حديث عن الشرق الأقصى

في الشتاء موسم السياحة يكثر من الأدباء والعلماء الأجانب روَّاد هذه الربوع من يطلب التعرف إلى بعض حملة الأقلام عندنا، فيفوزون بذلك عن طريق التوصية التي ليس أبرع منهم في السعي للحصول عليها.

ولئن أزعجك، دون أن يدهشك من بعض هؤلاء تصميمهم على تسيير الحديث في منهج قرروه سلفًا، وإصرارهم على تأويل الكلام لمصلحة سياسية يخدمونها، أو غرض خاص يعملون له، فإنه يشفع فيهم الغربي اليقظ المنصف الذي يحب بلاده ويجاهر بحبه، إلا أنه يسلم بأنها ليست كل الدنيا، وأن ليس من المعقول أن تتغلب مصلحتها على مصالح جميع الأوطان وجميع الشعوب، بل إن هناك إنسانية لكل جزء منها حقه في حدوده الطبيعية.

يسلِّم بأنك إنسان مثله تتمتع بمثل حقوقه في العاطفة والمطلب والمصارحة والمسعى، ويعترف بأنه سمع عن هذا الشرق ولكنه لا يعرفه، ويود أن يعرفه ليقف على ما فيه من جمال وصدق وإنسانية.

من هذا الفريق كاتبان أمريكيان جآني العام الماضي يحملان توصية من الدكتور فارس نمر، كانا قد طافا في ربوع الشرق الأدنى، ومما أدهشهما في مصر وغيَّر زعمهما في «تعصب الشرقيين» أمر بسيط في نظرنا، وهو أنهما دعيا إلى تناول طعام الغذاء يوم عيد الميلاد على مائدة رئيس الوفد المصري (وهو يومئذ المصري (بك) باشا السعدي).

وسارا من الشرق الأدنى إلى الهند، وقد يظهر بعض ما هما عليه من صدق وعدم تحيز في هذه النتف التي اقتطعها من رسائلهما عن الشرق الأقصى — الأقصى بموقعه الجغرافي، ولكن ما أدناه إلينا بروحه وحالته وموقفه!

بورت سعيد، ٢٧ ديسمبر ١٩٢٢

لقد كان سرورنا عظيمًا عندما سمعنا البارحة أننا ذاهبان إليكم مرة أخرى مع زكي باشا وأمين بك يوسف؛ فظفرنا بزيارة الوداع بعد زيارة التعارف.

… نكرر هنا ما قلناه سابقًا، وهو أن أهم ما في رحلتنا هذه يقوم بما نتلقاه من أفراد أدركوا الفكرة الواحدة الشفافة التي لمسها القليلون، وتتبعوا وراء الحوادث الجزئية أنظمة الكون الكبرى المحدثة كل شيء، «أولئك نوادر قلائل في العالم بأسره وفي جميع الأجيال» كما قلت البارحة، ولكنهم النواة الجوهرية التي تتكون حولها دوامات الجماعات المنظمة حركاتها على يد أشخاص ثانويين، ولقد كان في نظرنا أمرًا خطيرًا أن نستبين هذه النواة الثمينة في الشرق الأدنى وراء تحرك الخواطر والمطالب في اختمار بطيء …

كالكتا (الهند)، ٣٠ أبريل ١٩٢٣

عُدْنَا اليوم من زيارة طويلة لمدرسة تاغور سانتينكتان (ميناء السلام). وطيَّ هذا قصيدة إنكليزية من الشاعر مهداة إليك خاصة، واسمها «طائر الصباح».١

… سمعنا خلال هذه الآونة أخبارًا كثيرة عن مصر: منها ظهور لائحة الدستور الجديد، ومنها احتجاج حزب العمال في إنكلترا على سياسة لورد اللنبي، وهذه الأمور وغيرها لا تخلو من الأهمية رغم أن لكل مسألة وجهين، ورغم أن هذه الحوادث نتائج لا أسباب. يمكننا أن ندرك ذلك نحن اللذان زرنا الشرق الأدنى واستجلينا شيئًا من تلك الحركة الفكرية الواسعة التي تعمل بهدوء ليوم آتٍ.

جئنا الهند منذ ثلاثة شهور تقريبًا، وهو وقت قصير جدًّا لمن يتلمس المعنى الجوهري من حياة متشابكة مرتبكة في مثل هذه البلاد العظيمة المترامية الأنحاء، ومع ذلك يمكننا أن نخبرك ببعض ما رأيناه وشعرنا به خلال هذه المدة.

الهند — كبلادنا الأميركية — في تطور، وهي الآن تجتاز أزمة سينتج عنها خير كثير للهند نفسها وللعالم أجمع. جئناها والروح مشبعة من روح ثقافتها القديمة، فوجدناها في القرن العشرين مجاهدة تتنازعها مشاكل القرن العشرين؛ النشء الجديد فيها جاد حار، ونراه راغبًا في تأدية خدمة صالحة للنفع العام. العادات هنا بسيطة والأساليب الحيوية خالية من تكلف الرسميات، إلا أن أثر الفكر الغربي آخذ في إيجاد التضاعف والتركيب فيها شيئًا فشيئًا. وترين الهندي بوجه عام حساسًا رقيقًا يتأثر بسرعة ويلبي بكل إخلاص نداء الجود، ويبادل عواطف المحبة بكل صفاء.

يخيل أنه انحط بعض الشيء على كرِّ الأجيال، لكن ليس في جميع القبائل؛ فالماراثا نشيط مستقل يتكل على نفسه، والبنجابي شديد محب للحرب وإن كان في وسعه أن يصرف قواه في غير المكافحة والقتال، وهو أمر أثبته في «أمريتسار» خلال فترة اللاتعاون. أما البنغالي فهو أضعف من هذين بنية، وهو رقيق لطيف ذكي طاهر القلب سامي الفكر، ومنه تلقَّى الفن الهندي نفحة الانتعاش، وهو الذي أوجد في الآداب نزعة التجدُّد والتحسين.

أما فقدان قيادة غاندي الشخصية فظاهر كل الظهور، وأمثال س. ر. داس موفورو الإخلاص والكفاءة، إلا أنه ينقصهم مغناطيس المهاتما ومواهبه الروحية. على أن الشعور جلي بأن غاندي تكلم فأرسل نفحة من روحه العظيمة، وأن هذه النفحة تبحث لذاتها عن طريق في حياة الهند، وأما الاتحاد بين المسلمين والهندوس فليس على ما يرام، ولهذين الفريقين دروس لا بد أن يتعلمها أحدهما على الآخر قبل أن يتفاهما ويتحدا الاتحاد الأمثل، ورغم ذلك فهناك فكرة مستقيمة تتمشى وتنمو في سبيل الاتحاد المنشود وتقدره وتعمل له، وهذا بلا ريب أهم أغراض غاندي.

أما تاغور ومدرسته «سانتنكتان» فخميرة فعالة في عجين الهند. كان فن الهند منذ قرن على لا شيء من الإبداع تقريبًا، إذ كان قاصرًا على النقل والتقليد، فأرسل تاغور صيحة في الهمم الخامدة، وما فتئ ينادي بالهند لتجود بما لديها، وتسعى لتوحيد ثقافتها والترابط الفكري والأدبي مع سائر أنحاء آسيا. عندئذ — يقول تاغور — يمكننا أن نعود إلى الغرب مقتبسين خير ما في حضارته فلا تشوهنا؛ لأننا نكون مرتكزين على حضارتنا القومية.

فكر تاغور فكر بديع التآلف، محكم التركيب، بعيد المرمى، هو الفكر الشرقي المحض الذي لم تفسده نزعة سطحية أو زخارف غريبة، ولكن الرجل مع ذلك لرحابة قلبه واتساع عواطفه يدرك الجيد الحسن من جميع الجوانب، ويقدر ما فيه من إنسانية صادقة …

و. ب.

هذا الحديث عن الشرق الأقصى ما أحراه بأن يكون عن شرقنا الأدنى، لو نحن استطعنا أن نوجد لنا اسمين متوافقين كاسميِّ رسولي الحرية السياسية والأدبية في الهند.

لقد أُطْلِقَ سراح غاندي في أوائل فبراير الماضي، وما إن غادر المهاتما سجن يرودا حتى أرسل منشوره الأول بشكل خطاب إلى محمد علي رئيس الجامعة الهندية الوطنية الكبرى فعبر فيه عن عقيدته الوطنية ورغباته وآماله، قال: إنه يعلم أن الحالة الآن أشد قلقًا مما كانت يوم دخوله السجن، وقال: إنه ما زال يعتقد أن طريق الحرية والاستقلال هي؛ أولًا: في الاتحاد بين الهندوس والمسلمين والسيخة والمجوس والنصارى. ثانيًا: في مداواة فقر الهند بالاتكال على مغازلها وإنتاجها؛ لأنه مقتنع بأن المغازل وحدها هي التي تنقذ الهند من موتها الاقتصادي الذي تجود فيه بنفسها.

ثالثًا: في التزام السلم في القول والعمل والفكر، «وهي أسلحة لازمة لنا للوصول إلى غايتنا»، ويعتقد أنهم «لو عملوا بإخلاص لما احتاجوا إلى المقاومة السلبية، التي يرجو أن لا يحتاجوا إليها، وإن كانت مؤثرة وحقة، وإنها حق من حقوق الأمة والفرد، بل واجب إذا هُددت حياتهما بالخطر.»

هذه الأركان الثلاثة التي تقوم عليها سياسة غاندي ذي الروح الكبيرة الحلوة يعجبنا أن نرددَّها كل يوم، وبسببها يقول رومان رولان الفرنسوي في كتابه الجديد الجميل: إن «المهاتما أوجد في تاريخ السياسة أقوى وأنفذ حركة شهدها العالم منذ ألفي سنة.»

•••

وبينا غاندي وتاغور، وهما مجدا الهند، يتفاهمان ويتعاطفان ويطلبان لوطنهما شيئًا واحدًا إلا أنهما لا يسلكان لذلك سبيلًا واحدًا.

غاندي يريد أن يجرِّد الهند من كل أثر غريب في الصناعة والسياسة والإدارة والثقافة، وأن يعود بها إلى عهد الآباء؛ فتكفي نفسها من نتاج مغزلها ومنوالها، وتعيش عيشة ساذجة هادئة بمعزل عن ضوضاء العمران الأوروبي.

وأما تاغور فيمثل قوَّة أخرى من القومية الهندية؛ ذلك الشاعر العالم والفيلسوف لم يلقِ بنفسه في المعمعة السياسية، بل عني بوجه آخر لا يغني عنه الاستقلال الاقتصادي والسياسي، وهو التهذيب القومي في المدرسة الحرة، وإسماع العالم صوت الهند في آدابها العالية وفلسفتها الزاخرة.

في كتبهِ خاطبت الهند العالم أجمع، وما زالت تُلْقِي الهيبة في النفوس محرزة بذلك نصرًا خالدًا، وليكون أثره التهذيبي مباشرًا، فقد أنشأ مدرسته «مرفأ السلام» ببلدة بلبار من إقليم البنغال، وهي التي انضمت إليها أخيرًا جامعة كبيرة من هاتيك البلاد.

يتخرَّج النشء في هذا المعهد على آراء تاغور ومذهبه، ولا ريب أنه سيكون قوة كبيرة في تجديد ذلك المحراب العظيم الذي ما زال مستودعًا للمثل الأعلى رغم عواصف الحياة وأنوائها.

ويوم الأربعاء من كل أسبوع، وهو يوم الراحة في «مرفأ السلام»، كان تاغور يجمع تلاميذه ويخاطبهم كأخ كبير وصديق رءوف، ومن تلك المحاضرات الاجتماعية والفلسفية والفنية التي ترمي إلى تحقيق كُنْهِ الحياة، والوقوف على اتصال الحياة الفردية بالحياة العامة، خرجت مجموعة كتابه «سيدهانا» النفسية، مؤدية صورة حية من روح تاغور النورانية الرحيبة المفعمة جمالًا ولوذعية ووطنية وإنسانية.

فكأنه في حين غاندي «النبي السياسي الوديع» يدفع الأيدي العاملة إلى العمل ويحرض على الثورة السلبية، فإن تاغور يقوم على حراسة اللهيب الجوهري في حياة الهند، ويذكيه في مدرسته ويغذيه، ويرسل إلى العالم الوقت بعد الوقت خبرًا عنه وصورة محيية منه.

•••

كلٌّ من غاندي وتاغور متمم للآخر، وإذا كان الحديث عن الهند أشبه ما يكون بحديث عن شرقنا الأدنى لتشابه المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية هنا وهناك، فالدواء العام الذي ينشدونه في تلك الأقطار هو أول ما نحتاج إليه. نحن كالهند نحتاج إلى التوحيد بين العناصر ليتم لنا النهوض والأخذ بأسباب الحياة، نحن كالهند في حاجة إلى إحياء الصناعة الوطنية وترويجها لنتدارك فقرنا، ونكفي حاجتنا قدر المستطاع، وإن لم يكن في الإمكان أن يستغني الآن أي قطر من أقطار المسكونة عن صناعة الأقطار الأخرى أو عن بعض إنتاجها؛ فذلك لا يخلينا من تبعة التهاون في ترويج أقمشتنا ومصنوعاتنا على اختلافها.

ونحن كالهند نحتاج إلى مدارس وطنية حرَّة — دون أن ننكر فضل مدارس الأجانب — تكيف النفوس على حب البلاد وتتعصب لقوميتها ووحدتها، فرُقِيُّ الأمم والأفراد يقاس بمبلغ امتلاكها زمام أمورها وحسن إدارتها لمصالحها الحيوية، والتعليم — مع ترقية الصناعة الوطنية وترويجها — في مقدمة هذه المصالح، وعليه المعول الآن في الشرق لتقوم المدرسة مقام المدرسة ومقام العائلة في آن واحد؛ لأن النشء يجد غالبًا في المدرسة الراقية الجو المعنوي المثقف الذي لا يجده في البيت.

اعتدنا أن نلقي جميع المسئوليات على الحكومة، مع أن التعليم يجب أن لا تتعهده الحكومة وحدها التي يهمها منه خصوصًا تخريج الموظفين لمصالحها، بل هو عمل أهلي وطني حر.

لذلك حق على الشرقيين في هذا الطور الجديد أن ينيلوا التعليم الوطني الحرَّ ما يليق به من الاهتمام، وأن يجعلوا لوزارة المعارف حق «الرقيب الناصح لا الشريك المخالف»، ومجالس المديريات وهي الصور الصغرى لطبقات الشعب أولى الهيئات بنشر التعليم الحر والنهوض به.

كذلك نحتاج إلى إرسال صوت الشرق إلى الخارج لنقول: إن حركتنا السياسية والاقتصادية إنما هي مظهر فقط من حياة قومية غنية واسعة.

١  هذه هي صورة القصيدة وهي رمزية:

SURUL

The bird of the morning sings.
Whence has be word of the morning before the morning breaks, and when the dragon night still holds the sky in its cold black coils?
Tell me, bird of the morning, how through the twofold night of the sky and the leaves, he found his way into your dream, the messenger of the east?
The world did not belive you when you cried, “The Sun is on his way; the night is no more” O sleeper, awake!
Bare your forehead, waiting for the first blessing of light, and sing with the bird of the morning in glad faith!
Rabindra Nath Tagore

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤