الفصل الثالث عشر

ربما خيل إليك بما قدَّمته لك عن حفني أنك عرفته من كل جوانبه، ولكن هيهات؛ فإن حفني هذا دنيا بأكملها، وهيهات لأحد أن يحيط بدنيا. بحر هو متلاطم الأمواج لا يقر له قرار، وأعجب ما فيه أنه لا يتحمس لشيء في الوجود، ولا يأخذ شيئًا مأخذ الجد إلا متع الحياة، وليس يعنيه مصدر المتعة، وإنما يعنيه أن يحصل عليها في أي مظنة لها.

وقد رأيناه يبيع أرضه ليلعب القمار، ولم يكن ذلك منه تحمسًا للقمار وإنما احتقارًا للتملك مع حب شديد للمال لا ليكنزه وإنما لينفقه ويستمتع به، وليس يهمه أن ينفق كل ما يملك في سبيل لحظة واحدة من المتعة الحقيقية. وهو لا يعرف في الدنيا مشاعر، فهو لم يستطع أن يكره أحدًا. وشعوره نحو أخيه شعور من نوع عجيب، فهو يعلم أن انتسابه إلى أخيه هذا يمكِّنه أن يحصل على أنواع من المتعة، هيهات أن يستطيع الوصول إليها إذا لم يكن أخًا لحلمي باشا.

ولكن حلمي يظل مع هذا بالنسبة لحفني جزءًا من كيانه، ولو كان قلبه يعرف الحب ما أحب إلا أخاه حلمي، ولكنه لا يشعر بهذا الحب، ولا هو يعرف معناه، ولكنه يعرف أنه مستعد أن يبذل كل جهده من أجل أخيه من غير حب. وما دام ما يبذله لا يفسد عليه متعة من متعه. وأحسب أن حفني لو أحس أن قطعة من جسمه ستقف حائلًا بينه وبين متعته لاستغنى عنها وكأنه يلقي سيجارة شربها إلى عرض الطريق. وهكذا عاصر حفني كل هذه الأحداث التي مرت بها مصر، لم يشترك يومًا في مناقشة يحس أنها ستعكر مزاجه أو تجعله آخر الأمر يفكر بجدية في شيء ما، ولهذا لم يكن عجيبًا أن يكثر حوله الأصدقاء، ولماذا لا؟ وأين سيجدون شخصًا يوافق كل الآراء المتعارضة دون أي مناقشة لها؟ بل ربما وجد الكلمة المؤيدة للرأيين المتناقضين، فإن يكن أخوه من حزب معارض للوفد فهو لا يعرف الحزبية، وأصدقاؤه من كل الأحزاب، وكلهم واحد عنده تأييدًا لرأيه في الحياة.

وهكذا مرة أخرى لم يكن عجيبًا أن تتوثق الصلة وتزداد توثقًا بين حفني وعبد الفتاح صدقي، وتستمر هذه الصداقة رغم فارق السن بينهما، ولكن صلات حفني لا تعترف بفوارق الأعمار ولا بفوارق الطبقات، فهو كما يعرف حامد وحسن وهما من سن ابن أخيه عدلي الذي هدهد طفولته وهو وليد، يعرف عبد الفتاح صدقي الذي يكبره بما يقرب من عشرين عامًا.

وبعد فهل تراك عرفت حفني؟ هيهات لك أن تعرفه! وكيف لك أن تصل إلى أغواره إذا كنت أنا وأنا مصدر الوحيد عنه لا أستطيع أن أدعي أنني بلغت من حقيقته كلَّ حقيقة؟!

وحسبي وحسبك أن أروي لك ما خاض من أحداثٍ لعلك تقف على شيء يسير من حقيقته، وربما سألت نفسك: وماذا يهمني من أمر حفني؟ فإذا فعلت فإنني أحزن حزنًا شديدًا، فإنما حفني لون من ألوان الإنسانية، وما نحن إذا لم نعرف أنفسنا، وكل إنسان هو جانب منا ونحن جانب منه، هو يمثِّل لونًا من الفصيلة التي نكونها نحن البشر، فإذا كنت لا تعرف نفسك مصورة في الآخرين فماذا يمكن أن تعرف؟!

لا عليك ولا علي، فإني أقص وشأنك وما أقول، ولك أن ترى فيه ما تشاء من رأي.

•••

لم يكن حلمي قد اشترك في الوزارة بعد، حين التفت عبد الفتاح صدقي إلى حفني وهو يقدم له فنجان قهوته: قل لي يا حفني، إلى متى تظل تلعب القمار؟

– كلنا يقامر يا عبد الفتاح بك.

– لم نختلف، ولكن قمار عن قمار يختلف.

– كله قمار.

– تظل تلعب الليل كله وتجهد نفسك وتتعب أعصابك.

– اسمع يا عبد الفتاح بك، لعلك أول إنسان أخبره، أنا لا ألعب لأكسب.

– فلماذا تلعب؟

– لأني أجد متعة في اللعب، فإذا فقدت المتعة تركت اللعب.

– ولا تريد أن تكسب؟

– ليس للفلوس عندي أي معنًى إلا أن تكون وسيلة لأنبسط وأعيش كما أحب أن أعيش.

– أنت أحسن إنسان يمكن أن يعمل في البورصة.

– أتظن هذا؟

– أنا محترف وأعرف ما أقول.

– ولماذا أعمل في البورصة؟

– لتكسب.

– وماذا أفعل بالمكسب؟

– ستتزوج يومًا.

– أتظن ذلك؟

– اسمع، أنت تعرف خالتك كريمة عز المعرفة.

– طبعًا.

– أتعتبرها امرأة؟

– كانت.

– أنا أتكلم عن الحاضر.

– أنا لم أنظر إليها من هذه الناحية.

– وهل يستطيع أحد أن ينظر إليها من هذه الناحية؟

– ماذا تقصد؟

– وأنت تعرف طبعًا مغامراتي.

– كلها على يدي.

– أتعرف لو ارتفعت حرارة خالتك كريمة نصف درجة أصاب بالجنون؟!

– هو الحب إذن.

– وأكثر، هو الحياة؛ حياتي وحياة بناتي وكل ما لي في الوجود.

– وتريدني أن أتزوج؟

– طبعًا.

– أتريدني أن أُجن؟

– لا، وإنما أريدك أن تعيش.

– الزواج مسئولية، وأنا يا عبد الفتاح بك أرفض المسئولية.

– أنت اليوم شاب، فكِّر في يومٍ تصبح فيه في مثل سني، أنا بدون كريمة وسناء لا أساوي شيئًا.

– أما أنا فقاربت الأربعين، أما أنت فتساوي كثيرًا من غير أحد.

– أوهام، أنا أعمل لأسرتي. أنت لا تعرف المتعة التي أجدها حين أشغل نفسي بأمورهم، ولا تعرف المتعة التي أحس بها وأنا أتكلم مع كريمة عما سنصنعه لسناء حين تتزوج ولآمال.

– ولكن لا أنسى الشقاء الذي ساد البيت يوم مات لطيف خطيب سناء.

– أنت رجل مقامر، ولكي تكسب لا بد أن تخسر.

– أنا أريد أن أكسب فقط.

– المتعة الحقيقية هي المكسب بعد الخسارة، أما المكسب المستمر فيورث الملالة. المتعة العميقة هي الخسارة والمكسب معًا. هكذا الحياة.

– أظن أن هذه المتعة لا أحب أن أعرفها.

– اسمع، أنت ستتزوج يومًا.

– لا أظن.

– سترى.

– انتظر حتى نرى. المهم لماذا لا تعمل معي في البورصة؟

– أعمل.

– حقًّا؟

– ولم لا؟

وعمل حفني في البورصة، وعن هذا الطريق استطاع أن يجد وظيفة لعدلي في البورصة بعد أن تخرج في كلية التجارة. وكان اليوم الواحد من العمل في البورصة يقدِّم لعدلي من الخبرة في المجال الاقتصادي ما تقدمه عشرات السنوات في أي عمل آخر بهذا الميدان.

وعُيِّن حلمي وزيرًا، وحاول حفني أن يستخدم وظيفة أخيه ليصل إلى معلومات يستفيد بها في البورصة، فكان الفشل نصيبه دائمًا، فمهما يكن ذكاء حفني فهو لا يستطيع أن يصارع داهية في السياسة مثل حلمي.

والتفت حفني إلى عدلي فوجده ما زال عبيطًا عبط الشباب في سنه المؤمنين بالشرف والخُلُق وأسرار الدولة وواجبات العمل، فانصرف عنهما كليهما واتجه إلى صداقاته، وطالما أسعفته صداقاته، وازدادت ثروة حفني، وكان ينشغل تمامًا عن مادة القمار وانحصرت متعته في الحفلات الصاخبة التي يخرج منها دائمًا بامرأة لا يعنيه من أمرها أن تكون متزوجة أو غير متزوجة.

•••

كان الحفل رائعًا في بيت رشدي المهدي؛ فقد ترك الشقة التي كان يسكن بها وابتنى لنفسه فيلا أنيقة جعلت أعماله تتسع والمال ينهمر عليه انهمارًا، وكانت الحفلات التي يقيمها في فيلته تدر عليه أرباحًا خيالية، فقد كان يوهم كثرة من الوجهاء أن الحفلة مقامة له خصيصًا ليعرِّفه بالفتاة التي يريد أن يتعرف بها، وهكذا كان يأخذ مصاريف الحفلة مضاعفة خمسة أضعاف أو ستة أو أحيانًا سبعة قبل أن تُقام الحفلة. وكان من الطبيعي أن يكون حفني الوسيمي وعبد الفتاح صدقي عضوين دائمين في كل حفل يقيمه رشدي المهدي، أما حفني فلسمعته النسائية ولحب الأصدقاء له، وأما عبد الفتاح فلأنه هو أيضًا كان يقيم الحفلات في بيت رشدي المهدي لحسابه الخاص، أو أن رشدي يوهمه بهذا على الأقل.

كان حفني منذ تعرَّف بالأميرة فضيلة قد علا نجمه بين النساء بصورة خيالية. وأصبحت كل فتاة من اللواتي لا يُعنين كثيرًا بالشرف تتمنى أن تكون صديقة لذلك الفتى الذي صاحب الأميرة فضيلة فترة من الزمان.

وكان في هذه الحفلة في تلك الليلة فتاة أو قل سيدة، أو إذا كنت تريد الدقة في الوصف فقل امرأة اسمها وسيلة الدهري، وكانت لها قصة. أما قصتها فلا شأن لها بما أرويه لك، ولكني مع ذلك أجد نفسي مسوقًا لقصها عليك، إذا كنا اتفقنا أننا نسعى لمعرفة البشر الذي تنتسب إليه، أم تُرانا لم نتفق؟ المهم كانت وسيلة. أتحب أن أروي لك أنا قصتها أم أتركها هي ترويها لك، فأنا حريص على ألا أقص عليك قصة واحدة مرتين. وفي هذه الحادثة التي سأقدمها إليك والتي وقعت بين حفني ووسيلة ستسمع القصة منها هي، فلماذا لا أكتفي بنقل أنباء هذه الواقعة إليك وأترك وسيلة تقص هي عليك قصتها؟ والحقيقة أنها فيما قالته كانت صادقة، لا لأن الصدق من طبيعتها، ولكن لأنها لم تكن محتاجة لكذب على مَن تروي له القصة.

كان رشدي المهدي يقدِّم خدماته للجنسين معًا. فكما يستجيب لرغبات الرجال كان يستجيب أيضًا لرغبات النساء، وقد طلبت إليه وسيلة أن يعرِّفها بحفني، وكانت هذه الحفلة الموعد الذي حدده لها لينفذ رغبتها.

وسيلة سيدة غاية في الجمال تركت الثلاثين من عمرها منذ سنوات قلائل، وهي زوجة الدكتور فتوح عبد القادر، وهو طبيب واسع الشهرة في أمراض النساء والولادة. ووسيلة هي زوجته الثانية، وهي تتمتع بشهرة قريبة من شهرة زوجها في ميدان المغامرات، وإن كانت الألسنة تتناقل شهرة زوجها في علانية وصوت جهير، فهي تتناقل سمعة زوجته بنفس السعة ولكن خفية وفي صوت هامس.

قال رشدي المهدي: حفني بك لا بد أنك تعرف وسيلة هانم.

– بشهرة الجمال وإن لم يسبق لي الشرف.

وقالت وسيلة: أما أنا فأعرفك بشهرات أخرى عديدة.

وقال رشدي المهدي: إذن فلا مكان لي بينكما.

خبير هو واسع الخبرة. لقد أتم مأموريته وانصرف ليقوم بالأعمال الأخرى الكثيرة المتراكمة على كتفيه، أم يجدر بنا أن نقول المتراكمة على رأسه.

قالت وسيلة: غريبة أننا لم نلتقِ قبل الآن.

– بل لا غرابة، فأنا أعرف أن الدكتور مشغول، وأنك لا تكثرين من الذهاب إلى الحفلات.

– أنت تعرف عني الكثير.

– إذا لم أعرف عن هذا الجمال كل أخباره فالموت أولي بي.

– أعوذ بالله! لا … اطمئن، إنك جدير بالحياة، فأنت تعرف كل شيء تقريبًا.

– إذن فهناك أشياء لا أعرفها.

– طبعًا، وهل يستطيع أحد أن يعرف كل شيءٍ عن الآخرين.

– إذن فأنا منتظر أن تخبريني أنتِ عما لا أعرف.

– عني؟

– طبعًا.

– وهل تظن أن أحدًا يعرف كل شيء عن نفسه.

– الآن عرفت شيئًا لم أكن أعرفه.

– أهكذا؟

– أنت فيلسوفة أيضًا.

– وهل شفت حاجة!

– أريد أن أشوف.

– وماله.

– متى؟

– متى أحببت.

– أنا أحب من الآن.

– من الآن؟!

– من الآن.

– والحفلة؟

– في ستين داهية الحفلة ومائة حفلة.

– هيا.

– هيا.

•••

– كانا في سرير حفني عاريين تمامًا.

– ها أنت شفت.

– وما أجمل ما شفت!

– ولكن أتظن أنك عرفت عني كل شيء؟

– عرفت أهم شيء.

– يتهيأ لك.

وعلا صوت جرس الباب يدق في إصرار متصل، فشحب وجه حفني، وابتسمت وسيلة، وقال حفني: أنا لا أنتظر أحدًا.

وقالت وسيلة في عدم مبالاة وفي هدوء: أما أنا فأنتظر.

– غير معقول.

– فعلًا غير معقول.

– ضعي شيئًا على نفسك وادخلي الحجرة المجاورة.

– لا تخف.

– أنا خائف فعلًا. افعلي ما قلته لك.

– وقالت وسيلة في غير عناية: أمرك، ولكن لا تخف.

وكان قد وضع على نفسه أحد معاطفه المنزلية وخرج وهو يربط حزامه والجرس مصر على ألا يصمت، وفتح حفني الباب ليرى أمامه الدكتور فتوح ولم يخطئه، فهو رجل شهير وقد رآه أكثر من مرة في أكثر من مناسبة. وقال الدكتور وهو على الباب: أين وسيلة؟

وكان حفني مشدوهًا حائرًا، فهو مع ممارسته الطويلة للمغامرة لم يلتقِ بموقف مثل هذا الذي يعانيه في لحظته تلك: ألا تدخل يا دكتور.

– لا أريد أن أدخل.

– أظن لا يعقل أن دكتور في مثل شهرتك وسنك …

– لا شأن لك بسني.

– في مثل مكانتك يناقش أمرًا مثل هذا على باب شقة، ويدخل الدكتور ويغلق حفني الباب وهو يقول: تفضل اقعد.

والتفت إليه فإذا بيد الدكتور مسدس وروع حفني.

– ما هذا يا دكتور؟ أهو فيلم سينما؟

– أريد زوجتي.

وقال حفني وهو يتصنع الشجاعة، وإن كان في دخيلة نفسه قد زلزل الهلع كيانه كله، وفي لحظات تصور ما قد يُنشر في غده عنه وعن أخيه وعن الدكتور الشهير وعن وسيلة.

– أدخل هذه اللعبة في جيبك.

– أنا أقتلك وأقتلها وأقتل نفسي.

– وماذا تكسب؟

– أقتلك …

ودخلت وسيلة وهي تضع على نفسها معطفًا منزليًّا من معاطف حفني، وقالت في حسم: قم يا فتوح واذهب إلى البيت.

– إذن فأنت هنا.

– قم يا فتوح.

وتوقَّع حفني أن ينطلق النار من المسدس ليقتل وسيلة، وهي في وقفتها هذه المتحدية وفي ملبسها هذا الذي يدعو ألف رصاصة أن تنطلق، ولكن الذي حدث شيء مختلف تمامًا. ارتخى المسدس في يد الدكتور، وانخرط العملاق الأشم في بكاء منهار مستخزٍ، واعتمد رأسه بذراعه، وتقطَّعت جُمَله.

– نعم هي تعرف أنني لن أفعل شيئًا … هي متأكدة … لأني أحبها … أحبها … ضعفي الوحيد في حياتي.

وقالت وسيلة التي أصبحت مثل صخرة ناطقة: بل أنت تعرف أنه ليس ضعفك الوحيد. قم ولا تجعل من نفسك أضحوكة، فأنت رجل محترم.

وقال الزوج وهو ينشج: وهل يمكن لمن يتزوجك أن يكون محترمًا؟

وقالت الصخرة: إذا احترم هو نفسه.

– سأطلقك، سأطلقك.

– اذهب الآن إلى البيت، هيا.

وقام فتوح أشبه ما يكون بكلب يطيع أمر صاحبه، وتدلى المسدس في ذراعه المرتخية وخرج، وقبل أن يغلق حفني الباب وراءه صاحت وسيلة: ضع هذا البتاع في جيبك.

ورآه حفني وهو يصدع بالأمر مثل آلة ضغط صاحبها على الزر المناسب للحركة التي يريدها منها. وأغلق حفني الباب وارتمى على كرسي مرتعدًا ما يزال يكاد لا يصدق ما رآه منذ لحظات، وأحضرت له وسيلة بعض الماء، وراحت ترش على رأسه كولونيا وهي تضحك ضحكًا شديدًا وهي تقول: لم أكن أتصور أنك خوَّاف إلى هذه الدرجة.

– خواف! يا ست أنت مش واخدة بالك من اللي حصل ولا دا كان حلم؟!

– بل حقيقة.

– أمال ربنا عمل الخوف ليه إذا لم يكن للموقف الذي كنا فيه؟!

– عمله لغيرك الذين لا يغامرون مع زوجات الآخرين.

– طول عمري أغامر مع زوجات الآخرين ولم يحصل لي شيء من هذا مطلقًا.

– ألست أنت الذي أردت أن تعرف عني كل شيء؟!

– معرفة مهببة.

– ألم تنبسط؟

– وهل هناك انبساط في العالم يساوي هذا الذي كنا فيه؟

– اهدأ، اهدأ.

– إنما قولي لي أنتِ، ما كل هذا الهدوء؟

– ألم تعرف؟

– أكاد أعرف.

– ماذا؟

– ليست هذه المرة الأولى.

– ولا أظنها ستكون الأخيرة.

– ما حكايتك؟

– هذا الرجل تزوجني من اثنتي عشرة سنة. كنت أنا لم أكمل العشرين، وكان هو في الستين وقد جاوزها. الزواج الحقيقي لم يدم بيننا أكثر من سنتين.

– ولماذا قبلت الزواج منه؟

– أبي كان غنيًّا وأضاع أمواله كلها، وطمع أن يعينه هذا الرجل على الحياة، والبنت منا لا تملك من أمر نفسها شيئًا.

– إذن …

– وهل فيها إذن؟ كان من حقي أن أستجيب للطبيعة، وكنت في أول الأمر أحاذر أن يعرف، ولكنه عرف، وفي كل مرة أتعرف بشخص جديد تتكرر هذه التمثيلية.

– ماذا سيفعل معك حين تعودين إلى المنزل؟

– أنا عادةً لا أعود في نفس الليلة التي يُقدَّم فيها هذا العرض الذي شهدته.

– إذن …

– هل عندك مانع أن أقيم معك بضعة أيام؟

– أهلًا وسهلًا، ولكن ماذا بعد بضعة الأيام هذه؟

– أعود إلى المنزل.

– وزوجك؟

– يستقبلني وكأني عائدة من مشوار لم يستغرق أكثر من ساعة، وكأن الذي جرى ما كان، ونستأنف حياتنا، هو يعرف أني أخونه، وأنا أعرف أنه يعرف، ولا يذكر أحد منا للآخر شيئًا.

– ولماذا لم تقولي لي هذا قبل أن تدهمني المفاجأة التي كدت فيها أن أفقد حياتي؟

– من مسدسه؟

– من الخوف.

– أحببت أنا أيضًا أن أعرف شيئًا عن مقدار شجاعتك.

– يا ست وهل قلت لك أني جنرال؟!

– أنت في حجرة النوم أعظم من جنرال.

– في حجرة النوم، إنما أمام المسدس أنا أقل من قطة.

– عرفنا.

– الحمد لله إنكم عرفتم.

•••

وفي اليوم التالي ووسيلة لا تزال في بيته قصد إلى بيت عبد الفتاح صدقي.

– لا بد أن أتزوج فورًا.

– ماذا؟

– ألم تسمع؟

– المصيبة أنني سمعت.

– وما المصيبة في هذا؟

– كلمتك مائة مرة أن تتزوج وكنت ترفض.

– والآن قبلت.

– أنا عندي العروسة، ولكن لن أخبرك عنها إلا إذا قلت لي ما الذي غيَّر رأيك بهذه السرعة؟

– أنا الآن في الأربعين وأستطيع أن أكون زوجًا صالحًا لسنوات عديدة، ولا أريد أن ينزل علي قضاء الله بالزواج وأنا أكبر من هذه السن.

– كلام معقول.

– خشيت أن أُصاب وأنا في الشيخوخة بحمى الزواج وأصبح أضحوكة أمام نفسي وأمام زوجتي.

– لا بد أن شيئًا قد حصل لك بالأمس.

– حصل أو لم يحصل لا يهم، أنا أريد أن أتزوج.

– وأنا عندي عروستك.

– من؟

– ابنتي سناء.

– أنا في عرض النبي، أنا أعرف سناء وهي طفلة.

– أنت دخلت بيتي منذ كم سنة؟

– أظن منذ حوالي عشر سنوات.

– هو كذلك فعلًا. سناء كان عندها في ذلك الحين سبعة عشر عامًا.

– حقًّا؟

– طبعًا. أنت لم تكن تنظر لها لأنك كنت في الثلاثين من عمرك وقطعت السمكة وذيلها.

– وهي تأخرت في الزواج لأنها كانت مخطوبة لابن عمتها.

– وأنت تعرف أنه استُشهد في فلسطين، وأنا أريد أن أخرجها من حزنها عليه.

– لا يزال الفرق بيني وبينها حوالي ثلاثة عشر عامًا.

– كل زواجاتنا تتمتع بهذا الفرق.

– والله معقول. ولكن كيف تقبلني زوجًا وأنت تعرف عني ما تعرف؟

– أنت شبعت من النسوان، وأنا أطمئن على ابنتي بين يدي رجل في مثل تجربتك.

– على بركة الله.

– نقرأ الفاتحة.

– بل لا بد أن يقرأها عني حلمي أخي.

– هكذا يكون كلام العائلات، وهو كذلك.

وتزوج حفني من سناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤