بكاء

كانت قد خرجت من محل شملا في ظهر ذلك اليوم، تحمل في ذراعها اليسرى كيسًا مُنتفِخًا بملابس الأولاد: ملابس داخلية، قمصان للصيف، مايوهات ملونة للبحر، أحذية على مقاس الأقدام الصغيرة المحبوبة، وتضع ذراعها اليمنى في ذراع زوجها الأستاذ سعيد مهندس التنظيم، وكانت السعادة تملؤها لتوفيقها في الشراء من الأوكازيون؛ فالبائع كان لطيفًا سمح الوجه، واختيار البضاعة لم يكن عسيرًا، والثمن الذي دفعته لم يكن باهظًا على الإطلاق، وكان الشعور بالرضا والارتياح يغمرها ويفيض عليها سعادة هادئة تبدو في عينيها المرحتين الصافيتين، ومشيتها الرزينة المطمئنة، وإحساسها اللذيذ بالقرب من زوج طيب ودود ينِمُّ وجهه الأبيض الهادئ عن الرجولة والاعتداد والحنان.

وكانت هذه المشاعر الهادئة تصرفها عن ملاحظة الجو الخانق الذي يكتم الأنفاس، وتُبعد عنها السخط والضيق والنكد الذي كانت تُحس به عادة من الزحام في هذه الساعة التي يخرج فيها الموظفون والعمال؛ بل إنها — لفرط سعادتها ورضاها — وجدت ذلك كله شيئًا طبيعيًّا، وبدت كأنها تقرأ في الوجوه الملولة المُتعَبة التي تقابلها، والمركبات العامة التي تميل هياكلها وتئن عجلاتها تحت وطأة الزحام والصراخ والسباب، والأشجار الهامدة التي تتلهف أوراقها الجافة على نسمة من الهواء، والضجيج المزعج الذي ينبعث من الأبواق والحناجر وأجهزة الراديو؛ بدت كأنها تلمح في هذا كله نوعًا من النظام الطبيعي الخالد الذي يسير كل شيء فيه على ما يرام!

كانت تتمنى لو استطاعت أن تتغنى بأغنيتها المفضلة التي ترددها بإصرار مُضحِك في المطبخ والحمام، أو تُقبِّل «سعيد» قُبلة مُفاجئة لا يفهم سرها كعادته، ولكنه يتلقاها منها في رضًا وسرور.

وراحت تُداعِب في خيالها صورة أولادها الثلاثة الذين سيستقبلونها بالصياح والهتاف والأيدي الممدودة إلى الجيوب والأكياس، كما تُرتِّب في ذهنها أطباق الغداء على المائدة، والقمصان الجديدة على أجسام الصغار، والأحذية والصنادل في أقدامهم، والبهجة التي ستُشع من كل مكان في المسكن الأنيق.

كانت تقترب مع زوجها من محطة الأوتوبيس الذي سيحملها إلى مصر الجديدة، وتُداعِب هذه الأفكار المُشتَّتة كما لو كانت تجلس في زورق يهتز فوق موج هادئ عندما رأته، فانقلب الزورق فجأة وغاصت مفزوعة إلى القاع. من المبالغة بالطبع أن يقال: إنها عرفته أو تذكرته من أول نظرة؛ فقد كان يقف هناك على الرصيف قبل منتصف الشارع المُؤدِّي إلى المحطة المُزدحِمة بالناس، كما يقف آلاف الشحَّاذين في كل مكان.

اتجهت إليه أول الأمر مدفوعة بنفس الشعور الهادئ الذي عرفناه فيها منذ قليل، وسحبت ذراعها برفق من ذراع زوجها؛ لتتمكن من فتح حقيبتها وإعطاء الشحاذ المجهول ما فيه النصيب. كان من الممكن أن تمد يدها إلى يده المتصلبة المفتوحة أمامها بالقرش أو القرشين، وتمضي في هدوء دون أن تنظر في وجهه أو تنتبه إلى دعوته للمحسنين، وكان من الممكن أيضًا أن تمر عليه مر الكرام دون أن يُحرِّك منظره في نفسها نزعة الإشفاق التي تُميتها في العادة كثرة الشحاذين، أو تتأمله في صمت وتمضي في طريقها في عدم اكتراث؛ لولا أنه كان يقف هناك كالقدر، أو المفاجأة الحية التي تُطل برأسها من بئر الذكريات. هذا الوجه الشاحب المجدور المستطيل، الذي يبدو أن الشيخوخة قبعت فيه منذ الطفولة، وحولته إلى وجه مومياء مُصفرَّة؛ لم يستطع العفن أو الزمن أن يصل إليها.

أين رأته من قبل؟ هاتان العينان المُغمضَتان كعينَي أعمى تحت جبهة عريضة ناصعة، لا تتناسب هي والوجه المُغضَّن الصغير، برموشهما السوداء الطويلة المُنسدِلة كمظلة مُقفَلة الأطراف؛ هل تكونان هما نفس العينين الجائعتين الصامتتين اللتين حيَّرتاها منذ أكثر من عشر سنوات؟ وهذه اليد الممدودة المُتخشِّبة كيَد ميت صفراء نافرة العروق، دقيقة الأصابع، قذرة الأظفار، ملتهبة ومُحمرَّة من أثر التدخين؛ هل هي نفس اليد التي كانت تتعجب من صغرها وهزالها ودقة تعبيرها عن بؤس مُزمِن وعميق؟ ولماذا تمتد الآن بين زحام الأجسام والأصوات وضجيج الشارع كسؤال أخرس، بعد أن كانت تضم أصابعها النحيلة على الكتب والصحف والمحلات، وتتشبث ببقايا سيجارة رخيصة مريضة الدخان؟ يا إلهي! كم تتغير الأيام!

تاهت يدها في حقيبتها لحظات، يبدو أنها طالت أكثر مما ينبغي، واستغرقها التأمل المشدوه في الوجه المُصفرِّ، والعينين المُغلَقتين، والكف المتصلبة، والقميص المتسخ الذي صار أشبه بكفن صغير، والبذلة الحقيرة المملوءة بالرُّقَع والثقوب في أكثر من موضع، والحذاء المُتهرِّئ من الأمام والخلف حتى صار يكشف عن بقايا جورب مُمزَّق ومُلطَّخ بالطين. ووقف زوجها لحظة يَرمقها في هدوء وابتسام، فلما طال مكثها أمام الشحاذ أخذ يتسلى بالنظر إلى التمثال القميء المنصوب على قاعدة منخفضة وسط الشارع، ويبحث في نفسه عن مُبرِّر واحد لوجوده في هذا المكان. إن القاعدة قد امتلأت بالكتابات والتعليقات بخط قبيح وألوان مختلفة، والتمثال نفسه قد نقش الحَمام على ظهره آثار فضلاته، وليس هناك عابر سبيل يتعطف عليه بنظرة واحدة، كما أنه لا يستطيع أن يجذب انتباه إنسان واحد. استدار الأستاذ سعيد، وتقدم من زوجته، ووضع ذراعه في ذراعها وهو يضحك قائلًا: هذا التمثال يكفي للحجر على كل مهندسي التنظيم.

هزت ألطاف هانم رأسها كمن يُفيق من كابوس، وسألت: ماذا تقول يا حبيبي؟

أشار إلى التمثال وقد ازداد ضحكه، وقال: من المُؤسِف أن يكون هذا مصير كل الزعماء.

التفتت إلى حيث يشير بإصبعه، وقالت: يجب عليكم أن تنظفوه.

قال بسرعة: بل قولي: يجب أن تزيلوه!

التفتت إلى الشحاذ المتسمر في مكانه، وتذكرت أنها لم تعطه شيئًا، وسألت زوجها عن فكة، فبحث في جيوبه، ولم يجد سوى قرش واحد. قال لها وهو ما يزال ينظر للتمثال: الزعيم أولى به!

لم تضحك كما كان ينتظر فكتم ضحكته، خلص ذراعه من ذراعها، وأمسكت يده بيدها، وشدها كي تجري ليلحقا بالأوتوبيس. كانت لا تزال تنظر إلى الشحاذ، وتتلفت في كل لحظة لتقارن بين تمثاله الحي وبين صورته التي تقفز نحوها من الماضي البعيد. توقفت وقالت يائسة: سعيد، الدنيا زحمة. تعال نأخذ «تاكسي».

أسرع سعيد يقول: على كيفك يا حبيبتي.

وفي لحظة كان صوته القوي المرح ينادي على التاكسي، وفي لحظة كان قد انطلق بهما وعبر الميدان في طريقه إلى شارع رمسيس.

مضى الأستاذ سعيد يتحدث بغير انقطاع، كان صوته المُمتلِئ الوديع يتدفق في أذنيها، فتُحس بالاطمئنان الذي يكاد أن يبعث فيها الرغبة في النوم.

راحت تنظر إليه بين حين وحين وذهنها شارد عنه؛ ربما لتُثبِت له أنها تُتابع كلامه الذي يتنقل بسرعة من التمثال إلى رخص الأوكازيون، إلى مشكلة المواصلات إلى الحرب في فيتنام، ولاحظت بارتياح أن السائق التقط الخيط منه، واستغرق معه في حديث خطير عن غلاء المعيشة والخنافس وواجب استعمال العصا في المدارس؛ أما هي فلم تعرف في أي شيء تفكر على وجه التحديد؟ كانت صورة الشحاذ المُتشنِّج اليدين تصدم وجهها باستمرار! بل إن وجهه المجدور الذابل كان كثيرًا ما يتداخل هو ووجه زوجها الأبيض الناعم، والعينان المُغمَضتان تهتزان أمامها وتقفزان من زجاج النافذة ومصابيح الشارع ورءوس الأشجار وأعمدة البيوت.

وكما تتداخل صورة المرئيات وصور الشحاذ، تداخلت الأفكار وراحت تتشكل لها وجوهًا وعيونًا وألسنة طويلة وأيادي تُمسِك برقبتها أو تصفعها على خديها! حاولت أن تُبعدها بالتفكير في مشكلة الزحام، وطاف بعقلها دون سبب اسم مالتس ونظريته التي أخذتها في الجامعة، وتُحاول الآن عبثًا أن تتذكر صيغتها التي كانت تحفظها عن ظهر قلب، وهمت أن تسأل زوجها لولا أن وجدت صورة الشحاذ تصدم وجهها بشدة، فرفعت يديها تُغطيه بسرعة؛ مما جعل زوجها يلتفت إليها ويسألها جزعًا عن حالها، فأجابت في هدوء: لا شيء يا حبيبي، صداع بسيط.

كانت تراه في كل صباح، هناك منذ عشر سنوات أو تزيد، على محطة الأوتوبيس الذي كانت تركبه إلى الجامعة، لم يعد لديها شك في ذلك، لم يعد لديها أدنى شك فيه، بالطبع لم تسأل نفسها عنه في الأيام ولا الأشهر الأولى، ولا حاولت أن تفكر لحظة واحدة فيه. كان يقف بقامته القصيرة، وهيئته الرَّثَّة، وشعر رأسه المُهوَّش الذي يسقط على أذنيه وينعقد ككومات من الطين المُتناثِر على رأسه وقفاه! ولم يكن يسترعي انتباهها منه في البداية سوى كومة الأوراق التي كان يحملها تحت إبطه في معظم الأحيان.

لم يكن منظره منظر طالب، ولا كانت هيئته أو سنه أو حتى مجموعة اللفائف التي في يده تسمح بهذا الظن، ولا بد أنها كانت تبتسم في سرها لمنظره، وربما تعلمت مع الزمن أن تتعجب لقذارته المُزمِنة (التي لم تكن فيما يبدو مُتعمَّدة؛ بل عن بؤس أكيد)، وترثي لحاله في النهاية، وتسأل نفسها إن كان له أهل في هذه الدنيا، وأين يأكل وينام ويعيش؟

ويظهر أن بائعة الجرائد العجوز لاحظت أن اهتمامها به يتزايد مع مرور الأيام، فكان أن غمزت لها بعينها وهي تشتري منها إحدى المجلات النسائية قائلة: أصله شاعر.

سألتها باستخفاف: قرأت له؟

قالت البائعة وهي تُشوِّح بذراعها: الله يسترك، ما ناقص إلا الشعر!

سألتها في يوم آخر: من أين عرفت أنه شاعر؟

قالت البائعة: زبون دائم عندي، في يوم فتح مجلة وأشار لصفحة فيها، وقال في فرح الأطفال: الحمد لله، نشروا قصيدتي. قالت له البائعة: شعر؟ يعني حضرتك ما شاء الله شاعر؟

ابتسم ومضى يقرأ قصيدته في سره وهتف غاضبًا: كلها أخطاء مطبعية.

قالت له البائعة: بركة دعا الوالدين!

ابتسم في حزن وقال: تعيشي يا حاجة.

سمعت ألطاف ذلك ولم تهتم به؛ فما لها والشعر وهي تدرس المالية والمحاسبة والاقتصاد؟ إنها لا تذكر شيئًا مما كانوا يَسقونه لها في حصة العربي والإنشاء، وحاولت أن تذكر منه بيتًا واحدًا يُمسِك بعضه بعضًا فلم تستطع، قالت لنفسها: ما كل ما يتمنى المرء يدركه! لكنها لم تذكر الشطر الآخر ولم تعرف إن كان لشوقي أو حافظ أو النابغة الذبياني، وضحكت في سرها للاسم الأخير، وقالت لنفسها: إن نطقه وحده يُميت من الضحك.

ومع الأيام راحت تُتابع الشاعر المجهول، كانت تراه في معظم الأيام واقفًا كالتمثال في انتظار الأوتوبيس، ويبدو أنها كانت قد فرغت من ملاحظة هيئته وملابسه الرثة، وحفظت قميصه القذر الذي لا يتغير، وبذلته البنية الداكنة؛ ولا بد أن المصادفة وحدها هي التي جعلتها تنظر مرة إلى عينيه، بدتا لها بعكس ملابسه ووجهه وكل شيء فيه، كأنهما هما الشيء الوحيد الذي يدل على الحياة فيه!

كانتا ضيقتين، تلمعان لمعة غريبة، وتتحركان باستمرار في قلق وحزن لا يطاق.

وقد فطنت بغريزة الأنثى أنه يُسلِّطهما عليها في شوق أخرس مكتوم، ومع أنها كانت تنفر منهما وتحاول أن تتجاهلهما على الدوام؛ فقد بدأت تسأل نفسها عما تريده منها النظرة الخرساء؛ إذ ليس هناك أفظع من عينين صامتتين حزينتين، تقولان لك: إنني أحبك ولا أريد منك شيئًا! هل كان هذا المخلوق البائس الزري يحبها؟ وماذا كان يرجو من وراء هذا الحب الأخرس المخبول؟ إن جدارًا هائلًا كثيفًا من التقاليد والظروف يُبعدها عنه! بل يسحقه كالحشرة الذليلة أو الدودة البائسة! وهل يُعقَل أن تُبادله النظر أو تُطمِعه بأدنى إشارة أو لمحة؟ يا له من خائب مجنون!

في يوم من الأيام جاءت متأخرة عن موعدها قليلًا إلى محطة الأوتوبيس، كان هناك زحام غير عادي وجماعة من الناس يتحلقون حول رجل مُمدَّد على الأرض، وشابٍّ يُجرِي له تنفسًا صناعيًّا، ويصيح بالواقفين أن يبتعدوا لكيلا يمنعوا الهواء عنه، وآخر يصرخ في طلب الماء. وحشرت نفسها لتُلقِي نظرة، فرأت الشاعر مُمدَّدًا على الأرض ببذلته الداكنة، وقميصه وحذائه الباليين، ووجهه المُصفرِّ المجدور الذي يشبه وجه ميت. وبعد قليل نهض واقفًا، ونفض التراب بشدة عن ملابسه، وراح يعتذر إلى الناس ويشكرهم، ثم تقدم من سائق عربة كارو كان يقف في خوف بعيدًا عن الجمع المحتشد، وإذا به يتقدم منه خجلًا كالفتاة العذراء، فيعتذر إليه بصوت مسموع، ثم يحتضنه فجأة ويُقبِّله! بادرتها بائعة الجرائد العجوز قائلة: مجنون؛ بدل ما يطلب التعويض!

سألتها: هل داسه العربجي؟

قالت البائعة: داسه؟ قولي دهسه، العجَل يا عيني فات عليه، لولا ستر ربنا كان بقى نصفين؛ والآخر يعتذر له!

أزاحت شعرها الأسود الفاحم عن عينيها، وقالت باسمة: ما هو شاعر! وجاء الأوتوبيس فقفزت فيه.

إنها لا تزال تذكر الآن كيف بدأت تهتم به وتعطف عليه؟ كانت تلاحظ أن نظراته تتابعها، نفس العيون الخرساء، العيون البائسة بلا أمل في الأرض ولا في السماء، العيون المجروحة التي تقول في انكسار: أحبك، ولا أريد منك شيئًا! وبدأت هي أيضًا تهتم بنفسها: كانت تطيل الوقوف أمام المرآة قبل أن تخرج إلى الشارع، وبدأت — ربما لأول مرة — تتأمل وجهها الصغير الجميل، وتلاحظ أنفها الدقيق، ووجنتيها البارزتين، وفمها الدقيق الواسع قليلًا، وشفتيها الرقيقتين اللتين تبتسمان دائمًا في سخرية عذبة كانت هي طابعها الأصيل؛ أما عيناها السوداوان المستديرتان فكانتا تُشعان بنظرة لم تلتفت إليها من قبل؛ نظرة نارية ثائرة، فيهما كبرياء وبعد، ولكن فيهما مع ذلك حزن عميق يرسم مع الشعر الأسود الفاحم الطويل، الذي ينسدل دائمًا على جبينها العريض وإحدى عينيها؛ صورةً من الخيالات والأحلام العذراء التي تحيط الفتيات في عمرها بهالة من الغموض والتمنع والحياء.

ها هي ذي نظرته تُتابعني؛ لكن ماذا يريد؟ آه من هذا الأخرس المخبول! إنه لا يقول شيئًا، لا يتحرك، لا يهتز فيه عِرق واحد! هل ينظر إليَّ حقًّا أو يسبح مع أشعاره؟ وأي أشعار هذه؟ هل هي مثل أشعار شوقي وحافظ؟ هل ينشرونها حقًّا في الجرائد والمجلات؟ هل يكسب منها عيشه؟ هل يُغنُّونها في الراديو؟ إنه يُتابعني دائمًا بالنظرة الذليلة المجنونة الصامتة الصارخة بالحب واليأس والعذاب والانكسار!

لكنها تذكر الآن كيف انقلب اهتمامها الطارئ به إلى سخط وحقد واشمئزاز! إنها لا تقيم وزنًا لهذه النظرات الجائعة، ولو صرخت في الأبواق بأنها تحبها حتى الموت! ماذا يقول الناس؟ ماذا تقول العائلة، والعرسان الذين يحومون حولها من الآن ويسألون عنها بل يتقدمون لأبيها: مهندسون وأطباء وضباط وموظفون محترمون؟! وها هو ذا قد خرج من حياتها التي لم يدخلها قط، واختفت نظرته وهيئته المُزرية وجسده الضئيل ووجهه الشاحب الصغير، كلها اختفت إلى الأبد خلف السور الشائك الذي أقامته حولها، أو وجدته منذ البداية مُلتفًّا عليها!

يا إلهي، ما الذي يوقفه هذه الوقفة في أكبر ميدان؟ ما الذي انتهى به إلى هذه النهاية؟ هل طردته الجريدة التي كان يعمل فيها؟ هل أفلس من الشعر؟ هل مات كل أهله فوقف في طريق الحياة كبقية شجرة قطعت من جذورها؟ هل أصابه العمى من كثرة القراءة والكتابة، أو من كثرة البكاء، أو من كثرة النظر الأخرس الحزين؟ ما الذي أدى به إلى هذا المصير؟ ما الذي جعله يمد يده المُتشنِّجة لكل عابر سبيل؟ ألا يكسب الشعراء من شعرهم؟ ألم يكن شوقي كما يقال أمير الشعراء؟

إنها لا تذكر بيتًا واحدًا من الشعر — ما كل ما يتمنى المرء يدركه — لكن لا بد أن صاحبه لم يكن شحاذًا، ولم يضطر إلى الوقوف في ميدان تحت شمس محرقة وسط زحام خانق، بين آلاف العيون التي تنظر أو تمر بغير اكتراث! هل دخل المسكين السجن، فعُذِّب كما سمعت من الناس، أو عُلِّق جسده من قدميه كما تُعلَّق الذبائح عند الجزارين، أو سُلِّطت عليه الكلاب المتوحشة، أو أُغرِق بالماء إلى رقبته في زنزانة؟ هل كان من الشيوعيين والسياسيين؟ أو ماذا جرى له؟

كان الأستاذ سعيد لايزال مُستغرِقًا في نقاش مع سائق التاكسي. أصغت قليلًا، فوجدتهما يتحدثان عن مشكلات التنظيم والمدينة التي ضاقت بعرباتها وسكانها، وحاولت أن تتذكر قانون مالتس، وخطرت لها كلمة المُتوالية الهندسية والمُتوالية الحسابية؛ ولكنها لم تفلح في العثور على صيغة القانون. وهتف السائق: لا بد من تعميم الحبوب وجعلها بالمجان. فقال زوجها: ولو، الأرانب هي الأرانب وحياتك، وضحِكا ضحكة فاضحة جعلتها تدير وجهها إلى الناحية الأخرى.

وقف التاكسي أمام باب العمارة، نزل زوجها أولًا ومد إليها يده ليسندها. كم هي رَخْصة هذه اليد وسمينة وبيضاء ومريحة! عشرة أعوام وهي تُمسِك بيدها، وتُربِّت على كتفها، وتمنحها الثقة والعطف والحنان! لكن العيون الخرساء الجائعة تقف أمامها الآن، عيون ضيقة تلمع ببريق التنفس والقلق واليأس والذل والعذاب. أأكون مُذنِبة أيتها العيون؟ أكان في وسعي أن أفعل شيئًا ولم أفعله؟

لماذا لم يقل كلمة واحدة؟ لماذا لم ينطق بحرف لم يُصدر إشارة؟

كنت بالطبع سأزجره وأُلزِمه حده! لكن ربما كان هذا على الأقل مصدر عزاء لي الآن؛ ومن يدري؟ فربما كنت أجبته بكلمة، تصدقت عليه بنظرة، شجعته بابتسامة، مستحيل أن أتصور أنني كنت سأزيد على ذلك، مستحيل أن يكون قد خطر لي أن أكلمه مرة وأمشي معه خطوة واحدة؛ وماذا كانت تقول الناس والجيران والعائلة والعرسان الذين يحومون حولي؟ ها هو ذا سعيد يُفيض عليَّ حبه وعطفه منذ سنين، هيأ لي البيت السعيد، ووهب لي الأولاد السعداء، كأنما يُقسِم أن يجعل كل يوم من أيام حياتي نظيرًا لاسمه، عندي كل وسائل الراحة والهناء والحياة المستقرة المريحة، وماذا تطلب الزوجة أكثر من المُرتَّب المضمون والثلاجة والبوتاجاز والغسالة والسخان والتلفزيون؟ هل تسمح لنفسها بعد هذا ألا توفر له البيت السعيد وتملأه بالأطفال السعداء؟ ما كل ما يتمنى المرء يدركه. ليتني أعرف فقط إن كان هذا الكلام لشوقي أو حافظ!

سألها زوجها وهما يدخلان من باب الشقة ويسمعان صياح الأولاد الثلاثة: فيم تفكرين يا حبيبتي؟

قالت شاردةً: في بيت من الشعر.

هتف وهو يحتضن هناء: اسألي ماما عنه يا هناء.

قالت ألطاف وهي تغتصب ضحكة: نسيته يا سعيد.

قال سعيد وهو يقبل هدى وهابي: لازم كان من المعلقات.

أقبل على الأولاد يُريهم القمصان الجديدة والمايوهات والصنادل. ما أطيبه! وما أكثر حبه لها ولأولادها! ما أشد ثقتها فيه واطمئنانها بجانبه! إنها لا تذكر أنه أغضبها يومًا بكلمة حادة أو خارجة، أو أخر لها طلبًا من نفسها، أو بخل عليها بملبس أو مأكل أو نزهة!

وراحت تخلع ثيابها في صمت وترتدي ملابس البيت. كان شيء كالخَدَر يزحف من قدميها إلى رأسها، ومن رأسها إلى قدميها؛ شيء ثقيل أسود كالمارد أخذ يُطبِق على عينيها، ويَجثم على أنفاسها، ويزحف في نبضها ودمها! وارتمت على الفراش وكل شيء يهتز أمام عينيها ويدور ويختلط دوامة من الألوان والأصوات والحركات. اتسعت العينان الجائعتان أمامها، وتحجرت فيهما النظرة الفظيعة الخرساء، وامتدت أمامها اليد المُتشنِّجة كيد ميت تخترق النعش فجأة أخذت تتقدم منها وتتقدم، كأنها تريد أن تلمس وجهها أو تسترحمه أو تلطمه!

صرخت مفزوعة، ثم انفجرت باكية. وحين أسرع سعيد إليها وسألها ملهوفًا عما بها؛ ألقت ذراعيها حول عنقه، ودفنت رأسها في صدره وقالت وهي تنشج: لا شيء يا حبيبي، لا شيء أبدًا!

(١٩٦٨م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤