سيرة كلب يبحث عن إنسان١

سأحكي لكم حكاية إنسان نُسجت حوله الخرافات والأساطير؛ لا تغتروا كثيرًا بهذه الكلمة الأخيرة، فلم نعرف فيما وصلنا عنه من أخبار مُضطرِبة أنه شُبِّه بالآلهة أو أنصاف الآلهة أو الأبطال، لا بل إن أغلب من تحدثوا عنه قد بخلوا عليه حتى بكلمة إنسان.

فلقد سماه أرسطو المشهور بالكلب، كما أطلق عليه كل من ذكره صفة الكلبي، ولم ينكر هو أيضًا هذه الصفة على نفسه، وإن كان فيما يُروى عنه قد قال إنه كلب من نوع خاص لا يجرؤ أحد أن يصحبه معه إلى الصيد! وعندما مات، وكان هذا منذ أربعة وعشرين قرنًا؛ كرَّمه سكان مدينته فأقاموا له تمثالًا يُطِل على الخليج، وزادوا في تكريمه فوضعوا فوق التمثال كلبًا من المرمر؛ علامة على شخصيته أو على مدرسته! ولكن لماذا نقفز مرة واحدة إلى موته ولا نسير معه خطوة خطوة على طريق حياته المُضحِكة أو المُبكِية؟ لنبدأ إذن حكايته من أولها، ولنحاول أن نفحص الأخبار التي تُؤكِّد أنه كان كلبًا من الأخبار التي تجعل منه إنسانًا!

كان هذا الرجل — ولنتفق الآن مؤقتًا على أنه كان رجلًا مثل كل الرجال — يسمى «ديوجينيس»، كما كان أبوه يُدعى «هيكزيوس»، ولقد وُلد بالطبع كما يُوَلد كل كائن حي، وكانت ولادته في مدينة صغيرة اسمها سينوب على البحر الأسود، لم يهم أحد من الرواة أو المؤرخين بأن يذكر لنا شيئًا عن طفولته، فالطفولة كانت في ذلك العهد القديم — أكثر مما هي اليوم — شيئًا لا يلقى غير الإهمال والاضطهاد؛ ولكننا نسمع على كل حال أنه نُفي مع أبيه عن تلك المدينة الصغيرة لسبب لا ندريه، لعله هو الاختلاس أو تزييف النقود كما يقال!

كما نسمع أنه — حين عاش بعد ذلك في أثينا وأصبح من فلاسفتها المشهورين — ظل ينظر إلى نفسه نظرة الغريب المنفي الذي لا وطن له، كما ظل الأثينيون المُدهَشون يعاملونه كذلك معاملة المنفيين! هل أذكر لكم أبيات الشعر التي قالها في هذا الشأن؟ ولكن لنؤخِرْها قليلًا؛ فقد تكون أليق بشيخوخته العاجزة منها بشبابه أو صباه.

قلت لكم: إن الناس ألِفت أن تُسميه الكلب، كما أن أرسطو العظيم قد ذكر أن ذلك كان اسم الشهرة الذي عُرف به، ولا يجوز أن نشك في كلام المعلم الأول، إلى جانب أن هناك كثيرًا من الأخبار التي تُؤكِّد — كما قدمت — أنه كان حقًّا ينتمي إلى جنس الكلاب، صحيح أنه قيل عنه: إنه ذهب في شبابه إلى معبد دلفي المشهور ليتلقى الحكمة على كهنته، وصحيح أن الكلاب — كما هو معروف — لا تتردد على المعابد ولا يعنيها أن تكون حكيمة أو بلهاء؛ ولكن هذا أيضًا لا يساعدنا على القول بأنه لم يكن كلبًا، ولا يقدم لنا الدليل الثابت على أنه كان من بني الإنسان.

وحتى تلك الحكاية التي تُروى عنه في شبابه وما تزال تُؤثِّر في القلوب إلى اليوم، لا تستطيع أن تحل لنا المشكلة.

فيقال: إنه ذهب في صباه إلى أثينا لكي يتتلمذ على الفيلسوف أنتيستينيس مؤسس مدرسة الكلبيين، ويبدو أن الصبي لم يرُق له فطرده؛ ربما لرثاثة هيئته أو ضعف بصره أو بشاعة وجهه أو شذوذ سلوكه، وألح الصبي على الأستاذ أن يقبله بين تلاميذه، فسحب الفيلسوف العجوز عصاه ليضربه بها ويتخلص منه؛ ولكن الصبي مد له رأسه قائلًا: اضرب! لأنك لن تجد عصًا من الخشونة بحيث تبعدني عنك، ما دمت أُومِن بأن لديك ما تقوله لي. ولا ندري في الحقيقة ماذا قال له الفيلسوف العجوز؟ ولكن لا بد أنه فتح له باب مدرسته على مصراعيه أو فتح له ذراعيه، وقال لنفسه أو قال له: لم أر في حياتي كلبًا أصيلًا كهذا! ولازم التلميذ أستاذه حتى استطاع هو نفسه أن يصبح أستاذًا.

ولكن هل منعته أستاذيته أن يظل كلبًا؟ لنسمع أيضًا هذه الحكاية التي تُروى عنه بعد أن تعلم الحكمة، وراح بعد ذلك يُعلِّمها.

فيقال: إنه كان في رحلة إلى إيجينا، فأسره بعض القراصنة وأرسلوه إلى جزيرة كريت؛ ليُباع هناك مع العبيد في المزاد، سأله المنادي على المزاد بعد أن لاحظ غرابة أطواره: ماذا تحسن من الأعمال؟

أجاب ديوجينيس: حكم الناس.

عاد المنادي يسأل، وربما لسعه بسوطه على وجهه فسال منه الدم: وكيف تريد أن تحكم الناس أيها العبد اللعين؟

فأجابه ديوجينيس في ثبات: بأن أُربِّيهم!

وتصادف في هذه الأثناء أن مر رجل من كورنثة كان يسمى إكسينياديس يرتدي ثوبًا أرجوانيًّا فخمًا، فأشار إليه العبد الفيلسوف قائلًا: بِعني لهذا الرجل؛ فهو يحتاج إلى سيد.

ولما تقدم منه الرجل مذهولًا قال له: عليك أن تُطيعني، وإن كنت عبدًا لك!

سأله الرجل ضاحكًا: وكيف أطيعك، إذا كنت سأشتريك؟ أجابه الفيلسوف المربوط بالأغلال: لأنني سأعلمك، ولذلك سأكون سيدك! ولأنه إذا كان هناك طبيب أو ملاح يعيشان في الأسر فلا بد لكل منهما أن يُطاع!

أُعجِب الثري المذهول بكلام العبد الغريب، وقرر أن يأخذه معه ليُعلِّم أولاده، ولا بد أنه رضي عنه تمام الرضا، فقد قال عنه لأصحابه فيما بعد: إن روحًا طيبًا دخل بيتي، ولا بد أنه ازداد إعجابًا بغرابته وشجاعته حين حاول بعض أصدقائه الذين استمعوا إلى دروسه أن يفتدوه، فقال: إنهم بلهاء؛ لأن الأسود ليست عبيدًا لمن يُطعِمها، بل إن من يُطعِمونها يقعون تحت رحمتها! ولا شك أننا لا نستطيع أن نأخذ كلمة الأسود مأخذ الجد، ولا نصدق أنه كان جادًّا في حسبان نفسه من الأسود، على حين أنه يعيش عند إكسينياديس المذكور معيشة العبيد؛ أعني معيشة الكلاب، ولكننا من ناحية أخرى نميل إلى تصديق ما يقال من أنه — وفاء لكلبيَّته المشهورة — لم يُعلِّم أبناء سيده الجدل أو اللغو بالعبارات العويصة الخلابة، بل علَّمهم كيف يكتفون بفتات الخبز والماء البارد؟ وكيف يسيرون في الشوارع حفاة صامتين، لا يتلفتون حولهم؟

هذه الحكايات — كما ترون — قد تدل على ضعة الكلب ومهانته، أو على تواضع الحكيم وانكساره. وإذا كنتم لا تقنعون به برهانًا على كلبيته فيكفي أن أُوجِّه انتباهكم إلى سلوكه المشهور في شوارع أثينا وحاراتها وأسواقها ومسارحها وعلى سلالم معابدها ومدارسها؛ فربما رأيتم مع بعض الرواة أنه كان كلبًا لا يرقى الشك في كلبيته، ستذكرون أولًا ما قلته على لسانه من قبلُ من أنه كلب من النوع الذي يُثني عليه الجميع؛ ولكن ما من أحد يجرؤ أن يصحبه معه إلى الصيد. إنه إذن — لو صح هذا التعبير — كلب مغرور! ولكن دعكم من كلامه ولننظر في أفعاله.

تخيلوا معي رجلًا أشعث الشعر، رث الثوب — أقول الثوب ولا أقول الثياب — مُتجهِّم الوجه، حافي القدمين، قذر اليدين والأظفار، يحمل جرابًا على ظهره، ويُكشِّر عن أسنانه كلما قابله الأطفال وصاحوا في وجهه: ها هو ذا الكلب! ها هو ذا الكلب! إنه يمشي على الثلج في الشتاء، وينام في أي مكان تحت السماء، ويشير إلى النجوم قائلًا: ها هم أولاء الأثينيون يرعونني ويقدمون لي مكانًا آوي إليه.

يحمل في جرابه رداء يطويه في النهار ويتغطى به في الليل، ويضع فيه زاده القليل الذي لا يزيد عن كسرات من الخبز، ويضع حبات من الزيتون تصدَّقَ بها عليه المحسنون، يحمل في يده صحفة قديمة يأكل فيها ويشرب، بل إنه — فيما يقال — قد استغنى عن هذه الصحفة أيضًا حين رأى ذات يوم طفلًا يشرب من النهر براحة يده، وقال: إن طفلًا صغيرًا قد فاقني في بساطة الحياة. ومع أن هذا القول يُوحي بإعجابه بالأطفال فإنهم فيما يبدو لم يكونوا يتركونه في حاله؛ فربما استرعاهم منظره وهو يسير شبه عارٍ في الشوارع، أو يجلس وحيدًا على قارعة الطريق يلتهم اللحم الطري، أو يقرض العظام التي يُلقي بها الأثرياء من موائدهم، فيلتفون حوله ويصيحون: حذارِ وإلا عضنا. فيرد عليهم قائلًا: لا تخافوا يا صغار؛ فالكلب لا يأكل البنجر!

ولا بد أنه سئم تعقب الأطفال له أينما ذهب، أو سخرية النساء والأغنياء به كلما شاهدوا هيئته الزرية، أو من تأفف الفلاسفة منه كلما سمعوه يتحاور في الفلسفة مع أنه لم يحمل يومًا كتابًا ولا شأن للكلاب بالفلسفة! لا بد أنه سئمهم جميعًا؛ فاختار أن يلجأ إلى برميله المشهور، ينام فيه بالليل؛ ليحتمي من برد الشتاء، أو يتدحرج به في النهار بعيدًا عن أعين الصغار والكبار، حقًّا إن احتماءه بالبرميل كان دليلًا على زهده وقوة إرادته وإيثاره شظف العيش؛ ولكن هل خلصه من الناس أو منعهم من أن يُطلِقوا عليه صفة الكلب؟ العكس هو الصحيح؛ فقد أصبح البرميل علَمًا عليه، وزاد بالطبع من اهتمام الناس به، ومشاكسة الأطفال له، وجذب الغرباء والمُتطفِّلين إليه! ولا نستطيع أن نعرف الآن إن كان التجاؤه إلى هذا البرميل المشهور فرارًا من أعين الناس وحبًّا في الوحدة والانفراد، أو كان رغبة منه في الخلو إلى نفسه والتعمق في ظلماتها ومتاهاتها! وهل كان ذلك لزهده في الظهور أمام الناس، أو كان إمعانًا في الظهور وحبًّا في الاستعراض كما نقول اليوم؟

لا ندري على وجه التحديد! والمهم أنه وضع نفسه في البرميل، وراح يتدحرج به على الثلج أو فوق التراب كلما احتاج إلى الحركة؛ لقد أراد أن يقول للناس: لقد استغنيت عنكم واكتفيت بنفسي، تركت الكوخ والبيت، سئمت المعبد والمسرح، زهدت في الظهور أمامكم بثيابي المتسخة المُمزَّقة التي تُؤذي ذوقكم وأبصاركم، فاتركوني أعيش في برميلي في هدوء!

ولكن هل تركوه حقًّا يعيش حياته في هدوء؟ وهل كان هو نفسه يريد أن يتركوه وينسوه؟ لقد ظلوا مع ذلك يسمونه الكلب، بل إن حياته في البرميل المشهور قد أكدت لهم كلبيته أكثر من أي شيء سواه، ويظهر أنه يئس من زوال هذه الصفة عنه؛ فحين أطَل برأسه ذات يوم من البرميل ليرد على من يسأله: لماذا سُمي كلبًا؟ قال له: إنني أهز ذيلي لمن يُعطيني شيئًا، وأنبح من يردني، وأعض بأسناني اللئام والأنذال!

لا شك أن هذه الإجابة تحمل في طياتها قدرًا كبيرًا من التكبر والغرور، وإذا كنا لا نستطيع كما قلت أن نتصور كلبًا مغرورًا فقد نستطيع أن نستثني كلبنا الفيلسوف من ذلك ونقول مع بعض الرواة: إنه كان مغرورًا بحق، وإن كلبيته لم تكن سوى دليل على غروره الفظيع، ربما كان في تجواله في شوارع أثينا بشعره الأشعث المُنسدِل على أذنيه، ومنظره الزري القذر، وجراب الشحاذين على ظهره، وضراوة الوحش في عينيه وتكشيرة أسنانه، أو في دحرجته برميله هنا وهناك بلا هدف معلوم؛ ربما أراد بذلك أن يقول للأثينيين: لست كلبًا؛ بل أنتم الكلاب! إنكم تحرصون على التقاليد، وتُذِلون أنفسكم لجمع المال، وتتباهون بالثياب الجديدة والمساكن الجميلة، وتُصانِعون الطغاة وتُجامِلون الأغبياء من الحكام والقواد والأغنياء، وتهتمون بثرثرة السفسطائيين والفلاسفة الذين يخدعونكم بكلامهم المُعقَّد المسحور؛ ولكن ها أنا ذا قد زهدت في المال والثياب والحكم والكلام البراق، ها أنا ذا أعيش وحيدًا محرومًا، جائعًا، حافيًا، مُكتفيًا بنفسي؛ فمن فينا الكلب أيها الكلاب؟

ربما لم يقل كلبنا المُدهِش كل هذا الكلام، ولكن النوادر التي تحكي عن غروره وشراسته أكثر من تلك التي تُروى عن ذله وانكساره؛ لقد هاجم الجميع، واحتقر الأثينيين حتى استكثر أن يُسميهم الرجال (لا تنسوا أنه أخذ ذات يوم يصيح مناديًا: يا رجال! فلما تجمع الناس جرى وراءهم بعصاه قائلًا: لقد ناديت الرجال ولم أنادِ الكلاب!)

كما راح يلعن كل فئاتهم ويقول: إن النحويين يُنقِّبون عن عيوب أوديسيوس على حين يغفلون عن عيوبهم، والموسيقيين يُنغِّمون أوتار القيثار على حين يتركون أوتار نفوسهم متنافرة، والفلكيين يُحملِقون في الشمس والقمر في حين لا ينتبهون إلى الأشياء التي في مُتناوَل أيديهم، والخطباء والحكام يُثيرون الضجيج حول العدالة في حين أنهم لا يمارسونها في أعمالهم! ويظهر أنه كان يكره اللغو والجدل أكثر من أي شيء آخر في الوجود؛ فقد راح يتحدث مرة في السوق حديثًا جادًّا فلم يأبه به أحد، فما كان منه إلا أن أخذ يعوي ويُصفِّر، والتف الناس حوله فقال لهم: «تسرعون لسماع اللغو، وتُبطئون عندما يدور الحديث حول موضوع جاد!»

ويبدو أن كرهه للغو والجدل كان سببًا في هجومه المستمر على الفلاسفة، ووصفه لهم — وهذا شيء مُضحِك من كلب مثله — بأنهم كلاب طويلة اللسان! ألم يسمع مرة زينون الإيلي وهو يجادل في الحركة، ويُثبِت بالعقل بطلانها، ويُقدِّم حججه المشهورة عن السهم الطائر والسباق الخاسر بين أخيل والسلحفاة، فنهض من مجلسه غاضبًا، وراح يمشي صامتًا أمام زينون؟ ألم يحتقر أفلاطون الإلهي ويصف محاوراته بأنها مضيعة للوقت؟ ألم يُسفِّه كل معاصريه ويقل عنهم: إنهم بلهاء يُسلُّون بلهاء؟

قد لا يكون كل هذا الهجوم دليلًا كافيًا على غروره بل على تهوره أو قصر عقله؛ ولكن ماذا نقول في حادثته المشهورة مع الإسكندر الأكبر نفسه؟ فيبدو أن القائد الشاب قد سمع قواده أو عساكره يتحدثون بسخرية عن الكلب وبرميله المشهور، فلم تمنعه عبقريته ولا مشاغله من الذهاب بنفسه لزيارته. تصوروا معي القائد العظيم في ردائه الفخم وخوذته الذهبية وقامته الرشيقة ووجهه الناصع المُتفجِّر بالشباب وهو يقف مُتعجِّبًا أمام البرميل وحوله جماعة من قواده وحاشيته. إن الكلب الفيلسوف لا يُحِس به، ويتقدم أحد قواده فيخبط بسيفه على البرميل، ويُطِل بوجهه العجوز محاولًا أن يفتح عينيه اللتين أتعبهما الظلام أو التأمل الطويل في أعماق النفس، ويسأله الإسكندر: ألا تخافني؟

فيسأله بدوره: ومن أنت؟

ويُعجَب القواد من جهله وغبائه؛ إذ يستمر في السؤال: أخيِّر أنت أم شرير؟

ويقول الإسكندر: بل أنا رجل خيِّر.

فيقول ديوجينيس: ومن ذا الذي يخاف الخيِّرين؟

ويغضب القواد، ولكن الإسكندر يُهدِّئهم بإشارة من يده، ويسأله من جديد: أنا الإسكندر الأكبر.

فيرد عليه: وأنا ديوجينيس الكلبي. ويعود الإسكندر يسأل: اطلب ما تشاء.

فيقول قبل أن يختفي رأسه في قاع البرميل: ابتعد ولا تحجب عني ضوء الشمس!

قد يكون في هذا الحادث دليل آخر على حمقه أكثر منه على ذكائه، أو قد يكون دليلًا على أنه كلب حقيقي قد تقمص جسد إنسان! ولكن ماذا تقولون في حادث آخر ربما يزيد في شهرته عن لقائه مع الإسكندر؟

ها هو ذا ديوجينيس قد شاخ وانحنى ظهره الذي لا يفارقه الجراب المُتسِخ بما يحمل من الصحفة والزاد، وظهرت في يده عصًا يتوكأ عليها ويذود بها عن نفسه الصبية والأطفال. إنه الآن جائع مسكين، يَود لو كان في مقدوره أن يتخلص من هذا الجوع بتدليك معدته الخاوية؛ ولكن الجوع — كما نقول الآن — كافر، والأغنياء في كل مكان باخلون، وهو مضطر أن يسألهم الصدقة، بل أن يعَضهم إن لزم الأمر وأصروا على البخل والعناد، لا أحد يريد أن ينسى أنه كلب، لا أحد يمل الضحك عليه وتجنب طريقه، والخوف على نفسه من أن ينهشه حقًّا بأسنانه التي لم تعد تذوق طعم اللحم، بل لم تعد تجد بقايا العظام! صحيح أن بعضهم يردد أقواله عن الحرية والشجاعة والقناعة وجمال الروح الحق، وبعضهم — وبخاصة الفقراء والمُضطهَدون والمُتعَبون من شقاء الأيدي والأجسام، البعيدون عن ترَف الفكر وتدبيج الخطب والكلام الجميل — يجدون العزاء فيما يقوله من أن احتقار اللذات هو أعظم لذة، وأن الطبيعة قد يسرت للناس كل سبل السعادة؛ إلا أنهم لجنونهم يختارون أن يعيشوا تعسين، وأن الحكيم يملك كل شيء، ولذلك فليس في حاجة لأن يملك شيئًا بذاته، وأن الإنسان الحق لا ينتمي لوطن لأن العالم كله وطنه. وصحيح أيضًا أن هؤلاء الفقراء قد سمعوا عن كبريائه إزاء الأغنياء البخلاء، لا بل عن رفضه — وهو الجائع العجوز المحروم — أن يأكل على مائدة الطاغية كراتيروس قائلًا إنه يُفضِّل أن يعيش على حبات الملح من أن يتمتع بطعامه الفخم.

كما استمعوا بإعجاب لا حد له لما قاله حين سئل: إن كان قد تعلم من الفلسفة شيئًا؛ فأجاب بأنه قد تعلم أن يرتفع فوق كل الحظوظ والأقدار، غير أنهم مع هذا العطف والإشفاق كله لم يستطيعوا على كل حال أن يقتنعوا بأنه إنسان مثلهم أو مثل غيرهم من الناس!

صحيح أن كلماته الحكيمة قد أعجبتهم ولمست قلوبهم، فسماه بعضهم كلب السماء، أو «الكلب الإلهي»؛ ولكنه ظل في أعينهم بالرغم من كل شيء الكلب المسكين المشهور. لقد رأوا أن كلبيته كانت تحمل في ذاتها دليلًا صامتًا على وقوفه في صفوف الفقراء والمظلومين واحتجاجًا — من نوع دنيء بالطبع — على غنى الأغنياء وطغيان الطغاة، سمعوه يقول مرة: إن من المستحيل على المجتمع أن يحيا بلا قانون. فأدركوا ولو من بعيد أنه يدين القهر والعسف الذي يعانونه، كما أعجبوا به حين رأوه ذات يوم وهو يهتف بأحد الكهنة وكان يسوق أمامه رجلًا سرق إناء من آنية معبد زيوس: انظروا؛ إن اللصوص الكبار يسوقون اللص الصغير!

كما فرحوا في أكواخهم وبيوتهم القذرة في أطراف المدينة حين سمعوا أنه قال لمن لامه على أنه يؤم الأماكن القذرة: إن الشمس أيضًا تزور المستنقعات، دون أن تدنس نورها.

ربما يكون عطف الناس عليه قد زاد قليلًا مع ازدياد ضعفه وشيخوخته، وربما يكون اسمه الجديد «كلب السماء» أو «كلب الآلهة» الذي أطلقه عليه الفقراء والطيبون قد أرضاه؛ ولكنه مع ذلك ظل شحاذًا جائعًا شريدًا، إنه يسأل فيمنع عنه الناس أيديهم، ويزور موائد الأغنياء فيُلقون إليه بالعظام وهم يضحكون، ويرى الشحاذين يسألون ويعطيهم الناس، فيذهب إلى أحد التماثيل المنصوبة في وسط المدينة، ويمد يديه إليه ويقول لمن يسأله عن سبب ذلك: «لكي أُعوِّد نفسي رفض الناس!»

وقد تحتم عليه حقًّا أن يتعود رفض الناس وبخلهم، ولم تنفعه حكمته التي يُرسِلها في الشوارع والأسواق دون أن يعبأ بتدوينها، ولم يُشبِع جوعه أن يتطفل عليه الفقراء مُشفِقين عليه حينًا، ضاحكين عليه في معظم الأحيان؛ فالأغنياء والحكام مشغولون عنه بالاستماع إلى سقراط وأفلاطون ومشاهير الخطباء والمجادلين.

صحيح أنه كان مع ذلك لا يَعدَم مَن يتصدق عليه بكسرة خبز أو قطعة لحم؛ ولكن جوع المعدة لم يكن في الحقيقة هو مشكلته، إنه يستمتع حقًّا بحب الكثيرين من الأثينيين وعطفهم عليه؛ ولكنهم يسألونه الآن: ما أتعس شيء في الحياة؟ فيقول لهم: عجوز وحيد. وهم يُبدون استعدادهم كلما كُسر برميله أن يُهدوا له برميلًا آخر، وربما عرض بعضهم عليه أن يُقيم في بيته ويُريحه من الجولان وحده في شوارع المدينة؛ ولكن ماذا يجديه هذا كله؟ هل استطاع أحد أن يستمع إليه بحق؟ هل قدَّر أحد أنه ليس شحاذًا كسائر الشحاذين؟ بل هو شحاذ فيلسوف أو فيلسوف شحاذ، يتصدق عليهم بالمعرفة والحكمة مقابل لقم قليلة؟ هل أدركوا أخيرًا أنه جعل من نفسه كلبًا لكي يفهموا أنهم هم الكلاب؟ هل عرفوا حقًّا أن حرصهم على الغنى والشرف والشهرة والأصل واللذة تجعلهم كلابًا آدميين، على حين أن الفلسفة — أي محبة الجمال والخير والحق — هي التي تحفظ الإنسان من أن يصبح كلبًا؟

لا، لم يفهموا ولم يعرفوا ولم يروا شيئًا، وها هو ذا — كما يقول — ما يزال في نهاية عمره كما كان في بدايته شريدًا بلا وطن ولا بيت، ميتًا في بلده، طريدًا يبحث عن خبز يومه! ربما كان هذا هو الذي دفعه ذات يوم عجيب إلى قمة اليأس، وجعله يقوم بتلك الحادثة التي قلت لكم إنها أشهر وأهم من لقائه المشهور مع الإسكندر.

وربما استطعتم أن تشكُّوا بحق في أمر ذلك اللقاء الخرافي؛ ولكنكم فيما أعتقد لن تشكُّوا في أمر هذه الحادثة.

نعم! لقد فُوجئ الناس به في ذلك اليوم وهو يسير عجوزًا وحيدًا يتوكأ على عصاه، ويحمل جرابه على ظهره، ومصباحًا في يده؛ أجل كان يحمل مصباحًا كبيرًا في يده اليمنى المُرتعِشة من الضعف والجوع والعذاب، مصباحًا مُضيئًا في عز النهار. كانت الشمس في منتصف الظهيرة، شمس حامية تُرسِل حُمَمها الخالدة على رءوس الأثينيين الذين يحتمون منها بكل وسيلة.

نعم إنه الكلب بعينه؛ الكلب الفيلسوف الشحاذ يمضي في شوارع أثينا، والشمس في الظهيرة، ومصباحه الزيتي الكبير يتأرجح بشعلته الملتهبة في يده؛ هل جُن هذا الكلب المسكين؟ ألم يكتفِ ببرميله القذر المُنتفِخ فيظهر الآن بمصباحه في ضوء النهار؟ هل شبع من عض الناس بكلماته وأسنانه ويريد الآن أن يحرقهم بناره ودخانه؟ ثم من أين له هذا المصباح والزيت والزجاجة وهو لا يملك ثمن حبة ملح ولا حذاء؟ وما حاجته إليه وهو ينام راضيًا منذ سنين في قاع البرميل؟ ومن أين له هذه الكلمات الفصيحة التي يُطلِقها الآن مع كل خطوة: أين الإنسان؟ أين الإنسان؟

إنهم بعد المفاجأة يتجمعون حوله، وكالعادة يبدأ الأطفال بسؤاله: عم تبحث يا عجوز؟

فيقول: أبحث عن إنسان! أبحث عن إنسان!

وتنقلب الحكاية إلى لعبة، ويبدأ الناس بعد ذهول المفاجأة في الضحك بصوت عالٍ، ثم يُفيق الأطفال ويبدءون بإلقاء الأحجار، وينطلق الصوت أعلى من صوت الضحكات ومن تهشُّم الزجاج: أين الإنسان؟ أين الإنسان؟

لا يدري أحد كيف انتهت جولة ديوجينيس في شوارع أثينا؟ ولا يدري أحد ماذا حدث له في ذلك اليوم العجيب؟

ربما يكون الجنود قد قبضوا عليه ووجدها الحكام فرصة ليستريحوا منه أخيرًا في سجن يموت فيه! أو يكون الأطفال هشَّموا مصباحه ومعه وجهه العجوز وهيكله الفاني، أو ربما يكون المصباح نفسه قد اشتعل وامتدت النار إلى يديه وذراعيه وأكلت بقايا ردائه المُتسِخ!

لا ندري ماذا كان مصيره؟ لكن ما زالت صرخته تتردد تحت الشمس السوداء: أين الإنسان؟ أين الإنسان؟

(١٩٦٨م)
١  المعلومات التاريخية مستمدة من كتاب «سيرة الفلاسفة» الذي ألفه ديوجينيس لايرتيس حوالي ٢٢٠ بعد الميلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤