وقائع يوم أسود

إلى ضياء الشرقاوي في رحاب الله

يوم جديد على عجلة التعذيب، شخص آخر نام في فراشي، أفطر، حلق ذقنه، خجل من النظر في المرآة، تثاءب وهز رأسه، وسأل: متى تكون أنت نفسك؟ بعد ساعة أجلس أمام الميكروفون؛ صوت يخرج من بئر مجهولة، جسد أُنكِره تنظره ألف عين. الأفكار تتوثب من ليلة الأمس لتقفز، تلمع وتخبو كأنوار قوارب صيد بعيدة في بحر مُظلِم: الجوهر، والوعي، والمنهج. الجدل، والكوجيتو والوجود. وجراد الاكتئاب يزحف فأستسلم له، وجرس الرعب البيتي يرن فأنتفض: من؟ ويأتيني صوت الصديق الأسمر فأتصور وجهه المُتألِّم وعينيه الطيبتين ودعاباته بالجيم المعطشة: أهلًا أهلًا، يا صباح الخير.

أنتظر الدعابة المُفاجئة، أتهيأ للهجوم المعتاد؛ للإعلان عن فتح جديد في القصة، لتجديد موعد بعد منتصف الليل، تأتي الإشارة بالصمت حاسمة: خبر سخيف أُبلِّغه لك، لا وقت عندي، لا بد من إبلاغ الآخرين.

تصبح الإشارة لطمة مُباغِتة، إعصارًا يقتلع الشجرة، بين الجنون والذهول ينغرز خنجر الكلمة في القلب، تمتد يد الغريق تستغيث وتتلوى وترفض الكابوس؛ لكن الكلمة سقطت، والموت اخترق الدوامة؛ الموت.

من ثلاثة أيام مر علي، ترك لي ورقة تحت الباب، أذكر السطور الثلاثة المُتعرِّجة، الحروف الدقيقة المائلة، المسافات البيضاء بين كل كلمة وأخرى (ثبت في ذاكرتي من قراءة قديمة في علم الخط أنها علامة لا تخيب على طيب القلب)، روح الطفل المُعذَّب تبتسم وراء كل كلمة، تحمل وعدًا باللقاء القريب، أُعيد قراءتها قبل أن أطويها وأبتسم لمطلعها: إلى عناية … ولربة القدر المُشاكِسة التي مدت خيطًا بعد غيبة أسبوعين فأفلت منا. كنت عنده في نفس اليوم ونفس الوقت، أعدت مجلة استعرتها منه وربَّتُّ بكفي وجه الابن، والحنين كان في القلبين، وسؤال الأصدقاء من الطرفين، ونية اللقاء القريب والحديث الطويل مُشترَكة ومُعلَّقة كالنجم؛ لكن الخيط يفلت. إلهي، أيمكن أن يفلت إلى الأبد؟

أرتدي ملابسي بسرعة، أتحسس سلسلة المفاتيح في جيبي، أطلب مكان العمل لأعتذر، وألعن كل شيء، أستعيذ بالله وأضبط شفتي تتحرك بآيات محفوظة، أرد الباب وأخجل من جسد لا يزال يتحرك ويقفز درجات السلم ويهز الرأس للبواب. العالم ما زال، الشمس تُرسِل ضوءها كما فعلت بالأمس ومنذ ملايين السنين، والجدران قائمة، والناس تتحرك، والعربات تجري، والكلاب تتطلع بعيونها الحزينة الذليلة، وكل شيء … إلهي! لم أنت وحدك؟ كيف أقول عنك «كان»؟ أين تتمدد؟ كيف تنام؟ كيف أُصدِّق!

أقف على محطة الأوتوبيس، أنتظر وأنتظر، المشكلة الأزلية، وأنت هناك، والموعد المستحيل يقترب، أشير إلى تاكسي؛ تتم المعجزة، أُصارِح السائق الشاب بدهشتي، أُلاحِظ وجهه الذابل وعينيه الصامتتين المُنكسِرتين. يهز رأسه مُوافِقًا: زمن المعجزات لم يفت، المعجزة أمام أعيننا، على مرمى من أقدامنا، حولنا وفينا؛ لكنا لا ننتبه، أبدًا لا ننتبه. يلتفت برأسه وينظر إليَّ. أنهال عليه بالشكر وأسترسل في الكلام عن قدرة الله؛ هل تملك إلا التسليم؟ يُؤمِّن على قولي بإطراقة من رأسه، أُناشِده أن يسرع قليلًا، تفلت مني كلمات الموت والجنازة والصديق. يُردِّد في عينيه الواسعتين، تخرج من فمه الكلمات المُعتادة، أخجل من ثرثرتي، أعجب من نفسي: هل قلت الموت؟ هل صدقت؟

والوجه الأبيض الحبيب أمامي؛ مُستدير ومائل باستطالة نحو الذقن الصغير المدبب، مُمتلئ بالحيوية، بدا عليه الإرهاق والسهر، وتحت الحاجبين الأسودين عينان واسعتان يفيض منهما نهر حنان لن أنسى عذوبته، ويتوثب فيهما طموح قلق لا يكف عن المغامرة، وجبهة عريضة عالية أجبرت الشعر أن ينسحب عنها شيئًا فشيئًا لتُواجِه — كصخرة على الشاطئ — أمواج المخاطرة، والفم الصغير المزموم الشفتين تصطرع فوقه المرارة مع خفة الدم الآسرة، والصوت … الصوت الرجولي الخشن الذي يندفع ويعلو ويشق الزحام كصوت القبطان المرح الآمر الذي يُنبِّه البحارة المُتعَبين. هذا الوجه وهاتان العينان وهذا الصوت؛ لِمَ لمْ أعرفها إلا من عام واحد؟

من النافذة الزجاجية ألمحهم واقفين على مُنعطَف الطريق المُنحدِر، أمام السور القديم المتآكل. يتحرك كياني ولا أعرف من يُحرِّكه، كتلة ثقيلة سوداء. يقترب مصطفى مادًّا ذراعيه، طويلًا مُنحني الظهر، كفه اليمنى تصنع السؤال الأزلي، يأخذني بين أحضانه، يُريح رأسه على كتفي اليسرى، يُنهنِه كالطفل. فراغ من حولي، فراغ في داخلي، هاوية تُحيط بي، العين جافة، والدمع لا يستجيب. أعرف نفسي: لم يأتِ الجيشان بعد. القلب أرض خراب، سطح ساكن، لا بد من وقت طويل قبل أن ترتفع الموجة، جربت هذا من قبل. أخجلني وجودي الصخري أمام أمي وأخي. وفي الليل، وحدي، ينهمر الطوفان. هدهدت رأسه وكتفيه، قبَّلت وجهه ورقبته، تلعثمت بالعزاء المحفوظ، السؤال: كيف ومتى وأين عقيم، والكلام لا يشرخ جدار الموت، يرتد إلينا كاللطمة في الوجه، يصرخ شيء فيَّ: هذا وقت الصمت. اللفظ خيانة، والعجز الراقد فيك كقزم عارٍ يتوسل لك: دثرني بالله عليك، برداء الصمت. أتقدم من الواقفين، أرى الوجوه المُربدَّة، والرءوس المدفونة بين الكفين، والسخط العاجز يتأجج في العينين، كبقايا نار تخبو. تُسلِّم في صمت، تخجل أن يشغلنا شيء عنه، نريد أن ننفرد به، نرفض التسليم، مصطفى يأخذني من يدي، يُدخِلني معه في الكابوس؛ صباح الأمس كان في عمله، وهو عائد للبيت مع محمد، شعر برعشة، رغبة في القيء، غمر العرق وجهه، انتفض من البرد، صاحبه للبيت، طمأنه، دوار ويزول بعد الأكل والنوم، وعده بالزيارة مساء (نادرًا ما كان يفعل، أهو الإلهام الأسود، النبوءة تخرج من قلب الفنان بلا وعي؟) وفي المساء — لم تكن الساعة قد جاوزت السابعة — تم كل شيء؛ انهار العالم، وسقطنا تحت الأنقاض.

– وأين هو الآن؟

– يُحضِّر الغسل، لم يتركه طوال الليل.

– قبل أسبوعين كان عندي، إحدى زياراته التي أترقبها وأظل أشتاق إلى مفاجأتها الحلوة، يدخل مسكني المقهور المُعتِم دخول الغزاة، يسبقه الصوت الخشن المشروخ يُجلجِل ويُهلِّل: أهوه! نائم أم صاحٍ؟ دائمًا نُزعِجك! وأُحِس بأن جيوش الفرح تُزاحِمني، تدفعني، تُضيء ألف مصباح في القبو المُظلِم، يهتف: أزعجنا صومعة الحكمة. أضحك: سمعت صوتك فانتحرت من ثالث دور! أتمنى ألا ترجع أبدًا. الحكمة ليل، موت، قبر أحمله حيث ذهبت. نضحك ونضحك. أنظر في عينيه ولا أشبع، أقول لنفسي: هل أستحق كل هذا الحب؟ نصنع الشاي، يمد يده بنفرتيتي، يقول لا بد أن أُصالِحك عليها، أشير له إلى صورتها على الحائط المقابل؛ الملكة أعبدها، أما السيجارة فألعنها، كادت أن تُسبِّب لي سرطان الحلق. نتكلم ونتكلم. أطلب منه أن نبتعد عن النقد، ألعن نقاد العالم فيضحك، أُلِح عليه أن يقرأ لي شيئًا لم يُنشَر. لم يفعل هذا قط، يمنعه الخجل الفطري. أُلِح مرة ومرات. تطلع لي في يأس، يتردد أن يخيب أملي، يمد أصابعه إلى جيبه ليُخرِج ورقة مطوية. أُغمِض جفني وأتهيأ لاستقبال النسمة الرطبة التي تُنعِش التائه في صحراء.

حادث. لم تُرفرِف نحوي الآن هذه القصة الصغيرة الزرقاء؟ ألِأني أنظر فأرى محطة الأوتوبيس القريبة؟ أكان يقف عليها الرجل الأسمر الطويل في جلبابه الناصع الكشمير؟ يُشمِّر كُم جلبابه من حين إلى حين ليمسح حبات العرق المُتصبِّب على جبينه ووجهه، ينتظر في الزحام مكانًا في عربة، يتدافع الرجال والنساء والأطفال وتتدافع العربات، وهو واقف في مكانه يمسح عرقه المُتصبِّب، على صدغه وشم أخضر لأسد أخضر، فوق ذراعه أبو زيد الهلالي فوق حصان أخضر شاهرًا سيفًا أخضر، تُراقِبه فتاة سمينة بيضاء، وسط الزحام يتهاوى على الطوار، يتمدد جثة. يتقدم شاب يفتح صداره الأسود، ينفخ في فمه، يتحسس نبضه، يكشف عن سيف بن ذي يزن يركب حصانًا أخضر ويُشهِر سيفًا أخضر يشطر به فارسًا آخر فوق حصانه، الحصانان والسيفان خضر، وعيون الأسد وأبي زيد وسيف والفارس المشطور نصفين تلمع بالدهشة قبل أن تُغطيها الجريدة، والجثة ترقد وحيدة فوق الطوار، تحت شمس أغسطس اللافحة، وسط العربات والخلق المُتزاحِمين. والصديق الأسمر في البيت يحملك على صدره، يصب عليك الماء الأخير، وعربات الحياة والأدب تمضي ولا تتوقف؛ أهي النبوءة؟ هل كانت تتربص بأصابعك، تُحرِّك سن القلم؟

أتعرف على بعضهم، أذكر أنني رأيت أحدهم مرة، أحاول أن أتذكر، في إحدى دور المجلات أو في ندوة كانت تُعقَد في كازينو على النيل، ربما قرأت له أيضًا، ليته لا يسألني! أقف بجوار شابٍّ يبكي بكاءً مريرًا، أمد يدي وأُربِّت كتفه، أقول كلامًا لا أسمعه ولا أدريه، لم يخرج مني بل من عقل جمعي موروث، أنظر في عينيه المُحمرَّتين كالدم، أُحِس انتفاضة دمعة وشيكة، أحاول أن أُهدِّئه، أن أُعزِّيه. هذا الوجه الطيب المُجِد قبل الأوان، الملامح الريفية الدافئة، جيل الفقر والتمرد والبحث عن الانتماء؛ يُكلِّمني من خلال الدموع كأنه يعرفني. أخجل أن أسأله عن اسمه، أخجل من تقصيري في حقه، أشعر شعورًا غامضًا أنني مُتطفِّل أو غريب. هو وحده الذي كان يجمعني بهم، هو وحده الذي نبهني من سباتي الأكاديمي إلى جهودهم، هل أستحق معاملتهم لي؟ تأتي عربة «فيات» يجلس فيها ثلاثة. خمنت أن السائق هو رئيسه في العمل. كلمه الناقد الصديق وآخر لا أعرفه. ترددت كلمات عن تصريح الدفن وإصابة العمل ومكافأة الشركة ومصاريف الجنازة والهبوط المفاجئ في القلب. ارتعشت تأملاتي الساكنة، اهتزت ربة الحكمة الجامدة: الحقيقة الدموية تنتقل من يد طبيب الصحة إلى يد الصراف. تدخل دفاتر الحسابات والمعاشات والمكافآت والإعانات، أتذكر أبياتًا جاءت في إحدى قصصه:

الحلم وحده، بقوته العنيدة؛
يفتح الطريق الأخير.

وأنت ترقد الآن ومعك الحلم؛ معك وحدك، على حين يتلوى بين أيديهم ويفرك عينيه ويرفض أن يصحو على صوت الأعداد والأرقام. يعود مصطفى من البيت. أسأله عن الأولاد. صغار لا يعرفون؛ رباب تلعب على العربة السوداء، تشد التصادم الخلفي. صغار لا يعرفون؛ أكل وتقيأ ثم نام. قال لزوجته خذي الصغير للدكتور؛ حتى لا يُوقِظنا ليلة أخرى. بعد ربع ساعة عادت من عند الطبيب. الصغار يقفون على الباب ويبكون: تعالي شوفي بابا يا ماما. مُمدَّد على الفراش كما تركته.

لم فعلت هذا؟ لم تركتنا؟

في الحادية عشرة تظهر العربة صاعدة على المُنحدَر؛ العربة السوداء! يرتفع نشيج الشاب الذي كنت أقف بجواره، ينخلع القلب ويشهق وُتعاوِدني الأزمة الصدرية، يتبدد وعيي يتلاشى، يسقط في العدم الفاغر فاه، يحتضنني شاب طويل يضع رأسه على صدري وينفجر بالبكاء. إلهي! كل هذا الحب، كل هذا الوفاء، أضمه بشدة إلى صدري وأفكر: ما زالت الدنيا بخير، برغم كل شيء ما زالت بخير، البركة فيكم يا أولاد، عاش لكم ومات في سبيلكم. تُوزَّع العربات على الحاضرين، أشعر أنها لن تكفي. يشدني الصديق الأسمر لأركب. أقول له: أنت أولى مني. عينه كرة من الدم. يأمرني في غضب أن أركب. يقول مصطفى: إنه سهران طول الليل وعنده القلب. ودائمًا القلب أيها الأدباء، نُتعِبه ويُتعِبنا حتى نسقط. أنظر إلى العربة السوداء، الباب الخلفي مُوارَب. يُفهِمني نبيل أن الشاب المُمسِك به هو شقيقه؛ وجه أبيض مستدير، شعر أسود كث، ممتلئ بعض الشيء. يُفهِمني أيضًا أن عمه بجوار السائق. هو وحده الذي يعرف الطريق. يقول الشاب الطويل الذي لم أتنبه إليه إلا الآن: أمامنا ساعتان. يستطرد نبيل: وساعة حتى نخرج من المدينة الملعونة. يتقدم الموكبَ عربةٌ صفراء في المقدمة، يكتشف صاحبها بعد مسافة قليلة أنه لا يعرف الطريق فيتراجع وراء العربة السوداء، ثم يتراجع وراء عربتنا بعد أن يتفاهم مع السائق على الطريق. أجلس على اليسار بجانب مصطفى ونبيل والشاب الطويل الذي لا أعرفه، أسأل عن صديقنا من السويس، لا بد أنه تأخر في الطريق، أعرف من مصطفى أنه كلمه في السادسة صباحًا. نُردِّد خوفنا عليه من الصدمة؛ لكن لا يمكن أن تفوته الجنازة. سنراه في البلد بعد قليل. سيجد ألف طريقة وطريقة. يصمت نبيل ويدفن رأسه في يده، يُردِّد آيات من القرآن، الحزن الهادئ على وجهه وفي عينيه، حمامة فزعت إلى عش الإيمان، الوجوم يفرش جناحه الأسود فوقنا، بين حين وحين تنفذ سهام الآيات لحم الصمت الأسود. مصطفى يضرب كفًّا بكف، يُطلِق اللجام لحصان التعجب الجاثم فوق صدورنا، يُجري لسانه بنفس الحكاية: ليلة أول أمس كان عندي (هل ينتبه لصدمة «كان»؟) تعشينا وسهرنا طول الليل، أمس ذهب إلى مكتبه خرج مع محمد، في الطريق أحس برعشة، تصبب العرق. أسمع ولا أسمع، أغرز عيني في العربة السوداء التي تتقدمنا، أُلاحِظ الباب المُوارَب وأحاول تبين الوجوه في الداخل، أتوقف عن اللافتة الصفراء، أُردِّد الرقم المكتوب بحروف سوداء: خمسة، ستة، أربعة. تتوه الأرقام وتتداخل وأُعيد ترتيبها. أنظر للعجلات السود؛ للغبار المتصاعد منها، أرفع بصري للأشجار على الجانبين، أسأل: أهي أشجار كافور أو جزورين؟ يُفهِمني الشاب الأسمر الطويل عن الفرق بينهما. أرى صفصافة تميل بشعرها المُتناثِر على جانب الترعة، أقول هذه ندابة مملكة النبات، أتندم على ما قلت وأفكر في إيزيس وشعرها المنكوش على ماء النيل، أُبعِد أشلاء أوزوريس وأُثبِّت عيني على سواد العربة السوداء. تبدأ رءوس الأحاديث تُطِل من جحورها. أتشاغل بالأشجار وأسلاك التليفون والعصافير الواقفة عليها وحقول البرسيم المُنبسِطة تحتها، والحمير والجاموس والبقر بعيونها الواسعة ونظراتها الهادئة السادرة في سعادتها المُظلِمة. وأنت وحدك؛ هل تسمعنا؟ هل تُحِس بنا؟ أين أنت؟

في أحد لقاءاتنا الأخيرة قلت له: أنتم جيل التفاصيل، أُحِس مما قرأت لك ولزملائك — وهو للأسف قليل — أنكم تشهدون على صدق العبارة الحديثة: الفن عين ترى وترصد. هل بعث فيكم الكاتب المصري القديم الذي ينقش حروفًا ومقاطع على هيئة الحيوانات والنباتات والأشياء على ورقة بردي صفراء؟ هل تحبون فنان خان الخليلي — الذي أوشك أن ينقرض — وهو عاكف على طبقه أو مشربيته أو مشكاته بالصقل والتهذيب؟ تُحدِّدون كل شيء وتُتابِعون كل حركة وظل ولمعة ضوء، كل فعل ورد فعل، كل ارتعاشة ورقة أو نسمة أو خلجة. كنا نتكلم عن الأشياء وأنتم تتركون الأشياء تكون ثم تستدعي الكلمة والاسم، اللغة عندنا راعٍ يسوق الأشياء، والأشياء عندكم ترعى اللغة، وتصبح القصة حشدًا من التفاصيل، غابة من الأشياء، هل تعلمتم درس «الظاهريات» لنعد إلى الأشياء؟ أو أطلتم قراءة جرييه وساروت وبوتور؟ إنني أستمتع بهذه اللوحات المُتشابِكة بالخطوط والدوائر والألوان، والخرائط الهندسية الدقيقة للواقع، المُفتَّت المُنهار، والألحان المُتقطِّعة المتعددة الأصوات والأماكن والأزمان؛ لكن لا أكتمك أنني أفتقد الإنسان، أخشى أن يكون قد أصبح شيئًا بين الأشياء، مُشجَّبًا تُعلَّق عليه أحواله وردود أفعاله.

قال: الإنسان عندكم هو المحور والمركز، أنتم رومانتيكيون مهما حاولتم الإنكار. أُؤمِّن على كلامه، أقول عالمكم ليس فيه اختيار، يتساوى فيه التافه والهامُّ؛ لكنه عالم مُحطَّم مُنهار، صحيح أن نظريات الجمال تُؤكِّد هذا، الشعر والموسيقى والرسم والنحت والرواية تُثبِته وتُبرِّره؛ لكنني غير مستريح، أتمنى أن نقرأ ونتعلم ونستفيد، ثم ننسى ما قرأناه كما علَّمَنا نقادنا القدماء. إنني من جيل يُقدِّم الشخص على الشيء، يرفض أن يصبح الأول مجرد أفعال وردود أفعال، يبقى على قيمته، يحاول أن يُنقِذه من كل ما يُدمِّر إنسانيته، من كل ما يلغيه ويُسيء إليه، خصوصًا في مجتمعنا وأمام أعيننا، يرفض أيضًا أن يتمدد الشيء على عرش الوجود، أن يصبح البطل الجديد والمُنقِذ الجديد؛ هل هذا لأن سُم الرومانتيكية استشرى فينا ولم يعد منا شفاء؟ أو لارتباطنا — عن وعي أو غير وعي — بتراث روحي أقوى منا؟ تراث يُؤمِن بدور الفرد في التاريخ، وبينما أصبح العالم عندكم صحراء هائلة تتساوى فيها كل الأشياء، يتجول فيها شبح الإنسان الهائم على وجهه، باحثًا عن ذات وهدف؟ اعترض على كلامي، قال إنني أُناقِض نفسي، أسقط في التعميم، إن أعمالًا كثيرة له ولغيره تخرج عن هذا التعميم، تكلمنا عن الشعر الحديث. أكدت له أن ما قلته عنه كان مجرد أداء واجب ثقافي. ضحك وقال: حيرتمونا معكم! قلت — وكنا بعد منتصف الليل نسير على الأقدام في طريقنا من زينهم إلى الجيزة — إننا نعيش في عالم مُختَل، مُتخلِّف، وأعمالنا تخرج من هذا العالم وتحاول أن تُصوِّره؛ أبطالنا — إن صحت هذه التسمية — كلهم مرضى مثله، معظمهم مجانين أو مُصابون بعقدة الذنب أو باحثون عن المستحيل أو هاربون، كلنا يحاول أن يهرب من هذا العالم إلى الأدب، إلى الماضي الأسطوري، إلى وحدتنا مع اللغة والأشياء؛ ولكن هروبنا نفسه يشير إلى أنه ليس هو الإنقاذ. لو سألتني وأين هو الطريق إليه لسكت؛ فليست وظيفة الكاتب تقديم الوصفات العملية، على القارئ أن يستشفها من بين السطور، وعليها أن تُثيره وتُوحي إليه وتُحرِّكه؛ كل ما أستطيع أن أقوله: علينا ألا ننفصل عن أهلنا، عن آلام بلدنا، لنُجرِّب ونُغامِر ونُخاطِر في كل عمل، لتكن كل قصيدة وقصة ومسرحية مغامرةً نحو المجهول ومقامرة اكتشاف، لتلجأ للرمز أو الطقس أو الأسطورة أو التاريخ، لتُنصِت لما يقوله فم الشعب أو ما تقوله أفواه النقاد والمُنظِّرين؛ لكن لتذكر على الدوام أنها تنشأ في مجتمع مُتخلِّف، قد لا يُحِس بها ولا بنا، نحن نعلم أننا سنعيش منسيين ونموت منسيين، ليس في هذا شيء يُحزِن؛ المهم أن نحمل مجتمعنا البائس المُتخلِّف في داخلنا. آه ما أفظع تخلفه! تكلمنا بعد ذلك عن صوفية الأشياء، عن شعر الجسد، عن موسيقى الأجسام والخطوط والدوائر والظلال والأضواء والألوان. تذكرت «سيدة الأزهار» و«بيت في الريح» و«النمر». ذكرنا «الركض تحت الشمس» و«رائحة الرماد» والدماء التي تسيل في قصص مُستجاب. أكدت أنني تعلمت وأتعلم منها جميعًا، وقبل أن نفترق على موعد طرحت السؤال الذي تردد في الظلام، أمام الباب ووسط نباح الكلاب: وأين نحن؟

تقف العربة فجأة وتقطع ذكرياتي، ينزل نبيل ليسأل عن الخبر، يعود بعد قليل ويقول: تُهنا عن الطريق. ظن السائق أن العم يعرف الطريق، كان عليه أن يسير في طريق بنها-الزقازيق. علينا الآن أن نرجع عشرة كيلومترات؛ يستدير الموكب، الشمس حارقة، والريح راكدة، والسماء والأشجار والأشياء غير مُبالية. غضب سائق العربة السوداء ووجَّه اللوم للعم والأقرباء؛ لكن حرمة الموت تُجبِره على المسير. هو أيضًا لم يكن يزور البلد إلا قليلًا، كانت آخر مرة عندما ماتت أمه. والأب؟ يُجيبني مصطفى ونبيل: عجوز على المعاش؛ كان معلمًا فرئيسًا لمديرية التعليم، لم تكن العلاقة بينهما دائمًا على ما يرام. أفكر في الصراع الأبدي بين الأجيال، في أن معظم الأدباء عانوا من آبائهم وأحبوا أمهاتهم، يُصِرون دائمًا أن يكونوا هاملت أو أوديب. أستحضر وجه أبي الصارم وأترحم عليه، أحن إلى أمي وأترحم عليها. نعبُر جسرًا ثم نخترق مدينة صغيرة، نلاحظ أن اليوم هو يوم السوق، النساء بملابسهن السوداء يفترشن الأرض تحت خيام منصوبة من الخيش وأمامهن البرتقال والبطاطس والكرنب والبصل، والتجار يُفرِدون أمامهم أثواب الدمور والكستور والدبلان، يتوقف الجميع ويتركون ما في أيديهم، وترتفع الأيدي بالشهادتين، ويقف الرجال والأطفال خاشعين؛ بلدة تُقدِّس الموت وتعرف حرمته أرادت أن يقهره فقهرها وعاشته وعاشت فيه. نتفق على الإحساس بالعطش، فننزل من العربة ونرويه بأربع زجاجات كوكاكولا، يدخل اثنان منا إلى قهوة مُجاوِرة ويختفيان لحظات وراء حاجز خشبي صغير، نرجع إلى العربة ونستأنف تأملاتنا العقيمة: كيف لا يكون هذا النظام والتنسيق دليلًا على القدرة؟ كيف تكون المادة وحدها هي الأصل؟

– كيف لا يكون النظام والتنسيق دليلًا على وجوده؟ (الدليل الكوزمولوجي المشهور: يا للملل!)

– هل تستطيع المادة أن تفكر في نفسها؟

– المادة جدلية. عليك أن تتعلم قوانين الجدل!

– لكي يمكننا أن نتكلم عن المادة، لا بد أن يكون هناك شيء غير المادة.

– أنتبه لهذه النقطة؛ إنها في غاية الأهمية.

– الإنسان «ميكانزم»، وعندما يختل يموت.

– أهكذا بلا هدف ولا معنى؟ ادرس أصغر خلية حية.

– ادرس الأميبا، وستعرف أن وراءها قدرة حكيمة.

– أنا لا أُومِن إلا بالعلم، كل ما عداه خرافات وأوهام، مجرد عزاء.

– ومن قال لك إن العلم ضد الدين؟ كل حقيقة علمية تشير إلى بحر مجهول من الحقائق التي لم تُكتشَف بعد.

– سيأتي اليوم الذي تُكتشَف فيه، علينا أن نُؤمِن بالعلم، يومها يتغير العالم ويسعد الإنسان، لم ينشأ الدين إلا عن الخوف.

– حتى لو عرفنا كل الأسرار وهذا مستحيل؛ فلن يتوقف بحثنا عن الله.

– وما حاجتنا إليه؟ سيكتسب الإنسان الثقة بنفسه، سيصبح هو الإله الجديد.

– أستغفر الله! وهل سيمكنه التغلب على الموت؟

– وهل هذه مشكلة؟

– بل هي المشكلة، اتعظ واستغفر الله!

– لن يكون الموت مشكلة لو عاش الناس سعداء، الحياة الآن هي المشكلة.

– وحدوا الله. العربة وقفت من جديد.

ننظر من النوافذ الزجاجية؛ العربة توقفت أمام كشك على اليسار، يخرج منه شاب طويل في ملابس الشرطة العسكرية، يُحَيي باحترام ويشير بيده اليسرى إلى الطريق. يتطلع فلاح عجوز يجر بقرته، يرفع سبابته بالشهادة وتُتمتِم شفتاه. تتطلع عينا البقرة فينا؛ عينان واسعتان صافيتان. تمضي العربة، لا بد أنه هو الطريق الصحيح. نندفع بعيدًا عن الأسفلت، على طريق مُترِب مليء بالمطبات، مُوازٍ للترعة الواسعة على اليمين، وتلال الرمل المُتعرِّجة على اليسار.

– الإيمان هو الحل الوحيد؛ إيمان العجائز لا الفلاسفة.

– إما أن يكون الإنسان مؤمنًا أو لا يكون، كل الأدلة ثبت فشلها، ولكل دليلٍ دليلٌ مُضادٌّ.

– العقل محدود؛ فكيف يسمح لنفسه بالتفكير فيما لا يعرف الحدود؟

– نحن جميعًا نُوصِل بعضنا؛ أوتوبيس ينزل منه ركاب ويطلع ركاب.

يضحك المادي على هذا التشبيه. ينهره نبيل ويُنبِّهه إلى العربة السوداء، يقول وهو يُغمِض عينيه: الله يرحمه. يسأل أحدنا: إذا لم يكن هذا هو الدليل على وجوده فأين الدليل؟ يرد آخر: الموت حق؛ لكن الفراق أليم. يستطرد نبيل: النبي نفسه بكى على فراق ولده إبراهيم. نصلي عليه ونسلم، نشعر بالخجل من ثرثرتنا فنلوذ بالصمت. أضع رأسي بين يدي وأستغفر، أُحِس شيئًا يجيش في صدري؛ ذكريات قديمة ترتفع أمواجها، أتنفس بعمق وأنظر من النافذة؛ صبية عائدون من المدرسة، يقفون على جانب الطريق ويتأملون الموكب البطيء، ترن ضحكات، ينحني بعضهم ليلتقط حجرًا ويُكوِّم قبضته، تقع عيناه على العربة السوداء فترتخي ذراعه إلى جانبه وتنفتح قبضته عن زلطة وكومة رمل. أتصفح الوجوه الذابلة والأجسام الهزيلة التي برَتها الديدان وفقر الدم. يتشجع أحدهم ويهتف وهو يضحك ويُضيِّق عينيه من وهج الشمس: على فين؟! أيها الشقي! ألا تعرف حتى الآن؟ أتأمل الصبي الواقف في مريلته الصفراء وشريطه الأحمر المُتدلي على صدره وحذائه الذي يبدو أضخم من قدميه، لا أدري لماذا تمنيت لو أصرخ فيه: أيها المُهرِّج الصغير، ألا تعرف الفرق بين عربة الموتى وعربة السيرك؟!

تُفاجئني صورة طفل آخر، أحب من قابلته في قصصه ورواياته؛ طفل تلاعبه جماعة من المُهرِّجين البائسين. لن أنسى أبدًا لاعب البيانولا الطويل. هل قلت قصة؟ الكلمة لا تصلح تمامًا؛ هي رفة حلم، همسة اغتراب في العالم الكبير، مع المُغترِبين الوحيدين الذين يسمعون قلبه، يفهمون مأساته ويضحكون عليها ويُضحِكون غيرهم، ثم يمضون وأعينهم دموع.

هنا أيضًا العناية بالتفاصيل والأشياء؛ لكن الأشياء تنبض شعرًا، يضع الكاتب «سماعته» على صدورها ويُحِس أنفاسها وأوجاعها.

إنه لا يكتب أو يتكلم عنها، بل يتركها تكون، تصبح اللوحة قطعة قماش مُطرَّزة بعناية وحب، تدعوك لتشارك أيضًا في نقشها وتطريزها، لا مشكلة ولا حل، لا بداية ولا نهاية؛ فالبداية تبدأ قبل البدء، والنهاية لا تنتهي عند الختام. دوامة صغيرة تُثير في النفس غبارًا أو رذاذًا، بقية حلم تعلق بالجفنين وتدعو لمزيد من الحلم. أعدنا قراءة مقدمة القصة، حاوَل أن يمنعني، أن يعتذر ويُغضي عنها (يندر أن يعرف فنان حق قيمة عمله، يندر أن يتبجح به أو يتاجر فيه)، أتذكر حياء تشيخوف وتواضع كافكا:
فكان أن قادني الإسكافي العجوز الأصم مُمسِكًا بيدي اليمنى، حاملًا مصباحًا صغيرًا في يده اليسرى، ترتجف شفتاه، وتهتز التجاعيد حول عينيه وأعلى جبهته؛ فوجدت أبي مُمدَّدًا أسفل السلم، وجهه ناحية الأرض، ويداه إلى الأمام مقلوبتان. وترك الإسكافي العجوز المصباح الصغير إلى جانب رأس أبي، فرأيت طبقة من الغبار فوق رأسه وظهره. أعدت يده اليمنى إلى جانبه، وحاولت أن أُدير وجهه إلى أعلى فرأيت طابورًا من النحل ينحدر فوق عنقه ويتجه نحو صدره.١

حدثته عن صورة طابور النمل التي لا تبرح المُخيِّلة، عن قدرة الفنان تتجلى في مثل هذه الصور، فتلازمنا طول العمر (من يدري؟ قد تصحبنا حتى القبر). أخذنا في الكلام عن كافكا وكوابيسه وتفاصيلها الواقعية؛ فرَّقنا بين الحلم الصافي البريء وبين الكابوس، عن التوازن هنا بين البناء والدفء، بين التفاصيل والمعنى، بين الوعي المُنبَث في الأشياء والوعي المتسلط عليها. تكلمنا عن ضرورة تأديب اللغة؛ قهرها وإخراس مُكبِّراتها المُتخَمة من آلاف السنين بالإيقاعات والكلشيهات والمحفوظات، بالرنين والضجيج والطنين. ذكرنا فضل أبينا الطيب صاحب العصا والقنديل، وضحكنا لهجومه الجبار على واو العطف والفواصل والعلامات والصفات. اتفقنا على ضرورة العلم، على أن الأديب في عصرنا هو الأديب العالم، لا الكسول المُتواكِل على شياطين الشعر وربات الخيال وحُمَّى الانفعالات. حذرته بشدة من كثرة القراءة في النقد والجمال، خشيت أن تطغى عليه وتحبس ذاته وراء قضبان الآخرين. تأملت وجهه المُرهَق واهتزازات تجاعيده حول الفم الصغير والعينين الواسعتين، سألت نفسي: أين رأيت كل هذه الطيبة والحب، ممزوجة بالجدية والأمانة والقلق؟ لم تلبث الابتسامة أن اتسعت كالدوامة وجلجلت بالضحكة الرجولية الخشنة، التي اختنقت في سحب الدخان وتعثرت في سعال مشروخ حادٍّ. سألت نفسي كما سألتها مرات: لمَ كل هذا العذاب؟! لمن؟! أغمضت جفني لحظة: كم نحن وحيدون!

نقترب من البلدة، تلوح بيوتها الطينية من بعيد ومئذنة جامعها كسلم أبيض صاعد للسماء. نعبُر جسرًا حجريًّا بسورين خشبيين، أنظر إلى أسفل وأعد سبع إوَزَّات تنساب على سطح الترعة العكر. العربات تُثير وراءها عاصفة من الغبار، والقرية كأنها خالية من السكان. نتجه نحو طريق ضيق بين صفين من البيوت، جدرانها عالية مائلة بانحناء إلى أعلى، كأسوار قلعة مهجورة. لا بد أن أحدًا لمح العربة السوداء، في البداية يفزع كلب أصفر من اليسار ويمرق إلى الحارة، يتبعه صبيان بجلباب وبيجامة، وخلفهم معزة تريد أن تتبعهم ثم تتردد عند رؤية العربات وتقف على الناصية، أُلاحِظ وجهها المُستطيل وأنفها السامي وعينيها المُتفحِّمتين. ينطلق صوات من امرأة تقف أمام باب البيت الأول إلى اليمين، يتردد صوات أعلى من سقف البيت المجاور، ينبح الكلب، ترتد العنزة للوراء، يجري شابان يتبعهما عجوز يُشمِّر جلبابه الأزرق الذي لفه حول وسطه قادمين من ناحية الترعة، تتعالى عاصفة من الصوات مُختلِطة ببكاء امرأة تجري بمحاذاة عربتنا، يخرج رجال ونساء وفتيات وأولاد من الأزقة والحارات التي نمر بها، يسبقنا عشرات خرجوا فجأة من البيوت والدكاكين والأحواش ذات الأسوار الطينية الواطئة والحقول القريبة، تُفتَح الشبابيك وتُطِل النسوة ويُشِرن بأذرعهن وأيديهن، تشتعل البلدة التي كانت في الانتظار بحريق الأصوات السوداء؛ عويل من الأسطح والنوافذ، أبواب تُفتَح وتُرَد بعنف، رجال يتنادون وأطفال يفركون عيونهم ويجرون. ننعطف يمينًا ثم يسارًا، نرجع للطريق الضيق الطويل. مع كل خطوة تُهروِل أقدام وتُولوِل أصوات وترتفع أصابع بالشهادتين، ويختلط الوجوم بالغبار بالصياح بالتشنج المكتوم. يبدو جامع آخر. نتقدم نحوه، يتضح بابه المفتوح وواجهته المطلية باللونين البُني والأبيض في مُستطيلات مُتوازِية. تتوقف العربات، يشتد الزحام، يخرج شيوخ من الجامع ويدخلون، تحتشد نساء تُجرجِر السواد بجانب العربة السوداء، يشير لهن الرجال فيتكوَّمن إلى اليمين قليلًا، يتعالى صوت امرأة: يا ابن عمي يا حبيبي. يتعاون الرجال على إخراج الخشبة من العربة، يتزاحمون، نتقدم إلى داخل الجامع، رجل عجوز ترتعش يده اليمنى ويلتهب وجهه الأبيض المُحمَرُّ وذقنه الكثة تحت وهج الحر، يحاول أن يشق طريقه بصعوبة. يُحيط به ثلاثة رجال بثياب بيضاء يمنعونه ويسندونه. أعرف من صوت بجانبي أنه أبوه، عرفت منذ قليل من المرأة التي تجلس الآن ورائي على قاعدة حجرية أنه كان هنا آخر مرة في مأتم أمه. يلتف حولي نبيل ومصطفى. تكُف المرأة عن الصياح وتبدأ في نشيج مُتقطِّع تُجاهِد أن تكتمه. أعرف أنها جدته، أسمعها ورائي تُردِّد: ليتني كنت أنا.

يرتفع نشيج في صدري، يتحشرج في حنجرتي، ينهمر من عيني. يد تُربِّت ظهري، صوت يدعوني أن أصبر. تخرج الخشبة من الجامع، يلمع فوقها غطاء حريري بنفسجي يعكس ضوء الشمس. العيون مُحمَرة، الأصوات تأمرنا أن نُوحِّد الله، النساء التي تقف كسرب من الغربان المذبوحة يتعالى صياحهن، الزوجة في الوسط، يبدو جانب وجهها المُحمَر مشوبًا بالزرقة، كتمثال منحوت من السواد، تُسنِدها فتاتان مُتسربِلتان بالسواد. مصطفى يُجفِّف دموعه ويلوم الراقد في الخشبة التي بدأت تتحرك: أهكذا تتركنا؟ يلتفت للعجوز التي تنشج ورائي؛ جدته لأمه تجاوزت المائة. أنظر إلى وجهها؛ مُكرمِش كالخرشوفة، تتجمع وتسير وراء النعش، العجوز تتحامل على نفسها، لا تزال تنشج. أُجفِّف عيني وأضع المنديل في جيبي، أُخرِجه وأمسح زجاج النظارة. «أنظر؛ مُكرمِشة كالخرشوفة، يا رب لا أعترض عليك».

نمضي وراء النعش، يخفق ويتمايل كقارب غريق يحمله صيادون مُتعَبون، كعلَم مُنكَّس فوق جيش مهزوم. يتبادل الرجال وضع الأذرع الخشبية المُمتدة على أكتافهم، ومن لا يجد مكانًا يُريح كفه على النعش أو يجري بمحاذاته مُنتظِرًا دوره. فتيان وشباب وعجائز جاءوا يُودِّعون ابن قريتهم الغائب عنهم هناك، كلهم أبوه أو أخوه أو ابنه، لم يروه إلا من سنوات عندما جاء يُودِّع أمه، ربما لم يره أغلبهم مرة واحدة؛ لكنهم يعرفون أنه هناك، تأتيهم أخباره فيطمئنون، ربما يسمع الآباء من أبنائهم أنه يكتب، أنه ينشر كتبًا باسمه، يُحِسون إحساسًا غامضًا أنه معهم يتزاحم الركب، نسير مُطأطئي الرءوس، أيدينا متشابكة خلف ظهورنا، والطرق الضيقة المُترِبة تتلوى وتستقيم، تتفرق وتلتئم، ينضم إليها من الحواري والمنعطفات رجال وصبية جدد، تنطلق الصيحات وتختلط بالتكبير والنشيج والحسرات والتمتمات. أسمع دقات منتظمة من بعيد، ترتفع شيئًا فشيئًا، تبدو مع الخطوات الزاحفة كإيقاع طبول زنجية تخرج من أعماق غابة كثيفة، تقترب الدقات وتعلو، تصيح كشهيق مخنوق، تُطالِعنا من الطريق الطويل المُوازي للترعة ساحة رحبة، تلوح القبور المُتفرِّقة الراقدة فوقها كطيور سوداء مُنكفئة على نفسها. أرفع رأسي وأنظر للبيوت الكبيرة المُحيطة بالساحة، أُلاحِظ جدرانها العالية المائلة بانحناء إلى أعلى وأتذكر معمار المعبد الفرعوني، أتأمل الأبواب والنوافذ المُستطيلة الضيقة في أعلاها، والأسوار الواطئة المُحيطة بأحواشها، أُلاحِظ التصاق البيوت ببعضها، كأنها كتلة ثقيلة سوداء يسكنها كيان واحد وروح واحد. تقترب الدقات وتعلو، أنظر يمينًا فأتبين طاحونة ترتفع فوقها مدخنة، الموكب يتقدم نحو الساحة الأخيرة تصاحبه الشهقات المبحوحة. يتوقف الناس في داخل الطاحونة، ترتخي أذرعهم بجانبهم وتبدو وجوههم المُعفَّرة بالدقيق. ترتفع أيد بالشهادتين، وينطلق صوات لا أتبين مصدره. تدخل الساحة الرملية وتُطالِعنا القبور المُتناثِرة على التلال الرملية الصغيرة. تسرع من اليمين جماعة أُلاحِظ بينها شيخين يجريان ليسبقا النعش، وراءهما ثلاثة بجلاليبهم الزرقاء، حفاة في أيديهم معاول. تنزل الخشبة على الأرض أمام قبر مُمدَّد باستطالة يعلوه شاهد مرتفع ينتهي بكُرة من الطين كرأس طائر أسود. يتنادى الرجال وينحنون على الأرض، تنهال المعاول وترتفع كومة الرمال على الجانبين، تتجمع إلى الخلف قليلًا، حول قبرين متباعدين، ونُسنِد الأب ليجلس على أحدهما؛ عيناه مُحمَرَّتان وفمه مُلتوٍ ويده اليمنى ترتعش باستمرار. النساء تحلَّقنَ بعيدًا إلى اليسار، الصوات تحول إلى نشيح مُتقطِّع، وعبارات الصبر و«كلنا لها» و«الأمر لله» ترسم الانكسار والاستسلام على الملامح والعيون. أُلاحِظ أن طريقة الدفن هنا مختلفة عنها في بلدنا، إن شكل القبر وطبيعة الأرض مختلفة، يغيب الجثمان وتُهال أكوام التراب؛ التراب ودائمًا التراب. قلت لي إنك تتوثب لقفزة جديدة، خمنت أنك تستعد لعمل جديد؛ لإتمام ثلاثيتك، وأنت أمامي تقفز إلى القبر؛ هل جاءت الأحلام والأفكار والأحداث والشخصيات معك؟ ماذا يُجدي كل عزاء البشر أمام القبر؟ ومئات الكتب والمذاهب والنظريات أمام التراب؟ يقف رجل نحيل طويل، بجلباب أبيض ورأس عارية وراء القبر، يخطب بصوت هادئ: «يا عبد الله وابن عبد الله، تثبت تثبت، كل نفس ذائقة الموت، وما تدري نفس بأي أرض تموت، تثبت تثبت، سبحان من خلقك من تراب ويُعيدك للتراب ويبعثك يوم الحساب، اللهم … اللهم …» يصطف الأهل لتقبل العزاء. يتعالى نشيج الطبل من الطاحونة. يتنادى رجال وتُعوِّل نساء ويسارع شبان ليُسنِدوا العجائز. تتصافح الأيدي وتُتمتِم الشفاه وتلتئم جماعات في طريق العودة.

والطقوس تكلمنا عنها في أكثر من لقاء، ما من عمل فني إلا ويقوم على طقس أو يبعث طقسًا، وذكرنا العجوز والبحر وموبي ديك وزيارة السيدة العجوز والشحاذ والطريق، ونصحتني بقراءة «الأشياء تتداعى»؛ ألوم نفسي لأني لم أقرأها حتى الآن، وتحدثنا عن «مأساة العصر الجميل» و«الحديقة»، عن العجوز الصماء البكماء التي تتسلط كآلهة قدر قاسية. هو وهي يتحدثان عنها باستمرار، يسترضيها ويُقدِّم لها القرابين، ويعترف بقوتها الغاشمة ويثور عليها، وهي مشلولة في محبسها وعلى عجلتها، تتأمل انعكاساتها على المرايا المُحيطة بها، تتلذذ بعبادة نفسها واستعباد غيرها. والإنسان لا يفعل شيئًا إلا التخلص من فضلاته وقاذوراته وقراءة الجريدة مرة بعد مرة، كأنها مواثيق وصية قديمة أو نصوص عقد مقدس، يُقاوِم السقوط والوحدة والذل وثقل الأوهام ويكتشف خداع الآلهة المُتسلِّطة. أوثان ترزح فوق ضمير الإنسان، تحيا في داخله وتحاصره، وارتجف من الحصار الفظيع، والجو القاتم، والجرأة والطموح الذي تجاوزت فيه بيكيت. وأطلب منك أن تحولها مسرحية، ونضحك ونحن نتخيل «هو» قائمًا قاعدًا على الجردل، ولا نتخيل مسرحًا يُقدِّمه ولا مُتفرِّجًا يُشاهِده! ونتكلم عن «الحديقة»، تُصارِع ثلاثة أجيال لتُحقِّق عليها حلمها القديم؛ حلم الأسرة والبشرية بالفردوس المفقود. ونُعايِن الواقع الذي تمتد جذوره في الأسطورة والحلم، والواقع الذي يُجاهِد دائمًا ليصبح هو الأسطورة والحلم. يا حبيبي، وأنا أتركك الآن تمد جذورك كي تزدهر حديقتك، أسأل نفسي وسط تراب الموت: أين الواقع، أين الحلم؟

في القرية يتنافس الرجال على دعوتنا، من البيوت تخرج فتيات يحملن فوق رءوسهن صواني نحاسية كبيرة. أتذكر مأتم أمي والصواني التي تأتي من الجيران. يُحيط بنا رجل قصير، ميَّال للسمنة، في جلباب نظيف، تنضح الطيبة من وجهه الأبيض المُستدير. يلتف حولنا أولاده بعد أن أقنعوا بقية الرجال. ندخل من باب واطئ ونمر في ممشى طويل إلى المنظرة المفتوحة، بعد قليل يدخل ابنان لم نرهما من قبل، يُسلِّمان ويجلسان. يأتي صبي يحمل إبريقًا وطستًا، وننهض واحدًا بعد الآخر ونغتسل. البقية في حياتكم، عظم الله أجركم، سعيكم مشكور. نلجأ لصخرة الإيمان ونقلب أعيننا في البحر المُظلِم بحثًا عن شاطئ، تسرع أيدينا للأحجار المحفورة بالآيات المحفوظة ونُلقيها فيه. تحضر أكواب الشاي فتمتد الأيدي ويدفأ الجوف وتنبت أشجار الحكمة. يبدأ شاب يجلس أمامي في سرد حكاية، وظِل ابتسامة يتمدد على شفتيه ووجهه الناعم المُريح. كُلِّف ملاك الموت أن يقبض روح امرأة في الصحراء، ذهب إليها فوجدها تُرضِع طفلها، عز عليه أن يحرم الوليد من أمه، رجع واستعطف وبكى، هبط عليه الصوت الآمر أن يقبض روح الأم. فعل ونفذ قضاء الله؛ هل تدرون مصير الطفل؟ ربك لا ينسى أحدًا؛ مرت قافلة كانت تعبُر مُصادَفة، أخذوا الطفل وربوه، ويمر الزمن فيكبر هذا الطفل ويصبح ملكًا، ويمر ملاك الموت فيعجب حين يراه على العرش، ويُناجي الرب ويستغفره ويُقِر بذنبه، سبحانه جل وعلا، له حكمة خافية، لا يعرف أحد أين الخير وأين الشر. «لله الملك»، «وما تدري نفس»، «ولو كنتم في بروج مُشيَّدة»، «سعيكم مشكور»، «لله الأمر». يحكي رب البيت عما رآه بنفسه عندما كان في زيارة طنطا، كان الأب العجوز قد اشتد عليه المرض وجاوز الثمانين، رقد على الفراش وطلب الكفن بنفسه، أحضره الابن كما أمر، وانتظر أسبوعًا فأسبوعًا، والعجوز يُقاوِم الموت كأنه زكام خفيف؛ هل تدرون ماذا حدث؟ يسقط الابن فجأة بالسكتة القلبية، ويلفونه في الكفن الذي اشتراه بنفسه. والأب؟ لا يزال الأب يعيش. لله الأمر، حكمته تخفى عنا، هل نملك إلا التسليم وطلب الستر؟ ويأتي الطعام على صينية صفراء كبيرة، ويقوم حوار: هل نجلس على الأرض أم نُوضَع على المائدة. نجلس على الأرض فوق الشلت والمخدات، يقول أحدنا: مرجعنا للأرض. نأكل ونشبع ويُصَب الماء على أيدينا، ونعود للجلوس على الكنب البلدي. ألمح جاري يُخرِج منديله ويُجفِّف عينه، يتبعه شاب آخر. تمتد الأيدي فتُربِّت الظهور والسيقان. أتذكر أوديسيوس ورفاقه الذين نجوا من كهف الوحش ذي العين الواحدة، بعد أن تجمعوا في سفينتهم وأكلوا وشبعوا، تذكروا رفاقهم الذين التهمهم الوحش فبكوا. أتذكر يوم تكلمنا عن الواقعية وتكلمنا عن هوميروس، أذكر عينيك الواسعتين الطيبتين، أخجل من هذا الصلح مع الموت، أغرق في الصمت، أتذكر نفسي ممدودًا في مقبرة القرية. يُربِّت جاري ساقي ويُنبِّهني أن قد أزف الوقت. أنهض وأُسلِّم.

يفلت لسان أحدنا وهو يصافح صاحب البيت: فرصة سعيدة. تنغرز الشوكة في قلبي. نخرج من البيت ونتجه إلى العربات. أمد عيني إلى الساحة البعيدة، وأقول لنفسي: سقط الرجل الجاد.

في طريق العودة يسرع السائق قبل حلول الليل؛ العربة ترتج في المطبات، والشمس تابوت ذهبي ينحدر رويدًا رويدًا في حفرته السوداء. نُدخِّن ونُكرِّر ما قلناه ونفكر فيما سنفعل، ونستحضر صور الماضي القريب، ونُكثِر دون أن نشعر من استخدام فعل كان. يتكلم نبيل عن قدرته على التنبؤ، عن سهرته معه حتى وقت متأخر، أكثر مما فعل في أي ليلة سابقة، عن تأكيده بأنه سيموت في هذا العام، عن مداعبته لابنه كما لم يحدث من قبل، عن حرصه في الأيام الأخيرة على زيارة الأصدقاء والاطمئنان على المرضى، عن ضحكاته المُجلجِلة التي تُوقِفها كالعادة كَف تُوضَع على الفم. ونتحدث عن الرسالة التي أداها، عن الأعمال التي أتمها ولم ترَ النور، عن مشروعاته ومُسوَّداته، قراءاته وتجاربه، عن تجاهل النقاد وصمت الدارسين، عن جدوى كلمة صدق تسقط في بحر الزيف، عن عمر ضاع وراء البحث عن المجهول، عن صوت لم يسمعه الشعب.

تُوصِّلني العربة إلى البيت الذي أسكنه. نسلم ونتعانق ونفترق على موعد. أصعد السلم وأنظر إلى حذائي المُعفَّر بتراب المقبرة، أفكر في التراب الذي سأكونه وأحذية المُشيِّعين التي ستُعفَّر به. يلتفت القلب إلى الحديقة الساكنة التي زرعنا فيها جسد الصديق. أفتح الباب وأقف عند الكرسي الذي جلس عليه آخر مرة، والجهاز الذي وضع عليه الأسطوانات، والكتب التي قلَّب فيها. أتسمَّع أصداء صوته، وأرى أمامي ملامح وجهه، وأصابع يديه والشعر الذي يكسوها، وتُحدِّق فيَّ عيناه الواسعتان المُتألِّمتان فأجفل، يتردد صوته في أذني وهو يسألني آخر مرة عما يشغلني، فأقول: تشغلني اللحظة. يُدهِشه قولي فأُحدِّثه عن سر اللحظة؛ كيف تُصوِّرها الأسطورة في صورة رب شاب يهبط من جبل الأوليمب، يحمل سكينًا في يمناه، وفي قدميه جناحان، من جبهته تتدلى خصلة شعر ذهبية، ومُؤخِّرة الرأس صلعاء. من يلقَ اللحظة فليتقدم وليُمسِكها من خصلات الشعر، فلو فاتته فلن يقدر أن يُمسِكها أبدًا، لو عبَرت لن ترجع أبدًا. تعجبه الصورة، يصمت، يضحك فأقول: انتهز اللحظة؛ إن جاءت لا تتردد، اكتب اكتب، لا تتركها تُفلِت منك فتندم، هذا ما أقول لنفسي. يستطرد: ولي أيضًا. فأعترض قائلًا: أنت أطعت اللحظة، عشت حياتك لحظة صدق، عشت بعمق. يسألني: وأنت؟ فأقول: لو كنت فعلت لما فكرت؛ فالفكر عدو الفعل، والعلم عدو الفن. يضحك، يتمنى لي أن أكتب قصة، فأقول: ستجيء اللحظة. أقول لنفسي وأنا أعبُر الصالة وأقف في الطرقة: ليتك عشت وما جاءت هذه اللحظة. يفجؤني صوت الهاتف في الليل، أسمع صوت صديق يسأل: هل علمت؟ أقول: البقية في حياتك. يتهدج صوته: لا أستطيع أن أُصدِّق، إنني أرتجف، أرتجف. هذه هي الكلمة المناسبة، ترتفع الموجة ويجيش الطوفان. أدفن رأسي بين يدي: رب، لم تركته؟ لم تركتنا؟

(١٩٧٧م)
١  اتجاه الضوء، الثقافة، العدد ٢٤، سبتمبر ١٩٧٥م، ص٧٠-٧١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤