يمشي على الماء

جلستْ على الشاطئ ومدت رجليها في الماء. عندما داعبت الأمواج الدافئة قدمها الصغيرة أحست بالراحة تسري في جسدها كله. بعد أن لفَّت وداخت طول النهار، جاءت تستقبل الدفء والأمان، تغسل وجهها المُعفَّر بالتراب، تُبلِّل رأسها الذي أحرقته الشمس، وتملأ القلة لأبيها الراقد في مكان مهجور من الجزيرة الغارقة في الظلام. رفعت رأسها قليلًا وأخذت تنظر للماء، فتحت عينيها وأغلقتهما، ثم عادت تفتحهما وهي لا تُصدِّق؛ كان يقترب منها شيئًا فشيئًا، ارتفع كعمود من الدخان، ثم تكور على نفسه مثل كرة من الضباب، وبدأ يتضح له رأس وجسد وقدمان؛ ما أغرب هذا! والقدمان تسيران على الماء، والرأس تزينه عمامة خضراء! عندما اقترب ووقف الكيان الشاحب أمامها نورًا في نور ذُعرت وأرادت أن تفر، أن تقذف القلة في الماء، أن تصرخ وتنادي النائمين؛ لكنه بإشارة من يده دعاها للاطمئنان: السلام عليكم عباد الله!

تلفتت حولها، لا أحد يسمعها إن صاحت، لا أحد يُنقِذها، لمس الصوت المُطمئن أذنيها، مسح على وجهها، نفذ من لحمها: ماذا تفعلين هنا يا صغيرتي؟

رأت الوجه الطيب كشمس صغيرة تُسلِّط نورها عليها، أبصرت العمامة الخضراء تُحيط بها هالة من النور، لاحظت العينين تُشِعان بالهدوء، قالت خائفة: من أنت يا سيدنا الشيخ؟

لاحت ابتسامة على الفم النوراني، انكشفت أسنان بيضاء كأسنان الملاك: قولي يا مولاي.

الجزيرة ساكنة وراءها، الناس ناموا وهم الآن يحلمون، لا شيء يُسمَع سوى صوت كلب ينبح في عناد، أو بكاء طفل أفزعه كابوس.

– من أنت يا مولاي؟ ماذا تريد مني؟

ضحك الروح كثيرًا، خاف أن تُسمَع ضحكته أو تُوقِظ الصياد النائم في قاربه البائس مع زوجته وطفله، فوضع يده النورانية على فمه المبارك: لا أجيب إلا على سؤال واحد!

قالت الصغيرة مسرعة: ومن أنت؟

قال وصوته ما يزال يترجرج بالضحك: ألم أقل: يا مولاي؟

صاحت، وكادت تندم، فكتمت صيحتها فجأة: من أنت يا مولاي؟

– روح من السماء، جاء إليك يا حبيبتي.

ضحكت، كانت ضحكتها طائشة وسؤالها أكثر طيشًا: لي أنا؟

قاطعها الروح النوراني كأنه يُعيدها إلى العقل: نسيت سؤالك الآخر؟

أرادت أن تضحك من جديد، خشيت أن يغضب منها أو يتلاشى من أمامها: وماذا تريد مني؟

قال في صوت مهيب: ما تريده السماء من الأرض، والنور من الظلام، والحقيقة من المظهر، واللاهوت من الناسوت!

ضحكت الصغيرة بلا خجل، خشي أن تسترسل في الضحك، فأسرع يسألها: أين كنت طول النهار يا حبيبتي؟

قالت وهي تضع يدها على فمها، وتحاول أن تُخفِي وجهها بيدها: مولاي روح من السماء ولا يعرف؟

أسرع يقول في ثقة: كنتِ مع أبيك؛ أرى هذا على وجهك وملابسك.

قالت الصغيرة: وقدمي التي التهبت من المشي على الأسفلت، وصوتي الذي بُح من النداء على خلق الله.

فسأل: وماذا كنت تقولين؟

قالت في خبث: ما يقوله شحاذ على باب الله.

قال في عطف: كلنا على باب الله يا حبيبتي، كلنا على باب الله.

قالت: حسنة لله يا محسنين، الأجر والثواب على الله.

قال مُكمِّلًا: عشاء الغلابة عليك يا كريم، حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة …

قالت في حزن: من سنين ونحن على هذه الحال يا مولاي.

قال وهو يرفع يديه للسماء: فرجه قريب يا ابنتي، فرجه قريب إن شاء الله.

قالت ساخطة: دخنا في بلاد الله يا سيدنا الشيخ، زهقنا من اللف على الأبواب. تمتم بصوت لم تسمعه، غاب في الجلالة ثم قال: قلت لك فرجه قريب يا ابنتي. قلت لك فرجه قريب.

قالت باكية: أبي مرض وشاخ، وأنا تعبت يا مولاي.

قال كأنه يكلم نفسه: الطعام للجوعان والماء للعطشان. ثم كأنه يأمرها: توبوا عن الشحاذة.

أجابت في استسلام: ومن أين نأكل يا مولاي؟

قال: قولي لأبيك: مولاي يُوصيك بتقوى الله، مولاي يأمرك أن تتوب عن الشحاذة.

سألت: وماذا يفعل؟

قال: قولي له يضع عصًا على أنفه، ستقف هناك بإذن الله.

سألت ضارعة: كلامك صعب يا مولاي!

قال مبتسمًا: رزقك في رجليك يا صغيرتي، ورزقه في عصاه.

ضاقت بكلامه فسألته أن يُوضِّح ما يريد. ابتسم ابتسامة نورانية حتى ظهرت أسنانه الطاهرة البيضاء، رفع يديه إلى السماء ومشى أمامها على الماء، ثم تمتم قبل أن يُدير لها ظهره ويتلاشى: فرجه قريب، فرجه قريب.

راحت أيام وجاءت أيام، ماتت ناس وعاشت ناس. ولما أقبلت على الشاطئ وكان في قدميها حذاء جميل، وعلى جسدها النحيل فستان بلا رقع ولا ثقوب؛ وضعت يدها على خدها، وراحت تنظر إلى الماء، ولم تمضِ لحظات حتى أحست بحركة في الماء، فرفعت وجهها؛ لترى طلعته النورانية أمامها. قالت في لهفة: مولاي، أين أنت من زمان؟

أجابها في اطمئنان: في ملكوت الله يا حبيبتي، في ملكوت الله.

قالت في عتاب: ولا تسأل عنا يا مولانا؟

قال: الله رحيم بعباده يا ابنتي، ما من حبة في السماء …

قاطعته: دخنا في الشوارع والحواري يا مولاي!

سألها: ألم أقل لكم: توبوا عن الشحاذة؟

قالت مُكمِلة: تبنا عنها يا مولاي.

قال في فرح: ألم أقل لك: فرجه قريب؟

قالت في أسًى: معك حق، ولكن …

قال: ولكن ماذا يا ابنتي؟ الرزق في أقدام الساعين!

قالت والأسى لا يزال يملأ صوتها: الرزق انقطع يا مولاي.

قال في إشفاق: رزق الله لا ينقطع يا حبيبتي؛ ماذا حدث؟

قالت: عملنا بوصيتك يا مولاي؛ بدلًا من أن يتوكأ أبي بعصاه وضعها على أنفه. في أول يوم صفق له الأطفال والكبار وأعطوه ما فيه النصيب، في اليوم الثاني بدأ الناس يقولون: الرجل المُدهِش العجيب. ربينا الزبائن في القهاوي والخمارات، اشتهرنا في الشوارع والأسواق والحارات، عرفنا الناس في السيدة والحسين، وصفقوا لنا في رمسيس والتحرير.

قال الروح السماوي: ألم أقل لك: فرجه قريب؟

قالت: انتظر.

سألها: ماذا حدث؟

قالت مُتفكِّرة: بدأ الناس يضيقون بنا؛ كلما رأونا صاحوا: أوه! يا عالم بطلوا شغل الشحاذة!

قال مُتعجِّبًا: لكنها ليست شحاذة، هذا فن.

قالت: وماذا ينفع من غير حظ؟ قلنا نجرب طريقة جديدة.

سألها: بإذن الله تنجحون. ماذا جربتم؟

قالت: بدأ أبي يترك العصا لي.

سألها في لهفة: مُوفَّقة بأمر الله.

قالت: قلت لك انتظر؛ كلما حاولت أن أضعها على أنفي أو جبهتي كان الناس يضحكون.

قال: الضحك يُحنِّن القلوب بإذن الله.

قالت: لكن أبي بدأ يُجرِّب وضع الكرسي على أنفه، يُوقِف الكرسي برجل واحدة على أنفه، ويُميل رأسه للوراء، ويمد ذراعيه في الهواء.

قال وهو يمد ذراعيه يمينًا ويسارًا: طبعًا يا حبيبتي، لا بد أن يفعل الإنسان هذا؛ ليُسنِد الكرسي في الهواء أو ليمشي على الماء، وماذا حدث بعد هذا؟

قالت: أُعجِب الناس في أول الأمر؛ كانوا يُصفِّقون ويهتفون ويقولون «أعِدْ» عشر مرات قبل أن يضعوا أيديهم في جيبوهم.

قال: الدنيا بخير يا ابنتي، والمؤمنون فيها كثيرون.

قالت: انتظر يا مولانا.

قال: قولي يا ابنتي.

هتفت صائحة: لكنهم يملون بسرعة يا سيدنا الشيخ؛ فلم تمر أسابيع إلا راحوا يشتموننا ويطردوننا من الأرصفة والمقاهي والحانات: بطلوا الشحاذة يا ناس، كفاية تهويش يا عالم!

سأل الروح الإلهي: تهويش؟ ما معنى هذا يا حبيبتي؟

قالت في ضيق: يظهر أنك لست في الدنيا يا مولانا!

قال في استعطاف: أنا سابح في ملكوت الله يا ابنتي، الدنيا والآخرة عندي سواء.

استطردت قائلة: المهم ماذا نفعل الآن يا مولانا؟ أبي يشتمني ويقول: أنت السبب.

قال: قولي له: اذكر الله.

سألت: نريد أن نأكل يا مولانا.

قال: من توكل على الله كفاه.

عادت تسأل: هل ندور على الأبواب؟

قال مُستنكِرًا: معاذ الله يا حبيبتي! من جرب الفن لا يسلاه.

قالت برغم حزنها ضاحكة: يقولون الشحاذة فن يا مولاي.

قال: أبدًا أبدًا يا صغيرة، الفرق بين الفن والشحاذة كالفرق بين الجنة والنار.

أرادت أن تسأل مرة أخرى: وما العمل يا مولاي؟ حين سمعته يهتف كأنما نسيها تمامًا وسبح في الجلالة: النار، النار، النار.

قالت تُعيده إلى الصواب: ماذا تقول يا مولانا؟

تمتم بكلماته الغامضة التي لا تفهمها، ثم ابتسم ابتسامته النورانية التي تكشف عن أسنانه الطاهرة البيضاء، وقال: قولي له يُجرِّب النار، ويهتف باسم الله.

سألته: ماذا تقصد يا سيدنا الشيخ؟

قال وكأنه يقرأ في لوح مسطور أمامه: يضع سيخًا في الغاز، ويُشعِل الغاز بالنار، ويُدخِل السيخ في فمه، وينفخ بإذن الله.

عادت تسأل: النار تحرقه يا مولاي؟

قال في سرعة كأنه يُنهِي حديثه، ويتهيأ للانصراف: قلت لك يذكر اسم الله.

سألت لاهثة: لكن يا مولانا النار تُؤذيه، وحياتك شف لنا شيئًا غير النار.

قال مُتبرِّمًا لأول مرة: النار للكفرة فقط، قولي له: يذكر الله.

خيل إليها أنه يريد أن يُودِّعها؛ كان الفجر قد بدأ يُشقشِق في السماء، والعصافير تُصفِّر حولها؛ جرت نحوه حتى كادت تقع في الماء، وهتفت: وحياتي عندك، قل لنا شيئًا آخر غير النار.

قال مُستعيذًا بالله: حقًّا، خُلق الإنسان كنودًا، قولي له: يبلع الحديد والمسامير.

سألت مُستفسِرة: يبلع الحديد والمسامير؟

قال مُودِّعًا: وينفخ في الهواء باسم الله، فتخرج الكتاكيت والأعلام الخضراء والحمراء والبيضاء.

رأته يُدير لها ظهره ويمشي مسرعًا على الماء، فهتفت: وإذا لم تخرج المسامير يا مولاي، إذا لم تخرج المسامير؟

التفت إليها وقال: يذكر اسم الله، يذكر اسم الله.

لم تجد فائدة في النداء؛ كان شبحه النوراني قد تلاشى فجأة كأنما بددته أشعة الشمس التي بدأت تُرسِل حمرتها الوردية في جانب الأفق الشرقي. وقفت تتفكر قليلًا فيما قاله رسول السماء ثم انصرفت.

راحت الأيام وجاءت الأيام، وظلت الصغيرة تتردد على الشاطئ كل مساء على أمل أن تراه، كانت تجلس في مكانها المعهود واضعة يدها على خدها تتفكر فيما حدث لها ولأبيها، وفي بعض الأحيان كانت تُدلي قدميها في الماء — فلم يكن فيهما الآن حذاء — وتتسلى بالأمواج الهادئة التي تداعبها، كانت كلما أحست بحركة في الماء ترفع وجهها الصغير — الذي كساه الآن ذبول لا يُخطئه أحد — فلا تسمع سوى صوت مجداف يلطم سطح الماء، أو طائر يطفو فوقه، أو ضفدعة تقفز منه؛ لكن قلب المؤمن دليله، والأمل في فرج الله — وإن طال — لا يخيب؛ فها هو ذا الشبح النوراني يتجلى لها ذات مساء بعد أن هدأت الأصوات، ونامت الريح، وبدأت الأرواح تتنفس وتنطلق على الأرض وفوق الماء، هتفت حين رأت الشبح الإلهي يتقدم نحوها وقدماه لا تكادان تلمسان سطح الماء: أين أنت يا مولانا؟ أين أنت من زمان؟

قال في صوت عميق: جئت يا حبيبتي فلا تسألي من أين ولا إلى أين؟

قالت باكية: اسمح لي بسؤال واحد.

قال مُتأثِّرًا: ولمَ البكاء يا صغيرتي؟ لمَ البكاء؟

قالت تُغالِب دموعها: لأنك تركتنا يا مولانا، لأنك تركتنا.

قال يُواسيها: الله لا يتخلى عن عباده، ماذا فعلت يا حبيبتي؟

قالت: بل ماذا فعلت بأبي؟

تقدم قليلًا حتى كاد يلامسها، نظر إليها في إشفاق حتى خُيِّل إليها أنه يود لو يشاركها في البكاء، سأل: احكي يا صغيرتي؛ لكن لا تُطيلي فموعدي قصير.

رفعت رأسها إليه كأنها تُشهِده على الدموع التي تنساب على خديها بلا توقف: مات، مات من سبعة أيام.

جفل الروح السماوي قليلًا، بدا عليه أن يُفكِّر فيما حدث دون أن يفهم ما تريد.

قالت: خرجت الكتاكيت والأعلام ولم يخرج الحديد.

سألها في عطف ومد يده المباركة كأنما يمسح بها على رأسها: ألم يذكر اسم الله يا صغيرتي؟ ألم يذكر اسم الله؟

قالت وهي تنشج فيهتز جسدها الضئيل: لا أدري، ولكنه عمل بأمرك.

قاطعها قائلًا: الأمر أمر الله يا حبيبتي، ماذا عمل؟

جففت دموعها وقالت: اشترى السيخ كما قلت؛ يغمسه في الغاز، ويُشعِل النار، ويضعه في فمه، ويصيح: كله بأمر الله.

قال الروح: صدقت يا صغيرتي، كله بأمر الله.

عادت تقول: كان ينفخ بعزمِ ما فيه، فتخرج من فمه طاقة نار، ويُهلِّل الأطفال ويهتف الكبار وتمتد الأيدي للجيوب.

مد الشيخ المبارك يديه إلى السماء، وهتف: الأرزاق كلها على الله.

قالت كأنها تصب عليه ماء باردًا: ولما زهق الناس جرب الأعلام والمناديل.

قال الشيخ مُستبشِرًا: وخرجت الكتاكيت بإذن الله.

قالت ساخطة: خرجت تصيح وتجري على الأرض، والأعلام كانت من كل الألوان.

قال مُشجِّعًا: ثم ماذا يا حبيبتي؟

قالت كأنها تتعجب من جهله: أخذ عساكر البلدية بالهم منه، وراحوا يطاردونه في كل مكان!

سألها مُقاطِعًا: لماذا لم يذكر اسم الله؟

قالت متضايقة: ذكر اسم الله واسم النبي وآل البيت.

وانفجرت بالبكاء كأنها تتذكر شيئًا مُخيفًا، فهبط عليها الصوت العميق الرحيم: أكملي يا صغيرتي.

قالت بعد أن هدأت قليلًا: لكن الحواة ممنوعون، الحكومة تحارب الحواة في كل مكان.

قال وكأنه لم يفهم: إذن فلْيُجرِّب المسامير بإذن الله.

قالت: جرب المسامير؛ رمى السيخ والنار وبدأ يُجرِّب الحديد والمسامير؛ كان يصيح في الشوارع وأمام المقاهي والبيوت: الحديد بأمره يصبح عجين.

قال الروح: صدقت، كله بأمر الله.

قالت كأنها تمنعه من مقاطعتها: وضع المسامير في فمه، هتف بأعلى صوته: كله يصبح عجين. صفق الأطفال وزغردت النساء وصاح الرجال برافو، وبلع المسامير.

قال في لهفة: وبأمر الله أصبحت كالعجين؟

قالت باكية: أبدًا يا مولانا، أبدًا.

سألها وهو يكاد يبكي: وماذا جرى يا ابنتي؟

صاحت غاضبة: دخلت في جوفه.

قالت مُشجِّعًا: وتخرج بإذن الله.

صاحت من جديد بأقصى قوتها: لم تخرج المسامير! لم تخرج المسامير!

ولم يسألها الروح الإلهي شيئًا، أطرق بوجهه المنير إلى سطح الماء، راح يدور حول نفسه ويداه حينًا وراء ظهره وحينًا على جبينه أو على صدره. قالت الصغيرة بعد قليل: وقع على الأرض يتلوى، جريت أبكي على صدره، لطمني على وجهي، وصاح: ابعدي يا بنت الحرام!

قال الشيخ مستغفرًا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وماذا حدث يا حبيبتي؟

قالت: أخذوه على القصر العيني، بعد يومين قالوا لي: أبوك مات.

تأثر الروح الإلهي، اقترب منها، ومد يده يريد أن يمسح بها على رأسها الصغير، أو يُجفِّف دموعها أو يشد على يدها؛ لكنه تذكر طبيعته النورانية، فعاد ينظر حزينًا إلى سطح الماء.

قال بعد قليل: اصبري يا حبيبتي؛ الموت حق الله.

قالت وهي تُثبِت عينيها في وجهه الذي تغمره هالة ساطعة من النور: كله منك.

سأل في صوت ضعيف: كله بأمر الله.

صاحت غاضبة حتى اهتز جسدها كله: كان مالنا ومال الحديد؟

قال في صوت حزين: لا بد من قضاء الله.

صرخت: الحديد دخل جوفه.

اقترب منها حتى كاد يلامسها، انحنى حتى مال وجهه النوراني عليها، بدا كأنه يحاول أن يضمها إلى صدره أو يشدها من يدها أو يمسح على وجهها أو يُقبِّلها، تراجعت مذعورة، ثم أخذت تئن وتنشج وتُنادي شبحه السماوي الذي بدأ يهتز فوق الماء قبل أن يتلاشى كسحابة من الدخان!

(١٩٦٦م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤