(٢) كانط والثورة الكوبرنيكية

كل هذه المعاني إنسانية خالصة، حتى تلك التي جرت التقاليد على التبرُّؤ من صناعتها ووضعها داخل قوس من عدم القدرة على التعاطي معها. سواء منها تلك التي يتم تصنيفها في مستوًى ما فوق العقل، أو ما هو خارج العقل. المافوق يعني تنزيه المعنى أو الأقنوم. والتنزيه في العربية الإسلامية يعادل التقديس. وهو يخصُّ الذات الإلهية وحدها. أما ما هو «خارج العقل» فهو كل قاصر عن تحمُّل الدلالة. هو المتغير عينه، الذي يركن في الهامش. وحتى يمكن وصفه باللامعقول. والفارق بين ما هو فوق العقل وما هو خارجه يؤلفان معًا منطقتَين من الالتباس، بالرغم من الفصل الحاسم بينهما. وهو فصل يدعمه دائمًا المنطق الشكلي. حتى أمكن للفلسفي أن يسمِّي الأولى بمنطقة المتعالي، والثانية بمنطقة اللامعقول. فما لا تعقل أسبابه لا يمكن فَهْم غاياته. وما دام العقل عاجزًا عن إيجاد السبب، فإنه يفقد الشيء مبرر وجوده. أما فيما يتعلَّق بتعالي أو مفارقة الإله، فإن عدم إدراك ماهيته قد يؤسس صميم وجوده. وتلك هي العلاقة المقلوبة داخل العبارة الواحدة. فاللامعقول دائرة تتجاوز المعقول لأنها لا تخضع إلى قوانينه؛ وبالتالي ينبغي إخراجها تمامًا من نطاق التعامل، فيغدو اللامعقول مرفوضًا أنطولوجيًّا ومعياريًّا في آنٍ واحد. في حين أن ما يفوق العقل قد يمنحه شرعية لا محدودة، لكن التنزيه على الطريقة الإسلامية أطلقت على المتعالي الإلهي كل الصفات الإنسانية، وفي الوقت عينه نزهته عنها، أي إن الإله الواحد الكلي القدرة، الكلي الوجود، الكلي العلم … إلخ، هو حامل هذه الصفات، بل هو صانعها، ولكنه منفصل عنها، زائد عليها، ومتجاوز لها. هذه اللامحدودية في الصفات جميعها، الإيجابية وكذلك السلبية منها — مثل البطش والقهر والانتقام والجبروت … إلخ، فإنها تمنح تجسيدًا للمتناهي نفسه، وإن كان في صيغة العكس. وفي ذلك إقرار للمتناهي الذي لا يمكنه أن يتعامل مع اللامتناهي إلا في إثبات ذاته كمتناهٍ، ونفيها في الحال. ومن هنا جاء مصطلح اللاهوت السلبي الذي يقرُّ بالإنسان من خلال استعادة صفاته عينها التي لا يملك سواها، وإطلاقها على الجوهر الآخر المفارق، ولكن بشرط تحريرها من محدوديتها وعرضيتها، وإضفاء مطلق اللاتعين عليها، وذلك من خلال التعيُّن المكثف اللامتناهي، فكم هو الإنسان يبقى إنسانيًّا حتى في نفي ذاته إلهيًّا.

لكن دخول المقدس على هذه الصيغة حاول أن يجسد ويجسم من القطع بين حدَّيها. ذلك أن المقدَّس قطيعة متمادية بين الناسوت واللاهوت، ولكن بطريقة حضورهما التواتري والدرامي تلقاء بعضهما بصفة دائمة. فالمقدس يعيد إنزال المفارق إلى تفاصيل المحايثة مع احتفاظه بمفارقته المطلقة، وهذا الاحتفاظ هو دليل قدراته المطلقة على الإحاطة الكاملة بعالم المحايثة، اللامحدود هو كذلك بأحداثه وصدفه ومفاجآته. كأنما الإقرار في الأصل باللامحدودية إنما ينصبُّ على المحايثة. فهي وطن الكثرة التي تخيف العقل. وتثبت عجزه كل لحظة عن السيطرة والاستيعاب، لكن المقدَّس هو الذي يغطي هذا العجز، وهو الذي يتولَّى عن العقل تحقيق ما لا طاقة له به، بالنيابة عنه؛ وبالتالي يضطر العقل إلى التمادي في اختراع المقدس، والتمادي في تقديسه وطلبه الملح الدائم مع شرط البقاء في مفارقته، أو عزلته النائية.

وكلما داهمت الكثرة والحركية والفجائية العقلَ من كل جهة، وتداعت سيطرته أو كادت، تشبث أكثر بالمقدس، ونادى على حضوره النائي، كيما يعوض لذاته عن فقدان السيطرة، والالتجاء من ثم، إلى الاعتذار من نفسه على محدوديته تلك. وهو اعتذار كان بمثابة رفع المسئولية عن كاهله وإلقائها على ذلك اللامعقول المطلق، والمطلق كذلك في معقوليته؛ لأنه قادر وحده على تدبر ما يمكن للعقل أن يفعله، ولكنه يعجز عنه في آنٍ معًا. إنه الكامل الذي لا يمكن تعقله إلا بإقرار متمادٍ للامعقوليته. ولا يمكن الاتصال به إلا بتدعيم الانفصال عنه أكثر فأكثر، ورفعه أعلى فأعلى.

ولكن حتى يمكن لمثل هذه العلاقة الالتباسية أن تفعل في عمق المحايثة، فإن المقدس ينمي معها شبكية جدلية من الدرامية الحافلة، الغنية بالتناقضات، ولكن كذلك بالرموز الاستيهامية. لا يضع المقدس حدًّا للتفكير فحسب، لكنه يلغي سؤاله، بإلغاء ضرورة الفكر أو الحاجة إليه، كما أن العقل من جهةٍ أخرى يتواطأ ويقبل بتخصيص منطقة يسورها بالمقدس، ويقطعه إياها. ويمنع أجهزته المعرفية عن التطاول عليها واختراقها. وهكذا فإن الفلسفات العقلانية إبان القرن الثامن عشر كفت عن التعامل مع الألوهية كمسألة مركزية. ولم تعُد تسلسل الأنظمة التعقيلية بدءًا من عَقْلَنة الكوسمولوجيا نفسها، وجعل الكون نظام الأنظمة العقلانية كلها، وقد أبدعه العاقل الأكبر الذي هو الخالق. وكانت الحيلة الديكارتية الحاسمة في تحقيق الانزياح للمسألة الإلهية؛ من حيث هي مسببة لذاتها وللآخر؛ وبالتالي لا يعقل شيء بدونها، إلى اختراع رائع جديد يتجلَّى في مفهمة الكمال، كفكرة إنسانية متميزة عن سائر المفاهيم الكلية، بكونها مسببة لذاتها وهدفًا لذاتها، في آنٍ معًا، وتختلف عن الألوهية كونها من لُقيا العقل، ومن أهم خصائص الطبيعة الإنسانية؛ ذلك أن الإنسان يلقى نفسه مزودًا بذلك النزوع المتأصل فيه نحو تجاوز النقص في نفسه وجسده، وفيما حوله من محيط البيئة. وديكارت يظل هنا أفلاطونيًّا خالصًا؛ إذ إن الكمال كماهية وكجوهر، لا يمكن أن تنشأ عن ضدها؛ وبالتالي فهي مزروعة في الطبيعة الإنسانية، بما تثيره فيها من بحث عن الكامل. هذا الكامل الذي لا بد له من أن يكون موجودًا وإلا لما كان كاملًا، فالكائن الإلهي هو كمال كينونة؛ وبالتالي فإن «الفكرة» هي اللاعب الأول في سياق هذه المفهمة. والنقلة النوعية هنا هي أن «فكرة» الكمال تغدو سببًا لوجود الإله. وقد اعتبر الناقدون أن الخطل هو في هذه النقلة من الفكرة إلى موجود الفكرة نفسها، لكن هذه النقلة هي المعبر الذي يجعل المسألة اللاهوتية مسألة إنسانية خالصة، وتابعة لجينالوجيا الأنسنة، وليس لسواها. ولقد سمح هذا الانقلاب الديكارتي المتميز لفيلسوف العقول الثلاثة (المحض والعملي والجمالي) كانط، أن يستكمل هذه النقلة التاريخانية حقًّا، عامدًا إلى نقل إشكالية الجوهر والتجوهر بكليتها من عالم الأشياء والظواهر إلى مصطلح مواقعي آخر هو الشيء في ذاته.١ بالرغم من أن هذه المواقعية اختراع فلسفي طريف آخر ولا يقلُّ براعةً عن اختراع البرهان الأنطولوجي، أو فكرة الكمال كحامل لعلته ونتيجته معًا، ولا في اعتراض ناقدين آخرين؛ إلا أنها مواقعية ابتكارية سجَّلت أو تابعت سجل النقلة الديكارتية؛ فقد صار يصح وصفها بالاستراتيجية في مسألة طريقة التعامل التي كان يعانيها العقل مع الألوهية كمحل أعلى للمفارقة واللامعقولية، والتي «ينبغي» اعتبارها مع ذلك عقلانية مطلقة، وأصلًا أنطولوجيًّا لكل معقولية أخرى، لكن عند كانط حدث ما هو أعظم، أو أنه كان الأعظم، في أركيولوجيا الحداثة؛ فقد وقع الانزياح بين المفارقة كحيز للأعلى بما يتجاوز العالم، نحو المتعالي كحيز داخل المحايثة، ولصق زمانيتها، وعلى وقع فُجائيتها وفوريتها. انتقل الفكر — وليس العقل وحده — من العلاقة العمودية مع الأعلى، الممتنع على السؤال، أو التفكير، بحكم جوهريته التي لا تقبل الاتصال أو الإبانة والتبيين، إلى العلاقة مع الحدث/اللاحدث، الآن وهنا، واللامفكَّر به بعد. انزاح الفلسفي، على يدَي كانط، من سؤال اللامتناهي المنفصل والمفارق، إلى سؤال اللامتناهي المتعالق مع المحايثة بقطبَيها، الذات والموضوع. ذلك اللامتناهي الذي هو بمثابة صيغة من صِيَغ المتناهي عينه، بدون مصطلحه المباشر؛ فالمتعالي هو بيت المبادئ الكلية والأسس المعرفية، والمعاني Les notions الكونية، التي تنظم أسئلة المعرفة الموضوعية، كما تفتح على ذلك النوع الآخر من المعارف العابرة للذاتية والموضوعية معًا، تلك التي لا تكون الفاهمة كفوءة، وحدها للنهوض بأعبائها، فتستنجد بالمخيلة لا من أجل أن تمد المفهمة، أو صناعة المفاهيم، بجاهزية التأطير الكلي فحسب، بل بإنتاج نوع آخر من المفاهيم، التي هي كليات مرصودة لحسابها الخاص، وليس لتأطير الجزئيات الآتية عن طريق حدوس الزمكانية، كما هو الأمر بالنسبة لَمَلَكة صناعة المفاهيم.

إن جاهزية المتعالي تسترد اللامتناهي من صنوه أو توءمه: المفارق. وتطلق فيه طاقة لا محدودة من الانشغال والتشغيل، من الانشغال بلانهائية المتناهيات ملء المحايثة، وعَقْلَنتها وصياغتها ضمن مفاهيم؛ ومن تشغيل كليانية هذه العملية بالذات، بما يخدم إنتاج تشكيلات أفهومية «تتخيل» المحايثة ككل، وتطلق عليها وجهات نظر؛ فالمتعالي جاهزية مخيالية عظيمة لا تنقطع عن العقل المنشغل أصلًا بجني المعارف التفصيلية. إنه يمنح الصورة كلية تمثيلها لمفرداتها مفهوميًّا. وفي الوقت عينه يهب الفكر ثراء المحايثة وقدرة على تجاوزها، بما يزيد من محايثتها لنفسها، تأسيسيًّا دائمًا، وإعادة للتأسيسية، الواعية لحدودها، دائمًا أيضًا.

هنالك توءمة بين الفكر والعقل تحت اسم العقل المحض، وهما يتوزعان جاهزيتين؛ الأولى هي فعالية التعالي، والأخرى هي فاعلية المتعالي. الأولى جَسْر، على المحايثة، والأخرى وصل واتصال باللامتناهي المتماوج حول الفاهمة، والمتغلغل في كل عملياتها، والمتضايف معها والمركِّز في صميمها … إنها ملكة أخرى هي المتخيلة، التي بقدر ما «تمعرف» معطيات الحدوس الزمكانية، فإنها تمنح المبادئ الصانعة للكليات ثمة حضورًا للفاهمة في التقاء حميم مع المتخيلة، لا يقيد هذه المتخيلة بقدر ما يزودها بمئونة الواقع نفسه، بما يعطي نفسه تلك ويتجاوزها في آنٍ معًا. فالتجاوز نحو العالم (التعالي) هو صنو التجاوز نحو المتعالي الذي يمفرد اللامتناهي، يجلبه من عزلته، ومن تهويمه اللغزي، ويجسده وظيفيًّا في تأسيس المبادئ، والأفاهيم الاحتمالية، أو حسب التوصيف الجديد، الافتراضية virtuels. فهو، أي المتعالي، كما هو مأسسة للمقولات (المنطق)، فإنه يشتمل على الآفاق الميتافيزيقية، ويعيد شَرْعَنة جديدة لأقانيمها، لتجوهر الجواهر والماهيات، يحوِّلها إلى أفاهيم كلية، ولكن ذات لمحات ذوقية إستطيقية؛ فالتجوهر يغدو حدثًا متعاليًا لا ينتهي تجوهره. وهو أقرب إلى نتاج أحكام قيمة ذوقية، أو مخيالية، منها إلى تصنيف لحقٍّ أو لباطل.
أما التعالي فهو الموجَّه إلى الآخر دائمًا، إلى المتناهي. إنه يشترط قيام المتناهي أولًا كيما ينفذ مهماته المعرفية؛ فالتعالي لا يخلق موضوع المعرفة، لكنه يزود الفاهمة، بالقدرة على هذا النوع من الفَهْم القَبْلي la précompréhension لكينونة الموجود أو الكائن، دون أن تكون له قدرة إحداثه. بكلمة أخرى فإن المتعالي يشتغل على الحدوس الزمكانية. وإن كان الزمان والمكان كإطارين للمعرفة، فارغَين أصلًا من كل مادة لهما، لكنهما لا يتصاعدان من التجربة نفسها، بل يجهزان الفاهمة، بما يساعد على التقاط مضامينها؛ فالزمكانية تسمح بالفهم القبلي الذي لا قيمة له إن لم يمتلئ بمعطيات المحايثة؛ غير أن الزمكانية هي عينها مدار المخيلة. ذلك أن الحدوس الحسية تقدم جزئيات المواضيع. والمخيلة تهيئ الأرضية الكلية الصالحة لبناء التصورات ذات الإطار الشمولي؛ فالمتخيلة تكمل عمل الفاهمة، وتمدها بالكلي الذي لا يمكنها أن تحصله عن طريق الحدوس وانطباعية تفاصيلها السلبية. إنها تشكل منطقة التمفصل بين المتعالي والتعالي، بين الفكر والمحايثة. وهذا التمفصل هو الذي يرى فيه هيدغر أنه يشكل هذا الفهم القَبْلي الذي يمكنه أن يستشعر الكينونة، ويمهد لالتقاط كائناتها اللامتناهية من معين المحايثة نفسها، فإن هيدغر يصرُّ على أن العقل المحض ليس جاهزية معرفية فحسب. وإن كانط لم يهدف من وراء هذه المعمارية الضخمة أن يؤسس مجرد نظرية للمعرفة، بل لقد وضع هذه النظرية تحت طائلة السعي وراء التقاط الكينونة نفسها.٢ فالمعرفة ليست احتيازًا على الشيء، ولكنها كشف عما له من صلة بالشيئية عينها، التي هي طريقة للكينونة في إعطاء ملامح من الوجود وهي منسحبة.

غير أن كانط لم يكن هيدغريًّا سابقًا على هيدغر نفسه. ولعل اللحظة الثقافية التي كان يعيها، ويتمسك بها هي التي تميزه حقًّا عمن أتى بعده، وخاصة عن الحقبة النيتشوية الهيدغرية؛ فقد كان الموقف النقدي الذي يتشبَّث به فكر كانط، يصب اهتمامه الأساسي على الطريقة التي يمكنه فيها أن ينتزع فيها فكر الإنسان من الاشتباك مع المتعالي المفارق، إلى الانهمام بالتعالي المعرفي، دون التخلِّي عن المتعالي كجاهزية علو، إنما داخل الفكر نفسه التي تسمح ببناء عالم معرفي هو صنو متناهٍ لعالم كينوني لا يحد.

إن الكانطيين المتأخرين يتمسكون بالرأي الذي أبداه كانط حول نقد العقل المحض، من كونه مسألةً منهجيةً خالصة. وإن هذه المنهجية تنصب على إعادة تأسيس نظرية للمعرفة بمعناها العلمي الدقيق. تسعى إلى تأسيس العلم نفسه بتعزيز جاهزية العقل لإنشاء اللغة الوحيدة المخولة بإنشاء الحقائق العلمية. هذه الجاهزية متفقة بصورة قبلية مع انتظام الأشياء في العالم. ولولا كون هذه الجاهزية مترابطةً فيما بين ملكاتها الفكرية «المتعالية» من جهة، والعقلية الفاهمة من جهة أخرى، لما أمكن أن يحدث التماسُّ بين الذاتي والموضوعي، بحيث يكون الإنسان قادرًا على فَهْم معطيات العالم من حوله، وأن تكون هذه المعطيات قابلةً للفهم من ناحيتها كذلك، كأن هناك اتساقًا قبليًّا — وهذه هي العلاقة المميزة للعقلانية النقدية عند مؤسسها الأول كانط — بين الوعي والعالم. والوعي هو التسمية الحديثة التي سيلحُّ عليها هوسرل كترميز يشتمل وظائف العقل ومبادئ الفكر — المتعالي — معًا.

ولكن لا يمكن تمييز هذه العلامة للكانطية إلا مع التنبُّه إلى النقاط الأساسية التالية:
  • إن علو «المتعالي» لا يتجاوز الفكر نحو المفارقة، لكنه على العكس ينزل إلى التجربة، ويغدو محايثًا لها؛ لأنه يجعل عمل الفاهمة، عمل العقل المعرفي ممكنًا؛ لأنه يمده بالمبادئ والمقولات التي تؤسس وحدة التجربة وتجعلها كلية العطاء، كلية القابلية للفهم بالنسبة لعقول البشر جميعًا.

  • بعد أن يتحرَّر المتعالي من مفارقته، ينأى عن سكونيته وضبابيته، وينخرط في تزمين جاهزيته من المبادئ والمقولات، عن طريق إثارة الحدوس الحسية، ودفعها إلى الامتلاء بمواد التجربة، وتوصيلها إلى المخيلة التي تبني التصورات، من هذه المواد الموجودة، مضيفة إليها ما ليس موجودًا فيها، وهي الكلية، أي صيغة المفهوم، لكن المخيلة هي ذلك الجانب المجهول الذي يتدخَّل في مختلف عمليات طرفَي العملية الإدراكية، سواء منها القادمة من التجربة، فتضاهي بين معطياتها وتنقلها من بعثرة جزئياتها وتفاصيلها إلى وحدة كيانها العرفي أو التصوري أولًا، وسواء منها، ما يتعلق بالطرف الهابط أو المتلقي الذي يدعوه كانط بالتركيبي، وهو عمل العقل المحض، المتميز بالفاهمة ووظيفيتها القائمة على اندراج التصورات في أمكنتها الملائمة لها من المقولات المنطقية، والتي هي بدورها تدعم وتطبق عمليًّا المبادئ الأساسية التي تستند إليها، وتشكل قبة الممارسة الخالصة للعقل المحض، أو للفكر بما يرجع إليه وحده. وهو الذي يحدِّده كانط ﺑ «علاقة الفاهمة مع الموضوعات بصفة عامة».

  • إن المتعالي صار يشتغل وظائفيًّا لأنه ينظم أجهزة العقل الموجهة جميعًا إلى الخارج، إلى العالم من أجل التقاطه في كليته وفي تفاصيله، إنه «الفكر» الذي لا يجد نفسه إلا في مغادرة نفسه دائمًا، دون التخلِّي عنها للحظة.

  • لقد درج أحد شراح كانط من أساتذة الفلسفة الفرنسيين المعاصرين وهو جاك ريفيليليغ J. Rivelaygue على إعطاء رمز المجهول في الجبر الرياضي: «س، x» إلى المتعالي الكانطي، كما لو أنه مرجعي ذاته. إنه المجهول الذي لا يتضح إلا من خلال الصيغة التركيبية التي يضيفها على ملكات الجاهزية الإدراكية، بدءًا من المبادئ والمقولات والفاهمة إلى الحدوس الزمكانية يتوسط المخيلة، المشاركة كذلك في عمل المتعالي نفسه، وخاصة في مهمته التراكبية مع الفاهمة، ووسائل تواصلها مع التجربة.٣

    إن المتعالي هو مجهول الفكر، وهو سرُّه، وبيت سرِّه الحقيقي الفريد. وهو الذي يسبغ على مختلف جاهزيات العقل ازدواجية الفعالية: إنها من جهةٍ تتمتَّع بخاصية كونها خالصة ومحضة بالنسبة لذاتها، أي إنها تقع تحت طائلة المتعالي وتمتح من خاصيته الخلوصية تلك عينها، وفي الآن عينه فإنها تمارس تماسها الزمكاني وتلتقط معطيات التجربة. وتتعامل معها على أنها مادة اختلافية كليًّا، وأنها بدونها، تظل أشكالًا معلقة في الفراغ، لكن هذه المادة عينها تتمتَّع قبليًّا كذلك، بكل المؤهلات «الموضوعية» التي تجعلها قابلةً للاندراج تحت جاهزيات الذاتية الإنسانية، وتتحوَّل إلى مواد أولية بالنسبة للفاهمة نفسها التي تصوغ منها المفاهيم، وتدعم خصوبة المبادئ العليا للفكر.

  • هكذا قد يشكِّل العقل المحض عمارة الفكر، لكن هذه العمارة رغم توزعها بين وظيفيات وأمكنة تصورية مختلفة، ومتميزة بفعاليات تخصها وحدها، إلا أن خاصية «المحض» هذه إنما تتواجد مع مختلف هذه الوظيفيات.

النظرية النقدية و«اختراع» الكوني المحايث

فالعمارة ليست هندسية بالمعنى المكاني، بقدر ما هي كليانية الفكر، وقد تقبل أسماءً لغوية كثيرة، لا تتمايز فيما بينها معياريًّا، ولا تتموضع فوق بعضها مستويات وطبقات، ولكنها تقدم عن تداخلها وتراكبها تطييفات لتسهيل الدرس، وتوضيح معالم المجهول الكبير الذي يضمها جميعًا: ذلك الفكر الذي يعمل مع أفضل إنجازاته أو تجلياته، وهو العقل ووظيفياته الإدراكية الفذة، مؤكدًا في الوقت نفسه، وفي كل عملية إدراكية وتأويلية، كلية عمله كعقل ووحدته، وحاجته كذلك إلى ضمانة المتعالي لكل أفعاله، لكنه متعالٍ صار عضوانيًّا، ومحايثًا للعقل وعضوانيته في آنٍ.

هذا المتعالي الذي يساوي «س» لم يكلف كانط نفسه عناء البحث عن أصل له أو مرجعية، خارجة عن ضمانته الشمولية لعملية الفهم، وما يفيض عنها كذلك من «المجهول» الذي يحيط بها. هنا يجيء دور التدخُّل الفذِّ لمفهوم الكينونة الهيدغري. ومن هنا كذلك تميز تأويل هيدغر لفلسفة العقل المحض ونقده عن كل التيارات المتنافسة على التراث الكانطي في بلده الأصلي ألمانيا. فإن هيدغر انشغل طيلة مشروعه الفلسفي بفيلسوفَين رئيسيَّين فحسب، هما كانط ونيتشه. وقد أعاد تأويل كلٍّ منهما على ضوء أنطولوجيا الكينونة، كما استرجع مفهمتها على ضوء قلب الميتافيزيقا من فلسفة للمفارقة إلى فلسفة للمحايثة. وكان له مع المتعالي الكانطي تأويل أساسي، أعاده إلى صميم الحداثة.

ينطلق هيدغر من لغز هذا المتعالي، يلتقطه من صيغة مجهوله الرياضي البحت «س»، والأقرب إلى الحالة السكونية والتجريدية، وينقله إلى صيغة جدلية وفورية ووجودانية، من حركية الكينونة عينها بين حضورها اللمَّاح المتأرجح وانسحابها المتقارب المتباعد؛ ولذلك فليس المتعالي مجرد شكلانية كما يريد أن يحصره في هذه الدلالة الكانطيون المعرفيون من أمثال فيليمينكو مثلًا.٤.

وما جرت العادة على تصويره كما لو كان جاهزية سكونية بالنسبة لمَلَكات من مثل الفاهمة وحدسي الزمكانية، واعتبار هذه الزمكانية نفسها مجرد أطر قبلية فارغة، وهي بانتظار أن تمتلئ من عطاء التجربة، قد يساهم ولا شك، في لحظة ولادة الكانطية، بدعم المنعطف الضروري نحو تأسيس المحايثة وضرورتها الوجودية وليست المبادئية فحسب، لكن مثل هذا الاختزال الآلي إنما يحيل تماس الذات مع العالم إلى وظيفية معرفية فقط، في حين أن المتعالي القبلي ليس شرطًا تجريديًّا للتعالي نحو المحايثة، بل هو متدامج معه وجودانيًّا من أجل جَعْل حضور الإنسان في العالم حدوثًا كينونيًّا كذلك. ذلك هو المغزى العميق لما كان أطلقه كانط نفسه على هذه الفلسفة النقدية من كونها انقلابًا شبيهًا بانقلاب كوبرنيكوس؛ فالفكر كما أنه ليس طارئًا صدفويًّا على العالم، فهو ليس سابقًا عليه ولا متعاليًا فوقه، لكنه متعالق معه منذ الأصل. ويشكلان معًا المحايثة والمفارقة، التي هي، أي المفارقة، طريقة غير عادية لحضور المحايثة بالنسبة لذاتها. وحتى يتجاوز هيدغر كل هذه الغابة من الاصطلاحية الأقرب إلى المدرسية، فإنه منح الاعتبار مجددًا إلى أقنوم الكينونة، مجردًا إياه من كل جلابيب الغيبيات القروسطية، معيدًا إياه إلى روائه الإغريقي الخام. وقد اشتغل أساسًا بكل جهد على استكمال تأويلية كينونية مختلفة للنقدية الكانطية. فإن العقل المحض هو المتعالي الذي لا ينفك عن إنماء تمفصله مع معطيات المحايثة، بما لديه من جاهزيات إنشاء المعرفة نظريًّا وموضعتها واقعيًّا في آنٍ واحد، لكن هذه العملية المعرفية التي هي حصيلة غنية لترابط المتعالي (الجاهزيات التعقيلية)، والتعالي (أي الحدوس الزمكانية) الذي لا يني يموِّن الذات بتناهيات الأشياء، فهي، أي العملية المعرفية، لا يمكن فصلها عن الذات العارفة التي لا تقوم بنفسها، إلا بما هي كائن وجوداني اسمه الإنسان في العالم.

كانت نظرية المعرفة التقليدية التابعة للميتافيزيقا التأملية تُمحور الإشكالية حول تطابق التصور مع ما يصوره: فإن مقياس الحقيقة هو هذا التطابق. كما لو أن العقل يشكل قطبًا مقابل العالم كقطب آخر غريب كليًّا عن الأول. ومن هنا تاهت العقلانية بين مذهبَي المثالية والواقعية، بحسب ما يرجع كلٌّ منهما علة هذا التطابق، أو فاعله الرئيسي إما إلى العقل وحده أو إلى الموضوع الخارجي وحده، لكن نقدية كانط تجاوزت هذه التعارضية التجريدية. ونقلت الإشكالية المعرفية من مستوى الذات/الموضوع، أو التصور/الشيء، إلى علاقة العقل والتصورات، أو تصوراته الآتية أصلًا من الموضوعات. ذلك أن إنشاء التصوُّرات أصبح محسومًا بدءًا من جهد الحساسية، وعمل حدوسها ضمن إطاري الزمان والمكان اللذَين يمتلئان بموارد التجربة، ولكنهما هما من بنية العقل نفسه، وصولًا إلى إخضاع هذه التصورات، إلى عمليات تحليل وتركيب لعناصرها، بمساعدة المتخيلة التي لا تكتفي بإعادة إنتاج مادة التصورات، ولكنها «تضيف» إليها ما لا يأتي مع هذه المادة، وهو إضفاء الكلية على كثرتها، وإبراز ما تشترك فيه وحفظه، وإهمال التفاصيل العارضة، وصولًا أخيرًا إلى بناء المفاهيم والعلاقات الضرورية الخصبة القائمة بينها، أي إبداع الأحكام بمساعدة الوظائفيات العليا للعقل المتعالي (الترانسندنتالي)، وهو عمل المنطق الذي يصفه كذلك كانط بالمنطق المتعالي؛ لأنه موطن المبادئ والمقولات، والذي دأبه الانخراط في ورشة بناء المعرفة، والاشتغال مع بقية جاهزيات الفاهمة والحساسية والمتخيلة، على الضبط النهائي للمادة المعرفية، في مرحلة إطلاق الأحكام وصياغة العبارات المعرفية في حلتها العقلانية الأخيرة.٥

بالنسبة لثقافة المتعالي كما أشادتها النقدية الكانطية، فإن امتياز الحقيقة هو كونها كلية، أي إنها تفرض نفسها على كل العاقلين من البشر، لكن هذه الكلية لا تأتي من الحدوس الحسية. فما يسبغ على مادة الحدوس تلك صيغة الكلية هو العقل المحض، هو المتعالي الذي يشارك جميع الوظيفيات في أدائها، بدءًا من مادة التصور إلى المفهوم فالحكم فالعبارة المعرفية السردية. ذلك أن المتعالي هو مصدر الكلية؛ وبالتالي فإن الموضوعية إضفاء ذاتوي عالٍ؛ لأنها لا تأتي من الأشياء، ولكنها تتلقاها من جاهزيات أخرى تتعلق بفهم الأشياء وتنظيمها وإعادة صياغتها بما يجعلها ناتجًا عقليًّا، مفهومًا ومقبولًا من قبل عقول الناس جميعًا.

وهكذا، فالنقدية الكانطية هي المحاولة الفلسفية الأولى التي تحرر نظرية المعرفة، من حاكمية التطابق بين التصور وموضوعه، وتنقلها إلى سؤال يتعرض لما يجعل الشيء موضوعيًّا، أو لما يجعل من الجزئي كليًّا. إنه سؤال الكلية لطريقة عملها، وكيفية إنشاء المعرفة نفسها، كل معرفة، في استقلال عن موضوعاتها. وهذا السؤال لا نهاية ولا حد له بالطبع؛ فالمتعالي هو خزان الكلي، ومهندسه الأول والدائم، وموزعه وحارسه، والقيِّم المستمر على حسن أدائه وتمرسه، لكن هذه الاستعارات ليست سوى توصيفات ترميزية لا تؤخذ بمدلولاتها المباشرة. ذلك أن الكلي ليس معطًى أول، بل هو بالأحرى ما يجعل المعرفة ممكنةً موضوعيًّا، دون أن يكشف عن ممكنه أو إمكانه الخاص. حتى عندما يكتب كانط حرفيًّا: «إن الفارق بين المتعالي والتجريبي يتعلَّق إذن وحده بنقد المعارف، ولا شأن له بعلاقة هذه «المعارف» بموضوعها.» فإن المقصود من هذا هو: أننا نتوقع من ذلك وجود مفاهيم قابلة للارتجاع قبليًّا إلى موضوعات، «ليس باعتبارها حدوسًا محضة أو إحساسات، ولكن فقط باعتبارها أفعالًا للفكر المحض؛ وبالتالي بما أنها مفاهيم، فهي ليست ذات أصل لا تجريبي ولا إستطيقي، فإننا بذلك إنما ننشئ مقدمًا فكرة علم للفاهمة المحضة، وللمعرفة العقلية، التي عن طريقها نفكِّر موضوعات قبلية تمامًا.» وذلك هو في الواقع أساس اختلاف منطق المتعالي الذي يبتكره كانط، عن المنطق العام المعروف تقليديًّا؛ إذ يقول: «إنه ينبغي لذلك العلم الذي يمكن أن يعين الأصل، والامتداد والقيمة الموضوعية، خاصية المعرفة من هذا النوع، «ينبغي» له أن يسمَّى بالمنطق المتعالي لأنه يهتم فقط بقوانين الفاهمة والعقل، ولكن باعتباره يختصُّ فقط بموضوعات قبلية، وليس، كما هو الحال بالنسبة للمنطق العام، الذي يستند إلى معارف تجريبية كما إلى المعارف المحضة التابعة للعقل، بلا فرق.»

لم يكن بالمستطاع الخروج من الحلقة المفرغة التي تفرض على المفكر المدرسي الوقوع بين قرنَي الإحراج، إما الواقعية الساذجة أو العقلانوية المسطحة، إلا باستعادة الفكر لما يخصه وحده، ويتميز به عن كل ما عداه؛ فالانقلاب الكانطي الموصوف بالكوبرنيكي إنما يكمن في هذه الاستعادة للفكر لما يخصه وحده، وهو الذي يدعوه بالمتعالي، هذه الخاصية المكرسة سابقًا للجوهر الإلهي المفارق. ولقد انصبَّ الانقلاب الكانطي على التوعية المتأنية العبقرية لهذه الخاصية المتفردة للمتعالي بين الجاهزيات، ليفعلها كوظيفيات تنتج هذا النوع من «الموجودات» الاستثنائية الأخرى، غير المتوفرة من قبل في العالم، وغير الكامنة في أصولها حتى ولو كانت حسية، وآتية من العالم الخارجي. تلك هي المعرفة؛ فالمعارف هي غير حسياتها حتى يحدث فيها التغيير الجذري الأول والحاسم، عندما يقلبها إلى تصورات. هذه المفردات الجديدة تمامًا ليست مجرد انعكاسات آلية للأشياء على لوحة سوداء تسمَّى العقل، كما كان الأمر مسلَّمًا به على هذه الشاكلة طيلة الرحلة الأفلاطونية المدرسية، وحتى الديكارتية؛ فالتصورات مفردات نفسها أولًا، وهي أول ما يصنعه المتعالي، مما يؤهله لتأسيس اختلافيته الخالصة؛ إنها صناعة عقلية بتمام معنى هذه الكلمة. لأن «الشيء» يأتي إلى الحدس بما فيه وبما ليس فيه أبدًا، وهو: التصوُّر. كذلك فإن التصور لن يرجع إلى الشيء الذي انطلق منه أصلًا، إلا وقد أضاف إلى خانته كل أشباهه الأخرى؛ فالشجرة كتصور لا توجد في أي حقل، ولكنها «تنطبق» كدلالة على كل شجرة؛ لهذا قلنا إن النقدية الكانطية سحبت نظرية المعرفة من حلقية الشيء كأصل، والتصور كشبه أو كانعكاس، إلى إشكالية مختلفة كليًّا، حول علاقة الفكر بجاهزياته التي تخصُّه وحده، لكن هذه الجاهزيات من المفترض أن تجهز ما ليس منها أو فيها؛ فهي لا تشتغل على فراغها، لا تستنبط من أرضها بذورًا سحرية، لكنها تأتي البذور أو الأصول من خزانها الكبير في العالم، وتُلقمها إلى أرضها، لتُنبت لها كائنات جديدة تمامًا اسمها الأفكار، في نهاية موسم البذار والإنضاج والحصاد، والذي هو كناية عن عمل الفاهمة مع حدوسها الحسية، ويتوسط «المخيلة» دائمًا. ذلك هو معنى العبارة الهيدغرية أن الإنسان يأتي بالاختلاف إلى العالم. إنه يأتيه بما ليس فيه أبدًا، وهو الفكر الذي يعبِّر عن فعاليته باللغة، ذلك الامتياز الحقيقي للكائن الناطق على سواه من كائنات العالم الصامتة، أو المتكلمة لغات إشارية أخرى، لكنها لا تمتُّ إلى لغة اللسان الإنساني إلا بصلة الصوت فحسب. والفكر لا يلتقط نفسه من الأشياء، ما ليس هو بفكر أبدًا. ها هنا تبرز الأهمية القصوى لكبرى عمليات التحويل التي تتخطَّى السيكولوجيا إلى الأنطولوجيا. إنها تحويل الأشياء إلى صور متحدة بما فيها مع ما يتجاوزها في آنٍ، وهي التصورات التي تتجاوز نفسها سريعًا إلى المفاهيم، حيثما لا تنفكُّ المفاهيم عن نسج الأحكام التي تبنيها من مادتها ومما ليس فيها كذلك. والأحكام تنتظم في عبارات معرفية تفارق كل العمليات المتعالية الفكرية التي صنعتها، وفردية الذات التي تحملها، لتلتقي في أفق الكلية، حيثما تتوافق كل العقول. فالكلية هي صناعة المتعالي التي لا تفسِّرها عمليات نفسية ترافق بناء الصور والتصورات. إن المتعالي هو منتج الكلية، وضامنها معًا، والكلية ليست مصطلحًا تجريديًّا. إنها مساحة التمفصل بين المتعالي والمحايثة، حيثما يتكلم كلٌّ من المتخاطبَين — المتعالي والمحايثة — لغةَ الآخر وهو يعني نفسه في الآن عينه.

الكلي لا تقدمه تراكمية عادات حسية-إدراكية، كما يزعم جون لوك. ولأن «الكلي» لا يمكنه أن يكون إلا أصل ذاته، فقد ابتنى له كانط كاتدرائية العقل المحض. ولأن كانط لا يريد أن يغرق في جدلية عبثية حول هذا الأصل، فقد رآها مجسدة وفاعلة من خلال جاهزيات العقل العادي التي يضبطها ويُمفصل أداءَها العقلُ المحض، أو المتعالي. فلقد تخلَّى كانط عن هذه الجدلية العقيمة للميتافيزيقا التأملية التقليدية المنشغلة بإثبات أو نفي الأصل المفارق، مسجلًا بذلك أساسية النقد الأولى، بالنسبة لمجمل مذاهب الفطرية أو الاكتسابية؛ إذ إنهما حالتان من تعامل واحد مع علاقة العقل بالواقع، وهو منظور تأملي تجريدي خالص؛ فالاشتغال على إشكالية العلاقة بين المفهوم والحدس — الذي هو حسيٌّ دائمًا، بدلًا من علاقة المفهوم بالنومين أو الشيء في ذاته، لم يسجل فحسب انتقال كانط نفسه من كتابة ١٧٧٠م إلى كتابة ١٧٨٣م و١٧٨٧م، من تلك الثقة بالميتافيزيقا التجريدية، إلى النظرية النقدية، بل أرَّخ كذلك لتلك الانعطافة الحاسمة للتفكير الفلسفي بتمامه نحو الحداثة.٦
فالنظرية النقدية في جوهرها هي محاولة الإجابة على سؤال: كيف يشتغل العقل على مادة التصورات. أو بالأحرى كيف يفهم العقل نفسه، وأداءه في إنشاء المعرفة، عبر تمفصل جاهزياته الإدراكية على بعضها، وتحولها إلى وظيفيات متضامنة في إنتاج المعرفي؟ ذلك أن فهم الفهم بات غايةً ذاتية لكل نظرية في نقد العقل المحض. ولقد حقق كانط الجولة الافتتاحية الأولى والأهم في تاريخانية هذه النظرية. غير أن المثالية الألمانية فيما بعد، وفي ذروتها الهيغلية، أهملت المفصل النقدي الأول. وانطلقت نحو تقديم كاتدرائيات شامخة متنافسة على أفاعيل العَقْلَنة كإنتاجات، وليس على كيفية اشتغالاتها. ولقد انحلت النظرية النقدية لدى هيغل خاصة إلى نوع من مدخل حول المنهجية موقت، ولا يصبر طويلًا على لحظة التسآل؛ إذ يسارع في تجاوز الشكلانية نحو «تصور» إنتاجيتها بالذات، نحو المضامين كأجوبة نهائية. وهنا تخيَّلت الفلسفة المثالية أنه إنما تقع على عاتقها وحدها مهمة إعطاء التفاسير الكليانية للعالم، لكل شيء. في الوقت الذي كان العلم يشق طريقه نحو إنشاء المعارف التجريبية، فإن مثل تلك الفلسفة لم تستطع أن تقدِّم سوى أبنية تأويلية وتجريدية، محمية بأسماء اليقين الكلِّي وحاكميته المطلقة. فإن الفيزياء الهيغلية انتهت إلى ما يشبه الخرافة أمام الفيزياء العلمية. غير أنه إذا كان تطور العلوم الطبيعية قد وضع حدًّا في النهاية أمام مطامح العقل التأملي نحو إنتاج المعارف المتعلقة بالشيء في ذاته (النومين)، إلا أن هذا العقل ظل يتابع إصراره على اصطناع ميتافيزيقا شمولية تدعي استيعاب العالم، عن طريق إعطاء تأويلات كليانية لتاريخانية الإنسان. وهكذا يجدد العقل التأملي ثقته بنفسه عندما يقدم أيديولوجيا فكروية تحل محل العالم والتاريخانية الإنسانية معه، وتجعل من نفسها نظيرًا موازيًا ومفارقًا له، وطامسًا لمعالمه الأصلية؛ فالثورة النقدية الجديدة بدءًا من نيتشه، ووصولًا إلى هيدغر وكل التيارات المنادية بانتهاء الميتافيزيقا، إنما كانت تنصب في الواقع على هذا المصير الذي آلت إليه الفلسفات التأملية، التي لم يقتصر تأثيرها على أجواء أكاديمية خالصة، بل طبعت عقليات كلية قادت عصور الحداثة الغربية. واخترعت تمارين حضارية رهيبة، نتيجة الخلط٧ المتعمد بين العقل وإنتاجاته من الأنظمة المعرفية التي توحد نفسها بمعيار اليقين المطلق. ولقد شهد القرن العشرون المنصرم، أعلى ساحة لصراع معايير من هذا النوع تحت أسماء التفسيرات الكليانية للجوهر الواحد؛ بحيث يغدو العالم أو الإنسان، أو التاريخ مجرد تجلِّيات أو أعراض له. وهكذا، فإن حروب اليقينيات المطلقة أعادت تجسيد المفارقة اللاهوتية في صميم المحايثة. وحاولت كلٌّ منها أن تختزل تضاريس «ملف المحايثة» بتاريخانية واحدة، وتغطيها بخارطة جيوفلسفية فريدة نفسها.

في ظل اليقينيات يتراجع فهم الفهم في مستوى السؤال المعرفي الأنطولوجي، إلى دائرة بحثيات حول علاقة الخبرة بالمنهجيات، والآلية السيكولوجية، والوصفية الأنتربولوجية المصاحبة لنشأة المعرفة على مستوى الفرد، ومستوى النوع. وبهذه الصورة يتم الاهتمام بالفهم كوظيفيات، في حين يهمل التعامل معه كجاهزيات؛ بمعنى أن المتعالي الذي هو مكان جاهزيات الفهم، ونقدها في الوقت عينه، من خلال فعالية فهم الفهم، يخضع للنسيان أو التناسي، لصالح نظام أنظمة معرفية معينة يدعي احتيازه على شكلانية العقل المحض، في حين أنه هو بعض نتاج أو مضمون لأية فعالية إدراكية أخرى، قد تتقنَّع وراء حجب اللاشعور النفسي، فرديًّا وجمعيًّا، وتتلبَّس حلل مفارقة، تدَّعي بدورها استيعابًا كلانيًّا للمحايثة، أي إنها تزعم معادلة كاملة كمعنًى من المحايثة، وسيطرة على صيرورتها وقيادة لها في آنٍ معًا.

إن نظام أنظمة معرفية من هذا النوع، وعلى هذه الشاكلة، يُبيح لنفسه تصوير مفارقته، كما لو كانت هي المتعالي نفسه، وقد أنجز تطابقه الشمولي مع المحايثة، لكنه يظل تطابقًا افتراضيًّا virtuel، يقدم نفسه على أنه هو خطاب العقل وقد أصبح عين الواقع. إن هذه الافتراضية لا تعترف بنفسها إلا على أنها يقينية مطلقة، لا تسمح بأية افتراضيات سواها، قد تشتغل على ذات أرضيتها، وتتعاطى ذات ادِّعاءاتها لاحتكار الشمولية.

فإن نقل المتعالي من شكلانية العقل المحض، إلى صيغة نظام أنظمة معرفية معين، قادر على إنشاء (مضامين المعرفة)، لا تعطل فحسب جدلية المتعالي، بل تصادر كذلك عمل التعالي؛ في حين أن نظرية العقل المحض تتهاوى ما إن تصادر وظيفية التعالي لصالح المتعالي من جديد. وهو الخط الذي سارت في اتجاهه المثالية بعد كانط. وعبر عنها هيغل أفضل تعبير وأكمله. إلا أنه لم يرتدَّ بنظرية العقل المحض إلى العقل المفارق الذي يبدع نفسه والعالم، الذي طبع فكر ما قبل الحداثة، بل أفاد هيغل من موضوعة الزمن بخاصة، وأتى بكلٍّ من الذات والموضوع إلى حيز جدلية خلاقة، تمنح مجمل المشهدية الوجودية تماسكًا عقلانيًّا خالصًا، موحدًا بين شكلانية العقل وفورية الواقع وإنتاجاته المتتابعة التعددية. وهذه الجدلية، هي التي أسبغت على مثل هذه الفلسفة الشمولية، نَمْذَجة المذهب المتماسك. فهذه النمذجة لا تقترح وجهة نظر، تفسر الكينونة، بل تفترض عَقْلَنة كلية هي والحقيقة المطلقة وجهان لدلالة واحدة.

وهكذا يغدو المتعالي ليس جاهزية منطقية تنتظر حصائل التعالي، عن طريق الزمكانية وحدوسها التجريبية الآتية من الجهة الأخرى، من العالم، تنتظرها لتعمل فيها تنظيمًا، تحليلًا وتركيبًا، وتصوغها على شكل معقولات ومعارف قابلة للبرهان، ومقبولة لدى عقول البشر جميعًا، بل يصير المتعالي هو الوجه الآخر للمحايثة. ذلك أن الجدلية الهيغلية إنما تدمج الشكل والمحتوى لحساب الأول. كأنما التاريخ، وهو قصة هذه الجدلية، لم يعُد سوى مناسبة لقيام العقل بعروض خلابة لقدراته الشكلانية على استيعاب الواقع، وإعادة إدراجه في شبكية من المفاهيم، التي لا تقع إلا تحت طائلة معيارية وحيدة، هي شدة تماسكها المنطقي الخالص فيما بينها.

إن الهيغلية تعيد توحيد أو دمج العقل والفكر معًا، بما يلزم الفكر قبليًّا ليس بالمتعالي وحده، ولكن كذلك بالتعالي، أي بحصيلة المعارف كلها، وقد أصبحت ترقى إلى ذات القيمة القبلية التي تخصُّ المتعالي وحده. وبذلك لم يعد يُجدي الحوار مع الأنظمة العقلانية الهائلة، المحكمة البناء بموجب قوانينها الخاصة، إلا وكأنها هي المعادل النهائي للفكر، وقد أنجز وعوده كلها، وقدم من خلالها كل ما يمكن للسؤال الفلسفي أن يحققه من أجوبة نهائية قاطعة. فالبناء الهيغلي الجدلي يضع حدًّا للجدلية عينها عندما يقرِّر عنها معماريتها الأحادية كنهاية لإنتاجيتها. ويصبح هذا البناء نموذجًا لفلسفات الحداثة، وتدَّعي كلها النطق باسم الحقيقة المطلقة؛ فلا مناص من أن تتقوَّض النظرية النقدية على يد وارثيها، مجدِّدي عقيدة المفارقة مع اشتداد التسابق على مصادرة فجائية المحايثة، وتكبيلها قبليًّا في شبكيات من الأحكام الإطلاقية التجريدية؛ فهي تفقد النظرية النقدية رهانها الأساسي على إمكان النقلة الواعية من ادِّعاء الحقيقة، إلى إشكالية إمكانيتها وصنعها وتدبرها؛ أنها تنطلق من لحظة فهم الفهم، مع كانط، إلى تجميد الفهم بقالب معيارية واحدية ذات إنتاجية منجزة، ومفروغ من قيمها ووقائعها.

إن النظام المدعي للعقلانية الشمولية يجدد فعالية المفارقة داخل المحايثة، يصادر فوريتها المستقبلية بحاضر منمذج وفق مواصفات معينة. وبذلك تخسر المحايثة أهم ما يميز الفورية، وهو عنصر الفجائية، أو بالأحرى كل ما يمكن أن يأتي به المستقبل بعد حذف كل التوقعات الاستباقية من آفاقه؛ فالمفارقة هي من صلب شكلانية العقل المحض، ولكن قد يستنفدها موضوع واحد تمتلئ به كاللاهوت. وبذلك فهي تظل طريقةً مفضلة لتصنيم بعض الأفكار ونماذج الفهم والسلوك والتعامل. وقد تصبح المفارقة أسلوبًا آخر من المحايثة، عندما تشرع هذه في التنازل عن فوريتها. فتختزل فُجائيتها في قوالب من الفهم تقف خارج سيولة الزمن. بمعنى أن المتعالي مهدد دائمًا بشبهه الملاصق له وهو المفارقة، فحين يعزل المتعالي عن العقل المحض، أو ينتزع من تحت رقابة النظرية النقدية، فإنه يفتقد دفاعاته الأصلية في وجه المفارقة، الواقفة له بالمرصاد. مما يسهل عليها اقتناص المتعالي وانتحال هويته. وعند ذلك يتم قطع المتعالي عن جاهزيات العقل المحض، وسد الطريق أمام وافدات التعالي، من الحدوس الحسية المتدافعة إلى الفاهمة من مصادرها الطبيعية في المحايثة.

ولقد حاولت النقدية الكانطية أن تؤسس للمتعالي موقعًا حياديًّا من «الأشياء في ذاتها». ولم تدعم هذه الحيادية إلا بمدى ما ينحاز المتعالي إلى وظيفيات الفهم، وينشغل بعمليات إعادة إنتاج الحدوس الحسية على مستوى المعارف، اعتبارًا من تشكيل المفاهيم، فصياغة القضايا، فإطلاق الأحكام. وما تتخلَّل هذه العمليات من جدليات التحليل والتركيب، ومشاركة المخيلة في إبداع كل ما لا يمكن أن يرد من الحس وحده. وأهم عواملها هو تزويد الجزئي بأفقه الكلي. فالمتخيل نشاط رئيسي يحتاجه المتعالي في إبداع ما لا يمكن لأي جزئي، من روافد الحدوس الحسية، أن يوفره لذاته؛ ألا وهو: الكلية. فالمخيلة تزود الصور بما ليس فيها، وهو إمكان تحولها إلى تصورات. وهذه التصورات لا تقف جامدة تلقاء بعضها، سرعان ما تتعاون كلٌّ من المتخيلة والفاهمة على توليد علاقات فيما بينها، تطبق عليها المقولات التي لا تجلس بدورها ساكنة في عليائها. ذلك أن المفردات المنطقية، من تصور ومفهوم وقضية ومحاكمة وحكم، كل هذه المرحليات النظرية، هي آنية راهنية ذات انسراع نووي، أو فلكي واحد. يعبِّر عن كثافة العقل التعقيلي كله الذي يوحد حركة التفاعل الفوري بين المتعالي والتعالي، أو بين الفكر الذي يتوسط العقل من أجل الاحتياز على شذر مذر من المحايثة، لا تلبث هذه الشذرات أن تعاود الولادة كأفكار، أو كأطياف أفكار.

لكن كل هذه الفعالية الخارقة لأعجوبة الفهم تسقط في الفراغ، عندما تنقطع الصلة المعرفية، بل الوجودانية بين المتعالي والمحايثة، أو بين الفكر وحياة الأفكار في العالم. وإذا ما حدث مثل هذا الانقطاع فإن المتعالي ينقلب إلى شكلانية بدون مضمون. وعندئذٍ ليس أسهل من أن ينقلب المتعالي إلى الشبه المترصد له: أي المفارقة، التي سرعان ما تملأ فراغ مضمونه بالمضاربات اللفظية على مصطلح: «الشيء في ذاته»؛ فالتفكُّر في الشيء في ذاته، دون الاتصال بأية عائلة له تخصُّه من الظاهرات الوافدة من الحدوس الحسية، هو الذي يشكل هذا النوع من السفسطة الناجمة عن مضاربات الاصطلاحات على بعضها، أي بمصطلحات أخرى من جنسها. وعلى الرغم أن النظرية النقدية لا تتورَّط في موقف مع أو ضد الشيئية الذاتية، أي لا تنفي ولا تثبت أطروحتها، لا تنخرط في لعبة الاختيار بين الرفض والقبول، فإنها تترك للعقل العملي وحده أن يخترع طرق التعامل مع الأطروحة بما هي كذلك؛ فاليقين الذي لا يمكن أن يثبته المتعالي بالنسبة لأقانيم من مثل الله وخلق الكون، والروح، يغدو من مسئولية نوع آخر من الضرورات، غير المنطقية واللاعلمية أو اللاتجريبية، لكنها ضرورات العمل الإنساني، أو التواجد المعوي بين الناس، أو الانتظام الاجتماعي، وتنسيق أفعال الأفراد تحت الكليات النموذجية، التي يمكن أن تشمل المعيارية بصورة عامة، و«القيم» بصورة تمايزية وتراتبية فيما بينها.٨

فليس المعرفي العلمي وحده الذي يشترط استناده المنطقي إلى الكلي. بل إن أبسط الأفعال الإنسانية تحرص على أن تكون مقبولةً من الكثرة والجماعة، وكذلك فإن الفعل المستكره ليس هو كذلك إلا لكون الجماعة، أو معظم الأفراد الآخرين، يطلقون مثل هذا الحكم المتشابه على الفعل المستكره، ما إن يمسهم من طرف، أو يطلعون عليه، أو يتصل بهم أيما اتصال.

والكانطية تجدد هذا الولاء شبه القطعي ﻟ «أعجوبة» الكلية. حتى إنها ترتفع إلى مقام المتعالي، وتكاد تشكل مجهولَه الأعمق، وسرَّه الفلسفي اللامحدود؛ ولذلك نرى المتعالي يتدخَّل ويتداخل مع مختلف الملكات العقلية، يفعِّلها ويشغِّلها تحت طائلة الكلية النشطة. إنه يسلط الزمكانية على معطيات التجربة ويلتقط ظواهرها، أو بالأحرى أوصافها الخام، ويعمل على تخليصها من هذه «الخامية» عينها. ثم تتلقَّفها الفاهمة مستعينة بالمتخيلة كيما تتم الناقص من عطاء التجربة، وهو إمكان التعميم، وبناء أول وحدة أو مفردة تمت إلى لغة الفهم وحدها؛ أي التصور. ولولا المخيلة التي تستمد من خزانة الفاهمة نفسها، من الذاكرة، المتشابهات من الصور، وتقوم بعزل صفاتها الثانوية، والاحتفاظ بالصفات الرئيسية التي تؤكد التشابه، لولا هذه الفعالية الاستثنائية فإن الصور لن تتعدَّى معطياتها الخام. والذاكرة لا تقدم إلا تكرار مخزونها. والفهم أو الفاهمة لا تفعل سوى أن تعكس تلك الصور بآلية سكونية، لكن المتعالي يحضُّ كل تلك الجاهزيات العقلية على التحول إلى وظيفيات فاعلة ومتفاعلة، على مادة الحدوس الحسية التي ينبغي لها أخيرًا أن تنشئ بناءً موازيًا للواقع، مؤلفًا من مفردات التصور والمفهوم والعبارة، المولدة ﻟ/والواقعة تحت طائلة معايير الخطأ والصواب. إنه بناء من مادة الكليات. وهو الذي قد يشتطُّ في الثقة بتماسكه الخاص ووحدته المنطقية إلى درجة أن يعتبر نفسه بديلًا عن العالم؛ فالعقل في النهاية مضطرٌّ أن يفكر العالم بحسب مفرداته الكلية الخاصة، وليس حسب أشياء العالم؛ لأن ذلك مستحيل بكل بساطة.

ومثل هذه البدهية تمت مراجعتها طيلة تاريخ الفلسفة، حسب خطابات كثيرة متعارضة؛ فالعقل هو مصنع الكلي. والنظرية النقدية، كل أهميتها في كونها حصرت الاهتمام بكيفية صنع هذا الكلي، وسمت بالمتعالي تلك الخاصية اللغزية الكبرى التي ينفرد بها العقل، ابتداءً من اكتشافه لترسيمه الكلي في بنيته عينها، وشروعه الفوري في استخداماتها المتنامية والفورية كذلك، من التقاط الصورة إلى تشكيل العبارة. وقد قلنا إن المتعالي هو الفكر المنظم لمصنعه العظيم العقل، والعقل هو واسطة الجسر الفريدة بين الفكر والعالم، لكن هذا التوزيع الهندسي، الذي بلغ ولا شك ذروته النموذجية في النقدية الكانطية، لا يخدم في فهم الفهم وحده، لا ينفع في تفسير المصنع المعرفي للإنسان فحسب، بل إنه يفتح على المهمة الأصعب، وهي الجدوى الأخيرة من هذه المعمارية الخارقة. فهل هذه العملية اللغزية هي طريقة لتمييز المعرفي فحسب، أم أنها سؤال لحامل هذه الكلية، والآتي بها إلى كائنه وكائن العالم معًا؟

تلك هي دهشة الفكر العظمى والأولى، والتي وجدت تعبيراتها الأنطولوجية الأوضح منذ لحظات الوعي الإغريقي الباكرة. فلم تكن المسألة منذ الأصل هي البحث عن الكينونة، بقدر ما كانت اندهاش الفكر من ذاته، بهذه الصناعة الفريدة الاستثنائية التي تسمَّى اختراع الكلي، أو ما سوف يسمَّى بالكوني. هذه القدرة على استنباط العام من الخاص، والكلي من الجزئي، والكوني من المفرد.

فالفكر الذي يعود إليه وحده صنع الكوني، هو نفسه لا بد أن يكون على علاقة بالكوني. وهذه العلاقة لا بد لها أن تتجاوز المستوى المعرفي إلى ما يقرب من وجود الكوني. وعند هذه النقطة البالغة الأهمية، فقد يتضح أن بناء الكلي لا يمكن أن يقوم بانفصال عن بناء الكوني نفسه. وذلك هو التمفصل الذي يلحُّ على تأكيده هيدغر بين العقل كجاهزية معرفية، وبين العقل المحض، باعتباره فاعل الكوني، وبؤرته في آنٍ معًا؛ فإن نقد العقل المحض هو المدخل الحداثوي إلى إعادة طرح سؤال الميتافيزيقا بطريقة مختلفة تمامًا ومناقضة للميتافيزيقا التقليدية.٩ إذ إن شرط السؤال الميتافيزيقي لم يعُد مشروعًا عند نفسه إلا بقدر ارتباطه وتمفصله مع التعالي نحو التجربة، مع فعل التجاوز نحو المحايثة. وأما المتعالي فلم يعُد يمكن العثور عليه في أجواء المفارقة العمودية نحو الفراغ.

إن اشتباك المتعالي كعقل محض، كفكر، مع التعالي، كجاهزية فهم وتفعيل لمعطيات الحدوس الحسية، جعل هذا الاشتباك نفسه مشروطًا دائمًا بفعالية التعالي، بحيث إنه بدون هذه الفعالية فإن مجمل عملية الفهم، وصنوها فهم الفهم، سيظل يشتغل على فراغ، ويتحول إلى مجرد أشكال مفتقرة إلى مادة المعرفة والوجود معًا. وهذا الاشتباك يتيح للميتافيزيقا أن تعيد علاقة طبيعية مع المحايثة التي هربت منها طويلًا، وحاولت محوها من خارطة الوجود، بينما هي أصل كل خارطة.

١  من المعروف أن مفهوم «الشيء من ذاته» مدين للمصطلح الذي ابتكره كانط، كيما يفصل الأقانيم الميتافيزيقية الكلاسيكية الباحثة عن جوهر الله، جوهر العالم، جوهر النفس، عن ميدان معرفة الظواهر، دون أن يعني ذلك إلغاء لمشروعية التفكُّر فيها، لكنه أحال موضوعها إلى ساحة أخرى تنتمي إلى أحد مجالات المتعالي. وقد كان لهذا التمييز بين الشيء في ذاته والظاهر أكبر الأثر انعطافيًّا في تاريخ نشأة الحداثة الفلسفية والنظرية العلمية، كما هو معروف، ومتداول مدرسيًّا ونقديًّا. وشغلت به خاصة النزعات ما بعد الكانطية.
٢  M. Heidegger: Kant et le problème de la métaphysique, ed, Tel-Gallimard.
وقد عرض هيدغر نظريته تلك من خلال هذا الكتاب الذي يعتبر من أهم أعماله إلى جانب مؤلفه الرئيسي «الكينونة والزمان».
٣  Jacques Rivelaygue: Leçons de métaphysique allemand, tome II, ed. College de la philosophie.
يعيد استخدام هذا المفكر والمدرس للفلسفة الألمانية البارع والمبدع، إشارة المجهول الرياضي «x»؛ لكي يعبر عن الدلالة المبهمة المحيطة بمصطلح المتعالي عند كانط نفسه. وقد تتكرَّر هذه الإشارة كلما أراد ريفيليك أن يوحيَ من خلاله بكمية الإبهام التي يتركها كانط وراء هذا المصطلح، دون تفسير نهائي.
٤  A. Philonenko: l’oeuvre de Kant, Vrin, 1972, tome I.
٥  E. Kant: Critique de la raison pure, traduction inédite et présentation d’Alain Renaut, Voir: la logique transdantale, pp. 117–167.
اعتمدنا ترجمة آلان رينو باعتبارها راعت نضج المفاهيم الكثيرة التي يعجُّ بها عمل كانط الرئيسي، خلال المساحة الفكرية الغنية التي شارك في تعميق مفرداتها جدل إبداعي لمعظم فلاسفة القرن الماضي مع هذا النص التأسيسي الأهم، في فكر الحداثة. وقد بذل آلان رينو جهد الباحث والمفكر والمتأثر بالنظرية النقدية إلى جانب جهد الترجمة الأمينة والواعية. ولم يكتفِ رينو بترجمة نقد العقل المحض لكنه وضع كتابًا هامًّا حول «كانط اليوم». وقد اعتمدناه كذلك بين مراجع عملنا الراهن. والكتاب تأويل لكانطية معاصرة وحية، ويدعم عودة غنية لكانطية جديدة إلى صميم أسئلة التحولات الفلسفية مع منعطف الألف الثالث.
٦  Ibid., p. 147.
٧  والخلط هنا يعني أن يدَّعي نظام أنظمة معرفية معين أنه هو العقل ذاته، وأن المعايير التي يطرحها هي معايير العقل بحيث تزول كل مساحةٍ فاصلةٍ بين الادِّعاء وبين «الحقيقة».
٨  كثيرون عالجوا هذه النقلة من كلية المفهوم في «نقد العقل المحض» إلى ضرورة الواجب في «نقد العقل العملي». ويبدو أن جون راولز في نظريته حول العدالة حاول أن يضع حدًّا لإشكالية التأسيس البرهاني للخلقي. والانطلاق من «فرضية» قيام الأخلاق كمسلمة، والتحول إلى مفهمة الأداء الأخلاقي في المجتمع المتطور «الغربي» طبعًا، لكن العودة إلى فلسفة الأخلاق في أوروبا كانت عودة كذلك إلى الأس المفهومي للعمل. ومن أبرز المجددين لهذا الطرح: جان لوك ماريون في كتابه الصادر هذا العام:
Jean-Luc Marion, Étant donné; Essai d’une phénoménologie de la donation, PUF, 1998.
٩  Heidegger: Kant et le problème de la métaphysique.
انظر القسم الرابع خاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥