الفصل السادس عشر

حين قامت الثورة كان حفني صديقًا للأغلبية الكاثرة منها. وقد جاءه شوقي الذي يتصدر منها مكانًا مرموقًا في ليلة من ليالي بيته التي ازدادت ازدهارًا مع الأحداث الجديدة، وقال شوقي: قل لي يا حفني، هل أساء أخوك حلمي إلى الصحفي حسن هنداوي؟

– أساء! إنه هو الذي جعله يذهب مندوبًا عن المجلة في حرب فلسطين وهو الذي … النهاية لا أحب أن أذكر ما صنعه معه ولا ما كان يعطيه له من … المهم …

– هل أنت جاد؟

– الأمر معروف. اسأل أي صحفي يخبرك … لماذا؟

– طيب وحامد العراقي هل أساء له أخوك؟

– كل الإساءة.

– كيف؟

– هو الذي رجا فايز حتى يكون مندوب المجلة في باريس.

– عجيبة!

– ماذا حصل؟

– أنت لا تتصور كيف كان كلٌّ منهما يصر اليوم على أن يُلقى أخوك في السجن مع المعتقلين السياسيين.

– هل هذا معقول؟ ماذا قالا؟

– قالا إن الوجوه القديمة لا بد أن تتغير، وأن الناس لا بد أن تعرف أن حياة جديدة في الطريق. ولا بد لهؤلاء السياسيين أن يختفوا من الحياة، وقلت لهم حتى الشرفاء، فقال حسن وخاصة الشرفاء؛ لأن هؤلاء هم الذين يُخشى منهم على الوضع الجديد، وأيَّد حامد كلامه في صياغة أيدولوجية وألفاظ رنانة.

– يا نهار أسود وبعد؟

– ولا بعد ولا قبل. أصررت أنا وأصدقاؤك الذين تعرفهم فاستُثني أخوك من الاعتقال.

•••

وهكذا اجتاز حلمي باشا كل ما وقع على زملائه من ضير، وأحس السياسي المحنك أن الحياة في مصر تغيرت، ورأى أن خيرَ ما يفعله أن يبتعد.

ينظر إلى الجهلاء والمنتفعين فيجدهم أصحاب رأي يُقال ويُنشر ويُنفَّذ، وهو الذي كانت مصر عنده عقيدة كأنها دِين يحرم من أن يقول رأيه، هذا الحق البسيط الذي ينبغي أن يتمتع به كل فرد من أفراد الشعب الحر، ولكن أين الحرية في بلدٍ أصبح أخوه حفني هو الذي يحميه فيها، ولم يكن يعرف عن حفني إلا أنه إنسان فشل في كل ما عُهد إليه من الحياة، ولم يرق إليه النجاح الساحق الذي يحققه حفني في كل ليلة في البيت الذي شهد زواجه وشهد مولد ابنه فواز الذي أسماه على اسم جده، وكأنه إنسان يعرف كيف ينتمي إلى أسرة عريقة.

ولكن أصدقاء حلمي كثيرون. وما لم يرق إليه في شهر بلغه نبؤه بعد أشهر، وكأنما هذا الذي بلغه ستار الختام لحياته؛ فقد طلب أخاه في التليفون وأمره أن يحضر إليه فورًا. وكان أمر حلمي عند حفني معناه النفاذ. فما أسرع ما قصد إليه وجلس منه تلك الجلسة التي تعودها معه ولم يستطع أن يغيرها وكأنه ما زال ذلك التلميذ الذي لم يستطع أن ينال الشهادة الابتدائية.

كان حلمي قد استطاع أن يقف صلبًا شامخًا أمام كل ما مر به وبمصر. ولكنه في هذه المرة لم يستطع أن يبقى على هدوئه. كانت عيناه تلتمعان بدموع يمنعها الكِبر أن تسيل، فانفجرت نبضًا على شفتيه ورعشة في يديه لم يُتَح له أن يتحكم فيها، وتخلج لسانه في فمه.

– أحقًّا يا حفني … أحقًّا …

– ماذا يا سي حلمي؟

– أحقًّا … أحقًّا …

وآثرت روحه أن تخرج إلى بارئها قبل أن تخرج الكلمة التي تجمَّدت على لسانه إلى حفني.

ومات حلمي … ومات عهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤