الفصل الثاني

كانت الشَّمس قد مالتْ للغروب، وصبغتِ الأفق الغربي بلون القُرمز، ولم يبقَ من شُعاعها إلَّا فلولٌ ذهبية تتعثَّر في أذيال سحابةٍ بيضاء تَسير قُرب الأفق مُتباطِئة. وكان نسيم المساء المُقبِل يهبُّ باردًا من صَوب الشمال، يحمِل معه طلائع برْدِ ليلِ الشِّتاء في صحراء اليمامة من بلاد نجد.

وجلس مُرَّة شيخ بكر وحوله شيوخ العشائر يتحدَّثون عن أحداث اليوم، وعن عزمات الغد، والعبيد يَجمَعون الأحطاب من بُطون الأودية، ويُكدِّسونها أكداسًا في وسط حلْقَة الجلوس ليُوقِدوا منها النيران.

وأقبل جسَّاس بن مرَّةَ يسير مُتباطئًا حتى اقترَبَ من أبيه الشيخ، فوقف وراءه وهو صامت، وقد استنَدَ على رُمحه المركوز في الرمل الناعم اللامع.

فنظر إليه الجُلوس في صمتٍ إلَّا أباه مُرَّة فقد أطرق ولم يلتفِتْ إليه، وعَلَتْ وجهه سحابةٌ خفيفة من كآبةٍ كأنَّه لم يَسترِح إلى مَقدِم ابنه الشابِّ في ذلك الوقت.

وكان جسَّاس مُقطب الجبين تلمع عيناه لمعةً الغضب، وكان شعرُه الطويل الأسود مَضفورًا في غدائر مُلتوية، تهتزُّ أطرافُها مع النسيم فوق كتِفَيه.

وكان طويل القامة دقيق العود، ليس في لحْمِه فضلةٌ من شحمٍ تُدوِّر ملامحه؛ فبدا في وِقفته تلك كأنَّه رُمح يَتكئ على رمح، وبدتْ تقاطيع وجهه حادَّة قوية، تجمَّعتْ حول فمٍ مُنقبض تكاد شفتاه لا تَنفرِجان.

وقطع جسَّاس السكون بعد قليل، فقال بصوتٍ أجشَّ: «أما لهذا الهوان من آخر؟»

فنظر الجُلوس إلى أبيه الشيخ ولم يتكلَّموا، وانتظروا ما يقوله الشيخ لابنه الغاضب.

وكان الأبُ مُحتبِيًا في جلسته، جمَعَ رُكبتيه في حبلٍ دقيق مربوط من تحت إبِطيه، فلم يحلَّ حَبْوته ولم يلتفِتْ وراءه، بل قال بصوتٍ هادئ لا يكاد يُسمَع، وقد زاد وجهه عُبوسًا: «دعْنا اليومَ من هُرائك.»

فانفجَرَ الفتى عند ذلك، وقد أنساه الغضب ما يَجِب لأبيه من توقير فقال: «إنِّي لن أصبِر على ما تَصبرون عليه ها أنا ذا قد أنذرت.»

فأحلَّ أبوه حَبْوته وانتفض كأنَّهُ قد أحسَّ وَخزةً أليمة، ثم قام ودار بوجهه إلى ولَدِه وصاح به: «ماذا تقول؟»

فوقف الشابُّ مرفوع الرأس في تحدٍّ، وقال وصوتُه لا يزال أجشَّ جافًّا: «أقول إنَّني لن أصبِرَ على الضَّيم، هذا رجل يَسومُكم الخَسْف ولا تتحرَّكون، قد وضعتُم أعناقكم إليه ليَطأها بقدَمَيه، ولكنِّي لن أكون مَعكم في ذلك العار.»

فقال أبوه وقد اربدَّ وجهه: «من تَعني بقولك أيها الفتى الجاهل؟ أتعْني سيِّدَ ربيعة؟ أتعني كليبًا؟ أتعني الرجل الذي حفِظَ قومَك من العار، وحماهم من الذُّل؟ أتعني وائل بن ربيعة؟»

فقال الشابُّ ولا يزال في صَوتِه رنينُ الحِقد والغضب: «نعم أعني وائل بن ربيعة. أعني كليب بن ربيعة، ذلك الذي يَجعلكم عبيدًا، ولا يَعُدُّكم إلَّا أتباعًا وخَدَمًا.»

فسَرَتْ في الجلوس ضجَّةٌ مكتومة، ولا سيما من شيوخ بني تغلِب، وتحرَّك بعضهم يُريد القيام غضبًا.

فأشار إليهم الشيخ بِيدِه أن يَصبروا، فهدأتِ الضَّجَّة وسكن اللَّغط، ونظر القوم إلى الشيخ، وقد اعتدل أمام وَلَدِه الغاضب كأنَّهُ يُريد أن يبطش به، ولكنه تحوَّل بعد لحظةٍ قصيرة وكأنما جال في نفسه خاطر طارئ صرَفَه عمَّا كاد يهمُّ به من عِقاب ابنه. ثمَّ نظر إلى القوم وقال لهم وهو يُحاول أن يجمع شُعوره ويكبح العاصفة الثائرة في صدره: «يا إخواني وأبناء عمِّي! اجعلوا ما قاله هذا الفتى يذهَبُ مع الرِّيح، فما هو إلَّا من جهلِ شابٍّ ليس يَدري ما حقُّ هذا الأمير عليه.»

ثم نظر إلى ولَدِه، وقال وهو مُتجهِّم: «أيها الابن المنكود. لقد صبرتُ على كثيرٍ من أذاك، ولكنِّي أراك تَمادَيْت، وأحِبُّ أن أُعلِمَك بشيءٍ لستَ تعلَمُه لعلك ترجِعُ عمَّا يُوغِر صدرك، ويُوشِك أن يقطع بينك وبين أبيك.»

فأطرَقَ الفتى وخشَعَ قليلًا عندما سمِعَ قول أبيه، واعتدل في وِقفَتِه وقد أحسَّ شيئًا من الخَجَل لِما أظهر من التَّحدِّي لشيخه، ولحظَ أبوه ذلك فَلانَ من عبْسَتِه، كأنَّه قد أمَّل أن يَستلين قلبَ ابنه بالحُجَّة والمَوعِظة؛ لأنه كان يَعلم أنَّ الرَّهبة لن تمنع ذلك الابن من الإقدام على عظائم الأمور.

واستمرَّ مُرَّة فقال يُخاطِب شيوخ قومه ويُسمِع ابنه: «لقد علمتُم ما كان من سطوة قبائل اليَمَن بنا وإذلالهم إيَّانا، أيام كُنَّا لا نملك لأنفُسِنا أمرًا، ولا نقوى على ردِّ اعتِداء.»

فقال شيخ أبيض اللحية، كان أقلَّ الجلوس اكتراثًا بما يَجري حوله: «قسمًا بمَناة لقد كانت قبائل اليمن تجتاح أرضَ تِهامة ونجد، لا يقوى أحدٌ على أن يرفع رأسَهُ لها.»

قال مُرَّة مُتَّجِهًا إلى ابنه: «صدَقَ أبو عامر؛ لقد كانت مَذحِج تَسومنا الخسْف، ولا تجتمع لنا كلمة في مُقاومة عسْفها، وبَقِينا مُفرَّقين أشتاتًا حتى أتى وائل بن ربيعة، ذلك الأمير الذي نتحدَّثُ عنه هذا الحديث القبيح، فاجتمعتْ عليه كَلِمة قَومِك من بني شَيبان، ومن بَني أبيهم بكر، ومن بني عمِّهم تغلِب، فوقف بهم يوم خزازى، حتَّى قادَهُم إلى النَّصْر والعزِّ والمَجْد.»

فسَرت في الجمعِ عند ذلك همهمةُ الارتياح، وعاد أبو عامر إلى الكلام فقال: «أما إنَّك تُذكِّرنا بأيامِنا المَجيدة يا أبا همَّام، إني لأذكُر النار التي أُوقِدت فوق خزازى لنهتدي بها ونجتمِع عندها، وإني لأذكر كيف قاتَلْنا وكيف كانت كلُّ ساعةٍ تطلُع بنا على بطلٍ جديد من بينِنا. كان ذلك كأنَّه بالأمس القريب، ولقد شفى وائل بن ربيعة نفوسنا وحقِّ مَناة من العدو المُندحر.»

فعاد مُرَّة إلى الحديث فقال: «وإنَّا لو أعطينا وائلًا أموالنا وأنفُسنا لكان ذلك بعضَ حقِّهِ علينا؛ فقد حفِظَ أعراضنا، وأعلى أمرَنا، وجعل سيادة العرب لنا.»

فردَّ الجميع مُوافِقين وقال أبو عامر: «إن يدَ وائل بن ربيعة عَلَينا لا تُكافأ بمال.»

فتحرَّك جسَّاس في غَيظ وانفجر بعد أن عجِز عن كِتمان ما في نفسه وقال وهو يَهدر: «وحقِّ مَناة ما أراكم تنطِقون بما تَطوون عليه الجوانح، فهل آنَ لكم مَعاشِر بني بكر أن تعرفوا أنَّ كليبًا قد أركبَ عليكم قومَهُ تغلِب؟ إنكم لتَعلَمون أنَّهُ يَمنعكم الماء حتى يُصدِر عنه عبيده، ويَمنعكم الرَّعْيَ حتى تمتلئ بُطون إبله، ويَحمي عليكم الوَحْش في الفَلَاة فلا تستطيعون أن تَصيدوا بها ظبيًا أو تَحترِشوا ضبًّا. وإن صُدوركم لتتمزَّقُ من الغَيظ ولكنكم تُخفونه من خوفِ بطشِه.»

فتقدَّم مُرَّة نحوه مُهدِّدًا، ووضع يدَه على مقبض سيفه وصاح به: «لا كُنتَ أيُّها العَقُوق!»

فأسرَع إليه أبو عامر وأمسك بيدِه يمنعه، ووقف جسَّاس حينًا ينظُر إلى شَيخه وهو يرتعِش في اضطرابه ثُمَّ حوَّل وجهَهُ وأسرَعَ ذاهبًا عنهُ في حَنَقٍ وعيناه تقدَحان شررًا.

وكان الليل في أثناء هذا قد أقبل وأرخى على الآفاق سُدوله، ولمعتْ أنوار النيران على وجوه القوم وهم جلوس حولَها مُطرِقين، يُشفِقون أن يرفعوا عيونهم نحو الشيخ في ثورته. ولم يجِد مُرَّة في نفسه ارتياحًا إلى البقاء في نادي قومِه، بعد أن كان من ولَدِه ما كان، ولم يَدرِ كيف يستطيع أن يُداوي وقْعَ تلك الألفاظ القاسية التي فاهَ بها الفتى في ثَورته، ورأى الأمور تتعقَّد وتتجهَّم.

ولم يَدرِ ماذا ينبغي له أن يفعل، ولا أين يجِبُ عليه أن يقِف، فقد فتح جسَّاس عليه بابًا من الفِتنة ما كان أحبَّ إليه أن يبقى مُغلقًا. ولم يَدْرِ كذلك ماذا يَحمِل الغدُ المُقبل في طيَّاتِه بعدَ أن أقحَمَ ذلك الشابُّ المنكود في غَضبتِه ذِكر بكر وتغلِب، فإنَّ بكرًا وتغلِب من صُلْب أب، وقد أقاما معًا على حالَيِ العُسر واليُسر، فماذا يُخفي لهُما الغدُ في طيَّاته؟ هذا جسَّاس بن مُرَّة يُنادي بكرًا أن تَثور، وما كانت تغلِب لترضى أنْ يطمَعَ أحدٌ في مُلكها، فلم يجِدِ الشَّيخ في حيرته هذه إلَّا أن يذهَبَ عن الجمْعِ لعلَّه يهتدي في خلوتِه إلى ما يُضيء له تلك الظُّلمات.

وكان الهواء قد بردَ ولفَّ الشُّيوخ عليهم العباء، فلمَّا ترَكهم مُرَّة قاموا في أثَرِه إلى البيوت يَستدفِئون وراء جُدرانها الصُّوفية، وَيُتِمُّ كلٌّ منهم الحديث مع عشيرتِه في خلوةٍ من الرُّقَباء.

وأقبل مُرَّةَ نحو بيتِه وكان يسير مُطرقًا، يفكر فيما عساه يفعل مع وَلَدِه الغاضب، وهو يَتوجَّس خِيفة من طَيْشه وحُمْقه. فقد عرَف جسَّاسًا سريعًا إلى الفتك، مِقدامًا على الشر، لا يتردَّدُ في أن يلجأ إلى سيفه إذا ظنَّ أن أحدًا اعتدى على كرامته أو مَسَّ كبرياءه، وعرَفَهُ لا يُبالي من يكون ذلك الذي يُقدِمُ على عداوته، ولا يَعبأ بما يَجرُّه إليه غضبه.

عرَفَ الشَّيخُ أنَّ ولده لن ينصرِف عن كليب إذا تعقَّدَتِ الأمور بينهما، ولن يُثنِيَه عن الانتقام لكبريائه شيء، ولو سالت دماء قومِه في حربٍ ضَرُوس تُفرِّق بين بني العم، وتَجرُّ الشُّؤم على القوم.

جعَلَ مُرَّة يُقلِّب وجوه الرأي فيما يَصنَعُ مع ابنه حتى يَصرِفَه عن التعرُّض لكليب. حتى لقد فكَّر في أن يُبعِدَه عن مَنازل قومه؛ لكيلا يجمع بينه وبين الرجل الذي داخَلَهُ الحِقد عليه.

ولم يَنتَبِه من تفكيره ذلك إلَّا عندما سمِعَ صوتَ ابنتِهِ جليلة تتكلَّم مع أُمِّها في الخَيمة من وراء الستار، وتَبيَّن من صَوتها أنَّها كانت تتحدَّث وهي مُرتاعة ثائرة النفس. فدخل إلى بيته، وكان بيتًا رفيع الأركان قد أُقِيم على أعوادٍ عالية، وشدَّتْه إلى الأرض أوتادٌ كبيرة، تمتدُّ إليها حِبال ضخمة من أوبار الإبل وأصواف الغنم. فلمَّا سمِعَت جليلة وقْع أقدام أبيها سكتَتْ، ثم وقفتْ تنتظِر دخوله، وقد ارتَسَم على وجهها ما كان في قلبها من الخَوف، ثُمَّ اقتربَتْ إليه وقبَّلتْ يدَهُ في خُشوع.

فقال مُرَّة: «مَرحبًا بك يا جليلة، خيرًا ما جاء بك هذه الليلة!»

ثم التفتَ فرأى ابنَهُ يجلِس إلى جانبٍ في رُكنٍ من الخَيمة، وأُمُّه تنظُر إليه كأنها كانت تُحدِّثه في غضب.

فقالت جليلة وهي تُحاول أن تُهدِّئ من رَوعها: «ليس بي إلَّا ما تُحبُّ يا أبي.»

فقال مُرَّة: «لقد سمِعتُك تتكلَّمين مع أمك.»

وما كاد يُتمُّ قوله حتى انفجرت جليلة تبكي، ووضعتْ يَدَيها على عَينَيها تُحاوِل كِتمان صوت البُكاء.

فوضعَ مُرَّةَ يدَه على رأسها مُلاطفًا، ثُمَّ قال: «ماذا يُحزِنُك يا بُنيَّتي؟»

فاستمرَّتْ في بُكائها مَليًّا، ثم قالت بين شَهقاتها: «أدرِكْ جسَّاسًا يا والدي.»

فقال لها وقد نظَرَ نحو ابنه: «لا تَخافي يا ابنتي.»

قال ذلك ليُهدِّئ من رَوع ابنته، ولكنه كان يُكذِّبُ قوله بنَبَرات صوته المُتردِّدة ونظراته الغاضبة إلى ولده.

فقالت جليلة: «أما سمِعتَ يا أبي بما كان بينَهُ وبين وائل؟»

فسكت الشيخ ولم يُرِدْ أن يزيد من ارتِياعها، فقال: «لم يكن بينهما إلَّا ما يكون بين ولدَي العم، إنها غاشِيةٌ لم تلبَثْ أن تنجلي.»

قالت جليلة: «إذًا لم تعلَم يا أبت. إذًا لم يُخبِرك جسَّاس.»

فقال مُرَّة وهو يُحاول كتمان غضبه: «لا تخافي يا ابنتي، لن يكون بينهما إلَّا ما تُحبِّين.»

ثُمَّ التفتَ إلى جسَّاس وقال: «أكان بينكما نزاع؟»

قال جسَّاس وشفتاه تَختلِجان: «قال لي قولًا فردَدْتُه عليه.»

فصاحت جليلة: «ألم تُهدِّده؟ ألم تَسُبَّه؟»

قال مُرَّة مُرتاعًا: «هدَّدتَه؟»

فقال جسَّاس وقد أعلى صوتَهُ على صوت أبيه: «نعم هدَّدتُه إذ هدَّدَني. ألستُ جسَّاس بن مُرَّة؟ ألستُ من شَيبان سادة بني بكر؟ فبماذا يَفضُلُني كليب؟»

قال مُرَّة وقد أودَعَ كلَّ ألَمِهِ في كلمَتِه: «أيُّها المنكود!»

ونظر إليه غاضبًا، فأغضى الفتى أمام نظرة أبيه وبَقِيَ صامتًا، فقالت جليلة تُخاطِب أخاها: «أي جسَّاس! أنت أخي وهو زَوجي، فبِحقِّي عليك لا تقطَعْ رَحِمك، ولا تُؤذِني في صاحِبي.»

فعاد مُرَّة إلى مُلاطفتها قائلًا: «لا تخافي يا جليلة، لن يكون هذا الولدُ مِنِّي إذا هو عصى أمري.» ثُمَّ نظر إلى ابنه وقال: «أأنت يا جسَّاس ولدي؟ أأنت مُطيع أمري؟»

فقال جسَّاس: «قد علمتَ أنَّهُ قد حمى خَيرَ مَراعي جبالنا، وعلمتَ أنه يَطغى علينا ويُذِلُّنا ويأبى إلَّا أن يكون سيِّدًا لنا.»

قال مرة: «علمتُ قبلك، ولستُ في حاجة إلى قولك، وقد أقرَرْنا ذلك ورَضِينا عنه، على أنَّ إِبِلنا ترعى مع إبِلِه فلا يتعرَّض لها، وتسعى إلى مَوارِدِه فلا يَمنعها عنها، وهو بعد ذلك صِهري ويَتَّخِذُني له والدًا.»

قال جسَّاس: «ولكنَّهُ يُريد أن يَفضحَني مع جاري.»

قال مُرَّة: «جارك؟ ومن جارك هذا؟»

قال جسَّاس: «سعد بن شُميس الجَرمي، رجل نزل ضَيفًا على خالتي البَسوس، وله ناقَةٌ ترعى مع إبلي، فطرَدَها كليب وقال لو عادت إلى الرَّعْي ليَضعنَّ سَهْمَهُ في ضَرعِها.»

فسكت مُرَّة، وبقِيَ ناظرًا إلى ولدِه يَنتظِر أن يُتمَّ الحديث.

فقال جسَّاس: «فقلتُ له لو وضعتَ سهمَكَ في ضَرعِها لأضعنَّ رُمحي في لَبَّتِك.»

فقال مُرَّة وهو يكتُم ما ثار في نفسه من الغضب: «سآخُذُ ناقةَ جارِك لأرعاها مع إبلي.»

قال جسَّاس مُعاندًا: «ولكنِّي لا أُفرِّط في أمر جاري.»

قال مُرَّة يُحاول تهدئة ولده: «وأنا كذلك لا أُفرِّط في جارك، سأرعى ناقتَهُ مع إبلي.»

فقال جسَّاس غاضبًا: «لا بل ترعى مع إبلي، والوَيْل لِمَنْ تعرَّض لها.»

ثم خرج من البيت غاضبًا، فذهب ولم يرجِع، ولم يعرِف أحدٌ أين قضى ليلته.

وجعل مُرَّة يخفِّف من خَوف ابنته ويُهدِّئ من رَوعِها، وجلس يُحادِثها ويُضاحِكها، وهو ثقيل القلب يتوجَّسُ خِيفةً مِمَّا قد يَجرُّه عليه نزَقُ ولده، فلمَّا اطمأنَّتْ جليلة إلى وُعود أبيها قامت لتعود إلى بيتها، وخرَجَ أبوها معها ليُؤنِسَها في ظُلمة الليل، حتَّى إذا بلَغَ قُبَّة كليب العالية، ترَكها عند المدخل وعاد إلى بيته، وكان الهمُّ يملأ قلبه، مِن توقُّع ما يكون بين ابنه وبينَ زَوج ابنته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤