الفصل الخامس

القمار مضمار عجيب من ميادين الحياة، الداخل فيه يدخل إلى حياةٍ أخرى بعيدة كلَّ البعد عن حياته وعن مألوف أمر الناس. وما ظنك بقومٍ يجتمعون حول مائدة واحدة وكل شخص منهم يحرص أن يخرب بيت الآخر في صراحة ووضوح! فعلى هذه المائدة لا وجود لأي آصرة من قُرْبى وإن كانت قُرَابى ابن من أبيه، ولا وجود لأي معنًى من معاني الصداقة أو المودة، سعار خالص بريء من أي شائبة إنسانية، ولا يبقى إلا المال صاحب الصرخة الوحيدة والسيطرة المطلقة. وإن كان المال قوي البراثن صلب المخالب في الحياة إلا أنه فيها يتخفى وراء كلمة طيبة أو يستخذي أمام صلة رحم أو سبب من أسباب المودة أو عِشرة قديمة، إلا أنه في مائدة القمار يخلع كل الأقنعة ويعلن نفسه حاكمًا فردًا باطشًا آخذًا لا شريك له، ولا هو يقبل أية مراجعة.

وعلى هذه المائدة تلتقي أصناف من الناس شتَّى لكلٍّ منهم عالمه الخاص البعيد كل البعد عن عالم الآخرين الجالسين على نفس المائدة العاكفين على المعبود الواحد؛ القمار. تجد السياسي رجل الدولة الذي يوشك أن يكون عالمًا، وتجد الطبيب العالمي فعلًا، وتجد المهندس الذي يهز اسمه أوساط الفن الهندسي في كل أنحاء المعمورة، وتجد الضابط. وكثيرًا ما تجد الضباط، وتجد القوَّاد، وتجد المقامر المحترف النصَّاب. وتجد الجميع يعرف عن الجميع كل شيء، ولكن لا شأن لأي منهم بالآخر، متفقون على أن الصلة بينهم هي هذه المائدة. وإن كان لأحدهم عند آخر منهم مسألة أو موضوع فلا بأس أن يقضيه له كما يقضي خدمةً لشخص يعرفه، ولكن العلاقة تظل واضحة؛ علاقة قمار. وأغلب الأمر أن مَن يقضي هذه المسألة إنما يقضيها لأنه يعلم أنه ملاقٍ الشفيع فيها كل يوم، ولن يفلت من الحاجة، على أن هذه الخدمات لا تتجاوز فعل الخير إلى المنفعة الخاصة، فالمصارحة بينهم تتم حين يُوزَّع بينهم ورق الدور الأول في اجتماعهم، فلا يستطيع رفيق المنضدة أن يستغل نفوذ السياسي لأن السياسي سيواجهه في الحال بما لم يتعوَّد أن يواجه به الآخرين، وسيقول إن هذا الموضوع ستكسب منه كذا، ولست مستعدًّا أن أخون الأمانة من أجلك أو من أجل أي أحد.

فلاعب القمار ليس من الحتم أن يكون لصًّا، وإنما قد يكون شريفًا غاية الشرف. صحيح أن القمار قد يجرف الشريف إلى مهاوي الدنية، ولكن هذا المنحرف ضعيفٌ كان مستعدًّا أن يكون لصًّا تحت أي ضغط أو أمام أي إغراء. وها أنت ذا رأيت حفني يأبى أن يمس مال أخيه.

فالقمار هو هذه المائدة العجيبة التي تجمع الأصدقاء الألداء والأحباب الذين لا يمانع أحد فيهم أن يقتل حبيبه فقرًا طبعًا، بل هو يسعى إلى ذلك جاهدًا ما وسعه الذكاء والمران والمناورة والمداورة.

كانت مائدة حفني للقمار تعمر بكل هؤلاء الذين ضربتُ بهم المَثَل، فكان فيها حامد باشا محمد السياسي الداهية الذي تولى مناصب الوزارة، بل إنه تولى عددًا وفيرًا من الوزارات، وهو رجل شريف السمعة لم يقل عنه أحدٌ ما يشين، وهو ذو عقلية سياسية نادرة وكان يلعب القمار بشيء من التعبُّد وبكثير من الإخلاص في اللعب، فقد كانت المائدة المكان الوحيد الذي ينسى عليه خصوماته السياسية والمؤامرات التي تُدبَّر عليه والتي يدبِّرها هو، وقد كانت أغلب الخصومات حتى ذلك الحين مع الإنجليز، وكان معه دائمًا سياسي آخر يعمل بالمضاربة في البورصة، فهو حينًا منتعش النفس أو هو حينًا آخر منتكس الخاطر والقلب، ترى في وجهه تقلبات البورصة شأن المبتدئ الذي لا يستطيع أن يخفي مشاعره، ولهذا لم يكن عجيبًا أن يخسر عبد الفتاح صدقي بك دائمًا على المائدة، فقد كان وجهه صفحة مفتوحة لأعين الخبراء، وكان معهم أيضًا وجدي المسيري الملازم بالجيش، فمائدة القمار لا تعترف بالفوارق، فأنت تجد السياسي العجوز يجلس إلى الضابط الصغير دون أي شعور بفارق المرتبة، وكان وجدي في اللعب مغامرًا يبحث عن البطولة في ورق اللعب بعد أن تعب في البحث عنها في أرجاء الحياة ودروب الوظيفة. وكان هناك أيضًا يسري الجندي اللاعب المحترف، وكان هناك أيضًا رشدي المهدي اللاعب المحترف والقواد المحترف أيضًا، وهو الذي يُعِد المائدة ويدعو إليها ويدبِّر اللقاءات بين اللاعبين. وكان هناك طبعًا حفني.

إذا اتفقت المشارب بين اثنين من اللاعبين فلا بأس عليهما أن تقوم بينهما صداقة. وقد كان حفني بموهبته الخارقة في صنْع الصداقات على صلة وطيدة بالجميع حتى ليحسب كل لاعب على المنضدة أنه الصديق الأول عند حفني.

ولكن القمار لا صديق له، فحفني يخسر عشر ليالٍ ويكسب ليلة، وإذا كان جميع اللاعبين الذين ذكرتهم والذين لم أذكر يتبادلون أمكنتهم على المائدة فهناك دائمًا اثنان لا يكاد يغيب أحد منهما عن اللعب، رشدي المهدي وحفني الوسيمي؛ أما رشدي المهدي فتلك هي وظيفته في الحياة ولا وظيفة له غيرها، وأما حفني فلأنه لم يكن يجد شيئًا يعمله إلا اللعب، وربما لو وجد متعة أخرى لترك المائدة سعيدًا، فهو لا يعرف التحمس لشيء حتى ولا للقمار الذي أجمع التاريخ على أن مَن يُصاب به فلا فكاك له منه. ولكن حفني شيء آخر غير الناس، لا يخلص لشيء ولا يتشبث بأي عادة مما يتعود الناس عليه. دخن بعض الوقت ثم ترك التدخين، وشرب الخمر ويشربها ولكنه لا يشربها إلا ليشارك الشاربين، فهو لا يذكر أنه جلس منفردًا وطلب كأس خمر، وإذا مر به الشهر أو الشهران لم يجلس إلى شاربين لم يشرب هو قطرة واحدة. وهكذا شأنه مع القمار يذهب كل ليلة ليلعب فإذا وجد متعة أخرى انقطع تمامًا عن اللعب. هو لا يتمسك بشيء أبدًا ولا يسمح لشيء أن يتمسك به. ماذا تُراه يفعل إذا تزوَّج؟ تلك تجربة ستكون فريدة وعجيبة أيضًا، أيمكن أن يفكِّر مثله في الزواج؟ مَن يدري؟

وهكذا باع حفني أرضه كلها، وكان مثال المقامر في بيعه، فكل ما كان يفعله أن يوقِّع حيث يطلب منه الحاج علي أن يوقِّع، لا يرى إلى اسم البائع ولا يعنيه أن يرى إليه، بحسبه أن يرى المبلغ معدًّا في يد الحاج علي حتى يوقِّع عَجِلًا متسرعًا، ويطوي الحاج علي العقد في تؤدة وذكاء وخبرة نادرة ويضعه في جيبه ويقول: عُدَّ معي يا سعادة البيك.

– يا حاج علي ألم تَعُدَّ أنت؟

– نعم، وإنما لا بد أن تَعُدَّ أنت أيضًا.

– يا حاج علي أنت تعلم كم أثق فيك.

– ولكن أنا يا سعادة البيك لا أثق في نفسي، عُدَّ مائة مائتين …

ويتكرر هذا المشهد في كل مرة لا ينقص كلمة ولا يزيد، ولا يختلف في مرة عن الأخرى إلا في رقم المبالغ الذي راح يتضاءل يومًا بعد يوم، شهرًا بعد شهر.

•••

دعا رشدي المهدي إلى عشاء بمنزله، وكان حفني بين المدعوين، وهناك وجد حفني دنيا جديدة تطالعه من الحياة لأول مرة وهو الذي خبر من هذه الحياة ما لم يخبره إلا القلة النادرون.

الباشاوات هناك وقد خلعوا رتبة الباشوية، بل خلعوا رتبة الإنسانية وارتدَوا حيوانات حمر الوجوه من الرغبة والإثارة. والعظماء بلا عظمة، والنساء بلا ملابس، والمقامرة بالعِرْض لا بالمال، وبالشرف لا بالنفوذ. ورشدي منتعش النفس يضحك دائمًا ويعقد الصفقات بين المرأة والرجل وهو سعيد غاية السعادة هنِئ في قمة الهناءة.

ويعجب حفني أن رشدي لم يفقد شيئًا من احترام المجتمع، بل إن كل هؤلاء يقدِّم له الاحترام والتبجيل والإعزاز، ولا يُعنى حفني بما في داخل النفوس، وإنما بحسبه ما يراه في ظاهر الوجوه وفي الأيدي الممتدة بالمال من ناحية وبالإجلال والتعظيم من ناحية أخرى للشخص نفسه الذي يتاجر في الشرف، ولم يعرف حفني أن هذا الذي يتاجر بالشرف لا بد أن يتاجر معه بشيء آخر هو الذي يهيِّئ له كل هذا الإجلال. إنه كما يتاجر في شرفه وشرف النساء، يتاجر في سمعة الرجال والعظماء من الرجال. وكلما ازداد الرجل عظمةً ازداد حرصًا على سمعته، ولكن أي حرص لا يستطيع أن يقف أمام رشدي. يا لها من تجارة! يا لها من تجارة!

ما هذا الحب الذي يحظى رشدي به من أصدقاء له! بل ما هذا الاحترام وما هذا الإجلال؟! إنها مهنة تصوَّر حفني أن يكون رصيدها أي شيء إلا الاحترام. قد يجني العامل فيها مالًا أو صداقات أو قدرة على الشفاعة، أما أن ينال الاحترام أيضًا فهذا ما لم يتصوَّر حفني أن المهنة ترتد على صاحبها به. لقد كان لفظها يختلط في نفسه بالمهانة والاحتقار وكل ما هو ذليل في الحياة؛ فقد عرف محترفيها من أسفل الطبقات، ولم يعرف من محترفيها في الطبقات العليا إلا رشدي. القواعد في هذه الطبقات مختلفة، والوسائل ليست هي الوسائل، والصفقات تُعقد دون تصريح، والأجور يتم تسلُّمها دون إبانة، ولكن الهدف واحد، والغاية لم تتغير، وهنا في هذه الطبقة الأسماء تُطلق على مسميات أخرى؛ فالفتاة أو المرأة موضوع الصفقة صديقة لا عاهرة، والأجر هدية وليس أجرًا. ولكن الفتاة أو المرأة تذهب إلى المخدع على أية حال، والهدية تصل واسطة التعارف، ولا يُسمَّى قوادًا ولا تُسمَّى الهدية أجرًا، فكل شيء هنا محصن بسياج الشرف، وأي عيب أن يُحييَ صديقٌ صديقًا؟ وأي بأس في هذا المجتمع الساقط أن تحب المرأة رجلًا فتقضي ليلة في مخدعه؟ وأي لوم في أن يقبل شخص في مثل مكانة رشدي ابن الأكرمين هديةً من شخص آخر هو أيضًا ابن أكرمين؟ منذ هذه السهرة أصبح عبد الفتاح صدقي أكثر الناس تقرُّبًا إلى حفني، ولم يكن هذا غريبًا، فقد كانت سنُّه ومكانته تمنعانه أن يصل إلى المرأة عن طريقٍ آخر غير طريق حفني. وقد رأى عبد الفتاح إقبال النساء على حفني وحبهن له، وخيرٌ له أن يتعرف بالمرأة عن طريق حفني أخي حلمي وغير القواد من أن يتعرف بها عن طريق رشدي فيصبح الأمر رسميًّا، وإن كانت الرسمية متسترة بأسماء بريئة. والظاهر عند عبد الفتاح وأمثاله أهم من الواقع. وحفني يمثِّل له الشخص الأمثل ليقدمه إلى مَن يحب، فجمال حفني يقتنص من النساء أشدهن مراسًا وأعظمهن فتكًا. ومكانة حفني الاجتماعية وما هو معروف عن غناه وما ليس معروفًا عن فقره، كل هذا يجعل صداقة العظماء به أمرًا طبيعيًّا لا غرابة فيه، ولو لم يكن لأسرته من المكانة إلا اسم أخيه بطل ثورة ١٩ وسجين الإنجليز لكان حسْبه وحسْب أسرته مكانةً ورفعة.

وهكذا توطدت العلائق بين عبد الفتاح رجل البورصة الذي يحيط دائمًا بكل ظروف الصفقة قبل أن يقدِم عليها، وبين حفني الذي وجد فيه شخصًا غاية في الذكاء وسرعة الخاطر مع مقدرة فائقة على التمتع بالحياة، جِدها وهزلها. وأصبح بيت عبد الفتاح مثابة لحفني، ولم يجد عبد الفتاح في ذلك بأسًا؛ فحفني يصغره بسنوات عديدة ولا خوف على زوجته منه، وزوجته سيدة فاضلة شريفة أنجبت بنتيها وانتهى ما بينها وبين الأنوثة منذ مجيء آمال البنت الصغرى منذ ما يقرب من خمسة عشر عامًا. وكانت البنت الكبرى سناء في السابعة عشرة حين تعرَّف على الأسرة حفني، ولم يكن حفني يتعامل مع هذه الأعمار في مألوف حياته. فلا حرج على عبد الفتاح إذن أن يستقبل بيته حفني في أي وقت، وقد استطاع حفني بالموهبة التي منحتها له السماء أن يكون محبوبًا من السيدة كريمة المدبولي ومن ابنتيها جميعًا سناء وآمال. وقد سَعِد حفني بهذه الأسرة، فقد كان عمله في الصباح قليلًا، فما عليه إلا أن يكتب كلمتين ويلقي بهما إلى المجلة، ثم يصبح فارغًا لا هم له إلا أن ينام في القيلولة بضع ساعات يقوم بعدها ليجد الفراغ ينتظره حتى يبدأ السهر المتكاسل، الذي يأبى أن يبدأ قبل العاشرة، إن يكن قمارًا فقمار، أو يكن حفلة فحفلة.

فماذا هو صانع في الصباح؟

وماذا هو صانع بعد نومة القيلولة إلى مشارف العاشرة؟

أما بيت أخيه فلم يكن يرحِّب به كل الترحيب وإن كان لا يصد عنه، فهو يذهب ليقضي واجب الأخوة ثم سريعًا ما ينصرف إلى هواء آخر يحب أن يستنشقه، وهو بالتأكيد ليس الهواء الذي في بيت حلمي.

ولم يكن هواء البيت عند عبد الفتاح مشوبًا بما يحب أن يستنشق حفني في مألوف حياته، ولكنه أيضًا كان خاليًا من التزمت الذي كان يواجهه في بيت حلمي وزوجه وأخيها وأمها التي لا تترك سجادة الصلاة إذا تصادف ووجدهما عند زيارته.

وحفني لم يحصل على الأسرة منذ وعى الحياة، والأسرة جزء من دمائنا نحن الشرقيين. وقد كان حلمي هو أسرة حفني جميعًا. أما أقاربه الكثيرون فكانوا أصدقاء ولم يعاشرهم وما عاشروه، فهو إذن واجد في بيت عبد الفتاح كل ما تتوق له نفسه من شعور الأسرة، ومن ترحيب في اللقاء، ومن سماحة في المعاملة من بين ضحكات منطلقة لا يحبسها شيء في رنينها، فهي صفاء القلب الخالي والاطمئنان والإقبال على الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤