الفصل السابع

حين خرج حفني من حجرة أخيه أحس دوارًا لا قِبَل له به، كأنما كان يواجه تنينًا وأُنقذ منه، أي شيء فيه أخافه؟ هو أنيس لا ينطق كلمة جارحة ولا يأتي بعمل عنيف، ولكنه مع ذلك قوي صلب، أي شيء فيه أخافه؟ ربما لأنه دائمًا على حق وأنني دائمًا أفعل ما يحلو لي بغير اهتمام بالحق أو بالباطل، وهو يضحي بعمره من أجل وطنه وأنا أتمتع بحياتي أقصى ما تكون المتعة، أنهل رحيق كل ساعة فيها وتسري لحظاتها في دمائي نشوة وسرورًا وجدلًا وفرحًا، أيحس هو في جهاده بما أحس أنا به في متعتي؟ الحياة عندي ضحكة والحياة عنده جهاد. أينا عرف سرَّها وبلغ مكامن الحقيقة فيها؟ هو يعطي دماءه لبلده جميعًا، وأنا أعطي دمائي لنفسي. ربما شعر هو بمتعة العطاء قدْر ما أشعر أنا بمتعة الأخذ.

هو يعتصر الحياة ليقدِّم للبشرية مثلًا رفيعًا مختلطًا بتضحيته بكل ما يمتعه، وأنا أعتصر الحياة لتعطيني أكثر مما تطيق أن تعطيه فأنهله أنا … أنا … أنهله متعة وحبًّا للنساء كل النساء، ولرشفة خمر أشربها في غير رضاء عنها، وإنما لأنها تمثِّل رحيق عدم المبالاة بالحياة متجسمًا في شرابٍ ولعب القمار؛ لأن الحياة قمار، وأنا أريد أن أمارسها وأعيشها وأذلها بألا أُعنى بكل ما تخبئه لي، فإن يكن خيرًا فأهلًا، وإن يكن شرًّا فأنا عنه لاهٍ، وعن نتائجه مشيح غير آبه ولا مهتم، ومنه أنا غير خائف ولا متوجس ولا متحسب لخفايا الغد فيها. هو يفكر في الغد وما بعد الغد، وأنا ابن لحظتي وأبوها وربها وقاتلها قبل أن تقتلني. فأينا عرف حقيقة الحياة؟ وأينا بها أكثر خبرًا ولخبثها أكثر درءًا ومنعًا؟ وأينا أذل الحياة واغتصب منها ما يريد أن يغتصب؟

حين سألني كم بقي قلت خمسة آلاف فصدقني. هل صدقني أم أراد أن يصدقني، إنه ذكي يقبل الكذب الذي يُلقى إليه ما دام يعرف أنه لن يستطيع أن يصل إلى الحقيقة. فيمَ يريد هذا المبلغ؟ لعل الانتخابات ونفقاتها جعلته يحتاج إلى هذا المال. إن كان الأمر كذا فيسعدني أن أقدِّم له العون، فرغم أن كلًّا منا يقف على طرفين متناقضين من الحياة إلا أنني أقدِّره كل التقدير. أتُراني أقدِّره أم أقدِّر فيه الرجل الذي تمنيت أن أكونه ولم أستطِع؟ تُرى هل مرت به لحظة ولو لحظة عابرة تمنَّى أن يكونني ولم يستطع؟ مَن يدري؟ ربما!

مشى به الطريق والضجيج في داخله، وليس يشعر من خارج نفسه ضجيجًا ولا حسًّا، وإذا هو يجد نفسه فجأة بين رأسي حصانين ويعلو الضجيج في هذه المرة من خارجه لا من داخله.

– يا أفندي اصح، مسطول في عز الظهر.

– احفظ أدبك.

– أدق لك الجرس من الصبح وأنت ولا أنت هنا.

– قلت لك احفظ أدبك يا قليل الأدب.

وحينئذٍ يقفز من داخل العربة ضابط ملازم ثانٍ ويثور به: أما إنك بارد حقًّا وقح. تسير في منتصف الشارع ولا يهمك من العربات الرائحة والجائية، وإذا أنقذ الأسطى حياتك تطوِّل لسانك عليه!

– أتظن أنك تخيفني ببذلتك العيرة هذه؟

– عيرة يا قليل الأدب.

– بذلة المحمل.

– محمل! قدامي على القسم.

– أخفتني. قدامك على القسم.

وكان أسرع منه في ركوب العربة، فقد تنبَّه أنه يبغي أن يحسم الموقف قبل أن تتشابك الأيدي ويتجمع الناس، وصادف هذا التفكير مثيله عند الملازم شوقي سالم. وحاول السائق أن ينهي الموضوع.

– يا أفندية لا لزوم لهذا، حضراتكم ناس محترمون والقسم ليس لأمثالكم.

وصاح الملازم في كبر وغيظ: امش أنت إلى القسم ولا شأن لك. لا بد أن يدفع ثمن طول لسانه.

– إياك أن تزيد كلمة واحدة. في القسيم قدِّم شكواك، ولكن حتى نصل إلى القسم تسكت تمامًا.

– وهو كذلك. أما نشوف.

ولم يجد السائق بدًّا من الصمت، فقد أدرك بذكائه الفطري أن أي حديث قد يشعل حريقًا لا داعي له.

وقفت العربة عند القسم ونزل الخصمان، وطبعًا قصد الملازم إلى حجرة المأمور مباشرة ودخل حفني وراءه، وإذا الجالس في مكان المأمور ملازم ثانٍ من الشرطة لم يعرف ضابط الجيش ولكنه ما إن رأى حفني حتى هبَّ من كرسيه: مَن! حفني الوسيمي!

وصاح حفني: أهلًا. كيف أنت يا زين.

وصاح شوقي: أتعرفه.

والتفت زين أخيرًا إلى شوقي: أهلًا حضرة الضابط، تفضَّل. كيف أنت يا حفني؟

وحين هدأت التحايا قال شوقي في غيظٍ موجِّهًا كلامه لحفني: ولأنك تعرف ضباط البوليس تريد أن تأخذ الدنيا في وشك؟

وقال حفني في ثقة وعدم مبالاة: أنت الآن في القسم، اكتب شكواك واترك الأمر للبوليس يأخذ إجراءاته.

– وهل بقي فيها إجراءات! طلعت صاحب البوليس.

وقال زين وهو يكتم غيظه: يا حضرة الضابط لا لزوم لهذا، ومعرفتي بحفني بك لن تمنعني من إعطائك حقك إن كنت صاحب حق.

– وهل عاد فيها حق؟

– سترى.

– وهو كذلك.

وروى القصة وما إن انتهى منها حتى ضحك زين: ألا تعرف حفني بك؟

– عرفته بين رأسَي الفرسين.

– حفني بك الوسيمي.

ونظر شوقي إلى حفني نظرةً متفرسة: أأنت الذي تكتب في مجلة الفن؟

وقهقه زين أخيرًا وقد أحس أن الحرج الذي وقع فيه قد انجاب عنه إلى غير رجعة.

– هو الذي يكتب في مجلة الفن، وأخوه حلمي الوسيمي الوطني المشهور.

– ولماذا لم تقل هذا من الصبح يا أخي؟

– وهل تركت لي فرصة لأقول.

– أوجعتني بذلة المحمل.

– حقك عليَّ.

– ولا حق ولا يحزنون، إلى أين أنت ذاهب؟

– كنت في طريقي لاستئجار عربة.

– لمجرد استئجار عربة أم لتذهب بها إلى مكان معين؟

– والله كنت سأفكر أين أذهب بعد أن أركب.

– ولا تفكر ولا حاجة، تعالَ نشرب حاجة أولًا ثم فكِّر على كيف.

– تعالَ معنا يا زين.

– والمحضر؟

– اكتبه حين ترجع.

– وضحك ثلاثتهم.

– على رأيك.

– ونادى زين البلوكامين: أنا خارج في مهمة، ولن أغيب.

– أمرك يا أفندم.

وفوجئ سائق العربة بالخصمين يخرجان وقد لفَّ كلٌّ منهما ذراعه في ذراع خصمه ومعهما أيضًا ضابط البوليس، وركب الثلاثة عربته. وصدر إليه الأمر أن يذهب إلى قهوة ريش. وزيد عدد الأصدقاء عند حفني صديقًا جديدًا سرعان ما تبين له أن صداقته ستكون وطيدة بذلك الإحساس الخفي الذي لا يعرف مأتاه إلا خالق النفوس وباريها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤