معرض الصور المصري

١

مارس ١٩١٩

لقد أُضِيْفَ إلى الأحاديث المزعجة التي ملأت أندية القاهرة في هذه الأيام موضوع لطيف لم تألفه بعد اجتماعاتنا، موضوع الفنون الجميلة، وذلك بفضل المستر ستيورت الذي عرض رسومه المصرية، وفضل إخواننا الأقباط الذين أقاموا قبله معرضًا كشف لنا عن أمر جهلناه.

وإني لأستغفر عما خالجني من الشكوك؛ فإني دخلت القاعة وفي نفسي ارتياب كثير وأمل ضئيل، ولكن ما إن عُرضت طائفة من متقن الرسوم حتى قلت الكلمة التي سمعتها ممن زاروا المعرض قبلي وهي: «إنه أحسن كثيرًا مما كنت أتوقع.»

مرضية النظرة الأولى في الردهة الكبرى لجامعة المحبة والغرف الأربع المحيطات بها، وقد تغطت منهن الجدران طولًا وعرضًا، ولم أكن أدري أن للطائفة القبطية شغفًا بالرسم، غير أن العارفين يقولون: إن هذه المعروضات إنما هي لبعض الغواة من رجال ونساء، وإن الآخرين لم يعرضوا لوحاتهم. أما المحترفون — وهم عدد يذكر على ما قيل لي — فقد أبوا الاشتراك في المعرض؛ لأنهم اشترطوا ما لم يتم الاتفاق عليه.

لا يلوم هؤلاء مَنْ يدرك قيمة العمل والجد لنيل غاية بعيدة، ولكلٍّ مطالب تقاس عنده بما بذل من سعي ومجهود. على أننا كنا نود أن يتم الاتفاق على ما يرضي الغواة ولا يغضب السادة المحترفين؛ حتى ينجلي للجمهور مظهر صادق من الحركة الفنية عند إخواننا الذين يبالغون في التكتم وإخفاء أساليبهم وميولهم عن غير الأقباط.

لم يكن ثمة ما هو منقول عن الطبيعة مباشرة أو معبر عن فكرة شخصيَّة إلا رسمان اثنان، إلا أن من الرسوم المنسوخة عن رسوم موضوعة من تماثيل ونقوش وفوتغرافيات ومناظر طبيعية، كان حسنًا، ومنها ما هو دقيق الإتقان سواء في التفاصيل والإجمال، وكل من سعى لإقامة هذه الندوة وعمل في تنسيقها وترتيبها يستحق جزيل الشكر؛ لأنه كان مشجعًا فكرة صالحة ومعززًا قيمة الفن بين ظهرانينا. ومما يغتبط له بنوع خاص أن قسمًا يذكر من هذه المعروضات (النصف تقريبًا) من صنع السيدات والأوانس، وهو شيء لم نكن نتوقعه مطلقًا وتسرنا منه المباغتة اللطيفة. وقد كان هناك غرفة خاصة بإحدى الأوانس، وقد غطت نقوشها ورسومها الجدران الأربعة. وفي غرفة أخرى كنت ترى جمهورًا من الفتيات يتناقشن ويتسامرن ويسارقن الزائرين النظر آونة بعد أخرى، ولو علمت أنهن صاحبات الرسوم المعروضة لأدركت معنى تلك النظرات الخفية.

إن هذا المعرض التجريبي مقدمة لتحقيق آمال كبيرة إن شاء الله. لقد قلَّد إخواننا فكانوا متقنين، ونسخوا فكانوا مجيدين ونائلين من مثل رئيس مدرسة الفنون الجميلة في هذه العاصمة كلمات التشجيع والإطراء. فهيا الآن إلى الإبداع والابتكار واستيحاء الطبيعة والحياة مباشرة بلا وسيط! نظرة عين أو ثنية شفة، أو دمعة ترتعش على حافة الجفن، أو سحابة تذهب حواشيها أشعة الشمس، أو خيال من خيالات السرور والأسى والشوق والتمني. كل معنى مهما يكن هزيلًا ينقلب أثرًا فنيًّا بعمل المخيلة المبدعة والريشة الخالقة، وكلما عالج الفنان التعبير عن ذاتيته نمت تلك الذاتية واتسعت، وقد أصبح باب المقابلة والمسابقة والمفاضلة مفتوحًا، وكثرة المترددين على الندوة تنبئ باستعداد عند الجمهور لدرس الأعمال الفنية وتقديرها.

أي شيء أجمل من الفن، وأي شيء أقدر منه على تصفية النفس وترقية الميول وتطهير الأفكار وتنقية العواطف؟ وإذا انفتح ذلك الباب؛ باب الغبطة المعنوية، فهو لا يغلق أبدًا، بل يعبره المرء إلى عالم جديد تملأه مسرات (وآلام!) تتضاءل أمامها المسرات والآلام الأخرى.

نرجو أن يقام هذا المعرض كل عام، ونرجو أن يحقق الآمال، كما نرجو أن لا يكون في المستقبل قبطيًّا صرفًا بل مصريًّا كل المصرية؛ لأنه كما يتيسر الإخاء في أفق الوطنية، كذلك هو ميسور في جميع الدوائر السامية؛ دوائر الخير والعلم والفن والفلسفة.١

٢

أبريل ١٩٢٤

رأينا هذه السنة المعرض السادس، وهو طبق المرام، ذو صبغة مصرية كما يليق بالبلاد التي يقام فيها، وطائفة كبيرة من معروضاته من صنع المصريين، ومعها معروضات لغير المصريين، محترفين وهواة، رجالًا ونساء. وهذا هو الكمال في المساواة في عوالم الفن والفكر والعلم، حيث تتجلى الطبيعة الإنسانية العامة واحدة عند الجميع.

وقد درج المعرض على هذه المساواة منذ سنتِه الثانية، بيد أنه أقيم هذه المرة في قاعات سافواي بصورة شبه رسمية ومكبرة عن صورة المعرض الذي كان يقام في الأعوام الماضية، وهو الذي كان حجر الزاوية منه ذلك المعرض الصغير في دار جامعة المحبة القبطية سنة ١٩١٩.

كانت القطع المعروضة هذا العام تنيف على الأربعمائة، ولا أدري هل اللجنة المنظمة أصابت في ذلك؛ لأن الكثرة ليست ضمانًا لرقي الذوق الفني ولا دليلًا على جودة الصنعة.

قد لا يغضُّ التدفق من نفاسة النوع عند الطبائع الغنية الفياضة، ولكنه عندئذ الاستثناء الجميل. أما القاعدة ففي وجوب التأني للإتقان الذي لا كمال بدونه؛ والقليل المتقن لا سيما عند المبتدئ خير من الكثير المشوش.

كان على اللجنة أن تتصعب في قبول المعروضات، وأن تكون أدق نظرًا في الاختيار؛ ليكون القبول منها بمثابة التشجيع لذوي المواهب الفنية والتقدير لمعروضاتهم. كان عليها أن تنبذ «الخرابيش» التي يزعم أهلها أنهم يعرفون يرسمون ويصورون، فلا تضع الادعاء والخلو حيال الكفاءة والمقدرة يطميان عليهما. وخير «للصالون» أن يحوي مائة لوحة — أو أقل — جديرة بالالتفات والاستحسان من أن يحوي مقدار ما تحويه صالونات باريس وروما؛ فيظهر العجز في هذه الكثرة، ولا يكون تعدد الأطر والنقوش شفيعًا في نقص الأصل وضعفه.

فمن تلك المعروضات ما كان يحتمل احتمالًا، ومنها السطحي المصطنع الباهت كأنه نقش بماء الورد، ومنها ما لا يقبل إلا كاثر رسم في الطفولة يوم بدأنا ننسخ طاقات الورد والأواني الزرقاء والصفراء عن دفتر كاتارينا كلاين الألمانية. وأفهم أن يستاء الفنانون من جيرة لا ملق لهم فيها ولا فخر.

وكان مما يبعث على السرور والأمل أن نتبين بين تلك القطع — المنسوخة عن منسوخ في الغالب — بعض الرسوم الجديرة بمكانة لائقة في أي معرض ذي كرامة؛ فنرى فيها فن التلوين، وجرأة الخطوط، وإحكام الرسم، وجلاء الأسلوب، وحذق التعبير عن خاطرة جلية أو تأثر غير مرتبك.

ولا بأس من عيب أو عيوب إذا كانت اللوحة ناطقة بمزاج فني واضح الحدود والفوارق، فعيوب المصوِّر في الخطوط والألوان والشكل والقالب بمثابة الأغلاط اللغوية في آثار الكاتب. تلك الأغلاط تتضخم ولا تغتفر عند الكويتب المتطفل، بينا هي جزء من شخصية الكاتب الكبير. فالشواذ اللغوية والبيانية كثيرة عند شكسبير، وجلية عند بايرن وغيره، على أنها لا تنقص من قيمتهم، بل الواقع أنهم جوزوها ودمجوها في اللغة لمجرد وجودها في آثارهم، وهي عيوب قابلة الإصلاح، وإصلاحها من أسهل ما يكون.

رأينا من هذه اللوحات في المعرض. أما عيوبها ففي: ارتباك التأليف، وعدم مراعاة التوازن في توزيع الطباق والإبعاد، وكأنها كانت مفتقرة إلى توحيد الأسلوب على منهج واحد. ولكن فيها مجهودًا جميلًا، واقتحامًا جديدًا، وسعيًا لشق سبيل غير مألوف.

وهناك لوحات تستوقف الانتباه؛ لأنها خلال التعبير عن فكر متغلب أو تأثر طام أنبأتنا بأن ثمة شخصية كبيرة ومزاجًا فنيًّا مشوقًا قدر له أن يبرز بحرية وأن يصعد عاليًا في أفق الفن.

فكما أن في هذا المعرض وجوهًا للتحسين والإصلاح، فكذلك فيه حسنات توحي الرجاء، وأكبر الأمل أنه يقام كل سنة، وأن في مصر الآن نواة فنية يرجى لها النمو. فللجنة الساهرة على هذا المعرض السنوي أجمل الثناء، مشفوعًا بالرجاء أن يكون الانتخاب في العام الآتي أدق وأحكم؛ فمصر طفلة في الفن واليقظة، وهي ككل حدث تحتاج إلى من يتعهدها بخبرة ومحبة.

٣

أقول مصر في طور الحداثة، وأعني كل ما تتضمنه هذه الكلمة، فإن هذا الطور إذا كان كثير العيوب ففيه كذلك حظ كبير من الحسنات والمواهب التي تنتظر الصقل والنمو.

في هذا الطور خلوص النية، وصفاء الطوية، وذكاء الفؤاد، ومقدرة العطف، وشتى الحوافز لاقتحام أعلى القمم. وفيه خلو من مرارة التجربة وتجاهل لليأس والفشل، وهو حديقة تنور فيها كل أزهار الأمل.

ومصر متمتعة بهذه الثروة الفاخرة.

فعلى متعهدي الفن فيها أن يذكروا أن بعض الأمزجة ذات وزن كبير أو ذات وزن ما، وتلك هي التي يكون الإغضاء عنها جريمة وخسران، وسيكون لأصحابها أثر في الروح العامة إذا هم وجدوا من الظروف ظهيرًا، واستطاعوا أن يثقفوا مواهبهم بما تقتضيه من سعي ومجهود وثبات.

ولكن ليس كل من رسم كذلك، وللمرء كل الحرية في أن يرسم لنفسه ويعرض رسومه في منزله، ولكن حريته تغدو محدودة يوم يهم بنشر ما لها به في معرض عام.

إن الرسم والتصوير والنحت كالشعر والموسيقى، لا خير فيها إلا إذا عبرت عن مزاج تام، وكانت على جانب من الإتقان، في حين أن أية نهفة من صوت ولو غير جميل، تعني شيئًا ما، وتدل على خاصة حيوية. وحسبها أنها تنوع من التنفس الذي هو أصل الحياة وضمانها ودليلها الواحد. أما التصوير والرسم والنحت والشعر والكتابة الأدبية فلا بد أن يتساوى فيها حظا الصنعة والفن؛ أي «كيفية» التعبير و«كمية» من شخصية يتسنى التعبير عنها.

ونحو هذه الغاية فلتسِرْ مصر في معرضها التصويري، فتنشر آثارًا توازت فيها المادة والأسلوب. وليس من الضروري أن يتكاثر العدد كل سنة، ولكن من المحتم أن يرتقي الفنانون وتصقل مواهبهم وتجود آثارهم. فالفن ككل شيء آخر في الحياة، له مختاروه وأشياعه، وقد كان دوامًا نصيب الأقلية. ولا يطلب من الجمهور إلا أن يفهمه أو يفهم بعضه. وتربيته على ذلك ميسورة في مثل هذه المعارض السنوية.

٤

ومن مزايا هذا المعرض الذي يخلق «جوًّا» للفنِّ، ويبثُّ في الجمهور رغبة في درس الفن، وينشط معالجي الفن وهواته، إنه موضوع يمرن عليه كتابنا مقدرتهم في النقد التصويري، ومنهم من يبدي في ذلك إدراكًا دقيقًا وإحساسًا نافذًا، وإخلاصًا مشكورًا؛ فلا يسئم المواهب الصالحة بالكلام الفاتر في الموضوع الحار، ولا يملق الغرور والغطرسة بالثناء الوفير على ما هو عادي قد لا يستحق أكثر من النظرة السريعة.

«ما نفع النقد؟» يتساءل شارل بودلير، ثم يجيب: «الفنان يلوم الناقد في أنه لا يفلح في تعليم المتفرج الرسم والنظم، وهو كذلك لا يعلم الفنان الذي لولا فنه ما كان النقد، ولكن هذا اللوم لا ينطبق إلا على النقد الذي لا يرى ولا يشعر ولا يدرك.»

«كيف يكون النقد إذن؟»

«أعتقد بإخلاص أن خير نقد هو النقد المنوَّع الشعري المبهج، لا ذلك النقد البارد الذي يسلك طريقة علم الجبر في حل المسائل الرياضية، فيزعم شرح كل غامض وفض مغالق الطبيعة، دون تحيز ولا نفور، بل بتجريد نفسه اختيارًا من كل مزاج وكل نزعة.»

«يتحتم أن يكون الناقد واسع المعرفة والإدراك، رقيق الإحساس، صادق الإخلاص، ومقياسه هو الطبيعة بأسرها بإنسانها ومجتمعها، ثم عليه أن يتأثر لينقد بانفعال. لأن كونك ناقدًا لا ينفي كونك إنسانًا، والانفعال يقرب بين الأمزجة المتشابهة، ويسمو بالمدارك إلى علو جديد؛ وبهذا منفعته للفنان والمتفرج.»

«التصوير كجميع الفنون، هو الجمال تستوعبه عواطف كل منا، فيعبر عنه بانفعالاته وأحلامه، أو هو التنوع في الوحدة، أو هو الوجوه النسبية المتعددة من الكل المطلق. فعلى الناقد البصير إذن أن ينظر إلى الأثر الفني والتعبير الفني ومن ورائه الطبيعة وما وراءها لا يغيب عن بصره؛ فيشرح ما في البيان الفني من معلوم ومجهول، أو من نقص في العلاقات، أو من علاقات مختلة. الناقد العليم القادر أستاذ الحياة بما فيها من العلانية والأسرار، والمتحركات والسواكن، يُعرِّفها للفنان الذي عالجها صامتًا، ويعرفها للجمهور الذي يُحدِّق فيها جاهلًا.»

هذه بعض أقوال بودلير في النقد الفني، وهو الذي كان ناقدًا ممتازًا كما كان شاعرًا مطبوعًا، والكلام على النقد الفني ينطبق على النقد عمومًا؛ إذ إن النقد كالحرية والعلم والفن لا يأتي بالطفرة، بل هو تمرين متتابع طويل لكفاءة طبيعية.

لذلك قلت: إنه إذا سرَّنا أن نرى هذه المعارض الابتدائية؛ فيسرُّنا كذلك أن تظهر على مقربة منها، وتصقل عن طريقها، موهبة النقد الذي يدرك، ويشعر، ويحاسب نفسه على ما يقول، مقابلًا بين موضوعه وبين ما يعدله في الحياة والطبيعة والمجتمع.

وهذا النقد العام الناظر إلى الأمور من جميع جهاتها قليل جدًّا في اللغة العربية التي عني أئمتها في الغالب بالنقد اللغوي وما إليه.

ولذلك كان من دواعي الابتهاج أن تبدو مع النزعة الجديدة إلى الحرية السياسية النزعة إلى العمل الفني، يحاذيها النقد الصادق الذكي.

هو ثالوث حي سعيد، بورك فيه!

١  كتبت هذه المقالة بتوقيع «خالد رأفت» المستعار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤