الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة١

الجبانة الريفية ساكنة في حضن الوحشة والموت، والقمر مُعلَّق في وسط السماء الصافية كالقنديل الأخضر، والقبور تبدو في ضوئه الفضي كأسراب الحمام الوديع مُستسلِمة لقدرها وحزينة وصامتة.

من هذا الذي يزور الأموات في عز الليل؟ لا هو زوجة ولا أم، ولا هو أب ولا ابن، بل مخلوق يسير على أربع، عجوز نحيل ومسكين، ولا بد أيضًا أنه جائع، شق طريقه بين الأضرحة والقبور، حتى وصل إلى أحدها، فوقف أمامه يتشمم رائحته كأنه يتحقق منه!

كان قبرًا جديدًا لا تزال رائحة الأسمنت الذي وُضع على فتحته تفوح منه، وأوراق الشجر التي وُضعت على سطحه تعبق بندى الخضرة، وحبر الكتابة الرديئة التي تشهد باسم صاحبه تزكم الأنف، وآثار الأقدام التي غادرته منذ ساعات ظاهرة على الأرض. مد الحيوان المسكين ساقيه الأماميتين، وخبط على جدار القبر كمن يطرق باب حبيب! سمع نبشًا من الداخل وخبطات كضرب الفأس على أرض صلبة، ثم انفتح السقف وبرز منه وجه شاحب لا يزال الكفن يُغطيه، رفع الميت القماش الأبيض على وجهه، فبان رأسه الأصلع ووجهه المُصفرُّ النحيل، وفتح عينيه مرات قبل أن يسأل: من؟

قال الزائر: أنا المُتهَم بدم ابن يعقوب.

قرب الميت وجهه منه، وأخرج يده بصعوبة وأشار إليه: أنت؟

قال الزائر: نعم أنا الذئب، وأنت؟

قال الميت مُستنكِرًا: لا بد أنك تعرفني؛ وإلا فما الذي جعلك تُقلِقني في هذه الساعة؟

خفض الزائر ذو الأقدام الأربع والجسد النحيل والبطن الجائع رأسه خجلًا أو حزنًا، وقال: بالطبع أعرف كل شيء؛ أنت مُدرِّس القرية الذي مات ليلة أمس ودفنوه اليوم!

قال المدرس بصوت مرتفع كاد يُزعِج حوله الراقدين: تنتهز الفرصة؟

رد الذئب في انكسار وخيبة أمل: بالعكس، لقد انتظرت هذا اليوم من مدة طويلة.

صاح المدرس غاضبًا: لأنني الفريسة الجديدة؟

قال الذئب في هدوء كأنه يعاتبه: أبدًا أبدًا؛ لأنك مُدرِّس النحو الوحيد في هذه الجبانة.

سأل المدرس؛ ألم يقل لك أحد: إن عظمي أكثر جدًّا من لحمي؟

قال الذئب: ما زلت تُسيء فهمي، هكذا أنتم البشر لا تتغيرون!

قال المدرس وهو لا يزال مُتشكِّكًا في نواياه: ماذا تريد إذن؟

قال الذئب وهو يرفع رأسه إليه في ابتهال: أريد أن تضعني في جملة مفيدة!

ضحك المدرس ضحكة عالية وقال: أضع الذئب في جملة مفيدة؟ مستحيل!

توسل الذئب باكيًا: أرجوك، هذه خدمة العمر كله، جملة واحدة وأذهب!

أراد المدرس أن يداعبه، فسأل: إلى أين؟

قال الذئب في صوت ضعيف: إلى زوجتي وعيالي.

ضحك المدرس مرة أخرى، وغلبه الضحك حتى اضطر أن يضع يده الباردة على فمه لكيلا يوقظ الحارس: إذن فخذ هذه الجملة: الذئب له زوجة وعيال.

قال الذئب مُتبرِّمًا: ألا تجد سوى هذه الجملة الضارة التي سببت شقائي؟

قال المدرس وقد أمعن في العبث: إذن فخذ هذه: الذئب مسئول عن دم ابن يعقوب!

قال الذئب يائسًا: لقد قلتها على سبيل المداعبة، ربما لأنها كذبة مشهورة؛ ألم يثبت القرآن نفسه براءتي؟

تعجب المدرس من علمه، وقال: معك حق، إن الله نفسه قد برأك من دمه، ولكن ربما كان ذلك مجرد صدفة.

سأل الذئب: صدفة؟ إنني لم أقتله فعلًا، لقد حاول إخوته أن يقتلوه، كما يعرف كل تلميذ صغير.

قال المدرس: نعم رمَوه في قاع الجب؛ ولو كنت وجدته لما رحمته.

قال الذئب غاضبًا: هذه كذبة أيضًا؛ فأنا لم أعثر عليه ولم أقتله، إن الناس ترتكب الجريمة وتُلصِقها بي، أرجوك، ابحث لي عن جملة مفيدة.

تلفت المدرس حوله، رفع عينيه إلى السماء لحظة ثم خفضها إلى الأرض ليتيقن ما حوله.

رأى الذئب يقف أمامه حقيقة لا خيالًا، ورأسه الشاحب يميل نحوه في ضوء القمر، وظله الداكن المُغبَّر يمتد تحته، قال: إذن فخذ هذه الجملة: الذئب يُكلِّم مُدرِّس القرية.

قال الذئب وفي صوته خيبة أمل شديدة: وهل تُسمى هذه جملة مفيدة؟ إنني أكلمك كما ترى، ولم أستفد من كلامك شيئًا حتى الآن!

لم يدر المدرس؛ هل يضحك أو يأخذ كلامه مأخذ الجد؟ وأراد أن يجرب معه طريقة أخرى، فقال: الذئب يأكل الشاة.

قال الذئب: هذا ما يقوله الناس جميعًا، وليس في جملتك جديد!

قال المدرس مُحتجًّا: ولكنها جملة حقيقية؛ هل تُنكِر هذا أيضًا؟

خبط الذئب بمخالبه على جدار القبر مُتعجِّبًا قبل أن يقول: حتى مدرس النحو يقول هذا! كنت أظن أنك لا تُصدِّق الأكاذيب المشهورة؛ ما الفرق إذن بين العالم والجاهل؟

قال المدرس: ولكنه أمر لا شك فيه؛ فأنت تأكل الأغنام، وتُفزِع الرعاة منذ الأزل! وأقدم الحكايات والخرافات التي وردت إلينا تؤكد هذا.

قال الذئب: الحكايات والخرافات، بالطبع؛ ولكن الحقيقة تخالف هذا تمامًا.

سأل المدرس مُتحدِّيًا: وما الحقيقة؟

قال الذئب مُدافِعًا عن نفسه: الحقيقة أنني أُهاجِم الأغنام فعلًا، وقد أُهاجِم البشر أيضًا؛ ولكنني آكل لحمها ولا أقتلها!

ضحك المدرس حتى كاد يستلقي على قفاه، وقال: تأكل لحمها ولا تقتلها! ما هذه البلاغة كلها؟

قال الذئب مُتضايِقًا: هل تعرف لماذا آكل لحمها ولا أقتلها؟

سأل المدرس في خبث: ولماذا؟!

قال الذئب مُتحمِّسًا: لأنني أُهاجِمها بدافع الطبيعة وحده، أعني أن الطبيعة فيَّ هي التي تأكل؛ فإذا شبعت لم أُهاجِم أحدًا ولم أعتدِ على أحد!

قال المدرس: وما الفرق بين الأكل والقتل؟ ما دمت تأكل الشاة فأنت تقتلها.

قال الذئب: الفرق كبير؛ إنني آكل اللحم الذي يصادفني، سواء كان لحم جدي أو شاة أو فلاح أو راعٍ، آكله لأنني جائع، ولأن الطبيعة تريد أن تحافظ على جنس الذئاب عن طريق أنيابي.

قال المدرس: إذن فلا فرق بين الأمرين، أنت تأكل لحم الفريسة فتموت؛ أي أنك تقتلها في نهاية الأمر!

غضب الذئب وصاح مُحتدًّا: أرجوك لا تذكر كلمة القتل على لسانك، هذه إهانة لجنس الذئاب كله، وأنتم — المدرسين — مسئولون عنها.

قال المدرس محاولًا أن يسترضيه: ولماذا بالله عليك؟

قال الذئب: لأنكم تعلمون التلاميذ بالصور والحكايات والخرافات أن الذئاب تقتل وتسفك الدماء البريئة، ما من كتاب من كتبكم يخلو من صورة بشعة لواحد منا وهو ينهش لحم خروف ضعيف مسكين.

قال المدرس: وما ذنبنا إذا كنتم تقتلون بالفعل؟

قال الذئب؛ قلت لك ألف مرة: نحن لا نقتل، نحن لا نقتل؛ إلى متى أُكرِّر لك هذا حتى تفهم؟

قال المدرس: وماذا تُسمِّي عملكم إذن؟

قال الذئب: سمه كما تشاء، فهذه حرفتكم؛ أما نحن فلا نعرف القتل، إنني مثلًا لا آكل فخذ جمل لأنني أكرهه أو أنتقم منه أو من أجداده، كما تقول حكاياتكم السخيفة، إنني أُشبِع جوعي وحسب؛ أما أنتم …

قال المدرس: هل تقصد المدرسين؟

قال الذئب: المدرسين وغير المدرسين، أنتم أبناء البشر جميعًا تقتلون قتلًا حقيقيًّا، إن حياتكم كما تعلم كلها قتل في قتل، تاريخكم هو تاريخ قتل؛ هل تظن أنك وحدك الذي يفهم في التاريخ؟ من عهد الحجر والحربة والسهم إلى عهد الرصاصة والقنبلة والصاروخ؛ قتل في قتل!

قال المدرس معتذرًا: ربما يكون معك الحق يا صديقي؛ ولكنني كما تعلم مدرس بريء.

قال الذئب وقد بدت عليه الراحة: مثلي تمامًا؛ ذئب بريء!

قال المدرس: أعترف لك بأن هذا التعبير لا يريد أن يدخل عقلي تمامًا؛ ولكنني أُؤكِّد لك أنني عشت طول حياتي أُومِن بأن الطبيعة خيِّرة والإنسان في صميمه خيِّر، وإذا كانت التجربة والواقع والصراع من أجل الحياة قد غيرته؛ فلا بد أن يعود يومًا إلى طبيعته الأصلية.

قال الذئب: هذا هو الذي جعلهم يختارونك مدرسًا.

سأل المدرس: ماذا تعني؟

قال الذئب: أعني أنهم وجدوك على نياتك، فاختاروك لهذه المهنة.

صاح المدرس مُحتجًّا: بل أنا الذي اخترتها عن عقيدة وإيمان، ولو عشت حياتي مرة أخرى لما اخترت غيرها.

قال الذئب: لأنك لست ذئبًا كما تُصورِّون الذئاب؛ ولو كنت مثلهم لاخترت أن تكون سياسيًّا أو محاربًا أو تاجرًا أو مديرًا أو محتالًا أو …

قاطعة المدرس مستاءً: هذه مبالغة؛ راجع التاريخ فستجد أن كثيرين من هؤلاء كانوا مثال الخير والبطولة والفداء والتضحية.

قال الذئب ساخطًا: يا سيدي متى تفهم؟ قلت لك إن الإنسان للإنسان ذئب. لست أنا الذي قال هذا؛ هل تحب أن أقولها لك أيضًا باللاتينية؟

قال المدرس مُستعطِفًا: أرجوك، إلا اللاتيني؛ فلم أكره شيئًا مثله.

نظر إليه الذئب وأطال النظر، كانت عينه كأنما تبحث عن الملابس التي يرتديها فلا تجد إلا الكفن الأبيض يُحيط بهيكله النحيل، قال بعد تأمل: خذ نفسك مثلًا، لو كنت ذئبًا مثلهم؛ فهل كنت ترضى بالعيشة التي عشتها؟

قال المدرس: ولم لا؟ لقد عشت حياة سعيدة، أُعلِّم أولادي وتلاميذي شيئًا جديدًا كل يوم، راضيًا بمرتبي و…

قال الذئب: مرتبك! هل تعرف مقدار المرتب الذي يقبضه أولئك الذين لا يعملون شيئًا؟

قال المدرس: قلت لك لقد عشت سعيدًا ومت سعيدًا.

قال الذئب: وتقول أيضًا مت سعيدًا؟ وهذا الكفن من التيل الرخيص؛ هل يدل على السعادة؟ وهذا القبر المهجور المتواضع!

قال المدرس: الحمد لله؛ إنني وجدت مكانًا أستريح فيه، ولم أمت مثلًا في فم تمساح أو ذئب!

قال الذئب: رجعنا لاتهام الذئاب، يظهر أنه لا فائدة، لنرجع إذن إلى ما طلبته منك.

سأل المدرس: الجملة المفيدة؟

قال الذئب: وهل جئت لشيء سواها؟

قال المدرس: ليس عندي الآن سوى هذه الجملة: الذئب يأكل الشاة.

صاح الذئب ورفع رأسه إلى السماء كأنه يُشهِدها على ظلم الإنسان: قلت لك ليست هذه جملة مفيدة!

صمم المدرس على موقفه، وقال: ولكنها صادقة، صادقة من آلاف السنين، منذ أن عاش البشر والذئاب على أرض واحدة.

عاد الذئب إلى الاستعطاف وتوسل باكيًا: أرجوك، أُقبِّل قدميك، ضعني في جملة مفيدة.

قال المدرس وقد شعر بأن البرد بدأ يُؤذيه والفجر بدأ يُشعشِع في الأفق: ليس عندي سواها، قلت لك هذا ألف مرة.

قال الذئب وقد ارتفع أنينه: ولكنها جملة ضارة، أقسم بالله جملة مُضرِّة لي ولجنس الذئاب كله!

قال المدرس وهو يُلملِم أطراف الكفن حول كتفيه: يُؤلِمني أن أُؤخِر طلبك؛ هل أعرض عليك شيئًا آخر مفيدًا؟

قال الذئب وقد راوده الأمل: أسرع، ما هو؟

قال المدرس وهو يرفع القماش الأبيض عن كتفيه ويقدمه له: ما دمت لا أستطيع أن أُفيدك بجملة فهل ترضى بهذه الكتف؟ تعال وخذها لزوجتك وعيالك.

قال الذئب بائسًا: أنا لم آت لآكل؛ بل جئت لأتعلم، وأين أجد مُدرِّس نحو مثلك في الجبانة كلها؟ وعلى فرض أنني ذئب مفترس وقاتل كما تقولون؛ فأين هو لحمك؟ لقد أفسدته كثرة التفكير.

قال المدرس: يا صديقي، أوشك الفجر أن يطلع، ولا بد لي الآن أن أنام؛ هل نسيت أنني مت اليوم؟

سأل الذئب في لهفة: والجملة المفيدة؟

قال المدرس: الجملة التي عندي قلتها لك.

بكى الذئب، توسل للمدرس الذي غطى وجهه وغاص في قبره وأغلقه على نفسه.

خبط بمخالبه على الجدار الحجري خبطات يائسة وهو يصيح: أهكذا تبخل عليَّ بحملة مفيدة، مع أنني عجوز ومسكين، وصاحب عيال؟

(١٩٦٨م)
١  فكرة القصة وهي زيارة ذئب لمدرس مات حديثًا، مُقتبَسة من قصيدة «الذئب» للشاعر الألماني كرستيان مورجين شتيرن (١٨٧١–١٩١٤م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤