات شخصية، ويصعب عليَّ أن أفعل ذلك.

الدكتور رءوف عبَّاس المؤرخ الاجتماعي حتَّى الآن لم يُقدِّم تشريحًا لما أحدثته ثورة يوليو ٥٢ وآثارها الاجتماعية الخطيرة إيجابًا أو سلبًا ولم يتضح هذا في الكتاب؟

– هذا الموضوع هو مشروعي الكبير، وعندي المادة العلمية الجاهزة له ولكن لا أجد الوقت له حتَّى الآن؛ لأنِّي مرتبط بأعمال علمية كثيرة، وكلها غير مُجلبة للربح، وأتمنى أن أفرغ من الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ثمَّ أعكف سنتين أو أكثر لأُخرج ما لدي؛ لأنَّ تجربة مصر في القرن العشرين مهمة جدَّا لنعرف موطئ أقدامنا في القرن الحادي والعشرين؛ فلكل نظام إيجابيات وسلبيات، وقد قدَّمت شيئًا من النقد مثل نقد القطاع العام والتنظيم السياسي، ولكن هذا النقد في حدود المسموح لظروف نشر الكتاب في دار الهلال؛ لأنَّني لو تركت العنان للقلم لجاءت السيرة في مُجلَّد كبير وبالتالي يرتفع سعره، ولا يصل إلى القارئ خاصةً الشباب الذي أتمنَّى أن يستفيدوا منه. وإن كنت أعتبر أنَّ الرسالة قد نجحت إلى حدٍّ كبير، فأنا لم أمرَّ مرور الكرام قاصدًا وإنَّما أعطيت ومضات مهمة فيما يتعلَّق بنظام يوليو بإيجابياته وسلبياته، ومن قبلُ أخرجت كتابًا بعنوان «ثورة يوليو … ما لها وما عليها»، ومع ذلك لم يلتفت إليه الكثيرون.

١  جريدة آفاق عربية، العدد ٦٩٩، ١٠ من مارس ٢٠٠٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤