الفصل الأول

النرجسي (الإنسان المُختال بنفسه)

الإنسان الحكيم، أكثر ما صنَعَ الخالق كمالًا، وأعظم وأروع ما يُوجد على وجه الأرض.

لينيوس، ١٧٥٨

ليلة مخملية تُغلِّف السافانا الأفريقية. اختفى آخر ضوء للنهار قبل نصف ساعة، تحت ضوء النجوم الذي يَخترق السحاب المُتسارِع فيظهر أكثر نقاءً، يشقُّ صبيٌّ طريقه إلى المنزل عبر الأراضي الواسعة مُتبعًا مسارًا مألوفًا. وبينما يقترب من بلاك هيل، وهو المكان الذي تأوي إليه عائلته كلَّ يوم ساعة الغسق، تُصبح الأرض وعرةً وغير مستوية، وتَتناثر الأحجار الجيرية في المنحدَرات العُشبية التي تؤدِّي إلى نتوءٍ صخري نحتَتْه عُقود من الأمطار والرياح حتى أصبح كقلعةٍ طبيعية من المنحدَرات المُنخفِضة والصدوع المُتعرِّجة والكهوف والملاجئ الضحلة — مكان تأبى حتى الحيوانات المفترسَة الشرسة الذهاب إليه بمجرد حلول الظلام.

لتركيزه على موطئ قدمَيه غير المُستوي، لم يكن بوسع الصبي أن يُلاحظ الظلَّ الأدكن في الشجرة التي تُظلِّل هذا الجزء الضيق من المسار الذي ارتادته العديد من الأقدام على مرِّ أزمنةٍ طويلة. في الواقع، يصعب رؤية الشجرة، فهي لا تبدو سوى مجرَّد ظلٍّ أسود في ضوء النجوم المُتغيِّر. أما في ضوء النهار، فتبدو الشجرة عتيقةً ومتعفِّنة ومجرَّدة من أوراقها الخضراء وتخلو من أيِّ مكانٍ للاختباء؛ ولذا فهي لا تتعدَّى كونها شيئًا هزيلًا لا يُثير الخوف. ولا تُشكِّل تهديدًا سوى في ليلةٍ غير مُقمرة كهذه، تمامًا كما كانت المرأة العجوز تُحذِّر كثيرًا. ولكن الصبيَّ جريء ورشيق وقوي، والمنزل قريب. تحفُّ الصخور المسار المُتعرِّج الذي يتلوَّى عبر النتوءات الصخرية، أما باقي الطرق الأخرى، فهي أوعر وأخطَر بكثيرٍ من هذا المسار الخطر إن لم تُضاهِه في الخطورة. لم يكن يَنبغي أن يظلَّ في الصيد حتى هذا الوقت المتأخِّر ليُثبت براعته وجرأته. بينما كان يمرُّ تحت أحد فروع الشجرة المُمتدَّة، يندفع ظلٌّ أحلك سوادًا من السواد الذي يغمُر المكان في صمتٍ ويحجب ضوء السماء الخافت. يعيش الصبي حالةً من الذُّعر والرُّعب الشديد والألم المُبرِّح قبل أن تُنهَشَ رقبته تمامًا على نحوٍ ينمُّ عن خبرة. تَخترق أسنانٌ كالخَناجر وجهَه وجُمجمته، وبعد سلسلةٍ من الشدِّ الوحشي، يُسْحَب الجسد الرخو بهُدوءٍ إلى الأعشاب الجافة ويُطرَح بقوة إلى أسفل التلِّ نحو عرينٍ تَنتظِر فيه الصغار الجائعة.

تنتظر العائلة المُتجمِّعة في ملاذها الآمن فوق قمة التلِّ الصَّخري عودة الصبي، يَنتظرون عودته في الصباح، ولكن بلا جَدوى. يُفجَعون بقتلِ فردٍ آخر من أفراد عشيرتهم على يد قاتلٍ مُتسلسلٍ شَرِس يُطاردهم في الأحلام كما يطاردهم في الواقع. هذا الصبي ليس هو الأول بأيِّ حالٍ من الأحوال، بل هو ضمن سلسلةٍ طويلة جدًّا من الأطفال الضحايا تعود إلى عشرات الآلاف من السنين، مئات الآلاف من السنين، بل ملايين السنين.

واقعة القتل هذه حقيقية.

وقعَت هذه الحادثة قبل فترة تتراوح بين ١٫٨ و١٫٥ مليون سنة. كان الضحية طفلًا، على الأرجح صبيًّا من عائلة صغيرة من فصيلة «بارانثروبوس روبوستوس» (أشباه البشر الأوائل)، وهي إحدى الفَصائل القوية البنية المُنقرِضة من أشباه الإنسان الحديث. كان البارانثروبوس يَستخدمون الملاجئ الصخرية الموجودة حول كهف سوارتكرانس في منطقة بوشفيلد (أو السافانا المُشجَّرة) ليس ببعيدٍ عن جوهانسبرج في جنوب أفريقيا. نحن نعرف كيف حدثت هذه الواقعة؛ لأنَّ عالم الآثار روبرت برين الذي اكتشَفَ فريقُه الأدلة التشريحية المُروِّعة يقول:

لقد اكتشَفنا اكتشافًا آخر في سوارتكرانس عندما وجدْنا أنَّ الجزء الخلفي من جمجمة طفل كان به ثُقبان صغيران مُستديران في العظام الجدارية. لاحظتُ أن المسافة بين هذَين الثُّقبين تُماثل بشدَّة المسافة بين الأنياب السُّفلى لفهدٍ أحفوري وجدْناه في الجزء نفسه من الكهف. كان تفسيري هو أن الفهد قتَل الطفل، بِعضَّةِ الرقبة المُعتادة على الأرجح، ثم التقطه من الجزء الخلفي من الرأس بأنيابه السُّفلى، بينما كانت أنيابه الأمامية مغروسة في وجه الصبي. وبعد ذلك حُمِلَ الصبيُّ إلى الأجزاء السُّفلى من الكهف والْتُهِم هناك. (برين ٢٠٠٩)

كشف تحليل برين لبقايا حيوانات مفترسة أخرى، وخاصة لقرود البابون، أنه كان لدى الفهود عادة مضْغ العظام، ولكنها كانت تترك الجزء المُقبَّب القاسي من الجُمجمة كما هو. هذا الدليل المُروِّع على المذابح القديمة يُمثل تذكيرًا للإنسانية الحديثة التي قد نَسيِت منذ فترة طويلة معنى أن تكون الفريسة لا الصياد.

ولكن في الوقت نفسه تقريبًا، وفي نفسِ المكان تمامًا، يقع حدثٌ آخر على نفس القدْر من الأهمية: يكتشف الإنسان استخدام النار، واستخدام شيءٍ آخَر أكثر أهميةً بكثير.

ليس ببعيدٍ عن بريتوريا وجوهانسبرج في جنوب أفريقيا، يُقدم موقع سوارتكرانس أول دليل قاطع على سيطرة أسلاف البشر على استخدام النار. في خطاب مشهود لمجلة «نيتشر» في ديسمبر ١٩٨٨، يقول برين وزملاؤه: «خلال أعمال التنقيب الحديثة في صخور البريشة التي تَحمل حفريات القِردة العُليا في كهف سوارتكرانس، استخرَجت عظامًا مُتغيِّرة قبل نحو مليون إلى مليون ونصف مليون سنة قبل الحاضر (وهو تأريخ في عِلم الآثار والجيولوجيا لتحديد أحداث ووقائع في الماضي. وتعدُّ سنة ١٩٥٠ هي نقطة الحاضر؛ أي سنة الصفر في هذا التأريخ.) والتي يبدو أنها قد احترَقَت. بفحص أنسجة وكيمياء هذه العينات، وجدنا أنها قد تعرَّضت لدرجات حرارةٍ كالتي نحصُل عليها في نيران المُخيمات. إن وجود هذه العظام المحروقة، بالإضافة إلى توزيعها في الكهف، هو أول دليل مباشر على استخدام القِردة العُليا للنار في السجل الأحفوري» (برين وسيللينت، ١٩٨٨).

التاريخ غير مؤكَّد، ولكن الطبقة الصخرية التي تحتوي على عظام مُحترقة وغيرها من آثار النار يعود تاريخها إلى ما بين مليون ومليون ونصف سنة. وقد عُثِرَ على جمجمة الطفل المثقوبة في إحدى الطبقات الصخرية في الموقِع نفسه ويبلُغ عمرها مليون ونصف مليون سنة، أو أكثر بقليل.

على الرغم من عدم وجود صِلة مباشرة بين القَتل الفعلي واستخدام النار، بخلاف الموقع المشترَك؛ فالاستِنتاج المقبول هو أن الإنسان قد استخدم النار لأول مرَّة كأسلوب دفاع ضدَّ الحيوانات المفترِسة مثل الفهود، وقد لاقى هذا الاستنتاج قبولًا واسعًا بين علماء الآثار. وعلى الأرجح، أنَّ اكتشاف الطَّهي قد تبعَ ذلك بفترةٍ وجيزة، وهو ما نتج عنه العديد من الفوائد الصحية والغذائية. تخاف الحيوانات كلها من النار، وخاصة من الحرائق الهائلة التي تقع على نطاقٍ واسع في السافانا الموجودة في مناطق مِن العالَم، والتي يزيد العُشب الذي يتحوَّل إلى مادة سريعة الاحتراق في حرارة الصيف من شدَّتها، أو التي تحدُث بسبب صواعق البرق وتنشُرها الرياح الساخنة الشديدة. حتى عندما تخمد هذه الحرائق، تتجنَّب الحيوانات المناطق المُحترقة. لا بدَّ وأنه كان هناك تهديد وخوف استثنائي دفَع أسلاف البشر — وهي حيواناتٌ ذات أدمغة لا تكبُر حجم دماغ الشمبانزي الحديث بكثير — للتغلُّب على غريزتها الطبيعية بتجنُّب النار بأي ثمن، ودفعها لجمع الأخشاب المُشتعلة وحملها بحِرص إلى المكان الذي يعيشون فيه، ثم إشعال النيران هناك مرة أخرى.

كان أسلاف البشر يعيشون في الأراضي العُشبية بقارة أفريقيا لستة ملايين سنة على الأقل قبل أن تظهر النار في سوارتكرانس. لا شكَّ أنهم قد فرُّوا من حرائق هائلة مراتٍ كثيرة ورأوا حيوانات أخرى، بما في ذلك الفهود، تفعل الشيء نفسه. كان التغلُّب على خوفهم من النار واستغلال خوف الفهود منها بمثابة قفزةٍ مُذهلة إلى الأمام في عصر البشرية. ويتطلَّب فعل ذلك مهارةً خاصة جدًّا؛ ألا وهي القدرة على استشراف المستقبل وتصوُّر أي تهديد مُحتمَل، وكذا التفكير في طريقة لمواجهته على نحوٍ مجرَّد. ويُقدِّم موقع كهف سوارتكرانس صورةً لكلتا اللحظتَين في التاريخ المدهش لتطوُّر البشر. يُمثل هذا التلُّ الأفريقي العادي المُنخفض المُغطَّى بالأعشاب وقمته الصخرية مهدَ ميلاد الحِكمة.

يتطلَّب استخدام النار كوسيلةٍ للدفاع ضدَّ الفهود أن يتخيَّل المُستخدِم أولًا أن أُسرته ستتعرَّض في المستقبل لهجومٍ من الفهود، وهو شيء لا يَصعُب تخيُّله في ظلِّ وجود العظام الممضوغة في عرين الفهد، ممَّا يدلُّ على أن هذه الواقعة كانت مُتكرِّرة. ويُمكن لمُعظم الحيوانات أن تتوقع التهديد الذي يحيق بها من الحيوانات المفترسة وضرورة تجنُّبها. ولكن بعد ذلك، يتطلَّب الأمر القدرة على توقُّع شيء يخشاه الفهد نفسه أكثر من الجوع، ولفعل ذلك لا بدَّ أن يضع نفسه مكان الفهد ويُفكِّر مثله. يتبع ذلك القدرة على رؤية أنه إذا استطاع المرء التغلُّب على خوفه الغريزي من النار، فقد يَمنحُه ذلك ميزةً حاسِمة في المنافسة غير المتكافئة بين الحيوانات آكِلة اللحوم والأطفال. ثم القدرة على معرفة أنه يُمكن حمل النار وإزكاؤها والإبقاء عليها ليلًا ونهارًا دون أن تَنطفئ في عصرٍ يَفصل بينه وبين استخدام أعواد الثقاب أكثر من مليون سنة. وتتطلَّب النار نفسُها التحلِّي بالتبصُّر؛ إذ لا بدَّ من تغذيتها بالعُشب الجاف والأوراق والأغصان وجذوع الأشجار، ولا بدَّ من رعايتها باستمرارٍ لأيام أو أسابيع أو حتى شهور للحفاظ عليها من المطر والرياح والبرد. مُهمة كهذه لا يُمكن أن تكون مهمةً فردية، بل تتطلَّب تفاهُمًا وتعاونًا مشتركًا بين أفراد العائلة بأكملها. كما أنها تستلزم على الأرجح تجميع وتخزين مخزونٍ من الوقود الجاف على نحوٍ مُنظم لساعات الليل والأيام المُمطرة التي لا يجرؤ فيها أحد على مغادرة الكهف. إنِ انطفأت النار، فسيُصبح مصير العائلة بأكملها على المحك، كما تحكي الرواية البلجيكية الكلاسيكية «البحث عن النار» (روسني، ١٩١١) بأسلوبٍ شعري.

كان يتردَّد نوعان من أسلاف البشر على كهف سوارتكرانس، البرانثروبوس روبوستوس والهومو إرجاستر (الإنسان العامل). اختفى البرانثروبوس الذي كان أشبه في هيئته بهيئة لاعبٍ الرجبي من السجلِّ الأحفوري في وقتٍ ما منذُ نحو مليون سنة، وهو من أبناء عمومة البشر الذين انقرضُوا منذ زمنٍ بعيد. يعتقد الكثير من علماء الآثار أنَّ الإرجاستر، وهو أحد أسلاف البشر الرئيسيِّين، قد تطوَّر حتى أصبح ما نحن عليه الآن. من غير الواضح مَن كان مُستخدِم النار، أو أي منهما هو من ترك أدواتٍ حجرية وعظمية في الكهف إلى جانب آثار أدوات الصيد والجزارة البدائية. لقد كان الإرجاستر على الأرجح؛ لأنَّ دماغه كانت أكبر، ولكنها تظلُّ صغيرةً مقارنة بحجم دماغنا (٦٠٠ إلى ٦٨٠ سنتيمترًا مكعبًا في مقابل ١١٠٠ إلى ١٣٠٠ سنتيمتر مكعب)، ولكن من المُحتمَل أن يكون كلاهما. ومع ذلك، فهناك شيء آخر أكثر أهمية تمتاز به النار.

تجلب النار الضوء والدفء عندما يحلُّ الظلام. لأول مرة منذ ستة ملايين عام من التجوُّل في الأراضي العُشبية الأفريقية، نجح أسلاف البشر في مدِّ فترة ضوء النهار إلى المساء والليل. بدلًا من التجمُّع معًا في كومة دفاعية يكون الأطفال فيها في الخلف والذكور والإناث القوية في الأمام طوال ساعات الليل، صارت العائلة تجلس بأكملها حول ألسنة لهب النيران المُتواثِبة وهم يُحدِّقون في أجيجها آمنين، لمعرفتهم أنَّ الحيوانات المُفترسة ستبقى بعيدة عنهم؛ لقد اكتشفوا وقتًا للراحة.

وقت الراحة معناه التحرُّر من عبء الصراع اليومي للبقاء على قيد الحياة، ومن دائرة الصيد وجمع الثمار التي لا تَنتهي، ولذا فهو يُتيح السعي وراء ما يشغل اليد والعقل، ويخلق مساحة للتواصُل بين الأفراد وبين المجموعة بأكملها، ويسمح بمشاركة المعرفة الثمينة وبتعلُّم وتعليم المهارات، وبتشكيل الأغراض وتجربتها، وبالتجريب في الطَّهي، وبتغذية عقول الأطفال المُتلهِّفة والانغماس معهم في وقتِ اللعب كتدريبٍ على المشاركة في الحياة على أرض الواقع، وظهور ما نُسمِّيه في الوقت الحاضر ﺑ «المجتمع». كما أنها تُتيح الفرصة لتنمية تلك العظْمة الصغيرة الموجودة في حلقنا، والتي تُميزُنا عن باقي المملكة الحيوانية، العظمة اللامية، وهي النقطة المُثبَّت فيها منشأ اللسان شديد المرونة. عزَّز وقت الراحة الأصوات التي أصبحت كلامًا فيما بعد، والإيماءات والرقص والضحك والهتاف والغناء الذي يُبرز معنى هذه الأصوات ويُضخِّمه. ومع كل صوتٍ جديد، تزداد القدرة على نقل الأفكار المعقَّدة، فيَصير من الحتمي كذلك أن تزداد الأدمغة التي تَخلُق وتَستقبل هذه الأفكار حجمًا حتى يتسنَّى لها التعامل مع الزيادة الهائلة للروابط التي لا بدَّ أن يُقيموها في عقولهم لمُعالجة هذه الأفكار الكبيرة والجديدة. لم تَخلُقِ النار العقل البشري، ولكن يكاد يكون من المؤكَّد أن قضاء ثُلث المليون سنة الماضية في الجلوس حولها في مجموعة، قد عجَّل بزيادة حجمه وتطويره. ويُساعد غياب النار أيضًا في تفسير فشل الحيوانات الاجتماعية الأخرى، على الرغم من ذكائها الفِطري، في تحقيق ارتقاءٍ مُشابه.

الصفة الفريدة التي طوَّرَها البشر من تجربة التعرُّض للافتراس واكتشاف طريقة لمنع ذلك هي التبصُّر، وتعني القدرة على استِشراف المستقبَل وإدراك التهديد القاتل وفهمه والتغلُّب عليه عبر تغييراتٍ في السلوك، وغالبًا عبر استخدام التكنولوجيا. والتكنولوجيا، حتى وإن كانت حجرًا أو عظْمة أو أداةً خشبية بسيطة، تتطلَّب من صانعها أن يتخيَّل تصميمها وطريقة تنفيذها وكيفية استخدامها في عقله أولًا.

طبيعة الحكمة

التبصُّر هو أعظم مهارات البشرية التي وضعتْنا على مسارٍ متفرِّد وأرست دعائم كلِّ ما لحق ذلك. غالبًا ما يتطلَّب البقاء أن نَقهر مخاوفنا الغريزية أولًا لنُطوِّر التكنولوجيا أو الممارسة التي تجعلنا في أمان. إنه شيء لم نتوقَّف عن فعله، وهو مصدر كل العلوم والتكنولوجيا ومصدر كل المباني والمؤسَّسات التي شيَّدناها، ومصدر الأفكار المختلفة كاللقاحات والجيوش والمجارير وفِرَق الإطفاء والرعاية الصحية والزراعة وتغليف المواد الغذائية والنقل وإشارات المرور وملابس السلامة الشخصية والإسعافات الأولية والمياه النظيفة وعلوم المناخ وهيئات حماية البيئة. على غرار النار، هذه الاختراعات كلها هي طُرُق للحدِّ من مخاطر الهلاك المُستقبلية التي تَفرضها علينا الحياة.

الحكمة الجوهرية التي نتمتَّع بها هي حكمة الناجين.

طبقًا للأساطير الإغريقية، الحكمة هي إلهةٌ تُدعى صوفيا، وتُجسِّدُها أثينا أيضًا التي خرَجَت كاملة العتاد مُستعدَّةً للحرب من رأس زيوس النابضة واتَّخذت البومة رمزًا لها. فهِم الإغريق أنَّ الحكمة تنشأ من الفكر العميق، ولكنهم اختارُوا البومة العجوز الحكيمة رمزًا لها، ربما لقوَّةِ بصر هذا الطائر الاستثنائية التي تُمكِّنُه من الرؤية لمسافاتٍ بعيدة حتى في الظلام.

يتمثل المعنى العملي المُعاصر للحِكمة في «القدرة على التفكير والتصرُّف بالاستعانة بالمعرفة والخبرة والفهم والحسِّ السليم والبصيرة» (قاموس كولينز للغة الإنجليزية، ٢٠١٤)، وهو ما يتطلَّب مهارةَ التصوُّر العقلاني للمستقبل. ويقول تعريفٌ آخر إنَّ الحكمة هي «التطبيق الماهر للمَعرفة». مع الأسف، يَميل جزء كبير من البشر إلى الإحجام عن ممارسة هذا التبصُّر المُستنير ورفضه، ويُفضِّلُون التمسُّك بالوضع القائم. على غرار ذلك البارانثروبوس اليافع الذي راح يتعثَّر في الظلام — هناك من لا يُدركون أبدًا أيَّ خطرٍ حقيقي قائم إلا بعد فوات الأوان — وفي عصر الديمقراطية، يُلقِي قِصَر نظرِهم الجَمعي بظلاله على مستقبَل نوعنا، خاصة عندما تمنحُه السياسة نفوذًا مُفرطًا. ومع ذلك، لا ينبغي الخلط بين غياب الرؤية وبين النزعة المحافِظة، وهي الغريزة الوقائية الطبيعية التي تتمثَّل في التمسُّك بالأشياء التي علَّمتنا التجربة أنه يُمكنُنا الوثوق بها والاعتماد عليها. هناك فرق كبير بين أن تكون حذرًا وحريصًا بشأن التغيير وبين رفضِه من الأساس.

نَدين بالكثير من ثقتِنا الفائقة في الحكمة البشرية التي نتمتَّع بها في الوقت الحاضر لعالِم النباتات السويدي كارل نيلسون لينيوس، الذي يَعتبره البعض الشخص الأكثر تأثيرًا في التاريخ بأكمله للعمل الضخم الذي قام به في تصنيف وشرح العلاقات بين الكائنات الحية والذي كرَّس حياتَه له، وهو نظام مُتَّبع عالميًّا حتى الآن؛ ومن ثمَّ يفوق لينيوس في تأثيره العالمي الديكتاتوريِّين والزعماء الدينيِّين (نيلور، ٢٠١٤). كان لينيوس هو أول من استخدم مصطلح «الحكمة» ليصِف به البشرية جمعاء؛ ففي عام ١٧٥٨، في الطبعة العاشرة من عملِه الرائع «نظام الطبيعة»، سَمَّى لينيوس رسميًّا جنس البشر باﻟ «هومو سيبيانز» وفقًا لنظام التسمية الثنائية الذي استخدمه، وهو مُصطلح لاتيني يعني بالعربية «الإنسان الحكيم» أو «الإنسان العاقل». ما الذي كان يدور في عقل لينيوس؟ وكيف غيَّرنا ذلك؟ هل تسمية أنفسنا باﻟ «حكماء» جعلنا في الواقع مُفرطي الثقة بالنَّفس ومُتعجرفين؟ هل نحن نوع يَعتبر نفسه مُحصَّنًا ضد التحديات المتزايدة التي تُحيط به بينما تتضاعَف أعدادنا ومطالبنا وتُثقل الكوكب؟ كيف سيتحكَّم ذلك في مصيرنا النهائي؟

وُلد لينيوس في راشولت في سمالاند بالريف الجنوبي للسويد في عام ١٧٠٧، وتلقَّى تعليمه في جامعة أوبسالا؛ حيث بدأ بتدريس علم النبات في عام ١٧٣٠. اعتادت أمُّه أن تُهدِيَه زهرةً عندما كان يَشعر بالانزعاج في طفولته، وهو ما كان يُهدِّئ من روعه تمامًا. دفعه احتكاكه المبكِّر بمُعلمٍ سيئٍ وصفَه لاحقًا أنه «مؤهَّل لوأد مواهب الطفل في مهدِها بدلًا من تنميتِها.» لكُره التعليم الرسمي، وسرعان ما تجلَّى ذلك في تركه المدرسة وتجوُّلِه في الريف بحثًا عن نباتاتٍ مثيرة للاهتمام. لحُسن الحظ، لاحَظَ مدير المدرسة ميوله، وبدلًا من كبْتِها، أوكل له رعاية حديقة منزله وشجَّعه على دراسة النباتات عبر تعريفه على عالَم الطبيعة وعلى الطبيب يوهان روثمان الذي شارك مع الصبي النابغ المُتحمِّس مكتبته الاستثنائية من الكتب النادرة عن النباتات. زاد اهتمامه بالطبيعة، واستمرَّ في إهمال تعليمه الرسمي مُفضِّلًا الكهنوت، حتى إنَّ الأب نيلز الذي كان يهتمُّ به فُزِعَ عندما علِم بتقرير مُعَلِّمه، وكان يرى أنَّ الصبيَّ لن يَنجح أبدًا في أن يكون عالمًا أو كاهنًا. تدخَّل روثمان بسرعة مقترحًا أن الصبي سيُبلي بلاءً حسنًا كمُعلِّم أفضل مما سيصبح عليه حاله لو صار رجل دين، فأخذ لينيوس وبدأ تعليمه رسميًّا عِلم النباتات، وفي الوقت نفسه عرَّفه على النُّظم الأولية لتصنيف الكائنات الحية التي اقترحها اليسوعيُّون الفرنسيون الذين يَتبعون منهج دو تورنيفور وآخرون في ذلك الوقت.

وبذلك، تحوَّل المُتسرِّب من التعليم الشَّكِس إلى مُراقبٍ ثاقِب ودقيق للطبيعة ذي معرفة غزيرة بالنباتات، وسرعان ما بدأ في ملاحظة العلاقات التي غابت عن معظم الناس بين الأنواع المختلفة من النباتات والحيوانات، بناءً على ملاحظةٍ دقيقة لسِماتها الجسدية. درس في جامعة لوند في إسكونه، ولكنه انتقل إلى جامعة أوبسالا بناءً على نصيحة مُعلِّمه؛ حيث صار تحت الرعاية العطوفة للبروفيسور أولوف سيلزيوس، وهو عالم نبات آخَر هاوٍ. بدأت مسيرة لينيوس المِهنية الحقيقية مع نشر أطروحتِه حول التكاثُر الجنسي للنباتات، والتي سرعان ما قادَت إلى تعيينه مُدرِّسًا لعِلم النباتات. أصبح الشاب، الذي كان في الثالثة والعشرين من عمره في ذلك الوقت، مُحاضرًا محبوبًا، وكان يَستقطب أحيانًا جمهورًا مكونًا من ثلاثمائة شخص أو أكثر. ومع ذلك، بدأ يَعثُر في أوقاتِ تفكيره العميق على خللٍ في نظام دو تورنيفور العشوائي نوعًا ما في تصنيف النباتات، وقرَّر أن يُطوِّر نظامًا خاصًّا به يقوم على أساس عدد المدقَّات والأسدِية (الأعضاء الجنسية) لكل نبات.

تزامنت هذه اللحظة المُثمِرة مع حصوله على منحةٍ جامعية لزيارة واستكشاف أنواع جديدة من النباتات في لابلاند التي تقع في أقصى شمال السويد. على الرغم من أنَّ المنطقة تكون مُتجمِّدة نصف العام؛ ومن ثمَّ تكون فقيرة نباتيًّا. نجح الباحث الشابُّ الفَطِن في التعرُّف على ما لا يقلُّ عن مائة نوع من النباتات التي كانت مجهولةً تمامًا للعلماء في عصره. قدَّم لينيوس هذه الأنواع في كتابه الاستثنائي «نباتات لابلاند» (Flora Lapponica) الذي يصف ٥٣٤ نوعًا مختلفًا من النباتات في المنطقة ويَعرضها حسب نظام تصنيفه وفقًا لخصائصها الجِنسية. ولكن نظرته الثاقبة لم تكن مقصورةً على النباتات، في يومٍ من الأيام، مرَّ أثناء سيره على عظْمة فكِّ أحد الأحصنة مُلقاةً بجانب الطريق، فواتَتْه فكرة من باب الصدفة؛ «لو أني عرفتُ عدد الأسنان ونوعها لدى كلِّ حيوان، وعدد الحلمات ومكانها، ربما سأكون قادرًا على التوصُّل إلى نظامٍ طبيعي مثالي لتصنيف كلِّ ذوات الأربع.» كان لينيوس في طريقه إلى التوصُّل إلى تفسيرٍ عميق لكل أشكال الحياة من شأنه أن يُغيِّر فهم الإنسان لها إلى الأبد، ولبناء المنصَّة العِلمية الأساسية التي مكَّنت منذ ذلك الحين علماء الطبيعة البارعين، بداية من كوفييه وأوين وداروين ودوكينز وإي أوه ويلسون، وحتَّى أتينبورو، من تفسير العالَم الطبيعي ومكان البشر فيه.

شرع لينيوس بعد نشر كتابه عن الحياة النباتية في لابلاند في العمل على المسوَّدة الأولى من عمله العظيم «نظام الطبيعة»، الذي كان ما زال على شكلِ مخطوطة عندما قرَّر الحصول على شهادةٍ في الطبِّ من جامعة هاردرفيك في هولندا. وهناك، عرض المسوَّدة على اثنين من العلماء البارزين، جرونوفيوس ولوسون، اللذَين انبهَرا بمخطوطته أشدَّ الانبهار حتى إنهما وافَقا على تمويلِ نَشرها، وهو ما تمَّ في عام ١٧٣٥. صنَّف لينيوس في هذا الكتاب، ولأول مرة، البشر ضمنَ الرئيسيات، أو القِرَدة العُليا، بناءً على التشريح الجسدي البحْت لهذه الأنواع. شرَّح لينيوس في دراسةٍ منفصِلة أسماها «أبناء عموم الإنسان» مدى صعوبة تحديد الاختلافات الجسدية بين الإنسان والقِرَدة، على الرغم من أنه كان يَفهم بوضوحٍ أنه من وجهة النظر الأخلاقية والدينية، كان من السهل التمييز بين الإنسان والحيوان: «لا بدَّ أن أتصرَّف في مُختبَري مثل صانع الأحذية الذي يفعل ما هو مُعتاد عليه، وأن أُعامل الإنسان وجسده كعالِم طبيعة لا يُمكنُه التمييز بينه وبين القِرَدة بخلاف حقيقة وجود فواصل بين أنياب القِرَدة وباقي أسنانها.» أحدث التمييز، أو عدمه، استنكارًا عامًّا جعلَه يُسارع موضحًا: «الإنسان هو الحيوان الذي قرَّر الخالق أن يَمنحه ذكاءً استثنائيًّا وأن يُميِّزَه بجعلِهِ المُختار الذي يتمتَّع بوجودٍ أرقى. حتى إن الربَّ قد أرسل ابنه الوحيد إلى الأرض لخلاص الإنسان» (مجهول).

في الطبعة الأولى من «نظام الطبيعة»، قال لينيوس بكلِّ وضوح إنَّ الهومو (الإنسان) في نظره، لا يَمتلك أي مزايا تشريحية تُميِّزُه عن غيره من الرئيسيات، ولكنه شعر أنَّ الشيء الوحيد الذي ميَّز الإنسان هو ما قد صِيغ في الشعار القديم الموجود في معبد أبولو، «اعرف نفسك»، والذي عبَّر عنه في اللاتينية ﺑ nosce te ipsum. كان الوعي بالذات والقُدرة على إدراك أن الآخَرين بشر أيضًا في نظره هي السِّمة الأساسية التي تُميِّز البشرية، والتي تَفتقر إليها الرئيسيات الأخرى. كتَب إلى عالِم الطبيعة العظيم جِملين الذي اتَّهمه بأنه قد قال إن البشر خُلقُوا على هيئة قردة يدافع عن نفسه قائلًا: «ومع ذلك يستطيع الإنسان التعرُّف على نفسه. أطلب منكَ ومن العالَم أجمع أن تُبيِّنُوا لي فرقًا نوعيًّا بين الإنسان والقرد يتوافَق مع مبادئ التاريخ الطبيعي. أنا شخصيًّا لا أعلَم بوجود فرقٍ واحد.» لقد وقَع كل هذا قبل مائة عام أو أكثر من الجدال المُشابه الذي دار بين داروين وهاكسلي في المناخ الاجتماعي الأقل انفتاحًا فكريًّا في منتصَف القرن التاسع عشر. بحلول عام ١٧٥٨؛ أي بعد مرور ما يَقرُب من ربع قرن كامل قضاه لينيوس يُفكر تفكيرًا عميقًا في تلك العلاقة، قرَّر أخيرًا أنَّ كلمة «هومو» تحتاج إلى وصفٍ أكثر تمييزًا من مجرَّد اسم الجنس، لذا ألحق بها كلمة جديدة: هومو سيبيان. يقول لينيوس: «الإنسان الحكيم، أكثر ما صنع الخالق كمالًا، وأعظم وأروَع ما يُوجَد على وجه الأرض.»

واسترسَلَ واصفًا كلمة سابينتيا (الحكمة) بأنها «ذرَّة من الفردوس الإلهي»، موضحًا أن الخطوة الأولى على طريق اكتسابها هي القُدرة على معرفة الذات. أبقى على تصنيف البشر وفقًا لصفاتهم الجسَدية ضمن الرئيسيات، إلى جانب القرود والليمور والخفافيش، ولكنه فرَّقهم عنهم بقُدرتهم العالية التي وهَبها الله لهم على معرفة أنفسهم. للكلمة اللاتينية سيبيان ثلاثة معانٍ وثيقة الارتباط بعضها ببعض؛ عقلاني وعاقل وحكيم. ولكن أي هذه المعاني كان يقصدها لينيوس صراحةً عندما اختار كلمة سيبيان للإشارة إلى اسم نوعنا، هذا إن كان يقصد إحداها، قد فُقِدَ مع مرور الزمن.

ومع ذلك، يعيش تأثير تصنيف لينيوس معنا حتى يومِنا هذا؛ إذ يسعد معظم البشر بأن يعتبروا أنفسهم حكماء، أو بأنهم ينتمون لنوعٍ حكيم. لقد أكَّدت لنا إنجازاتنا التقنية الهائلة في القرن التاسع عشر والقرنين العشرين والحادي والعشرين هذا الرأي الجيد عَنَّا كنوع، وهو رأي ربما يخلط بين المعرفة البحتة والقدرة التقنية، وبين الحكمة الحقيقية. في الواقع، كثيرًا ما تُثير أي محاولة للتأكيد على افتقار الإنسانية للحكمة نفس نوع الغضب والذم الذي أثاره الادِّعاء الأول القائل بانحدارنا من سلفٍ مُشترَك يُشبه القرود.

هل نصب لينيوس لنا نحن البشر فخًّا دون قصد؟ هل زرَع فينا باختياره البسيط لكلمةٍ واحدة بذرةً خطيرة من الثقة المُفرطة والرِّضا عن النفس والإعجاب المُفرط بالذات، والشعور بأننا نتمتع بالذكاء دون بقية المخلوقات، وأن القوانين التي تحكم كل الحيوانات الأخرى التي تَعيش على الأرض لا تَنطبق علينا؟ هل طمس لينيوس الحد الفاصلَ بين المعرفة والحكمة؟

عاش لينيوس في عصرٍ كان من غير المُستحسَن فيه إنكار الدين، وذلك على الرغم من التسامُح الفكري الذي امتاز به عصر التنوير. فآخِر مُحاكَمة من المحاكمات الكبيرة للساحِرات في إسكندنافيا كانت قد حدثَت قبل أربعة عشر عامًا فقط من ميلاد لينيوس. وقبل ذلك بثمانية عشر عامًا، في عام ١٦٧٥، في أبرشية تورساكر، قُطعت رءوس واحد وسبعين شخصًا وحُرقُوا بتُهمة السحر على مرأى ومسمَع من عائلاتهم وجيرانهم الذين، كما يُقال، لم يُبدوا أي تعاطُفٍ معهم. كانت أهوال حرب الثلاثين عامًا بين الكاثوليكية والبروتستانتية في أوروبا حاضرةً لدى جيل لينيوس، شأنها شأن الحرب العالمية الأولى بالنسبة إلينا. لذا، فليس من المُستغرَب تمامًا أنه اختار أن يُفسِّر أنَّ الإنسان ينتمي إلى الرئيسيات وفقًا لصفاته الجسدية، ولكنه في الوقت نفسه احتاط بمنحه صبغةً إلهيةً ليُميِّزه كنوع، كشَكل من أشكال الإذعان لتجنُّب أجواء التعصُّب الديني التي كان من الممكن أن تشتعل دون سابق إنذار حتى في ذلك العصر المُستنير. كان ذلك في حقبةٍ من التاريخ عندما كان الفكر الأُوروبي بالكاد يَحفظ توازُنه بين كفَّة الإيمان الأعمى في الألوهية والقدر، وكفة الصحوة المُتنامية بإدراك أنَّنا نُسيطر على مصيرنا وأنَّنا مسئولون عنه وأنَّنا يُمكننا ممارَسة الإرادة الحرة ممارسةً كاملة. تمكَّن لينيوس بذكاءٍ من تجاوز الشقاق بين الدين والفلسفة من خلال دمج المعنيين في استخدامه للكلمة اللاتينية سابينتيا (الحكمة) من خلال التأكيد على أنَّ القدرة على معرفة الذات كانت هبةً من الله. أحدثت هذه الحيلة اللُّغوية آثارًا عميقة، ولازمت صورة البشر الذاتية عن أنفسِهم وكلامهم عنها واحترامهم لها حتى يومِنا هذا، مما يَجعل من الصعب علينا الاعتراف بأخطائنا وتصحيحها. إذن فمُجرَّد كلمة واحدة — وهي كلمة لاتينية في هذا السياق — يمكنها أن تُفسد السِّمة نفسها التي ضمِنَت بقاءنا وتطوُّرنا كنوع حتَّى الآن.

الاسم هو الهوية، وقد تكون الكيفية التي يَنظر بها البشر إلى أنفسهم هي مفتاح مصير حضارتنا، وربما حتى مصير جنسنا في القرن الحادي والعشرين. الحكمة، لا المعرفة أو التكنولوجيا وحدَها، هي التي ستُحدِّد ما إن كُنَّا سنَبقى على قيد الحياة ونتطوَّر بشكلٍ جماعي، أم لن يَنجح في النجاة سوى القليل بعد صراعٍ مُخيف، أم سنَهلك جميعًا ونُصبح نهاية حلقة أخرى في سلسلة التطوُّر شأننا شأن البارانثروبوس، بسبب افتقارنا إلى البصيرة التي ستُمكِّننا من تجنُّب مصيرنا المحتوم الذي تَسبَّبنا نحن فيه من الأساس.

الإنسان الأحمق

يوجد في علم التصنيف، أو في وصف وتصنيف الكائنات الحية، الذي ورَّثه لنا لينيوس قاعدة مثيرة للاهتمام تُعرف بمبدأ «الأحمق العجوز»، وهي تتلخَّص في أن «الأحمق الأكبر سنًّا هو من يكون على حق دائمًا.» في العِلم، يتمثَّل الغرض من التصنيف في توحيد وترسيخ أسماء النباتات والحيوانات والكائنات الحية؛ ومن ثمَّ تجنُّب هذا النوع من الفوضى والخلط، كالذي يتعرَّض له المُستهلكون باستمرار، على سبيل المثال في أسواق بيع السمك عندما يَجدون أنَّ التجار الماكِرين يُسيئون استخدام أسماء الأسماك المُتعارَف عليها كي يَبيعُوا الأسماك الرخيصة على أنها نوع آخَر أغلى قليلًا. يجعل مبدأ «الأحمق العجوز» من الصعب للغاية على العلماء تغيير اسم نوعٍ قد اختارَه الشخص الذي سمَّاه في الأساس، إلا إذا كان هناك سبب مُقنع جدًّا لفعل ذلك؛ وهو ما يُعرف أيضًا باسم مبدأ الأولويات. وهذا هو ما ضمِنَ فعليًّا بقاء الاسم الأصلي الذي اختاره لينيوس لنوعِنا بلا مساس لأكثر من قرنَين ونصف.

يدار التصنيف العلمي الحديث وفقًا ﻟ «القانون الدولي للتسمية الحيوانية». ودون الخَوض في تفاصيلِه التِّقنية، تسمح قواعدُ القانون بإعادة تسمية الأنواع شريطة أن تَنطبِق شروط مُعيَّنة: «الاسم الصحيح لأيِّ أُصنوفة هو أقدم اسمٍ مُتاح يَنطبِق عليها، ما لم يتمَّ إلغاء العمل بهذا الاسم.» تتضمَّن الأسباب المُحتمَلة لإلغاء العمل باسم ما يلي:
  • اكتشاف سمات عِلمية جديدة للأنواع المُسمَّاة.

  • تغييرات في الفهم المُشترك للنوع.

  • اكتشاف تغيُّرات في سلالة النوع أو أصله.

  • تصحيح خطأ موجود في اسمه الأصلي.

  • عدم وجود نموذج نوعي (سيجرز، ٢٠٠٩).

يُقدِّم هذا الكتاب دليلًا يدعم الحجة القائلة بأنه لا بدَّ من إعادة تسمية نوعِنا، الإنسان الحكيم، بناءً على الأسباب الخمسة السالفة الذكر.

والسبب في ذلك هو مسألة حياة أو موت لمئات الملايين، بل ربما لمليارات، من البشر الآن، فهي ليسَت مجرد مسألة دقَّة عِلمية.

يُؤثر اسم نوعنا، شأنه شأن اسمِنا الشخصي، تأثيرًا مباشرًا فيما نَعتقده عن أنفسنا وكيف نرى أنفسنا وسِماتنا، وفي القصص التي نحكيها عن أنفسنا، وهو ما يؤثر بدوره في مصيرنا. ويُمكن أن يُنقذنا من الهلاك، أو أن يُديننا.

يوجد سبب إضافي آخر لا تتضمَّنه قواعد القانون الدولي للتَّسمية الحيوانية، ألا وهو أنه بإصرارنا على أن نُشير إلى أنفسنا بالحكماء العاقِلين، فقد نُعرِّض أنفسنا لخطر الانقراض وللمُعاناة المؤكَّدة والصعاب التي لا تخطر على البال، وكل ذلك نتيجة وهمٍ ذاتي مُستمر. كنوع يعتبر نفسه حكيمًا، تتزايد كل يوم الأدلة التي تؤكد أنَّ الإنسانية جمعاء لا تتصرَّف بحكمةٍ تزيد على حكمة مُراهق ثَمِل يقود سيارةً قوية فائقة السرعة، مُتجاهلةً التهديدات التي يُمثلها سلوكُها على حياتنا وحياة الآخَرين ومُستمرةً في ممارسة السلوكيات التي تُعرِّضُهم إلى خطر أكبر. لقد فقَدْنا أو هجَرنا أو نَسِينا أو أضعَفنا السمة الوحيدة التي ميَّزَتنا عن جميع الأنواع الأخرى التي تعيش على الأرض وجعلتْنا نتفوَّق عليها على مدار المليون سنة الماضية، ألا وهي القدرة على استِشراف المُستقبل بحكمة، وفهمه واتخاذ الاحتياطات المدروسة جيدًا لتجنُّب وقوع نتائج سيئة.

لقد أصبح من الواضِح أن واحدةً من أكبر العَقبات التي تحُول دون التصرُّف الجماعي الحكيم تكمُن في إعجابنا المُشترَك بأنفسِنا ورضانا عن ذواتنا وغرورنا، وفي وَهْم المناعة ضدَّ الخطر الذي تَزرعه هذه الصفات في معظم الناس عندما يُفكِّرُون في مستقبلهم. عادةً ما يتجسَّد هذا السلوك في عبارات مثل: «لا أريد سماع المزيد من الأخبار السيئة.» «سنحلُّ جميع مشكلاتنا عن طريق التكنولوجيا.» أو «الله سيُنقذنا.» تُمثِّل العبارة الأولى صرخة من لا يَرغبون في مواجهة المخاطر، وهي أحد أوجه الحياة. ومع ذلك، فاختيار عدم سماع الأخبار السيئة لا يُلغي وجودَها، ولكنه ببساطة يجعل الناس غير مُستعدَّة لمواجهتها. ومن ثَمَّ فالشخص الذي لا يريد معرفة المخاطر يتصرَّف عكس الممارسة التي تبلغ مليون عام والتي ضمِنت بقاء الإنسان حتى هذه اللحظة، الممارَسة التي منحَتْنا النار ومُعظَم التقنيات الأخرى منذ ذلك الحين. إنهم يتجاهَلُون مقولة داروين الشائعة عن صلاحيتهم للبقاء. أما العبارة الثانية: «يُمكنُنا حلُّ أي شيء.» فتُمثِّل سلوك الوَلَع الساذج بالتكنولوجيا، أو عبادتها، وهذا الإفراط في التفاؤل يُعمينا عن عواقبها الأوسع والأشمل. فإذا كان الارتقاء الذي حقَّقناه نحن البشر إلى مستوياتنا الحالية من النجاح والصحة والازدهار من خلال التكنولوجيا، فبالمِثل معظم المخاطر والتهديدات الكبيرة التي تحيق بنا الآن، هي نتاج سوء استخدامنا لهذه التكنولوجيا، أو الإفراط في استخدامها. إنَّ الدرس الذي لا يُختَلَف عليه الذي تعلَّمناه من التجربة هو أن كل تقنية جديدة، تَجلب معها مجموعة من المشكلات الخاصة بها، التي قد تَتراكم في بعض الحالات إلى الحدِّ الذي تُشكِّل فيه تهديدًا لاستمرارنا كمجتمع أو حتَّى كنوع. يتمثَّل التحدِّي المُستقبَلي في تصميم تقنيات وأنظمة لا تُشكِّل مثل هذه المخاطر، وفي توقُّع السلبيات المُحتملة بعناية وتجنبها مُسبقًا. أما الحجة الثالثة، «الله سيُنقذنا»، فهي تُلغي ببساطة مسئولية الشخص عن تحديد مصيره ومصير أبنائه؛ ومن ثمَّ فمن غير الأرجح أن يُرضي ذلك أي إله!

يستنِد الاقتراح الذي يدعو إلى إعادة تسمية الإنسان الحكيم إلى الأسباب التالية:
  • لا يُمكن لأيِّ تقييم عِلمي معقول للسلوك الحالي لهذا النوع أن يُوصَف في الظروف الحالية بأنه «سلوك حكيم». إذن كلمة «حكيم» هي تَسمية خاطئة.

  • الفهم المشترك للإنسانية في القرن الحادي والعشرين بعيدٌ كل البُعد عن الفهم المشترك لها في القرن الثامن عشر. لذا، فالاسم ما هو إلا مفارقة تاريخية، وهو مُضلِّل ولم يَعُد مناسبًا.

  • كانت هناك زيادة كبيرة في المعرفة العِلمية حول أصل الإنسان (علم تطوُّر السلالات) منذ عصر لينيوس، بما في ذلك الفهم الأساسي الذي يتمثَّل في أن العديد من أنواع البشر ذات الصِّلة قد انقرَضَت، وأنه لا يوجَد أي نوع من البشر مُحصَّن من هذه الاحتمالية.

  • كان هذا الاسم اختيارًا سيئًا؛ لأنه حتى في القرن الثامن عشر كان من الصعب وصف جميع البشر بأنهم «حكماء»، حتى وإن كان مقارنةً بالحيوانات الأخرى، وكذلك لا نستطيع وصفَهم بهذه الصفة في الوقت الحالي كما سنرى لاحقًا.

  • لا يُوجَد نُموذج نوعي للبشر، وهو ما يَجعلنا استثناءً بين باقي الأنواع، على الرغم من أن لينيوس نفسه قُدِّم كاقتراحٍ لنموذج نوعي، واقتُرِح أو تَطوَّع أشخاص آخرون ليُصبِحوا نموذجًا نوعيًّا؛ ومن ثمَّ يَفشل الاسم في استيفاء أحد المتطلبات الأساسية لقوانين علم التصنيف.

ومع ذلك، فإن السبب الرئيسي لمناقشة اسم جديد هو أنَّ وضعنا الحالي الذي نُمجِّد فيه ذواتنا يجعلنا نَميل إلى المبالغة الحمقاء في تقدير قُدرتِنا على توقُّع المخاطر الكبرى التي تنبع من أفعالنا وتجنُّبها، وإلى الوصول إلى حالةٍ واسعة من العَمى الجمعي الذي يعوق رؤية تهديداتٍ وجودية كبرى.

إنَّ الوقت يَنفد ونحن بحاجةٍ مُلحة إلى إعادة التفكير فيمن نحن، كما يقول إيان تشامبرز وجون هامبل في كتابهما العميق «خطة للكوكب»: «إننا في مرحلةٍ فاصلة من تاريخ البشرية، فلم تكن المخاطر كبيرة هكذا من قبل … مُستقبَل الكوكب والحضارة الإنسانية كما نَعرفها على المحك، ولا بدَّ على هذا الجيل الحالي أن يجد الحلول» (تشامبرز وهامبل، ٢٠١٢).

تَستكشِف الفصول التالية أحدث الأدلة العِلمية لكل تهديدٍ من التهديدات الوجودية العشرة الكبرى التي تُحدِق بمُستقبل البشر وأسبابها، وما يُمكن فعله للتغلُّب عليها أو لتخفيف آثارها سواء على المستوى الفردي أو على مستوى النوع بأكمله. بالتأكيد لا يدَّعي هذا الكتاب أنه يمتلك جميع الإجابات، بل يُشير إلى وجود العديد من الإجابات فحسْب، وأن الإنسانية تُواجه الآن في القرن الحادي والعشرين أكبر اختبارٍ لحِكمتِنا الجمعية على مدار المليون عام من ارتقائنا كنوع. ومسألة نجاحنا أو فشلِنا برُمَّتها في أيدينا وعقولنا وقلوبنا، ليس فقط كأفرادٍ أو كأُمَم، بل كنوع.

والآن تحديدًا، وليس بعد جيلٍ من الآن، يجب علينا اتِّخاذ قرار النجاح والبقاء، أو الفشل والانقراض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤