المتشرعان

يُعرف كل من جبرة غبريل وداود واصف بالمتشرع، وكلاهما يجهلان القراءة والكتابة حتى بلُغتهما العربية، إلا أن اللقب الذي أحرزاه هو نتيجة حوادث عديدة لهما بالمماحكة والمحاجَّة، بل هو صفة لأخلاق الرجلين التي عرفها القوم، فمنحوهما لقب متشرع، وصار كل منهما معروفًا بهذا اللقب.

الأول: جبرة غبريل، عامل في أحد المصانع، والآخر: داود واصف، وكيل على أملاك، يؤجِّر منها منازل لمواطنيه، والأول ساكن في أحد المنازل التي يؤجِّرها الثاني، وهناك كل البلاء؛ لأن هذه السكنى تجعل البطلين — بطلي الشريعة — يلتقيان كل صباح ومساء كأنهما جبلان، وليس على طالب فرجة في مسارح إلا أن يترصَّد اجتماع هذين المتشرعين، فيشاهد منهما من الأدوار التي يمثِّلانها ما يُغْنيه عن ألف دور هزلي في الملاعب.

ولقد اعتاد كل منهما مضادة الآخر حتى على الأمور المرئية المحسوسة، فإذا قال جبرة بأن الثلج أبيض، يجيبه داود بأن الثلج أسود، ولكل منهما براهين وحجج واستنزالات علوية وإلهامات رُوحية ما أنزل الله بها من سلطان.

اعتاد الناس من جيران وغيرهم التجمهُر حول هذين البطلين للتسلية، وأكثرهم يوقد النار بينهما، ثمَّ يقِف الجميع؛ ليَرَوْا كيف تتعالى شرارات المناظرة بينهما، فيضحكون ويتسلَّون.

عندما يُسمع في السوق صوت أحد الاثنين، إما جبرة وإما داود يتألَّب جماعة المتفرجين من هنا وهناك كأنَّ ذلك الصوت عندهم دقة الناقوس للمترقبين انفتاح أبواب الكنيسة لكي يدخلوا للصلاة، وهكذا الأمر عندهم لدى سماعهم نبرةً عالية من أحد الاثنين؛ إذ ذاك يؤلف القوم حلقة حولهما، ويبدأ الاثنان بتمثيل أدوارهما.

أمَّا اختلافاتُهما فليست بذات بالٍ عندهما؛ فهي لا تشرق عليها شمس يوم ثانٍ، ولهذا فكلاهما معروف عند العامة بأنهما كثيرا الغلبة، إنما طيبا القلب، وأنهما مع تصايُحهما وتخالفهما بالرأي وأحيانًا تقاتُلهما ينسيان عندما يبرد غليلهما كل ما جرى بينهما، كأن المقدَّر ما كان.

كان جبرة صاعدًا السلم ذات يوم إلى بيته، وإذا بداود نازلًا، فسلَّما أوَّلًا حسب المعتاد كسلام المصارعين أو المتلاكمين في المسارح، وبعده يجيء دور الصراع أو الملاكمة، وقد يخطف الواحد منهما رُوح الثاني، إنما السلام لا بُدَّ منه أوَّلًا.

بعد السلام قال داود: «يا جار، وأنا اليوم أتمشَّى أمام البناية إذ سقط من علٍ لوح زجاج، فقلت في نفسي: أعوذ بالله من هذا النهار؛ فإن جارنا جبرة سيُقيم الأرض ويُقعدها، ويُهبط السماء، ويدمر الفضاء على رأسنا قبل أن يدفع ثمن لوح الزجاج المكسور في منزله. ولكن الحمد لله يا جار، لم يكن اللوح المكسور من إحدى نوافذكم، بل من نافذة أحد الجيران؛ ولهذا مضت المسألة وأسبل الله ستره.»

قال داود هذا وجبرة يهم بالمقاطعة، ولكنه ضغط على عوامله الداخلية ليعلم جلية الخبر، ولما أنهى داود كلامه أجابه: «ولماذا أدفع ثمن لوح الزجاج، وأنا لست بكاسره؟»

فردَّ عليه داود في الحال: «لأنَّك صاحب المنزل المسئول عن كل شيءٍ فيه ما عدا السقف».

– أنت غلطان، فصاحب الملك عليه التصليح لا سيَّما والمستأجر كان خارج المنزل.

– لا تعالجنا يا جبرة، فأنا حمِدت الله ألف مرة؛ لأني خلصت من شَرِّك هذا النهار، والمسألة لا تحتاج إلى صياح ومماحكة، اسأل مَنْ تريد فيجيبك أنه إذا انكسر شيءٌ من الزجاج فإصلاحه على المستأجر.

– واللهِ لو هبط البيت وصار هباءً منثورًا تخطف ذرَّاته الرياحُ لا أدفع بارة واحدة؛ لأن هذا ليس عدلًا، والشريعة دائمًا مع المستأجر ضدَّ صاحب الملك والوكيل، فاسأل غيرك إذا كنت جاهلًا هذه الحقيقة.

– لا تقل جاهلًا ولا ماهلًا، فأنا أعرَف منك بالأمر، وقد جعلت الذي كسر زجاجه يدفع عنه في الحال، فلماذا المماحكة يا جار، احسمها ولا تدع الناس يتجمهرون على صياحنا؛ فإنهم سوف يشبعون ضحكًا منك إذا سمعوا منك كلامك هذا.

ولا حاجة إلى الإتيان على كلِّ الحديث الذي جرى بينهما، فهذه مقدِّمة له، وإن القارئ اللبيب يستطيع أن يصوِّر في مخيلته ماذا يعقب هذه المقدمة من النتائج، ولا سيَّما بين المدعوَّين متشرعَين لكثرة غلبتهما وعدم إعطاء الواحد طريقًا للآخر؛ لكي ينسحب، فيمضي الاثنان.

وكالعادة أخذت المشاحنة زهاء ساعة بينهما، وكلٌّ يدعم رأيه بالبراهين وينهال على الثاني بالتعييرات فالمسبَّات، هازئًا بقلة عرفانه وجهله الفاضح لأمور بسيطة يعرفها أي الناس.

وكان الناس قد تألَّبوا من خارج البناية وداخلها ومن الجوانب والأعالي يتفرَّجون على البطلين — بطلَي الشريعة — يتشارعان على أمرٍ لم يكن من سبيل لأحدهما أن يرى منه مخرجًا، حتى أخذت المسألة دورًا جديًّا انتهى معه دور المماحكة، وذهب عن جماعة المتفرجين دور التسلية أيضًا؛ لأن الاثنين تماديا بعدما أسمع كل منهما الآخر أشياءَ غليظة، فتدافعا وكادا يتلاكمان، فتدخَّل بعض المتفرجين بينهما، وكبرت المسألة إلى حدِّ أن فريقًا احتمل جبرة، وفريقًا آخر اختطف داود، فأُدخِل الأول أحد المنازل والثاني غيره، وكلٌّ منهما مطبق بقبضتيه والدم على أهبة التفجر من وجنتيه، وفمه يُخرِج حمم الكلام والصعقات على الآخر.

والتف قسمٌ من الجمهور حول جبرة وآخر حول داود يهدِّئون روع كل منهما، حتى آنَ الأوان للصلح بينهما، وبعد الأخذ والرَّدِّ قرَّ القرار أن يقترب كل منهما خطوة نحو الآخر، فنُقِل جبرة من المنزل الذي أُدخِل إليه إلى آخَر محاذٍ له، ونُقِل داود من ذاك الذي دخل إليه أيضًا إلى الذي أُدخِل فيه جبرة من جديد، وهناك تجددت الشئون والشجون؛ لأن الاثنين رفض كل منهما القيام إلى ناحية الآخر لمصالحته، مدَّعيًا أن الحقَّ معه وعلى رفيقه، ومن كان على هذه الصفة يجب أن تُحترم مكانته، فلا ينهض لمصالحة الآخر قبل أن يأتي هو إليه.

عندئذٍ، صاح أكثر القوم تقدَّمًا بالسن صيحة هدأ لها المكان، ولما تم له ذلك وقف بين المتخاصمين وقال: «الحق على الاثنين …»

وما كاد يبدأ بالكلام حتى نهض الاثنان، يريدان محاجَّة المتقدم، ولكنهما أُعيدا بالقوة كلٌّ إلى مكانه، وبعدئذٍ تابع ذلك المتقدم كلامه فقال: «نحن كلُّنا إخوان، وما على أحدٍ منَّا الحق …»

وما كاد المتقدم يصل إلى هذه العبارة حتى عاد الاثنان فنهضا، وكلٌّ مدَّ ساعده نحو الآخر وقال: «بل الحق عليه.»

فأُعيد الاثنان ثانيةً إلى مكانهما بقوة الجذب، ولما عاد الهدوء من جديد تبسَّم المتقدِّم وتابع كلامه فقال: «يا إخوان، أنا أكبركم سنًّا، أطلب من الاثنين شيئًا واحدًا، وهو أن يرضى كل منهما عن الآخر إذا وصل إليه حقه؛ ولهذا أرى أن لوح الزجاج انكسر وللوح الجديد ثمن، فلا المستأجر يغرم بثمنه ولا الوكيل يدفع عنه، فأرجو منهما أن يسمحا بأن أدفع من جيبي ثمنه، فنفضَّ المشكل، وينتهي الأمر وتعود المياه إلى مجاريها.»

قال هذا ومدَّ يده إلى جيبه، وأخرج كلَّ ما كان فيه من النقود، ثمَّ فتح عليها يده أمام داود وقال له أن يأخذ منها ثمن اللوح المكسور، فأجاب داود، معتذرًا بأن ثمن اللوح وصل من زمان ولا حاجة إلى خسارته.

وكان أن جبرة أيضًا شدَّ العم المتكلم لناحيته، وأخبره بأن اللوح المكسور ليس من منزله ليتكرَّم بدفعه، بل هو من منزلٍ غير منزلِه.

عندئذٍ قهقه القوم، وصار الجميع في شبه غيبوبة من الضحك الذي سرت عدواه إلى المتشرعين أيضًا، فابتسم كلٌّ منهما أوَّلًا، ثمَّ ضحكا مع الجمهور، وعندئذٍ قال الوسيط وهو دون الباقين ضحكًا فقد كان منذهلًا متحيِّرًا بما سمع ورأى: «إذن تخاصمتما على لا شيء.»

فقال داود: «نعم يا عم، على لا شيء، ولو أن جبرة استوعى كلامي لما توصَّلنا إلى كلِّ هذا.»

وقال جبرة: «ولو أنك أنت فهمت ما قصدت لما صرنا إلى ما صرنا إليه.»

فضحك القوم من جديد وساعدهم الوسيط المتقدِّم، وأمسك كلًّا من المتشرعين بساعده بعد أن أعاد النقود إلى جيبه، وجذبهما إليه فنهضا بسهولة، ثمَّ شبك يديهما ببعضهما فأطاعا، وقال لهما وهو يضحك مقهقهًا: «من يختصم على لا شيء يصطلح على لا شيء أيضًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤