عاوز حاجة؟

كان هذا السؤال الذي عرفناها به، هذه المرأة الظريفة المسكينة، الملفوفة في السواد من رأسها إلى قدميها — كأنما خرجت من مُستنقَع الحزن الأبدي — ذات الوجه الصغير الشاحب، والعينين اللتين يطالعنا منهما أسًى جارف؛ ولكنه مُستسلِم وديع.

كنا نراها تسير في شوارع قريتنا بلا انقطاع، حتى خُيِّل إلينا أنها وُلدت ماشية! ذراعاها تستريحان على صدرها الضيق الذي لا يكاد يعلو أو يهبط، تُسندان ملاءتها الذابلة المُغبرَّة؛ لطول ما تعرضت للشمس والتراب، وعيناها؛ نعم عيناها؛ فقد كان كل ما في وجهها هاتين العينين اللتين لم يُخلَق الجسد إلا ليحملهما — تُتابعان عابري السبيل في إشفاق لا حد له، وتغمران بالحنان كل ما تصادفه؛ الرجال العائدين من الحقول، والنساء الذاهبات إلى السوق أو المأتم، والأطفال الذاهبين إلى الكتاب أو المدرسة البعيدة، حتى الحيوانات التي تجري على رزقها كان لها من حنانها نصيب! تُقابِل إنسانًا ولْيكُن فلاحًا عائدًا من حقل له، ومعه جاموسته وحماره وكلبه، وقد تكون معه امرأته وطفله على ظهر الحمار أو سائرين على الأرض، فتقف أمام موكبه الصغير، وتقول فجأة: عاوز حاجة يا حبيبي؟

ويوقِف الفلاح جاموسته وحماره اللذين لا يفهمان سببًا لذلك، ويسأل بدوره: حاجة إيه يا حاجَّة؟

فترد بصوتها الهادئ المبحوح قليلًا: أي حاجة في نفسك يا ابني، قول على اللي انت عاوزه.

ويسكت الرجل لا يدري ماذا يقول أو يفعل؟ ويدور الكلب حولها ويتشمَّمها وينبح غاضبًا للوقفة التي لا داعي لها، وتتصعب المرأة وتضع يدها على خدها: يا عيني عليك!

وينتبه الرجل إلى نفسه، فيقول وهو يجذب حبل الجاموسة: إدعي لربنا يسترنا وإياك يا حاجَّة.

فتقول المرأة بصوتها الهادئ الطبيعي وهي ترى القافلة الصغيرة تبتعد عنها: حاضر يا ابني، مستورة إن شاء الله.

ثم تمضي في طريقها الذي لا يدري أحد من أين يبدأ ولا ينتهي، بغير أن تنتبه إلى دعوة إلى الله أن يَشفيها ويَشفي مرضانا ومرضى المسلمين بحق هذا اليوم، أو ضحكة يُعبِّر بها صاحبها عمَّا في الدنيا من عجائب وأحوال.

في البداية لم يكن يدري أحد كيف يُجيب عن سؤالها؟ أو ماذا يقول أو يتصرف حيالها؟ فالسؤال يُلقَى فجأة بصوت حنون فيه بُحَّة كشهقة طفل يبكي، يخرج من فمها طبيعيًّا كالنفس الذي يخرج من فمها؛ فلا يُثير أي رغبة في الجواب أو جهد في البحث عنه.

– «عاوز حاجة يا ابني»؟ أو «عاوز حاجة يا حبيبي»؟ …

تأتي هادئة وثابتة كأن صاحبها يقول: إزي صحتك؟ أو سلامات يا ابني، أو إن شاء الله تكون بخير. شيء كان يُلقَى علينا، فنراه أمامنا كما نرى شجرة أو نهرًا أو سحابة، ولا يخطر ببال أحد أن يسأل ماذا تريد الشجرة أو النهر أو السحابة؟ فكما يسير الناس في شوارع قريتنا وحاراتها ويقابلون عربة يجرها حصان، أو كلبًا ينبح بغير سبب، أو قطة تقف على عتبة باب، أو طفلًا يبكي على ذراع أمه أو شحَّاذًا يمدح النبي ويطلب الأجر والثواب لعباد الله، فلا يجد أحد في ذلك شيئًا غير مألوف؛ فكذلك صاروا مع الزمن يقابلون هذه المرأة، فيتوقعون أن تقف هادئة أمامهم، وتُلقِي عليهم بسؤالها الذي لا يتغير: عاوز حاجة؟

صحيح أننا كنا في مبدأ الأمر نُصاب بالحيرة والمفاجأة، ويُرتَج علينا لحظة، فلا ندري بمَ نُجيب؟ وقد نُفكر بالفعل في أن نُفضي بحاجة تدور في نفوسنا؛ لكن الواحد منا كان يصحو بعد قليل على هذا الشبح الآدمي الواقف أمامه، ويسأل نفسه: ماذا يمكن أن تفعله هذه المسكينة من أجله؟ وهل فعلت هي لنفسها شيئًا أو قضت لنفسها حاجة حتى تسأل الناس عن حاجاتهم؟ وكانت تُقابل الرجل منا، فتتجه نحوه وتقف أمامه، فيضطر أن يوقف سيره وينتظر سؤالها الذي يكون قد سمعه منها أو سمع به من أحد الناس، وغالبًا ما يشده شيء مجهول إلى الأرض، ويمنعه من المضي في طريقه؛ ربما يكون حب الاستطلاع، أو الخوف من الإساءة إلى مخلوق يرى بنفسه ضعفه وسوء حاله، أو الرغبة التي تجعلنا نشتاق لإنسان يسألنا عن حاجتنا والأمل الغامض في أنه ربما ساعدنا على قضائها! يكون الواحد منا سائرًا في طريقه، وإذا به يسمع السؤال الذي عرفناه من قبل: عاوز حاجة يا حبيبي؟

ويقف بحسن نية أو لإحساس خفي بأن كل إنسان لا بد أن يعوز حاجة ويسأل: نعم يا ست؟

وتكون المرأة قد اقتربت منه ووقفت أمامه وجهًا لوجه وثبَّتت عليه عينين تَفيضان بعطف لا حد له: باقول عاوز حاجة يا ابني؟

ويسأل — في دهشة أو مكر أو رغبة في الدعابة أو لمجرد أننا نريد أن نسد الباب الذي تأتي منه الريح: حاجة زي إيه يا ستي؟

فتقول في صوتها الهادئ: أي حاجة يا حبيبي، قول اللي نفسك فيه.

فيسأل وقد بدأت الابتسامة تكسو الشفتين: يعني لو قلت لك على حاجة تعمليها؟

فتقول: العمل عمل الله يا حبيبي، قول وأنا أقول لهم.

ويُحفزنا هذا إلى سؤال جديد: مين همه يا حاجَّة؟

وفجأة ترفع رأسها إلى السماء ثم تخفضها إلى الأرض، وتشير هنا وهناك، وتمسح على وجهها وصدرها، وتقول: مين؟ حد يجهلهم؟ دول ملْو السما والأرض يا حبيبي!

وبالطبع لا يجد الإنسان بعد ذلك رغبة في إطالة الحديث ولا الإفضاء بحاجته؛ بل يكتفي بالدعاء إلى الله أن يَشفيها ويَشفي المسلمين ويسترنا وإياها دنيا وآخرة، أو قد يَحن قلبه، فيضع يده في جيبه، ويمدها إليها بما قُسم؛ حسنة لله بعيدة عن كل الألسن والعيون، وإذا بها تتراجع فجأة وتسحب يدها التي كانت تشير بها إلى الأرض والسماء، كأنها تخشى عليها من لدغة عقرب أو ثعبان، وتقول بصوتها الذي ترن فيه الآن بُحَّة الحزينة المصدومة: لا يا حبيبي، مستورة والحمد لله، والنبي مستورة.

ونعزم عليها، فتقول في عتاب: لا يا ابني، ده اللي عندي فايض عليَّ، إذا كنت انت عاوز حاجة قول، قول يا حبيبي وأنا أقول لهم، قول يا ابني، عاوز حاجة؟

كان هذا في البداية هو موقفنا منها، أو كان يمكن أن يظل هو موقفنا منها؛ لولا أن تدخَّل بعد ذلك الأطفال والنساء. كان يمكن على أن تستمر على بِرنا بها، وإشفاقنا عليها، وسماعنا لسؤالها كأنه تحية منها أو واجب كُتب عليها — لسبب لا ندريه ولم نهتم بالبحث وراءه — أن تؤديه كلما قابلت أحدًا منا أو قابلها؛ ولكن ماذا نفعل إذا كانت الدنيا لا تخلو من الأطفال في كل وقت، وبخاصة في الصباح عندما يذهبون إلى الحقل أو الكتاب أو المدرسة، ولا تخلو أيضًا من النساء الثرثارات في البيوت وعلى الترع وفي الأسواق!

وبدأت شفقتنا عليها تزداد كلما رأيناها تقف مع جماعة من الأطفال أو امرأة أو بنت صغيرة، ونسأل الله في أنفسنا أن تمر الحكاية بسلام، وبدأنا نُحس أن الأمر لا بد أن يتطور إلى السخرية بها أو الرغبة في التسلي عليها، وكنا في أول الأمر نقابل ذلك بالابتسام ونراه شيئًا لا مفر منه، إلى أن زادت مخاوفنا من أن ينقلب الحوار البريء بينها وبين أطفالنا ونسائنا، فيصبح مصدر أذًى لها وهي التي لا يرضى بأذاها الخالق أو المخلوق. كانت تَلقَى الطفل أو مجموعة الأطفال فتُقبِل عليهم راضية باسمة، وتسألهم في حنان لا مزيد عليه: عاوز حاجة يا حبيبي انت وهو؟

فيسأل الأطفال: حاجة زي إيه يا حاجَّة؟

فتقول في ثقة: أي حاجة يا حبيبي؟ قول نفسك في إيه؟

ولا يُصدِّق الأطفال، فتنهال طلباتهم: عاوز جزمة وجلابية جديدة.

– عاوز كورة شراب.

– وأنا عاوز كورة كاوتش.

– وأنا حصالة مليانة فلوس.

– وأنا عاوز أروح مصر.

وتجيب المرأة في هدوء: حاضر، حاضر يا ابني، إن شاء الله أقول لهم.

وقد يسأل أحدهم فجأة: مين همه يا حاجَّة؟

فتجيب مندهشة من جهله: مين؟ إخواتكم اللي فوقكم وتحتيكم؛ أولياء الله الصالحين.

ويَزيط الأطفال وتتداخل هتافاتهم: طيب قولي لهم ما يتأخروش، إوعي تنسي يا حاجَّة: الجزمة والجلابية لازم يكونوا جداد، الحصالة يا تكون مليانة يا بلاش، ما تنسيش تطلبي ملاية جديدة لنفسك يا حاجَّة. يالـله يا حاجَّة على هناك على طول. وقد تندُّ عن أحدهم صيحة يرددها الباقون: المجنونة أهه! العبيطة أهه! بل قد يتطور الأمر فيشدها أحدهم من ذيل ملاءتها، أو يقذفها بكومة من التراب أو بحجر. فإذا تصادف مرور أحد منا نهَرهم بعنف، وأنقذها من صياحهم وأذاهم، ونصحها أن تترك الأطفال في حالهم، وتكتفي بتوجيه سؤالها إلى الرجال.

هكذا، أو قريبًا من هذا، مضى الأمر أيضًا مع النساء؛ فلا يدري أحد أبدًا ماذا يحدث له لو استوقفت امرأة في الطريق، حتى لو كنت تريد أن تسأل عن شارع أو عنوان لكان في هذا ما فيه من إثارة الريب والشكوك؟ ولو سلِمت من هذا فربما لا تَسلم من حديث طويل لا يعلم إلا الله متى ينتهي؟ إذ لا يعلم غيره كيف ولا متى ولا لماذا بدأ؟ المهم أن المرأة المسكينة عندما كانت تقابل امرأة في الشارع أو على باب بيتها أو في أي مكان كانت تتجه إليها بحسن نية كعادتها؛ لتسألها سؤالها الخالد الذي ربما تكون قد ورثته كما ورثت وجهها الصغير وعينيها الهادئتين وصوتها المبحوح وملاءتها التي لا تتغير، وغالبًا ما تكون إجابة المسئولة على هذا النحو: حاجة إيه يا اختي اللي ها اعوزها؟ فتقول المرأة في حسن نية متجدد: اللي في نفسك يا حبيبتي! وترد الأخرى: اللي في نفسي؟ ياما حاجات في نفسي يا اختي، يعني تعرفي تجيبي لنا قرشين، ولا تهدي لي جوزي، ولا تشفي العيل، ولا تساعدينا على بناية الأودتين! وتجيب المرأة في ثقة من يعلم أن كل الطلبات مجابة بإذن الله: حاضر يا حبيبي، طلبك مجاب إن شاء الله، حاضر يا عيني.

وتتأملها الأخرى قليلًا قبل أن تتصعب على حالها بصوت عال: يا عيني عليكي انت يا حاجَّة، طول النهار ماشية زي عفريت الضهرية، قادر يا اختي يشفي لك عقلك ويريحك من الدوخة دي!

وقد كان يمكن أن تمر الأمور على هذا النحو دون أن تحدث كارثة أو تخرب الدنيا بما فيها ومن فيها؛ فنحن جميعًا — حتى النساء والأطفال — نكاد نقابلها كل يوم، ونكاد نتفق في الدعاء بأن يَشفيها الله ويَشفي مرضانا ومرضى المسلمين، ونحن حين نتحدث معها — جبرًا للخاطر أو حبًّا في الاستطلاع أو أملًا في أن يستجيب الله دعواتنا فيحضر الغائب ويظهر المستور — نكاد نشترك في العطف عليها والرثاء لها، حتى الذين يحاولون في بعض الأحيان أن يسخروا منها أو يداعبوها بلطف أو خشونة لا يختلفون في حبها، وافتقاد طلعتها والسؤال عنها إن غابت أو مرضت.

ذلك أننا كنا نعرف أن أحوالها مستورة والحمد لله، وأنها وإن كانت لا تطلب من أحد شيئًا بل تسأل كل إنسان عن حاجته — حتى لقد كنا نخشى في بعض الأحيان أن تنسى وتمر على الكلاب والحمير والجاموس وتسألها السؤال نفسه؛ تجد هي مع ذلك دائمًا من يرعاها، بل لا نغالي إذا قلنا: إن البلد كلها ترعاها وتسأل عنها، صحيح أن أحدًا لم يدخل بيتها أو على الأقل لم نسمع أن أحدًا دخله؛ فهو كما سمعنا لا يزيد عن حجرة واحدة نراها تضع مفتاحًا كبيرًا في بابه حين تدخله وحين تخرج منه.

وصحيح أنها ترفض أن يعطيها أحد شيئًا وتتعفف أن يتصدق عليها أحد بشيء؛ ولكنها من ناحية أخرى تمر على بعض بيوت جاراتها وتشاركهن في الخبيز أو العجين، أو تنقية القمح والأرز، أو عمل الكعك في الأفراح، وتحضير الصواني في المآتم؛ ولا بد أن الناس يعطونها شيئًا فلا ترده، ولا بد أنها تبادر كل إنسان بسؤالها «عاوز حاجة» قبل أن يسألها إن كانت تحتاج لشيء.

ولو أن الحال استمرت على ذلك لبقي كل شيء على ما هو عليه، ولسارت الأمور على ما يرام حتى يُغيِّر الحالَ مُغيِّرُ الأحوال؛ ولكن حدث ذات يوم أن لقيت في جولتها امرأة تصرخ وتصيح، لم تكن تكتفي بالصراخ والصياح، بل كانت تُعفِّر شعرها بالتراب، وتشد منديلًا تكاد تُمزِّقه فوق رأسها، وتُلقِي بنفسها على الأرض. لم يكن المشهد غريبًا علينا ولا على المرأة المسكينة بالطبع، وكان يمكن أن تمر عليه صامتة، أو تدخل البيت الذي ينطلق منه الصراخ، فتُعزِّي مع المُعزِّيات، أو تشارك في مساعدة أهل الميت أو الميت نفسه، ولكنَّها — لسوء طالعها أو حسنه لا ندري — أقبلت على المرأة المفجوعة وربتت على كتفيها بحنان عظيم، وقالت في هدوء شديد: عاوزة حاجة يا حبيبتي؟ وإذا بالمرأة التي كانت تصرخ فتوقظ النائمين وتجلب التائهين، تمد يديها فجأة فتقبض على رقبتها بشدة وتهزها من صدرها وكتفيها في عنف: أيوه عاوزاه يا وش الشؤم، عاوزة راجلي وابو عيالي، عاوزة سبعي يا وش النحس، يالـله امال ورينا، ليل ونهار عاوزة حاجة، عاوز حاجة، يالـله امال، قولي لهم بقى يورونا!

وأسرعت النسوة من داخل البيت ليخلصنها منها، وأقبل بعض الرجال الذين كانوا يجلسون في مضيفة البيت، أو يعدون الكراسي والكنب والكلوبات أمامه، إلى انتشالها من قبضة الزوجة التي أوشكت على أن تخنقها أو تفترسها، وكان يمكن أن تمضي الحاجَّة في حال سبيلها وتتجه إلى مكان آخر، أو تعود إلى بيتها وتقصر الشر والسلام، ولا بد أن هذا هو ما نصحها به العاقلون والعاقلات من المُعزِّين وأهل الميت؛ لولا أنها بقيت هادئة ثابتة كأن لم يحدث شيء، في عينيها نفس الحزن الوديع المُستسلِم، وعلى وجهها الصغير الشاحب نفس الطيبة والحنان والثبات. وسَّعت الطريق لنفسها وهي تقول: حاضر يا بنتي، حاضر، أقول لهم يا بنتي، أقول لهم يا اولادي، وسعوا يا اولادي، وسعوا يا اولاد سيبوهم يدخلوا عنده، إوعوا امال ليزعلوا منكو، يالـله يا حبايبي تعالوا.

ولم يكن أحد يدري لمن تتحدث؛ ولكنهم لم يملكوا إلا إفساح الطريق لها وهم يرونها تُحدِّث أشخاصًا مجهولين، بل تمد ذراعيها إليهم كأنها تسحبهم إلى داخل البيت. سارت كأنها تعرف الطريق مُقدَّمًا إلى الحجرة التي سُجِّي فيها الميت، ولا أحد يدري كيف عرفت أن اسمه محمد؟ فراحت تخاطبه به، اقتربت من السرير النحاسي الذي مددوه عليه، ولم يستطع أحد أن يتدخل وهو يراها تُزيح الملاءة البيضاء من على وجهه، وتمسح بيدها على شعره وجبينه، وتُربِّت على صدغه، وتقول: عاوز حاجة يا محمد؟ عاوز حاجة يا حبيبي؟ قول يا ابني قول، قول لي على اللي في نفسك. أنا ها أقول لهم على كل شيء، قول وما يكونش عندك زعل، أولادك ومراتك في أمان الله إن شاء الله، حاضر يا حبيبي، حاضر يا ابني، كل اللي نفسك فيه يا عيني، أبدًا أبدًا يا حبيبي، كل اللي في نفسك يا ابني، حاضر، حاضر، حاضر، وقبل أن يُفيق أحد إلى ما تفعل كانت قد ألقت برأسها الصغير على صدر الميت، وراحت تنشج نشيجًا مفجوعًا. ولم يعرف الحاضرون ماذا يفعلون إزاء بكائها المُختنِق وجسدها الذي يعلو ويهبط بشدة، وصيحتها المبحوحة التي لا تكاد تُسمع وهي تردد: عاوز حاجة؟ عاوز حاجة؟ وبدأت النساء يُربِّتن على ظهرها، وتحول العزاء كله إليها، وكاد الجميع ينسون الزوجة والأولاد، وراح الرجال ينصحون برش الماء على وجهها أو شدها بعيدًا عن الميت، بل إن زوجة الميت قد نسيت حقدها الهائل عليها، وألقت بذراعيها حول صدرها، وراحت هي أيضًا تُهدِّئها، وتدعو الله أن يلطف بها ويرفع بلواها!

فات اليوم على خير، ولا بد أن تكون المرأة المسكينة قد بكت وعملت في نفسها ما تعمله كل مفجوعة في ميت عزيز، ولم يسأل أحد نفسه إن كانت قد فعلت ذلك مشاركة في العزاء؛ فالجميع يعلمون أنها لم تكن تعرف المرحوم، ولا دخلت بيته، ولا شربت فيه جرعة ماء! ولم يكن من الصعب أيضًا أن نعلم أن ذلك أثار فيها ذكرى بعيدة لا يعرف الأطفال والشباب منا بوجه خاص أي شيء عنها؛ وإن كنا قد سمعنا من بعض عجائزنا بعد ذلك أنها تصورت ابنها «محمد» الذي مات في الغربة — ربما في أحد مستشفيات الصدر كما يؤكد البعض — من مدة طويلة، وقد يكون خُيِّل إليها أنه مات في تلك الليلة لا قبل ذلك، وربما يكون سؤالها الذي عرفناها به هو السؤال الذي كانت تُلقيه عليه في ساعته الأخيرة، فلم يُجِب عليها بشيء، ولم تدرِ بعد ذلك كيف تتوقف عن إلقائه على كل مخلوق؟

كل هذه أشياء كنا نَتكهَّن بها، أو نسمعها من شيوخنا ونسوتنا العجائز، أو من اجتهادنا عن غير علم، ولكننا علمنا بعد ذلك أنها قد مرضت مرضًا شديدًا، وأنها حين كانت تشفى قليلًا منه أو يُخيَّل إليها أنها شُفيت تخرج من بيتها — إذ يسمعها الجيران وهي تغلق باب حجرتها أو يرونها أحيانًا وهي تضع المفتاح الكبير فيه — فتمضي في طريقها إلى محطة السكك الحديدية في أطراف بلدتنا.

لم تعد تُوجِّه لأحد من أهل البلد سؤالها القديم، ولا عادت تكثرت بمداعبات الأطفال والبنات؛ بل ولا حتى بدعوات الفلاحين العائدين على ظهور الحمير من الحقول ومعهم نساؤهم وجاموسهم وكلابهم وأطفالهم.

كانت تنتظر في المحطة بضع ساعات، وكلما وقف قطار أقبلت على النازلين منه تسألهم بصوتها الهادئ المبحوح: عاوز حاجة يا ابني؟

ويبدو أنها كانت لا تخطئ الغريب، وأن الغرباء كانوا يُؤخَذون بسؤالها في أول الأمر، أو يحملونه محمل الجد، أو يرون فيه علامة على كرم أهل البلد وشهامتهم، وكانوا بالطبع يسألون عن المضيفة التي تُؤْويهم، أو التاجر الذي يقصدونه، أو العمدة الذي يتجهون إليه، أو المدرسة، أو الوحدة التي سيعملون بها؛ فلا يتلقَّون سوى جواب واحد: حاضر يا ابني، أقول لهم يا حبيبي، روح انت بالسلامة وانا اقول لهم على كل حاجة.

وما لبث الغرباء أيضًا أن عرفوها، وعُمال المحطة وموظفوها أن بدءُوا ينهرونها، أو يُحذِّرون المسافرين منها، أو يُطالبونها بالبعد عن القطار والرصيف والمحطة كلها؛ حتى لا تأتي لهم بمصيبة.

ويظهر أنها سمعت هذه النصيحة التي بدأت تتكرر عليها من الجميع، فجاء يوم لم نجدها فيه، لا في شوارع البلد، ولا في بيتها، ولا على المحطة؛ هل تكون عجلات القطار قد دهستها دون أن نشعر في مكان بعيد أو قريب؟ أتكون قد ركبت القطار وذهبت إلى قرية أخرى، أو إلى البندر الذي سمعنا أن ابنها الوحيد مات فيه؟ لا أحد يدري!

(١٩٦٨م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤