بين القاهرة والدوحة

فضَّل صاحبنا أن تكون عودته من طوكيو إلى القاهرة عبر لندن؛ ليتوقَّف هناك أسبوعَين يطَّلع فيهما — لأول مرة — على الوثائق البريطانية بدار المحفوظات العامة هناك، ولكنه تبيَّن له أن الاطلاع موقوف حتى منتصف أكتوبر لإضافة الوثائق التي رُفع عنها حظر الاطلاع وخرجت عن نطاق السرية إلى فهارس الوثائق التي تُتاح للاطلاع. فقضى أسبوعًا واحدًا، صرفه في زيارة المتاحف والاطلاع على مكتبة المتحف البريطاني وجامعة لندن، ثم عاد مساء ٥ أكتوبر ١٩٧٣م لتتغيَّر أحوال المنطقة، ويهتز العالم كله بعد أقل من ٢٤ ساعةً من عودته إلى أرض الوطن بقيام حرب السادس من أكتوبر، العاشر من رمضان، يوم العيد الكبير عند اليهود «عيد الغفران» (يوم كيبور). وتمنَّى لو كان في اليابان عندئذٍ لاستطاع أن يخدم بلاده في هذا الظرف التاريخي بدلًا من وقوفه موقف المتابع والمتفرِّج وهو بالقاهرة مكتوف اليدَين.

عاد إلى الجامعة في فترة رئاسة الدكتور محمد أنيس للقسم ليجد نفسه ما زال منبوذًا مهمَّشًا، أُسندت إليه مهمة تدريس مادة واحدة فقط بقسم المكتبات، وظل اسمه مجهولًا عند طلاب قسم التاريخ؛ ولذلك اقتصر حضورُه على يوم واحد أسبوعيًّا هو يوم تدريس المادة التي أُسندت إليه يوم الإثنَين من كل أسبوع، وكان اختياره لذلك اليوم يعود إلى كونه يوم انعقاد الجلسة الشهرية لمجلس القسم حتى لا يتحمَّل عناء الحضور خصوصًا يوم اجتماع القسم. وذلك رغم أن تعليمات الجامعة كانت تقضي بضرورة الحضور أربعة أيام على الأقل أسبوعيًّا. وعندما نبَّهه رئيس القسم إلى ذلك مهدِّدًا باتخاذ إجراء ضده، طلب منه أن يسرع باتخاذ هذا الإجراء حتى تُتاح له فرصة إعلان موقفه من تركه بلا عمل، وانتهى الموضوع عند هذا الحد.

وزاد من حدة توتُّر العلاقة مع رئيس القسم الدور الذي لعبه صاحبنا في الكشف عن قيام مدرس مساعد بالقسم بسرقة المراجع المهمة والنادرة من مكتبة القسم، وبيعها للباحثين الأجانب، وكشف التحقيق الذي أجرته الجامعة مع ذلك المدرس أنه كان يعرض على أولئك الطلاب الأجانب تقديم خدمات جنسية، وانتهى الأمر بصدور قرار مجلس التأديب بفصله من الجامعة. وكان صاحبنا عندما اكتشف الموضوع قد لجأ إلى رئيس القسم طالبًا اتخاذ إجراء فأهانه، واتهمه بأنه إنما ينفِّذ «تكليفًا» من «المباحث» باعتباره «عميلًا» لها؛ لأن المشكو في حقه «تقدُّمي». فلم يجد صاحبنا مفرًّا من اللجوء إلى العميد (السيد يعقوب بكر) ودارت عجلة التحقيق الذي انتهى بفصل المدرس المساعد.

سافر الدكتور محمد أنيس بعد هذا الحادث بشهور إلى العراق مُعارًا إلى جامعة بغداد، ثم انتقل منها إلى اليمن للتدريس بجامعة صنعاء، ثم إلى أبوظبي مستشارًا لمركز الدراسات التاريخية هناك. وتخلَّل ذلك فترة عام ونصف العام قضاها بالقاهرة أستاذًا غير متفرغ بقسم التاريخ عندما كان صاحبنا رئيسًا للقسم. وانتقل أنيس إلى رحاب الله عام ١٩٨٦م دون أن تُتاح لصاحبنا فرصة إقناع الرجل بسلامة موقفه. ولعل أحدًا لم يحزن على الرحيل المبكِّر لهذا الأستاذ الكبير مثلما حزن هو، فألقى محاضرةً بنادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعة بيَّن فيها فضله على الدراسات التاريخية في مصر وعلى صاحب المحاضرة وأبناء جيله. كما كان في مقدمة المتحدِّثين في الحفل التأبيني الذي أقامته كلية الإعلام تكريمًا لذكراه وذكرى أحمد حسين الصاوي، مُبرزًا دور الفقيد في تكوين بعض أعضاء هيئة التدريس بكلية الإعلام، منوِّهًا بما له من فضلٍ عليه، وتمَّ تكوين مجموعة من تلاميذه لإعداد كتاب يُنشر على شرف الفقيد إحياءً لذكراه، وأُسند التحرير إلى محمد جمال الدين المسدي، فلم يكن الاختيار موفَّقًا؛ لأنه لم ينجز ما أُسند إليه، رغم إصراره على القيام به.

بدأ العام الدراسي التالي للعودة من اليابان (١٩٧٤–١٩٧٥م)، وصاحبنا ما يزال منبوذًا مُهمَّشًا، ولكنه كان مشغولًا بأمر أخيه صلاح الذي كان معيدًا بالمعهد الصناعي بالمنيا ثم نُقل إلى المعهد الفني بشبرا، وعندما أوشك على الانتهاء من إعداد رسالته للماجستير في الهندسة الميكانيكية هاجر المشرف إلى كندا، وتعنَّت رئيس القسم بهندسة عين شمس معه، ورفض نقل الإشراف إلى مشرف آخر، وطالَبَه بإعداد موضوع جديد، ولمَّا كانت مدة الخمس سنوات التي لا بد أن يحصل المعيد على الماجستير قبلها قد أوشكت على الانتهاء، كان لا بد من البحث عن مخرج حتى لا يفقد وظيفته الأكاديمية ويتحوَّل إلى وظيفة فنية. ونجح في الحصول على قَبول من جامعة ليستر ببريطانيا للدراسة على نفقته الخاصة، على أمل أن يأتي الله بالفرج عندما يذهب إلى هناك، فيجد عملًا يساعده على تغطية نفقات الدراسة. وتقدَّم بطلب إلى وكيل وزارة التعليم العالي لشئون المعاهد للحصول على إجازة دون مرتب للدراسة بالخارج.

طلب وكيل الوزارة ما يثبت وجود مصدر للإنفاق على الطالب أثناء وجوده بالخارج، وضرورة أن يكون لأحد أقارب الدرجة الأولى حساب بالعملة الصعبة، ولمَّا كان صاحبنا — بعد عودته من اليابان — من أصحاب الحسابات بالعملة الصعبة، فكان لديه حساب به ألف ومائتا دولار بالتمام والكمال، فقد زوَّد أخاه بسند من البنك يفيد ذلك، غير أن وكيل الوزارة لم يقتنع وطلب أن يكون للقريب مصدر دائم بالعملة الصعبة، كأن يكون مُعارًا بالخارج. وأُسقط في يد صاحبنا وأخيه، ثم اتضح أن الموافقة يمكن أن تتم لو تمَّ دفع خمسمائة جنيه لسعادة وكيل الوزارة، وهو ما لم يكن متوافرًا لديهما.

وسط الانشغال بهذه «المعضلة» تلقَّى صاحبنا استدعاءً من عميد الكلية (السيد يعقوب بكر)، فذهب لمقابلته، وبادره العميد بعتاب أبوي؛ لأنه تعاقد مع قطر للعمل بكلية التربية دون أن يُعلمه بذلك، فدُهش صاحبنا لأنه لم يتقدَّم بأي طلب إلى أي جهة بهذا الخصوص، وبالتالي لم يتعاقد مع أحد، وقال للعميد إن المعلومات التي وصلته غير دقيقة، فربما كان المقصود شخصًا آخر. فأطلعه العميد على خطاب موجَّه إليه من وزير التعليم بقطر يطلب إعارة صاحبنا لكلية التربية بالدوحة على وجه السرعة. وظنَّ صاحبنا أن أستاذه أحمد عزت عبد الكريم ربما كان وراء تزكيته لأنه كان عضوًا بلجنة ثلاثية من مديرَي الجامعات المصرية، كلَّفتها حكومة قطر بإعداد مشروع إقامة جامعة، وقد نصحت هذه اللجنة حكومة قطر بأن تكون البداية إنشاء كلية للتربية، ولكن عندما استعلم من أستاذه عمَّا إذا كان قد رشَّحه للعمل هناك، نفى الرجل ذلك تمامًا.

قال صاحبنا للعميد إنه لا يفكِّر في الإعارة، ولا يعرف عن قطر سوى موقعها على خريطة الخليج، وليس حريصًا على الذهاب إلى هناك. فسأله العميد عمَّا إذا كان لديه أبناء، فأجابه بأن له ولدًا واحد، فقال له: «يبقى ده رزق ابنك، وعلى العموم إنت تشرَّف الجامعة في أي مكان.» وكان مجلس الكلية سوف يُعقد في اليوم نفسه، فحمل العميد الخطاب معه وحصل على موافقة رئيس القسم (أحمد السيد دراج)، وعُرض الموضوع على المجلس وتمَّت الموافقة عليه. وتبقَّى الحصول على موافقة الأمن على الإعارة (وكانت أساسية)، وقد تستغرق ما يزيد على الشهر (كما حدث عند سفره لليابان)، ولمَّا كانت الإعارة قد سعت إليه في وقت دقيق حرج بالنسبة لتحديد مستقبل أخيه، فقد اعتبرها صاحبنا حلًّا إلهيًّا لمشكلة وقَف أمامها عاجزًا محبطًا، وتذكَّر صديقه عادل غنيم الذي كان مديرًا لمكتب مدير جامعة عين شمس، ثم أصبح مديرًا لمكتب وزير التعليم العالي (إسماعيل غانم)، فتوجَّه إليه حتى يساعده في الحصول على موافقة الأمن في أقصر وقت ممكن. وحكى لصديقه سبب الحاجة إلى العجلة، فروى له قصة أخيه مع وكيل الوزارة لشئون المعاهد العليا.

استمع عادل غنيم إلى القصة كلها، دون أن يُبدي رأيًا، وعندما استأذن صاحبنا للانصراف، وعده أن يبذل جهدًا لدفع إجراءات الأمن، وطلب منه العودة بعد أسبوع. وعندما ذهب إليه في الموعد أبلغه صديقه أن موافقة الأمن سُلمت بالفعل للكلية منذ يومَين، وأنه يستطيع السفر متى شاء. وأطرق مليًّا ثم ابتسم قائلًا: «وموضوع المهندس صلاح خلص أيضًا، ويمكنه السفر متى شاء.» وقص عليه أنه نقل ما دار على لسانه إلى الوزير الذي استدعى وكيل الوزارة وأمرَه بالموافقة على الطلب، ثم نحَّاه عن موقعه كمسئول عن المعاهد، وجعله مستشارًا.

وهكذا فُرِّج الكرب، وكانت أبواب السماء مفتوحةً على مصراعَيها، فجاء خطاب الإعارة في وقت الشدة، وكانت الخدمة التي أدَّاها الصديق عادل غنيم له ولأخيه عملًا لا يُقدم عليه إلا من كان على هذا المستوى من الخلق الكريم. وبعد أسبوع واحد سافر صاحبنا إلى قطر، وبعده بنحو أسبوعَين، سافر صلاح إلى بريطانيا بعد استكمال الإجراءات.

كانت الدوحة — عندئذ — قريةً حضرية، قريبة الشبه ببعض مراكز الأقاليم بمصر، ولا تصل إلى مستوى بنها أو طنطا، أو المنيا، أو أسيوط من الناحية العمرانية، ليس فيها من معالم «الدولة» سوى الديوان الأميري والوزارات، وقصر الأمير. وكانت جميع شوارعها الفرعية غير مرصوفة. ولم يكن بها من الفنادق سوى فندق الخليج (خمسة نجوم) وفندق الواحة (ثلاثة نجوم)، وفندق الدوحة (نجمتان).

أمَّا «كلية التربية للمعلمين والمعلمات»، فكانت تقع في مواجهة حي شعبي يسكنه غالبية من الفلسطينيين يسمَّى «فريق غزة» يقع على بعد ١٢ كيلومترًا من مدينة الدوحة على طريق الشمال، وتتكوَّن الكلية من مبنى مدرستَين إعداديتَين (في الأصل) إحداهما للبنين والأخرى للبنات تقع على بعد كيلومترَين من المبنى الأول على طريق فرعي يؤدِّي إلى كلية البنات وينتهي عندها.

وكانت الإدارة ومكاتب الأساتذة بكلية البنين ومكاتب عضوات هيئة التدريس بكلية البنات، ولكن كان أعضاء هيئة التدريس من الذكور يقومون بالتدريس بكلية البنات، ولهم فيها غرفة استراحة، ولم يكن هناك مرحاض خاص بالرجال. وقد تغيَّر هذا الوضع تدريجيًّا، فأصبحت هناك مكاتب للأساتذة بكلية البنات، وخُصص لهم مرحاض لاستخدامهم.

الْتقى صاحبنا عميد الكلية الدكتور محمد إبراهيم كاظم (الذي أصبح مديرًا للجامعة فيما بعد)، وعلم منه أن الذي رشَّحه له هو صلاح العقاد (أستاذ التاريخ الحديث بكلية البنات) عندما اتصل به تليفونيًّا لهذا الغرض يسأله أن يدله على عضو هيئة تدريس لا توجد عوائق قانونية تحول دون موافقة جامعته على إعارته، ولم تمضِ ٤٨ ساعةً على هذا اللقاء حتى اصطدم بالعميد، ولذلك قصة تُروى.

ذهب صاحبنا لإلقاء محاضرته الأولى على الطالبات مرتديًا بدلةً كاملة ورباط عنق (تنفيذًا للتعليمات) رغم حرارة الجو في نوفمبر، وكان عدد الطالبات حوالي ٢٤ طالبةً قدَّم لهن نفسه، ثم بدأ إلقاء درسه الأول، فإذا بالطالبات يتهامسن ويضحكن وهن ينظرن إليه، فظن صاحبنا أن ثمة عيبًا في هندامه، فولَّى وجهه شطر السبورة وتأكَّد من أن الأمر لا علاقة له بهندامه، فقال للطالبات: «هل هذا صف طالبات قسم العلوم الاجتماعية؟» فأجبن بالإيجاب، فقال صاحبنا: «ظننت أني دخلت حمام السيدات بطريق الخطأ. ما هذه الوقاحة؟ إن قاعة الدرس لها قداسة قاعة الصلاة، ومثل هذا التصرُّف يجعلني أنظر إلى أصحابه نظرة احتقار.» ساد السكون التام حتى انتهى الدرس، وانتقل بعد ذلك إلى كلية البنين لإلقاء درسَين آخرَين، وانتهى اليوم.

وفي صباح اليوم التالي، فوجئ بسكرتير العميد ينتظره أمام الكلية، ويخبره بأن العميد يطلبه، فذهب إلى مكتب العميد الذي كان جالسًا إلى مكتبه، وإلى جانبه يجلس محمد الشبيني (مدير مشروع اليونسكو)، فألقى التحية عليهما، فإذا بالعميد لا يرد التحية، ويقول له بحدة: «عملت إيه امبارح في كلية البنات؟» فقص عليه ما حدث حرفيًّا، فثار وقال إن هذا التصرُّف غير لائق وغير مقبول، وإذا تكرَّر فسيكون له شأن آخر. وهنا أحسَّ صاحبنا أن كرامته قد جُرحت، فقال للعميد إنه لا يقبل منه هذا الكلام، ولا يُشرِّفه الاستمرار في العمل معه، وأنه لم يتقاضَ مليمًا من الكلية بعد، ويطلب تزويده بتذكرة سفر للعودة إلى القاهرة حيث ينتظره هناك طلاب يحرصون على حضور محاضراتهم، قصَّر في حقهم بقَبوله العمل في مكان لا يعرف الفرق بين الجامعة والكُتَّاب. وطلب من العميد أن يدبِّر أمر إصدار التذكرة في موعد أقصاه ظهر الغد، وأنه لن يحضر إلى الكلية إلا لتسلُّم التذكرة. واتجه صاحبنا إلى باب المكتب، فهبَّ محمد إبراهيم كاظم واقفًا، وكذلك فعل محمد الشبيني، وطلبا منه الجلوس (ولم يكن قد طُلب منه ذلك من بداية المقابلة)، واعتذر العميد عمَّا يكون قد أُسيء فهمه من كلامه، وسأل صاحبنا عن مكان السكن الذي أُعطي له، وقال له إنه سيزوره الساعة الرابعة بعد الظهر، فأكَّد صاحبنا أنه متمسِّك بموقفه، وأنه يفضِّل ألَّا يكلِّف العميد نفسه عناء الحضور إليه، وأن يكتفي بإرسال التذكرة فحسب، وسوف يقدِّم لحاملها تعهُّدًا بسداد قيمتها بسفارة قطر بالقاهرة.

كان صاحبنا قد استقرَّ رأيه على العودة فعلًا؛ فجو العمل بالكلية لا صلة له بالجو الجامعي من قريب ولا من بعيد، والطلاب ضعاف المستوى، ومُناخ البحث العلمي ملبَّد بالغيوم، كما أنه لا يقبل أن يُعامل معاملة الخدم. جمع أغراضه في حقيبته، وقرَّر مغادرة الشقة في الثالثة حتى يقطع على العميد فرصة الضغط عليه إذا جاء لزيارته في الرابعة، فيكون رد فعله تجاهه جارحًا. وما كاد يخرج من باب العمارة حتى وجد العميد بسيارته المرسيدس أمامه، فقال له تفضَّل يا دكتور، فاعتذر صاحبنا له لارتباطه بموعد آخر، فابتسم الرجل وقال له إنه على استعداد لتوصيله. ركب إلى جانبه، وكرَّر الرجل اعتذاره عن سوء التفاهم الذي حدث في الصباح، ثم وجده يتوقَّف أمام فيلا سكنه ويدعوه للدخول، وقدَّمه لزوجته أستاذ علم النفس الدكتور صفاء، ودعاه لتناول العشاء مع الأسرة في الخامسة بعد ساعتَين من حديث ودي، شرح له فيه ظروف قطر، والوضع الحسَّاس لمجرَّد وجود كلية جامعية للبنات، خاصةً موقف وزير التعليم الشيخ جاسم بن حمد آل ثان (شقيق الأمير الشيخ خليفة) الذي لم يقبل أن يتولَّى الرجال التدريس للبنات إلا بصعوبة بالغة، وأن من الحكمة أن تُراعى هذه الظروف الاجتماعية، ونضعها في الاعتبار. ولعبت الدكتور صفاء دورًا في تطييب خاطره، وأعاده العميد إلى مقر سكنه مؤكِّدًا له أنه يُسعده أن يتعاون مع رجل مثله.

وفي صباح اليوم التالي كان موعد محاضرة البنات، فاستهلَّها صاحبنا بأن موقفه لن يتغيَّر مع أي محاولة للإخلال بنظام الدراسة، وأنه ليس حريصًا على التدريس لمن لا يستحقون أن يبذل جهدًا معهم. فوقفت إحدى الطالبات لتعلن له أن طالبات الصف يعتذرن له، وأن من قدَّم الشكوى ثلاث من الطالبات الفلسطينيات، أبلغن رئيسة القسم كوثر عبد الرسول فطلبت منهن إعداد شكوى مكتوبة وسلَّمتها للعميد. كانت تلك الطالبة مريم بنت خليفة بن حمد (كريمة الأمير).

وطوال السنوات الأربع التي قضاها صاحبنا في التدريس بكلية التربية بقطر، حظي بتقدير تلاميذه وتلميذاته واحترامهم، وخاصةً أنه كان — كعادته دائمًا — يعطي لكل ذي حق حقه؛ فلا يكيل الدرجات لمن لا يستحق من أبناء الأسرة الحاكمة وبناتها، كما كان يفعل بعض زملائه، كما كان يترفَّع في تعامله معهم ومع غيرهم من أبناء كبار التجار وبناتهم، في وقت كان بعض زملائه يتملَّقونهم ويلاحقوهم بطلبات عقود العمل للأقارب والمعارف، وغير ذلك من الطلبات التي كانت مثار ضيق العميد الذي اضطُر أن يُلغي إعارة اثنَين من أعضاء هيئة التدريس لهذه الأسباب.

كان عبء التدريس بسيطًا، وقدرة الطلاب على التحصيل محدودة؛ ولذلك كان لدى صاحبنا متسع من الوقت للبحث، فأعدَّ الجزء الأول من مذكِّرات محمد فريد للنشر، كما أعدَّ كتاب «الحركة العمالية في ضوء الوثائق البريطانية» للنشر كذلك، طبعه على نفقته في إجازة صيف ١٩٧٥م، ونشر خلال عامَين ثلاثة بحوث عن تاريخ اليابان بالمجلة التاريخية المصرية ومجلة مركز دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة عين شمس، وكانت هذه الأعمال وغيرها من بين ما تقدَّم به من أعمال للترقية إلى وظيفة أستاذ مساعد بآداب القاهرة عام ١٩٧٦م.

وفي صيف ١٩٧٦م ذهب صاحبنا بأسرته الصغيرة إلى لندن حيث قضى إجازة الصيف في الاطلاع على الوثائق البريطانية (لأول مرة) على نفقته الخاصة، وصوَّر منها مجموعةً بالميكروفيلم والميكروفيش كانت أساسًا لمزيد من البحوث التي أعدَّها في السنوات التالية، إضافةً إلى ترجمته لكتاب موريس دوب «دراسات في تطوُّر الرأسمالية» وكتاب «يوميات هيروشيما» لهاتشيا. وبذلك حوَّل فترة الإعارة إلى ما يشبه «الإجازة الدراسية»، فأنتج خلالها من الأعمال التي نُشرت بالعربية والإنجليزية ما أتاح له التقدُّم إلى الترقية لدرجة أستاذ مساعد، ثم لدرجة أستاذ بمجموعة من الدراسات والأبحاث المبتكرة، بفضل استثماره الجيد لفترة الإعارة. فنشر آخر ما أعدَّه من أبحاث أثناء تلك السنوات عام ١٩٨٠م بعد عودته من الإعارة بعامَين، وحصل على درجة الأستاذية — بجدارة — في ديسمبر ١٩٨١م.

وعندما عاد من الإعارة عام ١٩٧٨م كانت حال قسم التاريخ بآداب القاهرة تدعو إلى الرثاء، فقد خرج معظم أساتذة القسم في إعارات إلى الكويت والسعودية، واستقال بعضهم من خدمة الجامعة حتى يستطيع التغلُّب على قواعد الإعارة والبقاء إلى ما شاء الله في تلك البلاد، واضطُر هؤلاء أن يُعيِّنوا على عجل بعضَ من لم يكتمل تكوينهم العلمي بعدُ مثلما فعل أستاذ العصور الوسطى للتغلُّب على مشكلة نسبة الإعارة، فكلَّف مدرسًا بمساعدة المعيد على صياغة ما لديه من مادة خلال شهر، وناقش الرسالة، وحصل على الدكتوراه، وهو لا يعرف المبادئ المنهجية للبحث العلمي، وتدرَّج في السلك الأكاديمي حتى وصل إلى الأستاذية دون أن يحسِّن مستواه العلمي، ودون أن يقدِّم عملًا مبتكرًا، بل كانت كل أعماله إعادة إنتاج لموضوعات قُتلت بحثًا. وهكذا جنى الأساتذة على القسم بعدم اهتمامهم بتربية الكوادر لدعم تخصُّصاتهم، وعندما تركوا القسم، وسعَوا في مناكب الجامعات الخليجية أصبح القسم قاعًا صفصفًا، فكان لا وجه للمقارنة بينه وبين قسم التاريخ بجامعة عين شمس ولا نظيره بجامعة الإسكندرية.

ولم يكن بالقسم — عند عودته — سوى أستاذ واحد للتاريخ الحديث يتولَّى رئاسة القسم (السيد رجب حراز)، وأستاذ مساعد للعصور الوسطى نُقل من معهد الدراسات الأفريقية (محمد محمد أمين) لإتاحة فرصة الإعارة لزميل آخر، وأستاذ تاريخ إسلامي (محمد أمين صالح)، وأستاذ مساعد تاريخ قديم (السيد الناصري)، ولم يكن به سوى معيدتَين.

مارس صاحبنا صلاحياته كأستاذ مساعد كاملةً من حيث التدريس لمرحلة الليسانس وللدراسات العليا، وتولَّى رئاسة لجنة امتحان الفرقة الرابعة عام ١٩٧٩–١٩٨٠م، ولجنة رصد الدرجات، وعند إعلان النتيجة ثار رئيس القسم لوجود ثلاثة أوائل حصلوا على تقدير جيد جدًّا، ولام صاحبنا على إظهاره النتيجة على هذا النحو، وعدم إبلاغه قبل إعلانها، وعندما استفسر منه عمَّا كان يمكن عمله، طالما أن الطلاب استحقوا هذه التقديرات بجهدهم، كشف رئيس القسم «المستور»، فقال إن رئيس لجان الرصد في السنوات السابقة (أستاذ مساعد العصور الوسطى الذي أُعير للسعودية) كان ينبِّهه دائمًا في حالة وجود طلاب يستحقون النجاح بتقدير جيد جدًّا، بأن يتم إنقاص درجات أعمال السنة بالقدر الذي يحول دون حصول أولئك الطلاب على تقدير يؤهِّلهم للتعيين في وظيفة معيد. وتساذج صاحبنا، وسأل رئيسه عن الحكمة في هذا الغَبن، وحرمان الطلاب من حقهم. قال إن مستواهم العلمي لا يؤهِّلهم ليكونوا معيدين، فردَّ صاحبنا بأن ذلك يعني أن ثمة خطأً ما في التدريس أو التنظيم أو هما معًا، ولكن ذلك لا يعني حرمان هؤلاء من فرصة إثبات قدراتهم، وفي قانون تنظيم الجامعات ما يكفل التخلُّص من المعيد الذي لا يستطيع المُضي قُدمًا في طريق الدراسات العليا، والمعيد — كطالب دراسات عليا — مجرَّد خامة يستطيع الأستاذ الجاد أن يصنع منه باحثًا إذا توافر لديه الاستعداد لذلك. فقال رئيس القسم: «دول ولاد … خسارة التعب معاهم!»

وهكذا شمَّر صاحبنا عن ساعديه لخوض غمار معركة جديدة في هذا القسم التعيس، فقدَّم طلبًا لرئيس القسم لعقد جلسة عاجلة لمجلس القسم للنظر في تكليف المعيدين، فاستجاب له وعقد الجلسة، ولكن بعد أن رتَّب أموره مع الأعضاء. وعند طرح الموضوع اتجه إلى طرح سؤال على صاحب كل تخصُّص عمَّا إذا كان في حاجة إلى معيد؟ وكان الرد بالرفض، ولمَّا كان رئيس القسم هو أستاذ التاريخ الحديث فقد أعلن أيضًا عدم حاجة التخصُّص لمعيد. كان صاحبنا يرقب الموقف ويعاني من الغيظ والاشمئزاز، وعندما تكلَّم طلبَ من رئيس القسم أن يُثبت بالمحضر تحفُّظه على قرار عدم تكليف معيدين من خريجي الدفعة، واحتفاظه بحقه في تقديم مذكرة بهذا الشأن إلى عميد الكلية وإلى رئيس الجامعة.

أُسقط في يد رئيس القسم الذي عُرف عنه تملُّق الرؤساء والخوف منهم، فاتخذ النقاش وجهةً أخرى وتحوَّل إلى مساومة، فأبدى استعداده لتعيين اثنَين بشرط أن تُكلَّف الأولى في الترتيب في فرع التاريخ الإسلامي، عندئذٍ لا مانع عنده من تكليف الثاني معيدًا للتاريخ الحديث. وبعد تمنُّع لعدة دقائق، هدَّد فيها صاحبنا بأنه على استعداد لخوض المعركة إلى النهاية، وفضحِ أسلوبهم ونشر القديم والجديد على الملأ، تمَّ اتخاذ القرار بتكليف الاثنَين، وصرف النظر عن تكليف الثالث في الترتيب الذي حصل على فرصة للتعيين بآداب المنيا من خلال الإعلان.

كان هذا الحدث على بساطته بادرة تحوُّل في مسيرة القسم؛ فعندما مات رئيس القسم فجأةً في أبريل ١٩٨٢م، أصبح صاحبنا رئيسًا للقسم. وتولَّى خلال السنوات الست التي تولَّى فيها هذا المنصب العلمي إعادة بناء القسم بالكامل بفضل تعاون محمد محمود الجوهري (عميد الكلية) معه، وتوفير كل ما طلبه من درجات، فتمَّ تعيين خمسة مدرسين من حمَلَة الدكتوراه بطريق الإعلان، وثلاثة عشر معيدًا منهم اثنين بطريق الإعلان، وتمَّ نقل أستاذ تاريخ إسلامي من آداب المنيا، وأستاذ مساعد تاريخ إسلامي من فرع الجامعة بالخرطوم. ودعم التاريخَ القديم بعضو بعثة عاد من بريطانيا عام ١٩٨٠م. وتغلَّب صاحبنا على تعسُّف أستاذ التاريخ القديم، فسمح لمن عيَّنهم معيدين بالتسجيل للدراسات العليا بآداب عين شمس.

وتصادف أثناء رئاسته للقسم أن قرَّر مجلس الكلية تطوير لائحة الدراسة، فوضع برنامجًا جديدًا لقسم التاريخ اهتمَّ بإعداد الطالب إعدادًا عصريًّا، فتمَّ التركيز على العلوم الإنسانية اللازمة لتكوين طالب التاريخ؛ الاقتصاد، والاجتماع، وفلسفة التاريخ، وأعطى المنهج اهتمامًا خاصًّا، كما تمَّ تحديد المقرَّرات التاريخية بما يحقِّق التكامل والتواصل بمختلِف فروع التخصُّص. وكان هذا البرنامج يتسق تمامًا مع المبادئ العامة التي أقرَّها مجلس الكلية، وطلب من الأقسام مراعاتها عند إعادة النظر في مقرَّراتها الدراسية. وكان صاحبنا عضوًا باللجنة المنبثقة عن مجلس الكلية لهذا الغرض، والتي تولَّت مراجعة مقترحات الأقسام وصياغة مشروع اللائحة على مدى ما يقرب من نصف العام.

ولكن معظم رؤساء الأقسام لم يرتاحوا لتلك اللائحة التي أنقصت من عدد ساعات التخصُّص لتُفسح مكانًا للمواد المساعدة، واعتبر المغرضون من أعضاء هيئة التدريس أن ذلك عدوان مبين على سلطات الأقسام، واستُخدم «العلم» و«المستوى العلمي» كلمتَي حق قُصد بهما باطل، فأُعيد النظر في اللائحة عام ١٩٨٩م أثناء وجود صاحبنا أستاذًا زائرًا لجامعة طوكيو لمدة عام انتهى في ١٩٩٠م؛ فأُلغيت كل المواد المساعدة وقُلصت المواد المنهجية، وحلَّت محلَّها مواد وُضعت لتخدم المصالح الشخصية لأعضاء هيئة التدريس وتضمن لهم توزيع كتبهم ومذكراتهم. ولم يراعِ أحد (بالنسبة لقسم التاريخ على الأقل) مبدأ التكوين العلمي لطالب التاريخ، وهي لائحة يتحمَّل وِزرها وكيل الكلية — عندئذ — حسنين ربيع.

وحاول صاحبنا أن يوجِد لقسم التاريخ مكانًا في الوسط الأكاديمي الوطني والعربي والدولي، ويقضي على ظاهرة «الدكاكين» و«الشلل» التي سادت قسم التاريخ على مر السنين، فوضع خطةً ذات اتجاهَين؛ أولهما: تنظيم «سيمنار للتاريخ» يجمع بين مختلِف فروع التخصُّص على صعيد واحد، يُعقَد مرتَين في الشهر، وتُدعى إلى الاشتراك فيه باقة من أصحاب الاختصاص بمختلِف الجامعات، ويُدعى له كذلك الزائرون الأجانب والعرب، ويشجَّع شباب الباحثين على المشاركة فيه. وعندما حقَّق السيمنار قدرًا ملحوظًا من النجاح، أصبح أسبوعيًّا. أمَّا الاتجاه الثاني فعقد ندوة على مدى ثلاثة أيام كل عامَين، كانت أُولاها عن «مصر وعالم البحر المتوسط»، حضرها مشاركون من أوروبا والوطن العربي، وكانت الثانية أوسع وأكبر حجمًا عن «العرب في أفريقيا»، شارك فيها عدد أكبر من العرب والأجانب إضافةً إلى نخبة متميِّزة من المصريين. أمَّا الموضوع الثالث فكان «العرب وآسيا»، وتمَّ عقد الندوة بعد ترك صاحبنا لرئاسة القسم بشهور. وتمَّ نشر أعمال ندوة البحر المتوسط، وندوة العرب في أفريقيا في كتابَين ضمَّ كل منهما البحوث التي قُدِّمت إلى الندوتَين.

وقبل انتهاء مدة رئاسته الثانية للقسم، أصدر مجلة «المؤرخ المصري»، وصدر العدد الثاني منها قبل نهاية مدة رئاسته للقسم، التي كانت نهايةً لسيمنار التاريخ؛ لأن خلفَه في رئاسة القسم لم يرتح لهذه «البدعة»، التي تمثِّل تبديدًا للجهد «دون عائد مادي»! واختفت الندوات السنوية بعدما أصابها الهزال، واستُخدمت لتملُّق السعوديين والخليجيين ووُجهت لخدمة المصالح «المادية» الشخصية لمنظِّمها. ولكن حافظ رئيس القسم على مجلة «المؤرخ المصري» بعدما تحوَّلت إلى مصدر للكسب، تُنشر فيها بحوث أعضاء هيئة التدريس السعوديين والخليجيين مقابل مبالغ معينة تُدفع بالدولار. كما أصبحت المجلة تُفرض فرضًا على الطلاب، وتدهورت قيمتها العلمية بعدما أصبح التحكيم فيها شكليًّا.

واهتمَّ صاحبنا أثناء رئاسته للقسم برعاية المعيدين وشباب الباحثين، ومعاملتهم معاملةً أبوية، وبث قيم التنافس والتعاون العلمي بينهم، والاعتزاز بالكرامة، والتمسُّك بالتقاليد العلمية الجامعية المتعارف عليها، والحرص على التعبير عن الرأي بحرية، حتى إن بعض زملائه اتهمه بخرق القاعدة الذهبية التي تقول بضرورة الاحتفاظ بمسافة واسعة بين الأستاذ وتلاميذه، وحذَّره من سوء عاقبتها على «هيبة الأستاذية»!

ولكن صاحبنا شعر بالأسى والأسف؛ لأن معظم أولئك الذين ربَّاهم على تلك القيم قبلوا أن يُعامَلوا بامتهان وإذلال دون احتجاج، واتخذ معظمهم موقعه في لعبة التشرذم والتحزُّب التي عادت إلى القسم في عهد خلفه، حتى من كَوَّنهم في تخصُّصه لم يحقِّق الكثير منهم أمله فيهم، فتحوَّلوا إلى باعة للمذكِّرات والملخَّصات، وملخَّصات الملخَّصات، ونماذج الأسئلة والإجابات، رغم أن معظمهم قضَوا سنوات طوالًا في الإعارة، كفتهم مئونة الحاجة إلى التكسُّب عن طريق مجاراة الفساد.

فالعبرة — على ما يبدو — بالمُناخ الذي عاشته الجامعة في العقد الأخير من القرن العشرين، وخاصةً النصف الثاني من ذلك العقد، من حيث تردِّي مستوى الأداء بين أعضاء هيئة التدريس، وتفكُّك الروابط الجامعية، وتحوُّل الجامعة إلى «مدرسة» عليا، واختلال معايير تقييم أعضاء هيئة التدريس بلجان الترقيات. أو بعبارة أخرى، انعكاس الفساد الذي تفشَّى في المجتمع على الجامعة، هذه كلها عوامل بدَّدت حلم صاحبنا في أن يقدِّم للجامعة كوادر من نوع جديد، قادرة على مواكبة التطوُّر العلمي في عالم سريع التغيُّر، فقد شدَّت منظومة التخلُّف الذي عانته الجامعة أولئك الكوادر إلى دائرتها المفرغة، وغلب نداء المصالح الشخصية الآنية على مبدأ الصالح العام، بل اختلطت الأوراق فأصبح العمل من أجل المصلحة الشخصية يُبَرَّر باعتباره «خدمةً» للصالح العام.

قليل ممن دخلوا القسم على يدَيه تنزَّهوا عن الغرض، وسلموا من وباء الانتهازية، وتمسَّكوا بالقيم الجامعية الأصيلة، والتفاني في خدمة وطنهم من خلال أدائهم لرسالتهم الجامعية، على رأسهم عُبادة كُحيلة. ولكن هؤلاء عانوا من الاغتراب في مُناخ ملوَّث بالفساد، وصبروا على ما تعرَّضوا له من متاعب، وكافحوا من أجل الإصلاح، وخسروا الكثير من المزايا المادية التي جناها المنافقون الانتهازيون الذين حدَّدوا مواقفهم حسب البوصلة التي تحدِّد اتجاه العناصر التي أدارت القسم والكلية والجامعة.

لم يكتفِ صاحبنا بإعادة هيكلة القسم في السنوات الست التي أدار فيها شئونه، بل استعان ببعض الأساتذة البارزين بالجامعات الأخرى للتدريس في السنوات الأولى من فترة رئاسته لسد الفراغ الناشئ عن تقلُّص هيئة التدريس للأسباب السالفة الذكر. وكان الحرس القديم الذي ترك القسم مستقيلًا للعمل بجامعات الخليج، والذين تجاوز غياب بعضهم خمسة عشر عامًا، استبدَّ بهم القلق لِمَا شهده القسم من بناء جديد لهيكله الأكاديمي، فقد كان أملهم أن يلعب القسم بالنسبة لهم دور المؤخِّرة التي يتقهقرون إليها عندما تستغني تلك الجامعات عن خدماتهم، بحجة وجود «حاجة» شديدة إليهم لعدم وجود أعضاء هيئة تدريس بالقسم تكفي لتحمُّل أعباء التدريس به؛ ولذلك حاولوا — غير مرة — إحباط مساعي صاحبنا لاختيار بعض العناصر التي كان القسم في أمس الحاجة إليها، ولكنه نجح — في معظم الحالات وليس كلها — في إحباط مساعيهم.

رغم ذلك لم يُغلق أبواب القسم أمام من عاد منهم طالبًا التعيين كأستاذ غير متفرِّغ، فسارع إلى تلبية طلباتهم، وحرص على أن ينال كلٌّ منهم الاحترام الواجب. وتحمَّل بصبر جميل التصرُّفات غير اللائقة التي بدرت من بعضهم، فقد كان يدرك تمامًا أن عجلة التطوُّر قد دارت إلى الأمام، ولا يملك أحد إيقافها. ورغم كل السلبيات التي بدت بعد تركه لرئاسة القسم، وعودة الأمراض القديمة مرةً أخرى بمساعدة الحرس القديم، إلا أن شكل القسم تغيَّر — نسبيًّا — بصورة واضحة.

وهكذا كانت جهود صاحبنا لإعادة بناء الهيكل العلمي للقسم تلقى درجات مختلفةً من المعارضة الصريحة والخفية على حد سواء؛ أي محاولة وضع العقبات أمام صنع القرار في مجلس القسم، أو حشد بعض العناصر من أعضاء مجلس الكلية لإعاقة اتخاذ المجلس لقرار أفلت من حصارهم في مجلس القسم نتيجة موافقة الأغلبية عليه، وهي صعاب أكسبت صاحبنا قدرةً على المناورة التي وظَّف فيها معرفته الدقيقة بالقوانين واللوائح الجامعية، واستخدام السوابق المناظرة حتى لو قدم بها العهد.

ولكن أغرب ما واجهه صاحبنا المعارضة المستميتة من جانب بعض عناصر الحرس القديم لانتداب أستاذ مرموق في تخصُّصه للتدريس بالقسم، هو الدكتور يونان لبيب رزق لكونه قبطيًّا، وبلغ الاعتراض حد الصدام بين صاحبنا ومحمد محمد أمين الذي هاج وقال لصاحبنا إن الله لن يغفر له هذا الجرم؛ لأن الأستاذ سوف يكيل الدرجات للمسيحيين على حساب المسلمين. وكان صاحبنا شديد الصرامة في مواجهة عنصرية هذا الزميل ومن كان يسانده من طرف خفي، على طريقة «وما له … مفيش داعي نعكر جو القسم … فيه غيره كثير … ليه نخسر بعض على مسألة زي دي.» فأعلن صاحبنا لهما بوضوح أنه لا يقبل التمييز بين المصريين، وأنه مستعد أن يخسر القسم كله، ولا يضحِّي بمبادئه التي تربَّى عليها.

وفي نهاية العام الدراسي، حرص محمد محمد أمين على المطالبة بأن تُسند إليه لجنة رصد درجات الامتحان للفرقة التي قام يونان لبيب بالتدريس فيها، وعندما فرغت اللجنة من عملها، جاء إلى صاحبنا معتذرًا عمَّا بدر منه من اعتراض على انتداب الأستاذ؛ لأنه اكتشف أن معيار تقييم الطلاب عنده لم يختلف عنه عند غيره. ولم يقبل صاحبنا الاعتذار، بعدما لقَّن الرجلَ درسًا في الأخلاق.

وتكرَّرت نفس المشكلة بصورة أخرى؛ فقد كان بين أوائل الخريجين بدفعة ١٩٨٦م طالبة قبطية كان ترتيبها الثاني بين ثلاث خريجات حصلن على تقدير جيد جدًّا. وكان صاحبنا يتولَّى التدريس للفرقتَين الأولى والرابعة، فيهتم في الفرقة الأولى باكتشاف العناصر المبشِّرة بين الطلاب من خلال مناقشاتهم معه، وأدائهم. واعتبارًا من الفرقة الثانية يتابع كلًّا منهم، فمن استمرَّ واعدًا في الرابعة يهتم بتشجيعه ورعايته. وكانت الخريجات الثلاث من بين من تابعهم ورعاهم من طلاب الدفعة، واطمأنَّ إلى أنهن يمثِّلن خامةً جيدة تصلح للتكوين العلمي، فتقدَّم إلى مجلس القسم باقتراح تكليف الطالبات الثلاث معيدات بالقسم، على أن تكون الأولى والثانية في فرع التاريخ الحديث والثالثة في فرع التاريخ الإسلامي.

وهنا اعترض حسنين ربيع (أستاذ تاريخ العصور الوسطى ووكيل الكلية عندئذ) على تعيين معيدتَين بالتاريخ الحديث طالبًا الاكتفاء بواحدة، وعندما نبَّهه صاحبنا إلى أنه أستاذ التخصُّص وهو الأدرى بحاجته، انفعل ربيع وقال إن القسم تخلَّص من هؤلاء قبل ما يزيد عن خمسين عامًا، فلا يجب أن يُسمح لهم بدخوله على يدَي صاحبنا، وكان يقصد التخلُّص من عزيز سوريال عطية عام ١٩٤٤م، بنقله إلى آداب الإسكندرية، وعندما ضاقت به السبل هناك، هاجر إلى أمريكا، وأصبح من أعظم علماء العالم، ويُعَد برنارد لويس (أستاذ ربيع) نكرةً مقارنة بعزيز سوريال عطية. ولم يكن باستطاعة صاحبنا أن يدع الأمور تأخذ هذا المجرى دون وقفة حازمة بيَّن فيها مدى الخسارة التي لحقت بالقسم نتيجة التخلُّص من عزيز سوريال عطية، وتدهور التخصُّص على أيدي من خلفوه. وأن المعروض تعيين معيدة يحتاج إعدادها إلى ما قد يصل إلى عشر سنوات لتصبح مدرسةً بالقسم، وأنه لو وجد أستاذًا قبطيًّا يرغب في النقل إلى القسم سوف يحارب من أجل ضمه للقسم إذا كان على درجة كافية من الكفاءة. وعند التصويت على قرار التكليف وافق الجميع ولكن ربيع لزم الصمت، فلم يعترض ولم يوافق.

تحسَّب صاحبنا لموقف ربيع؛ فهو يعرفه جيدًا منذ وطئت أقدامه القسم معيدًا بالماجستير، وكان ربيع — عندئذٍ — مدرسًا عاد لتوِّه من البعثة بلندن، ويعرف أيضًا طرقه في الدس، وحشد بعض من هم على شاكلته من أعضاء مجلس الكلية لإحباط مساعي صاحبنا لتطوير القسم. وكان يدرك — تمامًا — أنه بحكم موقعه كوكيل للكلية سوف يدبِّر مكيدةً ما لمنع قرار تكليف الطالبة القبطية.

وقبل انعقاد مجلس الكلية بيوم واحد اتصل صاحبنا بمديرة مكتب عميد الكلية يسألها عن جدول أعمال المجلس، وعمَّا إذا كان قد أدرج فيه تكليف المعيدين، فردَّت بالإيجاب، فسألها عن أسماء من رشَّحهم قسم التاريخ، فذكرت اسمَين فقط، ليس من بينهما الطالبة القبطية، ولمَّا سألها عن سبب عدم إدراج اسمها تنفيذًا لقرار القسم المبلَّغ رسميًّا للعميد، قالت إن الدكتور ربيع ذكر أن القسم يرجئ ترشيحها لمزيد من دراسة الموضوع، فاستجاب العميد له.

كان هذا التصرُّف من جانب العميد مخالفًا تمامًا للقانون؛ لأن قرار مجلس القسم يجب عرضه على مجلس الكلية كما هو دون تغيير أو تبديل، ولمجلس الكلية وحده سلطة الاعتراض مع بيان أسباب موضوعية لذلك، كما أن التقاليد الجامعية تقتضي أن يراجع العميد رئيس القسم إذا شاء في أي قرار يصله من القسم، فإذا تمسَّك رئيس القسم بقرار القسم، وجب عرضه على مجلس الكلية كما هو.

كان الموقف دقيقًا للغاية، فإذا مرَّت جلسة مجلس الكلية دون تكليف الطالبة المعنية، كان من الصعب تدارك ذلك في جلسة أخرى بعشرات الحجج، منها ما أثاره ربيع بمجلس القسم من الاكتفاء بمعيد واحد في التخصُّص، فتضيع القضية المبدئية التي يراها أساسية، وتختفي العنصرية والتعصُّب وراء ستار «الصالح العام».

هنا قرَّر صاحبنا أن يلقِّن العميد (عبد العزيز حمودة) درسًا قاسيًا، فكتب على الفور خطاب استقالة: «من خدمة جامعة مبدؤها التمييز بين المصريين على أساس الدين، ودينها التعصُّب الأعمى.» وأوضح أن استقالته إنما جاءت احتجاجًا على تلك الواقعة، وطلب من العميد رفع الاستقالة إلى السلطات الجامعية. وأرسل خطاب الاستقالة إلى مكتب العميد دون وضعه في ظرف، ليُسلَّم على «السركي». وكان القصد من ذلك أن يقرأه كل من هب ودب قبل أن يقرأه العميد نفسه، وأن تُطيِّر «وكالة أنباء النميمة» الخبر بين ربوع الكلية. فإذا رُفعت الاستقالة إلى السلطات الجامعية لا يمكن قَبولها — بحكم القانون — إلا بعد إجراء تحقيق في الأسباب الواردة بها.

بدأ صاحبنا يجمع أوراق مكتبه استعدادًا لمغادرته، ولم تمضِ أكثر من نصف ساعة حتى وجد عبد العزيز حمودة أمامه وبيده خطاب الاستقالة، وقال لصاحبنا: «إنت عاوز توديني في داهية. أنا ما لي؟ … إن شاء الله تعين عشرة أقباط، أنا ما عنديش مانع.» ومزَّق خطاب الاستقالة، وذكر له أنه فهم كلام ربيع معه عن هذه الحالة أنه تطوُّر تالٍ لقرار القسم، وأنه تحدَّث بناءً على تكليف من صاحبنا.

ومرَّ الموضوع بمجلس الكلية، وأصبحت هناك معيدة قبطية بقسم التاريخ لأول مرة في تاريخه، أصبحت مدرسًا بالقسم بعد حصولها على الدكتوراه بعدما بذل صاحبنا جهدًا في تكوينها وإعدادها. ورغم أن ربيعًا تسلَّق مناصب الجامعة، فكان عميدًا للكلية ثم نائبًا لرئيس الجامعة، إلا أنه لم ينسَ لصاحبنا ما فعله بالقسم من «تشويه» (من وجهة نظره)، وظل يتخذ دائمًا في كل مسألة الموقف المعارض له. فعندما فضح صاحبنا حامد زيان، وضغوطه على أعضاء هيئة التدريس أثناء رئاسته للقسم لتحصل ابنته على أعلى الدرجات ويتم تعيينها معيدة، كان الموقف الطبيعي لربيع في صف الفساد، ولعب الدور الأكبر في الحيلولة دون فتح تحقيق في الموضوع الذي كانت أدلته واضحة، مستغلًّا في ذلك صلته الشخصية بنجيب الهلالي جوهر رئيس الجامعة الذي اتخذ منه مستشارًا له، فتمَّ تعيين ابنة رئيس القسم، ولم يعد أمام صاحبنا والعناصر الشريفة من أساتذة القسم سوى اللجوء إلى القضاء.

كذلك حرص ربيع على إعادة ترتيب أقدميات الأساتذة بما يمكِّنه من الهيمنة على القسم من خلال من ساق إليها التلاعب بالأقدميات رئاسة القسم، فاستغلَّ رئاسته للجنة العلمية لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين، وكانت لجنةً سباعية عيَّن أعضاءها وحدَّد شخص رئيسها وزير التعليم العالي. من ذلك تعطيل البت في ترقية عُبادة كُحيلة إلى درجة أستاذ (رغم ورود تقارير الفاحصين بجدارته للترقية) عدة أشهر بحجة استيفاء شرط النشر لأحد الأبحاث المقدَّمة، وهي حجة غير صحيحة حتى تمَّت ترقية ليلى عبد الجواد التي تقدَّمت بعده بما يزيد على الشهر، وبذلك أصبحت الأقدم وتأهَّلت لرئاسة القسم. على حين حُرم عُبادة كُحيلة من حقه الطبيعي ظلمًا وعدوانًا، بفضل تواطؤ بعض أعضاء اللجنة مع ربيع، وسلبية البعض الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤