الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت

كانت العربة قد توقفت تمامًا، أزَّت عجلاتها الصدئة لحظة، واهتزت الأكياس والأقفاص وألواح الخشب المُتكدِسة فوقها، ثم هدأ بعد ذلك كل شيء، وتململ العربجي في مكانه وصاح: شي، شي؛ ولكن صياحه لم يحرك الحصان، ولم ينفع في تحريك العربة؛ ظهر الغضب على وجهه وتطاير من عينيه، وعاد يصيح بصوت خدشته الجوزة والمعسل والسب في خلق الله: شي يا حصان الكلب! قلت لك شي! لكن الحصان ظل جامدًا في مكانه، ولم يبدُ عليه أنه سمع الصوت أو أنه على استعداد لسماعه، وجُن جنون العربجي، فتناول سوطه وبدأ يضربه، كانت الضربات في بداية الأمر خفيفة من النوع الذي يلسع ولا يؤذي، فلما رد عليها الحصان بهز رأسه وتحريك ذيله؛ راحت تزداد وتتوالى ويسمع حفيفها في الهواء، أخذت تتهاوى على جسده كله دون تمييز، وراحت تُدوِّي فوق الرأس والأذنين والظهر والذيل والأقدام!

صاح السائق: شي يا ابن الكلب، فضحتنا قدام الناس، قلت لك شي. ولكن الحصان اكتفى بتحريك رأسه وذيله إلى اليمين واليسار، وكلما اشتد عليه الضرب رفس العربة بأحد حافريه الخلفيين، فقعقعت عجلاتها واهتزت فوقها الأكياس والصناديق. ومع أن طرف السوط كان يتوالى كألسنة النار على رأسه وعينيه، ويُصيب الجروح المشقوقة على ظهره وساقه حتى ينزف منها الدم؛ فقد كان فيما يبدو يتمسك بالصبر، كأنما يعرف أن صاحبه سيتوقف عن ضربه كما عهد ذلك منه، وينزل إليه ويُربِّت على رأسه ويُصالحه؛ ولكن العربجي كان قد جُن جنونه، ومع صيحاته الخشنة المُدوِّية توالت ضرباته في كل مكان من الجسد الأعجف المقروح!

كان ذلك كله يجري في ميدان عام، مُزدحِم في وقت الظهر بالناس والعربات والترام والتروللي؛ وقت خروج الموظفين من المكاتب، وعودة النساء بعد شراء الحاجات.

وكما هي العادة دائمًا في مثل هذه الحالات، تتلفت عيونهم من نوافذ الترام أو العربات؛ ليُعبِّروا عن سخطهم على قسوة السائق وتعاطفهم مع الحيوان المسكين، وقد يهزون رءوسهم أسفًا على الرحمة التي نُزعت من قلوب الناس، أو يسألون أنفسهم: أين جمعية الرفق بالحيوان؟ أو لماذا تسكت الحكومة على هذا الظلم، ولا تَسن القوانين الكفيلة بحماية الحيوان من الإنسان؟

وسرعان ما يمر الترام أو الأوتوبيس، فينسون همَّ العربجي والحصان ويدخلون في نفوسهم. أما السائرون على أقدامهم فإنهم يتوقفون قليلًا، أو يتجمعون حول المكان، أو تأخذ الشهامة أحدهم؛ فيُنادي على العسكري أو يتدخل بنفسه، فينصح السائق بكلمة طيبة تُعلمه الحلال من الحرام.

بدأ الناس بالفعل ينظرون من نوافذ الترام والأوتوبيس، ويتجمعون حول العربة؛ ليتفرجوا، أو يقولوا كلمة طيبة، أو يحاولوا التدخل رحمة بالحصان المسكين. صحيح أن بعضهم كان يتفرج لحظات ثم يسرع إلى عمله أو ركوب ترامه، ويقول لنفسه: إن هذا شيء يتكرر كل يوم، ولا بد من تدخُّل الحكومة فيه؛ ولكن توالي اللسعات ورنينها الذي كان يغلب على ضجيج الميدان ويخترق الآذان؛ جعل الكثيرين منهم يتوقف في مكانه ويُحس بأنه مُطالَب بعمل شيء.

ومما زاد في هذا الإحساس أن العربجي جُن جنونه، فسحب لوحًا من الأخشاب المتراكمة على عربته، وأخذ ينهال بها في كل مكان من جسد الحصان. قاوم الحيوان قليلًا، وزادت رفساته التي كانت تصطدم عبثًا ومقدم العربة، وأطلق صهيله، الذي تحوَّل مع عنف الضرب ووحشيته، وخبطاته العشوائية لعظام الظهر والبطن والصدر والأقدام والوجه والرقبة؛ إلى صوت مخدوش، راح يخفت بالتدريج حتى صار كنحيب طفل يبكي على قبر ميت! ولم تبقَ في الحصان قوة على المقاومة، فانثنت ساقاه الأماميتان ومال برأسه على الأرض، ثم عاجلته ضربة على مُؤخَّر ظهره فانثنت الساقان الخلفيتان أيضًا وتمدد بجسده كله على الأرض!

كان العربجي لا يزال يصرخ، ويسب ويلعن أجداد الحصان وأيامه السوداء، ويُنزِل ضربه الأعمى على الجسد الهامد الذي لم يبقَ فيه من آثار المقاومة سوى اختلاجة تسري فيه وحشرجة تخرج من الفم، ودموع تسقط من العينين! وكان الناس قد تجمَّعوا حوله، وكل واحد منهم يُحس أنه مُلزَم بأن يفعل شيئًا، أو أنه تَورط وانتهى الأمر ولا بد أن يتصرف بأي طريقة توقف هذه الوحشية؛ صرخ طفل في أول الأمر وارتفع بكاؤه، وهتفت امرأة عجوز تلف رأسها بشال أبيض: حرام عليك يا رجل! الحصان تعب يا ولداه! وتقدم شاب يضع نظارة غليظة على عينيه ويلبس بلوفرًا أسود ويحمل في يده حقيبة كتب سوداء!

– تعب؟ يا عالم! الحصان مات!

ولا بد أن الكلمة الأخيرة بعثت الاشمئزاز في نفوس الحاضرين، ودفعت بعضهم إلى التقدم بلا تردد إلى السائق، وتخليص لوح الخشب والسوط من يديه؛ ولكن هذا استمر يزعق ويلعن: ما لكم انتم؟ ابني وانا اربيه!

هتفت المرأة العجوز: يا شيخ حرام عليك! اتقوا الله وخلوا في قلوبكم رحمة.

تبجح السائق قليلًا: اسكتي انت يا حجة، حصاني وانا اعرفه!

انفعلت الحاجة: يعني تقتله ونقف نتفرج؟ ما تتكلموا يا رجالة.

وشعر الرجال أنهم مطالبون فعلًا بالتدخل، فقال شاب يرتدي بذلة بُنية فخمة ويحرك يديه ولسانه حركة مهذبة: لا بد من تبليغ القسم، الحصان مات!

زعق العربجي: قسم؟ هو حضرتك أفوكاتو؟

هتف الشاب: اخرس! أمثالك لا بد من تأديبهم!

عاد العربجي يصرخ: وانتم ما لكم يا عالم؟ اشتكى لكم؟ قال لكم حاجة؟

اقترب الشاب الذي يلبس نظارة من رأس الحصان، انحنى بجانبه، وربت على رقبته، ووضع يده أمام أنفه، ثم التفت إلى الحاضرين، وقال: الحصان بخير يا جماعة، فيه الروح.

اقترب منه الشاب الآخر بعد أن نفذ بصعوبة من الزحام، وثنى ركبتيه، وتحسس ظهر الحصان بكفه، ثم رفعها إلى الجميع وقد تلوثت بالدم الأسود المتجمد: دم؟!

صاح العربجي بصوت أخف حدة بعد أن وجد نفسه مُطالَبًا بتبرير تصرفه: قلت لكم ابني وانا اربيه! يا ناس خلونا في حالنا يا ناس!

ولكن الناس لم يتركوه في حاله؛ فها هو ذا الحصان يلهث ببطء على الرصيف، وعيناه المُحمرَّتان الباكيتان تستنجدان، وشهيقه وزفيره الضعيفان يخترقان الآذان، وأصوات مُختلِطة تتعالى من كل مكان: نادوا العسكري، كلموا بوليس النجدة، اطلبوا الإسعاف، دكتور بيطري يا عالم!

وقف الشاب الذي يلبس نظارة طبية، وقال للجميع: اطمئنوا؛ أنا في الطب البيطري، إن شاء الله نأخذه الكلية ونعمل اللازم.

زأر العربجي: تاخد مين يا سيدنا الافندي؟ يا ناس ابعدوا عنا، يا عالم خلونا في حالنا، حصاني وانا عارفه!

واختلطت الأصوات من جديد؛ بعضها يلعن العربجي، أو يُنادى على العسكري، أو يقترح أن يُنقَل فورًا إلى الجيزة، أو يُعالَج في مكانه، أو يُقبض على السائق؛ وفجأة خرج صوت عميق: يا سادة يا كرام، تلفت الجميع حولهم، ثبَّتوا أعينهم في أفواه بعضهم. ثنى الشاب ذو النظارة ركبتيه من جديد أمام الجسد المُسجَّى على الأرض. مال رأس الحصان إليه قليلًا، وأحس بأنفاسه اللاهثة تَنفث الحرارة والدفء في وجهه، فتح فمه وقال: يا سادة يا كرام، أرجوكم أن تسمعوني قبل أن أموت.

هتف صبي صغير: الحصان يتكلم!

واقترب الجمع حتى كاد أن يُلامس الجسد المُمدَّد على الأرض. رفع الحصان رأسه المُتعَب قليلًا وقال: من أنا؟

قال الشاب ذو النظارة: أنت حيوان ثديي وحيد الحافر من الفصيلة الخيلية، يُستعمَل في الركوب والسباق والجر وحرث الحقول، يوجد منك أنواع كثيرة: البلدي والعربي والإنجليزي والهجين.

قال الحصان: أنا الحصان الأخضر الذي يموت!

قال الشاب ذو النظارة: لن تموت أيها الحصان! سنأخذك حالًا إلى الكلية، هناك سيرعاك المُتخصِّصون ويَشفون جراحك.

قال الحصان: وجرح نفسي أيها الشاب اللطيف؟

قاطعته الحاجة التي زغردت في فرح: والنبي إنك حصان عربي أصيل، وحياة مقام النبي إني عرفتك في الحجاز، أصيل وحياة مقام رسول الله.

قال الحصان وهو يقلب عينيه الحزينتين — كدمعتين مُتجمِّدتين — في وجهها الأبيض: كنت زمانْ يا حاجة وكان جدودي، ياما ركب الفرسان على ضهري وحاربوا في سبيل الله! ياما دخلت الحصون وجريت في الصحاري وصُلت وجلت في المعارك والحروب! أيام زمان يا سادة يا كرام، أيام زمان يا سادة يا كرام.

هل تعرفون أصلي يا كرام؟ هل تعرفوني قبل أن يقسو عليَّ الزمان؟

تقدم الشاب الذي يلبس البذلة البُنية الفخمة، ومد ذراعيه في الهواء قبل أن يُقلِّب وجهه بين الحاضرين في سرور ويقول: أنا أعرف التاريخ؛ الحصان معروف من العصر الحجري، وجده علماء الحفريات مرسومًا في الكهوف وعلى حوافي الجبال؛ كما وُجدت حول معسكر سولتر في فرنسا عظام مئات الألوف من الخيول، كان من آخر الحيوانات التي استأنسها الإنسان.

قاطعه الحصان بصوته المُتحشرِج العميق: نعم يا ولدي، كنت أخرج في الصيد مع الإنسان، أُسابِق الريح والسحاب والغزلان، وأركض حرًّا في الجبال والوديان، هل تعرف ماذا حدث لي بعد ذلك؟ قل لي؛ فقد نسيت التاريخ!

قال الشاب مُنتهِزًا الفرصة: نعم، كان البدو في أواسط آسيا أول من استأنسوك، ثم نقلوك إلى الصين فآسيا الصغرى وأوروبا، حتى جئت أخيرًا إلى مصر.

سأل الحصان: وأين أنا الآن يا ولدي؟

قال الشاب مُتعجِّبًا: أين أنت؟ في مصر طبعًا أيها الحصان.

قال الحصان وخُيِّل للجميع أنه يبتسم: مصر المحروسة؟ باركها الله ببركة الأبطال والأولياء والفرسان. وكيف جئت إلى هنا يا ولدي؟

قال الشاب ذو النظارة كأنه يُحدِّث نفسه: يظهر أنك نسيت التاريخ أيها الحصان! ألا تذكر أنك كنت تجر عربة فرعون في حربه مع الأعداء؟

اعترض الشاب الأنيق قائلًا: غير صحيح! لقد جاء لأول مرة مع الهكسوس، وبالتحديد سنة ألف وخمسمائة وسبعين، وهنا أخرج الشاب بطاقته الشخصية، وقدمها لطالب الطب البيطري قائلًا: صحفي.

أمَّن طالب الطب على كلامه؛ ولكنه واصل اعتراضه قائلًا: ولكن المصريين لم يكونوا قد عرفوا العجلات الحربية؛ فكيف يجر حصان أحمس أو رمسيس؟

قال الشاب ضاحكًا ضحكة عالية: انظروا إلى بطاقتي وتيقنوا بنفسكم، هناك عشرات النقوش محفورة في المعابد، تشهد بأن هذا الحصان هو الذي قاد عربة فرعون! انظروا في بطاقتي ولا تخافوا.

وبدا أن الحاضرين لا يهمهم أن ينظروا في بطاقته، ولا أن يتيقنوا إن كان من رجال المباحث، أو حتى من رجال السيرك. وتدخَّل الحصان بنفسه لكي يمنع نزاعًا يمكن أن يَنشب بسببه في أية لحظة: نعم كنت أنا الحصان الأصيل؛ كنت أجري في الجبال والغابات، وأخطر على ضفاف الأنهار بلا سرج أو لجام! كنت حرًّا كالهواء، خفيفًا كالسحاب، أبيض الجبين كالفجر؛ أتهادى كالموج، وأركض كالعاصفة؛ وأغضب كالرعد، وأحب كالأطفال؛ إلى أن وضع الإنسان السرج على ظهري، واللجام في لساني. ورضيت حين عرفت أن الذين سيركبونني هم الشجعان والفرسان! ياما انطلقت بهم، وصرخت معهم في وجوه الأعداء، ودست على جثث الكفرة والمجرمين! شاكست الإسكندر طويلًا حتى تيقنت شجاعته، فألنت له ظهري، ورحت أجوب معه العالم من بلاد النبيذ والزيتون والحكماء إلى بلاد في السند والهند تركب الأفيال! صحبت فرسان العصور الوسطى التي تُسمونها اليوم ظلمًا بعصور الظلام، ودافعت معهم عن الشرف والدين، وسمعتهم يُلقون في الحب أجمل الأشعار! هل كان مار جرجس يستطيع من غيري أن يقتل التنين؟ أكان خالد يهزم الفرس والروم؟ أكان عنترة يُخيف الأعداء ويكتب المجد لشعره وجلده الأسود وحبيبته السمراء؟ ماذا أقول يا سادة يا كرام؟ ومن أذكر أو من أنسى من الفرسان؟ كان ياما كان، وأنتم ترونني الآن بعد أن تغيَّر الحال والزمان!

قال الشاب ذو النظارة: ما زلنا نحبك أيها الحصان، ونُعجَب بغرتك البيضاء وخطوتك البديعة في الشارع وفي السباق، اطمئن فسنعالجك وتعود إلى سالف الأيام!

زفر الحصان زفرة عالية، وأمال رأسه على أرض الرصيف، وقال: لا يا ولدي، لم يعد في العمر بقية للمجد والعز والسلطان! ها أنا ذا أموت بعد اللف في الشوارع وعذاب السوط واللجام! كنا أنا وأصحابي نُسابِق الريح، ونُطاوِل النجوم، ونجمع القوة والضعف والغضب والحنان، كنا نزأر في الحروب كالبركان، ونرق في السلم كالأطفال والغزلان! ماذا دهانا يا تُرى؟ وماذا جرى للفرسان؟ صرنا نجر العربة الكارو، ونتحمل السياط، وننقل البصل والخشب والخضار والعزال!

كان العربجي يقف مشدوهًا لا يصدق ما يسمع ولا يفهمه، وكان كل ما يخشاه أن يأتي العسكري ويأخذه إلى الكركون، أو تسمع الحكومة ما يقوله الحصان ويشهد عليه الحاضرون! ولما طال به الانتظار صاح في الجميع: يا عالم خلونا في حالنا، ابني وانا مربيه، واعرف ضرره من منفعته، يا ناس الله يسهل لكم ابعدوا عنا!

وكان الصحفي فيما يبدو قد أفلت من الجمع دون أن يُحِس به أحد، وعاد يخترق الحلقة مرة أخرى ويقول ساخطًا: ساعة وأنا أطلبهم في التليفون! طلبت الإسعاف فرد عليَّ التليفزيون!

لم يرد عليه الطالب، كان الجميع يقفون حَزانى صامتين، لم يَلفت انتباهَهم حضورُ العسكري من القسم القريب، وتقليبه في رأس الحصان وجسده؛ بل لم يفطنوا إليه وهو يمسك العربجي من رقبته ليشده إلى مركز البوليس ويعمل له المحضر؛ فقد كان الحصان مُمدَّدًا بجسده الجميل المجروح على أرض الشارع، ورأسه الهامد على الرصيف جحظت فيه العينان كدمعتين كبيرتين واسعتين! تلفتوا بعضهم لبعض، ثم بدءوا ينصرفون كلٌّ إلى حاله. ولا بد أنهم ظلوا لفترة طويلة يتذكرون الحصان في الميدان؛ الحصان الأخضر الذي مات على شوارع الأسفلت!

(١٩٦٨م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤