الباب الثالث عشر

راشيل

قبل أن يذهب ستيفن إلى بيته، في تلك الليلة، ظلَّ يتجول في الشوارع لفترة ما، وتوقَّع أن يجد زوجته بالمنزل تصيح بوحشية وعندما اقترب من حجرته، أبصر نورًا في النافذة.

وجد الهدوء والسلام في الداخل، وكانت راشيل هناك جالسة بجانب السرير الذي ترقد فوقه زوجة ستيفن، وقد نظفت الحجرة، وأوقدت نارًا، بينما ترقد زوجته على السرير في هدوء.

فقالت راشيل: «يسرني أنك جئت أخيرًا يا ستيفن. لقد تأخرت جدًّا.»

قال: «كنت أتجول جيئة وذهابًا.»

قالت: «هذا هو ما جال بفكري، ولكن هذه الليلة ليست لمثل هذا التجول. فالمطر يهطل وابلًا، وقامت الريح شديدة.»

الريح؟ هذا حقيقي. كانت تهب عاصفة وترعد داخل المدخنة، فكيف يبقى ستيفن خارج البيت في مثل هذه الريح، ولا يعلم أنها تهب؟

قالت راشيل: «كنت هنا مرة، قبل اليوم، يا ستيفن. استدعتني صاحبة بيتك، في وقت العشاء، وقالت إن زوجتك مريضة .. كانت زوجتك تعمل معي ونحن فتاتان صغيرتان، وكنت صديقتها؛ لذا حضرت لأعمل القليل الذي يمكنني عمله، حاولَتْ أن تنتحر في هذا الصباح.»

سار ستيفن ببطء نحو كرسي، وجلس، وهو مطأطئ الرأس، وراشيل تعتني بالجروح التي في رقبة زوجته فوضعت قطعة من الشاش في حوض، وسكبت في الحوض سائلًا من زجاجة، ثم وضعت قطعة الشاش برفق فوق الجروح. وكان هناك نضد صغير إلى جانب السرير، فوقه قارورتان إحداهما التي سكبت راشيل منها السائل.

لم تكن الزجاجة بعيدة عن ستيفن، وإذ كان يتابع يدي راشيل بعينيه، أمكنه أن يقرأ ما كُتب عليها بحروف كبيرة «سم. لا تشرب» فامتقع لونه جدًّا، وتملَّكَه رعب فجائي.

فقالت راشيل، في هدوء: «سأبقى هنا يا ستيفن حتى تدق الأجراس معلنة الساعة الثالثة، يجب أن أغسل جروحها، مرة ثانية، في ذلك الوقت. وبعدئذٍ يمكن تركها حتى الصباح.»

فقال ستيفن: «ولكن، ماذا عن راحتك في هذه الليلة؟ عليكِ أن تعملي بالمصنع غدًا.»

قالت: «نمت جيدًا في الليلة الماضية، وبوسعي أن أبقى متيقظة لعدة ليالٍ، أنت الذي بحاجة إلى الراحة. لونك ممتقع جدًّا ويبدو عليك التعب. حاول أن تنام على ذلك الكرسي، بينما أظل أنا يَقْظى.»

سمع ستيفن قصف الريح تزمجر في الخارج وبدا كأن إحساساته الغاضبة، تحاول النَّيْل منه، ولكن راشيل عملت على تهدئة هذه الإحساسات، وكان يثق في أن بمقدورها أن تحميه من نفسه.

قالت راشيل: «إنها لا تعرفني يا ستيفن، إنها مريضة جدًّا، فعندما تثوب إلى رشدها، مرة أخرى أكون قد فعلت ما في مكنتي، دون أن تعرف إطلاقًا .. قال الطبيب إنها ستعود إلى عقلها السليم غدًا.»

وقفت عينا ستيفن، مرة أخرى عند القارورة ذات البطاقة المكتوب عليها «سم» فارتجف جسمه، وجعل أعضاءه ترتعش، فقالت راشيل: «إنك لترتعد بردًا وبللًا يا ستيفن!»

قال: «كلا؛ فقد أصابني رعب وأنا قادم إلى البيت عندما كنت أفكر. عندما كنت …»

قالت: «أيا ستيفن!» وهمَّت بأن تذهب نحوه، إلا أن ذراعه امتدت لتوقفها.

قال: «أرجوك ألَّا تُقْبلي نحوي، دعيني أراكِ جالسة بجانب السرير، طيبة ومسامحة. دعيني أراكِ مثلما رأيتكِ عندما جئت إلى هنا.»

ارتعد ستيفن مرة أخرى، وارتمى فوق كرسيه.

فقالت راشيل: «عندما تتحسن حالتها يا ستيفن فمن المنتظر أن تتركك وشأنك مرة أخرى، ولن تصيبك بأي أذى بعد ذلك .. والآن، سألزم الهدوء؛ إذ أريدك أن تنام.»

أغمض ستيفن عينيه، وأخذ يُصغي إلى زمجرة الريح. وبالتدريج، تحوَّل إلى عمل آلاته بالمصنع، والأصوات التي سمعها طوال ذلك النهار. ثم استغرق في النوم.

بعد لحظة، أيقظه صوت الريح، وكان المطر يحدث صوتًا وهو يسقط على أسطح البيوت. وانكمشت الخطوات الكبرى، التي تحرك بها في حلمه، إلى جدران حجرته الأربعة، وكانت كما هي، باستثناء أن النار انطفأت.

وبدا أن راشيل نامت فوق مقعدها بجانب السرير، وبقي النضد في نفس موضعه، وفوقه الزجاجتان؛ إحداهما زجاجة السم.

خُيِّل إلى ستيفن فجأة أنه رأى الستار الذي فوق السرير يتحرك، فنظر إلى فوق مرة أخرى، وتأكد من أنه يتحرك فعلًا. أبصر يدًا تتحرك وتمتد، وبعد ذلك، جذبت المرأة التي فوق السرير الستار جانبًا، وجلست، وجالت عيناها فيما حولها. يبدو أنها لم تبصر الناس الموجودين في الحجرة. ثم توقفت عيناها عند النضد والزجاجتين اللتين فوقه.

figure
ارتعد ستيفن مرة أخرى، وارتمى فوق كرسيه.

أخذت قدحًا، ونظرت إلى القارورتين، ثم أمسكت القارورة التي فيها الموت السريع الأكيد، ونزعت سدادتها، وبينما عيناها تراقبان راشيل، سكبت محتويات الزجاجة ببطء، وقرَّبَت السائل من شفتَيها. وعندئذٍ ما هي إلا لحظة، حتى لا يمكن إسعافها.

هبت راشيل واقفة وهي تصيح، فناضلت هذه المرأة المتوحشة، وضربت راشيل، وأمسكتها من شَعرها. ولكن راشيل أخذت القدح من يدها.

نهض ستيفن من فوق كرسيه، وقال: «يا راشيل، هل أنا أمشي أم أحلم؟»

قالت: «كل شيء على ما يرام يا ستيفن، لقد نعست أنا نفسي، والساعة الآن حوالي الثالثة … أصغِ .. إني لأسمع دقات ساعة الكنيسة الآن.»

نقلت الريح أصوات ساعة الكنيسة إلى النافذة، فأصغيا إليها وهي تعلن الثالثة. فنظر ستيفن إلى راشيل، فوجدها ممتقعة اللون، ولاحظ عدم ترتيب شَعرها، وآثارًا حمراء لأصابع على جبهتها؛ فأيقن من أنه كان متيقظًا. وكانت راشيل لا تزال ممسكة بالقدح في يدها، فقالت بهدوء: «ظننتها حوالي الثالثة.»

سكبت راشيل السائل في الحوض، ووضعت فيه قطعة الشاش، وقالت: «لقد هدأت الآن، فيمكنني غسل الجروح.»

غسلت راشيل جروح المرأة المريضة بالسائل، ثم سكبت الباقي من الحوض، فوق النار، وكسرت الزجاجة.

ارتدت راشيل معطفها، واستعدت للخروج في الريح والمطر.

فقال ستيفن: «اسمحي لي بأن أسير معك يا راشيل.»

فقالت: «كلا، فإنها مسافة دقيقة على الأقدام إلى بيتي.»

فقال بصوت منخفض وهما يسيران نحو الباب: «ألستِ خائفة من أن تتركيني وحدي معها؟»

وبينما هي تنظر إليه وتقول: «يا ستيفن!» جَثَا على ركبته أمامها، وقال: «أنتِ ملاك يا راشيل، جئتِ إلى البيت وقد استبدَّ بي اليأس، وليس بمقدور أي إنسان أن يساعدني، ثم رأيت زجاجة السم على النضد .. لا أحد يعرف ماذا كنت سأفعل بنفسي، أو بها، أو بكلينا.»

قالت: «كُفَّ عن الكلام!» ووضعَتْ كلتا يديها على فمه لتمنعه أن يتكلم. ووجهها مملوء بالرعب، ثم ألقت عليه تحية المساء بصوت متهدِّج، وخرجت إلى الشارع.

هبت الريح من الناحية التي سيبزغ منها النهار، وما زالت تهب بعنف، وجعلت السماء صافية أمامها، وكَفَّ المطر عن الانهمار، وذهب إلى مكان آخر، وتألقت النجوم في السماء، ووقف ستيفن عاري الرأس في الطريق يراقب اختفاء راشيل السريع.

وكما هي النجوم المتألقة بالنسبة إلى الشمعة الصغيرة، التي في النافذة، كذلك كانت راشيل بالنسبة إلى هذا الرجل، في أحداث حياته المحزنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤