الفصل الثاني

عدلي صديقي الذي أعرفه متمسِّك بالأخلاق الرفيعة تمسُّكًا لا يقبل معه التنازل عن شيء من صغائر الأمور، ولكنه أمام مشكلة عمِّه واقف كالحجر لا يستطيع أن يحقق ما تقاضيه به المُثُل ولا يستطيع أن يسكت، أو أن نفسه تأبى عليه الهدوء أو قبول السكوت منه، وأقصى ما استطاع أن يبلغه ومن جهده أن يدَّعي الجهل بكل ما يُقال حول عمِّه.

وهو يدرك أنه بذلك الذي صنعه إنما يخادع نفسه في حين تأبى نفسه أن تنخدع، فهو وإياها في صراعٍ أي صراع، ولكن ما لنا نبدأ بالحديث عنه ولا نبدأ بالحديث عن عمِّه هذا؟

هو من مواليد السنوات الأولى من هذا القرن، وهو الأخ الأصغر لوالد صديقي الحائر. وأخوه يكبره بسنوات ليست قليلة، وقد مات عنهما أبوهما فواز الوسيمي، والأخ الأكبر حلمي في مدرسة الحقوق، فلم تكن في ذلك الحين تحمل اسم الكلية، فما كانت الجامعة قد نشأت بعدُ.

وكان الأخ الأصغر حفني متجمدًا في الابتدائية لا يريد عنها حولًا ولا منصرفًا.

وكان التعليم في ذلك الحين قد بدأ يأخذ مكانه الرفيع من الحياة المصرية، وكان حرص حفني على البقاء في الشهادة الابتدائية ينغِّص على أخيه حياته، فهو ينظر في هلعٍ كلما استشرف المستقبل له ورآه فيه ضائعًا كهباءةٍ لا معنى لها ولا وجود ولا ثقل.

وكان الأخ الأكبر شأن جيله جميعًا من المشتغلين بالقضية الوطنية إلا أنه أبى أن يقف موقف المعلِّق أو السائر حيث تسير الجموع؛ فقد كان صاحب قلم وصاحب مواهب خطابية فأمره بين جيله منفرد تفرُّد صاحب الموهبة بين عامة الناس.

وقد كانت القضية المصرية تمثِّل عند حلمي الحياة جميعًا، فهو ملهوب العاطفة كاره للإنجليز ولكل شيء ينتمي إليهم، وقد كانت المدارس الثانوية في ذلك الحين، والتي كانت تُسمَّى التجهيزية، فيها قِسم يدرِّس علومه جميعًا باللغة الإنجليزية، وآخر يدرِّس علومه باللغة الفرنسية، فاختار هو الدراسة باللغة الفرنسية إمعانًا منه في كره الإنجليز على الرغم من إلحاح إخوانه الذين كانوا يريدونه أن يدرس الإنجليزية ليعرف لغة أعدائه، فقد يحتاج إلى مجادلتهم، وكان جواب حلمي القاطع: عليهم هم أن يكلموني بلغتي فإن لم، فليتكلموا بالفرنسية، أما أنا فلن أجعلهم يرغمونني على تعلُّم لغتهم. وحين نال حلمي شهادة التجهيزية كان يتقن اللسان الفرنسي إتقانًا نادرًا؛ فقد كان ذا موهبة في اللغة وأحب الفرنسية، فكان إلى جانب العلوم التي يتعلمها بالفرنسية كالجغرافيا والتاريخ والطبيعة والكيمياء والحساب، يقرأ في الأدب الفرنسي بنهمٍ شديد.

وهكذا كان الأمر ميسورًا بالنسبة إليه في الرجوع إلى المراجع الفرنسية، كما كان ميسورًا له تلقي المحاضرات عن الأساتذة الفرنسيين، ولم يكن عددهم قليلًا في هذه الأيام. وعلى أية حال فقد أحسَّ حلمي نفسه سعيدًا كل سعادة أنه استطاع في تعليمه أن يقاطع الإنجليز والإنجليزية مقاطعةً تامةً، وحين تخرَّج حلمي لم يصبح له عمل إلا حرب الإنجليز حيثما هيأت له الفرصة حربًا، وإن لم تهيِّئها اصطنعها هو اصطناعًا.

كان حلمي مشغولًا في الحياة العامة بحرب الإنجليز ومشغولًا في حياته الخاصة بحرب الجهل الفاضح الذي يرزح فيه أخوه الذي يرفض كل الرفض أن يمسك كتابًا أو يفكر في امتحان أو مستقبل يعتمد على علم.

بدأ حلمي عمله في وزارة الداخلية، وأصرَّ حفني أن يتمسَّك بوظيفته التي يحبها ولا يفكر في تركها؛ طالب بالشهادة الابتدائية. وبلغ حفني مشارف الشباب وأصبح في البواكير الأولى من الحياة. وكان طويل القامة جميل القسمات بصورةٍ لا يستطيع الإنسان أن يتجاهلها. وهب الله له حبَّ الناس ويسر الصداقات، فكل الذين زاملوه وكل أصدقائهم الذين عرَّفوهم به أحبوه حبًّا شديدًا، وقد كان يستطيع أن يجعل كل شخص منهم يعتقد أنه صديقه الأوحد أو الأول على الأقل. وكان كل أصدقائه يثقون بهذه الفكرة ثقةً لا تقبل المناقشة أو التفكير، وهكذا أصبح لحفني أصدقاء في المدارس التجهيزية طبعًا، ومع السنين أصبح أغلب أصدقائه في المدارس العليا، ومن باب أولى كان له أصدقاء كثيرون في المدرسة الحربية ومدرسة البوليس. ولعل هؤلاء كانوا أشد أصدقائه قربًا إليه، فما كان يذهب إلى هاتين المدرستين إلا الذين يريدون أن يتعجلوا الخروج إلى الحياة، فهم في هذا مع حفني على وفاقٍ أي وفاق.

فما كانت هاتان المدرستان تُحتِّمان أن يكون الملتحق بهما من حملة البكالوريا.

ويا طالما ألحَّ حلمي على حفني أن ينال الابتدائية لعله يستطيع أن يلتحق بواحدة من هاتين المدرستين، ولكن من أين؟ إنه يستطيع أن يصادق أي إنسان أو أي شيء إلا أن يصادق الكتاب حتى وإن كانت صداقة مغرضة منافقة تتقطع أواصرها إذا نال منها بغيته، عداوة موهوبة ومكتسبة، وهكذا أصبح من الطبيعي أن يكون له أصدقاء في المدرسة الحربية أو في مدرسة البوليس، ولكنه لم يستطِع قطُّ أن يخطو إلى داخل واحدة منها تلميذًا منتظمًا.

لم يستطِع عمل حلمي في وزارة الداخلية أن يجعله معقولًا بعض الشيء في كرهه للإنجليز، فكان يكتب مقالات بتوقيع مستعار «مصري صميم» في الصحف اليومية، وكانت السلطات البريطانية تحاول التعرُّف على صاحب هذا التوقيع فتُصاب بالفشل الشديد، فقد كان رؤساء التحرير يدَّعون دائمًا أن المقالات تأتي إليهم في البريد، وأنهم ينشرونها دون أن يعرفوا اسم صاحبها، وكانوا يعلمون طبعًا أن العقاب نازل بهم لنشرهم هذه المقالات، ولكنهم كانوا يشعرون بالسعادة وهم يستقبلون هذا العقاب.

واستطاع حلمي عن طريق وظيفته ومقالاته أن يتعرف على رؤساء تحرير هذه الصحف. وكان حفني قد كفَّ عن محاولته في الحصول على الابتدائية فلم يجد حلمي بدًّا آخر الأمر من أن يرجو صديقه فايز وهبي رئيس تحرير مجلة الفن أن يعيِّن حفني عنده ناقدًا فنيًّا، فالنقد لا يحتاج إلى مؤهل، وحفني يستطيع أن يتعرف على العاملين في المسرح وغير المسرح من ملاهي الليل.

ولم يكن حلمي يعلم أن حفني وطيد الصلة فعلًا بالممثلين والمخرجين، فقد كانت الحياة التي تجمع حلمي وحفني في بيت واحد تباعد بينهما بعد ذلك في كل شيء؛ فحلمي لا يعرف عن حفني إلا أنه موظف بوزارة الداخلية، وحفني لا يعرف عن حلمي إلا أنه خائب.

وحين تجمع بينهما المائدة فحديث مقتضب، فكلٌّ منهما يحيا حياة غير التي يحياها الآخر، فإن لم يكن هناك خبر ذو شأن في السياسة أو جديد يُقال عن الأرض التي يملكانها والتي يشرف عليها حلمي لا يكون بينهما حديث على مائدة الغداء، وهي المائدة الوحيدة التي يمكن أن تجمع بينهما في وجبات اليوم.

على أن مائدة الغداء هذه نفسها قليلًا ما كانت تجمع بينهما، فكثيرًا ما كان يتغذى كلاهما خارج البيت أو يتغذى أحدهما على الأقل في الخارج مع صديق له.

وعلى مائدة الغداء قال حلمي: حفني تستطيع أن تذهب غدًا إلى الأستاذ فايز وهبي.

– صاحب مجلة الفن؟

– أتعرفه.

– أعرف المجلة.

– من أين تعرفها؟!

– أكان لا بد أن أحصل على الابتدائية حتى أعرف مجلة الفن.

– كنت أحسب أن ليس لك صلة بأي قراءة.

– ولا حتى مجلة الفن!

– حسنًا، هل تستطيع أن تكتب شيئًا عن المسارح والغناء والتمثيل وما إلى ذلك؟

– طبعًا، أنا لي أصدقاء كثيرون بينهم.

– كيف؟

– طول المعاشرة للمدرسة جعل لي أصدقاء في كل مكان.

– حتى بين أهل الفن؟

– خصوصًا بين أهل الفن.

– لك حق فكلهم …

– لا تكمل، أعرف ما ستقول.

– أنت تعرف أني أقدِّر الفنون.

– ولكن هذا لن يمنعك أن تقول إن كلهم خائب مثلي.

– أنا لم أقل.

– قلت ولكنك لم تنطق.

– يا خسارة يا حفني!

– نعم لك حق.

– وفهمت هذه أيضًا.

– إن لم أفهم أخي الذي في مكان أبي فمن أفهم؟

– لو كنت أكملت تعليمك لاخترقت كل الصفوف لتصبح النابغة الأول في أي ميدان تختاره.

– وهل يدري أحد يا سي حلمي أين يكمن نجاحه؟

– لك حق، فعلًا لك حق، إن شاء الله تُوفَّق في عملك الجديد.

– بفضلك، إن شاء الله.

ولعلك قرأت كلمة يا سي حلمي وأنت بين مصدق ومكذب، فما هكذا ينادي الأخ أخاه الأكبر، فإن حرفَي سي اللذين يمثلان اختصارًا لكلمة سيدي لم يعودا يتخذان نفس القيمة في زماني وزمانك إلا في بعض البلاد العربية غير مصر، ولكن هذين الحرفين في ذلك الزمان كانا عنوان احترام شديد وتوقير، وكان الأخ الأصغر ينادي بهما الأخ الأكبر إذا كان فارق السن بعيدًا كما كان أي شاب في أسرة ينادي مَن هم أكبر منه بأسمائهم مسبوقة بهذين الحرفين. وما دمت قد أخذت نفسي أن أقص عليك ما كان من شأن هذين الأخوين، فحتم عليَّ أن أقص أيضًا ما يعرض له الحديث من عادات العصر الذي نشأ فيه، فإن لم أفعل وجدت نفسك متعجبًا حينًا ورافضًا أيضًا، وأنا حريص أن أمنع عنك التعجب وأشد حرصًا ألا ترفض.

•••

وبدأ حفني مستقبلًا جديدًا كأنما الوسط الفني لم يُخلَق إلا ليعيش فيه حفني، أو كأن حفني لم يُخلق إلا ليعيش في هذا الوسط.

انداح فيه كأنه مولود على خشبة مسرح. وحاول بعض المخرجين أن يستغل جمال وجهه، ولكن انعدام الموهبة تمامًا عنده، وربما أيضًا خشيته من أخيه، كانت حائلًا بينه وبين أن يكون ممثلًا؛ فقد يقبل حلمي أن ينقد أخوه الفن، ولكنه لا يسمح أبدًا أن يصبح أخوه فنانًا.

لم يكن المسرح في ذلك الحين هو ذلك الفن الرفيع الذي نعرفه اليوم، ولم يكن مستقلًّا كل الاستقلال عن مواخير الليل وكباريهات الرقص وبائعات الجنس.

وهكذا راح حفني يتنقل بين أولئك النسوة في زهو الشباب، وعلى موائد المواخير عرفَ حفني مصر كلها، كبراءها وشبابها، عظماءها والمتسلقين حول عظمائها، وعرف الناس من كل النِّحَل والمهن. عرف الأطباء والمحامين والكتَّاب والمهندسين وكبار الموظفين وصغارهم وضباط البوليس وضباط الجيش، وما أكثر ضباط الجيش الذين عرفهم هناك!

وعرف أيضًا … عرف القمار.

وعلى هذه المائدة يجتمع عالم آخر غير عالم الناس، وتعيش بجانب الحياة حياة أخرى.

وعرف الزجاجة ولم يحبها، ولكنه كان يشرب ليجاري الجلسة.

وفي جلسةٍ من هذه الجلسات سأله صديق جديد لم يكن رآه قبل ذلك اليوم: اسمك حفني الوسيمي؟

– نعم.

– ترى هل لك صلة بالأستاذ حلمي الوسيمي.

– أخي.

– غير معقول.

– لماذا؟

– لا، لا شيء.

– إلا أنه جاد.

– ماذا تقصد بجاد؟

– يعني … ليس مثلي.

– على كل حال ليست دهشتي لهذا.

– فلماذا؟

– لأنه صديق قريب لي جدًّا، وكثيرًا ما نذهب إلى المسارح، وكثيرًا ما نجلس معًا في بار اللواء وفي صولت.

– فلماذا لم تأتِ به إلى هنا؟

– إلى هنا مستحيل، الظاهر أنك لا تعرف أخاك.

– هو في مكان أبي، ولكن المؤكَّد أن الذي أعرفه عنه أكثر مما يعرفه الآخرون حتى ولو كانوا أصدقاءه.

– الحقيقة أنني لم أعرف أن له أخًا إلا الآن، هل أنت متأكد أنك أخوه؟

– أنا متأكد أن والدتي مَثَل أعلى في الشرف.

وضحك الجميع وخجل محاوره بعض الشيء وغمغم.

– أنا آسف … العفو … طبعًا أنا لا … المهم … المهم أن هناك حقيقة عن أخيك المؤكد أنك لا تعرفها.

– الحقيقة أن سعادتك أكثرت من الشرب وجعلتنا نشغل الإخوان بما لا يعنيهم.

– الحقيقة أنني أريد أن أعلن عن بطولة أخيك التي لا تعرفها.

– هل أنت مصمم؟

– هل تقرأ وهل تقرءون المقالات الموقَّعة باسم مصري صميم؟

واختلطت أصوات التأييد وأصوات الإعجاب.

– أتعرفون مَن يكتبها؟

– وتضافرت «لا» على الشفاه، ونظر الصديق السكران إلى حفني.

– أتعرف أنت؟

– ومن أين أعرف؟

– ألم أقل لك أنك لا تعرف شيئًا عن أخيك؟ حلمي الوسيمي هو مصري صميم.

•••

قُبض على حلمي وأُلقي به في السجن وفُتش بيته في القاهرة وفي قريته الرمايحة.

ولكن الغريب أن الاحتلال لم يكن يلقي الناس في السجون دون أن يوجِّه لهم تهمةً معينة أو يُعنى على الأقل بتلفيق تهمة بذاتها يستر بها وجهه أمام العالم.

وهكذا لم يكن غريبًا ألا يطول المقام بحلمي في السجن، ولكنه حين خرج وجد نفسه مترددًا في مواصلة العمل بوزارة الداخلية، ولكن السلطات المحتلة كانت على قدْر من الذكاء فلم تشأ أن تفصله ليصبح بطلًا قوميًّا، ولم تشأ أيضًا أن تنقله من الداخلية حتى يظل تحت عينها. وكان يعلم أن بقاءه تحت عيونهم سيقف حائلًا بينه وبين نشاطه الآخر الذي كان أكثر خطورة من المقالات.

ولم يشأ حلمي أن يستقيل ليظل قريبًا من الإدارة المصرية. ترك بضعة أيام ثم ذهب إلى مقهى الكلوب المصري حيث تصعب المراقبة، وتحرَّى ألا يجلس مع شخص واحد بمفرده، بل عمد إلى جماعة كان بينهم صفوت الأشموني الذي يريد أن يكلمه. ولم يطلب إلى صفوت أن ينتحي به جانبًا، وإنما جلس إلى جواره بين الجالسين وراح ينظر إلى النرد الذي يتحلق حوله الآخرون. وقال صفوت: أرسلنا إليك لتبتعد عنا فترة.

– لم يأتِ لي أحد.

– يحسن أن تبتعد.

– سأسافر إلى الرمايحة فترة.

– خيرًا تفعل.

– سأحضر أول اجتماع.

– موعدنا كما هو لم يتغير.

– وهو كذلك.

•••

لم تُمنع عنه الإجازة حين طلبها. وذهب إلى الرمايحة وراح يكتب المنشورات من هناك. ولم يكن غريبًا أن يرى المرشدون والمخبرون فلاحًا يرتدي طاقية معممة يذهب إلى الكلوب المصري. ولم يكن غريبًا أيضًا أن يجلس بجانب الأفندية وتنتقل المناشير في ذكاء شديد من عيسى أحد خفراء بلدة الرمايحة إلى وحيد زنكي الذي أخذ مكان صفوت في الكلوب.

وما هي إلا ليلة حتى تكون هذه المنشورات قد طُبعت ووُزِّعت في القطر المصري كله من أقصاه إلى أقصاه موقَّعًا عليها بتوقيع مصر. وهل كان يكتبها إلا مصر؟!

ولكن حفني كان لا شأن له مطلقًا بهذا الذي يصنعه أخوه، وإنما هو يغمر حياته في متع كثيرة، فلا يترك لحظة من حياته لا يملؤها المرح والبهجة.

•••

انتهت إجازة حلمي وعاد إلى القاهرة يشم في أرجائها عبيرَ ثورةٍ يكاد يراها ويوشك يهتف بها ولا يطول به الانتظار.

يخترق يوم ١٣ نوفمبر حُجَب الغيب، وأستار التوقُّع، وسُدُل الحدس والتخمين، ويتم ذلك اللقاء الذي بدأت به مصر حياتها السياسية في العصر الحديث.

ومثل ريح عاصفة، طيبة، عاتية ولكن حنون، مزمجرة ولكنها موسيقى التاريخ … يصبح سعد وفهمي وشعراوي أنشودة أمل وبداية حياة لمصر وللعالم العربي، ثم لكل الدول التي لا تغيب عنها شمس الإمبراطورية الكريهة.

وتتواكب الأحداث ويُقبض على عمالقة الثورة فيسيرون إلى المنفى وكأنهم إلى الاحتفال باستقلال مصر يسيرون. وتصبح مصر نارًا مثل نار الحقيقة التي أُلقي إليها إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. ولكن النار الحديثة كانت تقتل المحتل مع ذلك حين هي على الوطنيين برد وسلام، كما أمرها الله أن تكون على أبي الأنبياء، ثم هي تنقلهم من فانية إلى باقية، ومن أسماء لا قيمة لها على صفحات الحياة إلى خلودٍ يظل أبد الدهر وإلى ما بعد الأبد مضيئًا على جباه الحرية.

وفي مدرسة الحقوق يُضرِب الطلبة عن تلقي العلوم، ويخرج إليهم عميد الكلية الإنجليزي.

– عليكم أن تنتظموا في دراستكم وتتركوا السياسة، فإن آباءكم قد أرسلوكم إلى هنا لتتعلموا.

ومن بين الصفوف يخرج طالب شامخ الطول مثل مصر، في صوته ثورة الأحرار، وحكمة الفلاح.

– إن آباءنا هم هؤلاء الذين قبضتم عليهم، ونحن نؤمن بالقضية التي يبذلون حريتهم في سبيلها وحياتهم إذا احتاجت القضية إلى حياتهم. وهيهات لنا أن ندرس هنا الحقوق، وحقوق آبائنا ووطننا مُضاعة. تحيا الثورة.

وتندلع إلى بروج السماء هذه الأيام المجيدة المطهَّرة بدماء الشهداء والنابضة بروح جديدة وهبها الله للشعب …

وكان اسم هذه الروح الجديدة المنورة بضياء السماء هو مصر. وتنعقد الاجتماعات السرية وتُتَّخذ القرارات. ويقسِّم الشباب نفسه بين خطباء ظاهرين وبين جنود في الخفاء يَقتلون، فيصبح الاحتلال في مصر على فراش من رصاص ومتفجرات.

وفي بعض الأحيان كان المجتمعون يُقرُّون قتْل من يرون أن في وجوده خطرًا على القضية المصرية حتى وإن كان مصريًّا؛ فليست المصرية مولدًا وإنما هي عقيدة تنبت مع الولادة وتسمق شجرتها في النفس حتى تصبح هي النفس كلها. فإذا كانت البذرة خبيثة وماتت في ركام المنفعة واختنقت في حمأة الخيانة، فصاحبها إذن ليس مصريًّا.

كان هؤلاء قلة نادرة بل كانوا أقل من القلة النادرة، وكان الحكم عليهم في جمعيات الثورة السرية لا بد أن يكون اجتماعيًّا، لذلك فلم تقتل هذه الجمعيات من المصريين إلا فردًا أو اثنين.

حاول الإنجليز أن يصوِّبوا سهامهم إلى العقائد الدينية، وصاحوا بالعالم أنهم يريدون أن يحافظوا على الأقليات باحتلالهم لمصر.

وأدرك أقباط مصر الدور المهين الذي يريد الإنجليز أن يستعملوهم فيه، فإذا هم ينتفضون مصريين. وحين تنهار حُجة القوي يصبح السلاح هو حجته، فإذا الدماء المراقة تلقِّح الثورة بالعنفوان فتزداد على الأيام روعةً وشموخًا.

وبعد فما أظنك تنتظر مني أن أروي لك أحداث الثورة الكبرى في مصر؛ فأنت لا شك تعرفها وتعرف كيف أصبح الشعب فيها كلًّا واحدًا. واختلط المثقف بالجاهل والقادر بالمعسر والفلاح بصاحب الأرض والعامل بصاحب المصنع، وسقطت كل الفوارق فتعانق الصليب والهلال وأصبح كل فرد في الشعب المصري لا يعرف أن له مصلحة خاصة، وإنما مصلحة الوطن العامة هي هي ذاتها المصلحة الخاصة عند الجميع.

حلمي في ثبج الأحداث وفي بؤرة العاصفة؛ فهو في الجمعيات السرية، وهو يقوم بدوره الذي يختارونه له، فيومًا تراه خطيبًا في صحن الأزهر الخالد الشامخ، ويومًا لا تراه لأنه يلبس الخفاء ويتعقب جماعة من الإنجليز يقضي عليهم بالسلاح الذي تتفق الجمعية على استعماله؛ فالرأي جميع والجميع رأي وعمل.

قلة قليلة وقفت من الأحداث على حوافيها تعلِّق ولا تشترك؛ فالثورة عندها موضوع حديث لا حياة أمة، والأمة عندها شخص غريب يوحي بالحواديت والأخبار المسلية، فيستوي الأمر عندها أن يكون هذا الشخص مصر ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، أو أي دولة أخرى لا صلة لهم بها ولا سبب كان.

كان حفني من هؤلاء؛ فقد كانت أهمية الثورة عنده أن الأحاديث حول مائدة القمار أصبحت أكثر جمالًا ورونقًا وانفعالًا أصبح فيه سحر الحدث لا موات التعليق. الخبر يُلقى ليشمل أمة بأسرها، وكانت الأخبار قبل ذلك تُلقى فلا تكاد تجد سامعًا، ومن أي سلة كانت تخرج الأخبار قبل الثورة غير سلة التفاهة! فهذا زوجته تزور أمَّها، وهذا يريد لابنته عريسًا فيومئ ولا يصرِّح ويشير ولا يبوح، وذلك يريد لابنه عروسًا فيقول ويرفع صوته، أليس غضنفرًا رئبالًا أنجب ولدًا بحاله ويريد له عروسًا. كانت أخبارًا تُولَد موءودة تموت قبل أن تتم خبرًا أو تجد تعليقًا.

أما اليوم فالخبر أسطورة، والكلمة تاريخ، واللحظة خلود، وهم يلعبون القمار ويلتذون في نفس الوقت بجسامة الأحداث، وبهذه الخلجات العالية الضجيج التي يصنعها الخبر العظيم حتى في نفس هؤلاء الذين يعيشون من الحياة على هامش الحياة.

وتمضي الأيام ويعود سعد ورفاقه من المنفى، وتبدأ المفاوضات وحلمي ورفاقه سائرون الطريق بقوة الثائر وذكاء السياسي، وقد استقر الرأي عندهم أن يكون عملهم هو تأييد المفاوضين بالطريقة التي يراها المفاوضون، وكان عبد الرحمن فهمي في مصر ذلك الزعيم العملاق الذي رفض أن يتقاضى ثمن الزعامة هتافًا وإعجابًا، وإنما تقاضاه راحة ضمير وعملًا خطيرًا خفيًّا وراء الأستار في سبيل مصر، كان ذلك السياسي الزاهد في المجد الشخصي والمتعبد في محراب مجد الوطن هو الصلة بين المفاوضات وبين الجماعة التي يعمل فيها حلمي.

فالعمل إذن كان متئدًا متزنًا لا نزق ولا رعونة. وكان أعضاء الجمعية يتزاورون، فلم يكن معقولًا أن يصطنعوا لأنفسهم مكانًا ثابتًا يلتقون فيه.

وقد يزور الصديق منهم صديقه على غير موعد، وقد يزور الغني فقيرًا، فلم يكن المال بذي شأن في علائقهم؛ فمنهم مَن كان قادرًا على أن يستأجر أكثر من خادم، ومنهم مَن لا يستطيع أن يستأجر إلا خادمًا واحدًا أو خادمة، فقد كان وجود الخادم في المنزل ضرورةً لا غنَى عنها، وإلا فمن يشتري من الأسواق.

وقد تطهو سيدة المنزل أو ابنتها، ولكن لا بد أن يصل إليها الطعام الفج ليكون على يديها مطهوًّا.

وحين زار حلمي بيت صديقه وزميله في الدراسة أحمد عبد المتعال لم يكن بالبيت فرج الخادم، وكانت الأم مشغولة في شئون المنزل فلم تجد وصفية بدًّا من أن تجيب الطارق، فلم تكن الأجراس معروفة في ذلك الحين. ولم تقل مَن؟ وإنما ظنَّت أن فرج عاد من السوق ففتحت بسرعة، وما إن رأت غريبًا حتى توارت في لمحة وراء ضلفة الباب.

– أفندم؟

– أحمد بك هنا؟

– لا يا أفندم.

– شكرًا.

– نقول له مَن؟

– حلمي.

– حاضر.

– شكرًا.

كانت اللمحة كافية لأن يرى حلمي وصفية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤