الباب الرابع

المستر باوندرباي

مَن هو المستر باوندرباي؟

هو رجل غني: صاحب مصرف، وتاجر، وصانع …

رجل كبير الجسم، عالي الصوت، لضحكته رنين، ينظر إليك نظرة شديدة. يتكون جسمه من مادة، يبدو أنها مدت لتجعله ضخمًا، يفخر دائمًا بأنه كوَّن نفسه بنفسه. يقرِّر بصوته الجهوري الشبيه بصوت البوق النحاسي أنه كان في صباه فقيرًا وجاهلًا.

يصغر المستر باوندرباي صديقه العملي، المستر جرادجرايند، بسنة أو بسنتين، ولكنه يبدو أكبر منه سنًّا .. سقط كلُّ شَعره، ولم يبقَ منه سوى القليل. قد يُخيَّل إلى المرء أنه محا شَعره بكثرة كلامه. ربما كان الشعر الباقي في رأسه غير مرتب إذ تهب عليه باستمرار مباهاته بصوت عالٍ، كأنه إعصار.

وقف المستر باوندرباي على البساط أمام وطيس حجرة الجلوس في ستون لودج، يتحدث مع مسز جرادجرايند، فيقول: «كنت حافي القدمين، وأنا طفل، ليس عندي حذاء. أما الجورب، فلم أعرف اسمه. كنت أقضي نهاري خارج البيت، وأنام ليلًا مع الخنازير. هكذا قضيت عيد ميلادي العاشر.»

كانت مسز جرادجرايند، حزمة صغيرة من الملابس الرفيعة البيضاء، حمراء العينين. إنها ضعيفة الجسم والعقل، تتناول الدواء باستمرار، دون أية جدوى، وكلما أبدَتْ علامة ما تدل على أنها حية، هزمتها قطعة عظيمة من الحقيقة.

– «وهكذا، ها أنا ذا في يوم عيد ميلادي، يا مسز جرادجرايند، لا أشكر عليه أحدًا غير نفسي.»

تمنَّت مسز جرادجرايند أن والدته …

فقال المستر باوندرباي: «والدتي ماتت، يا سيدتي!»

لم تحاول مسز جرادجرايند أن تفهم.

فقال باوندرباي: «تركتني أمي لجدتي. وكانت جدتي أسوأ امرأة في هذه الدنيا. فلو حصلتُ على زوج أحذية بسيط، أخذَتْه وباعته لتشتري بثمنه خمرًا.»

ابتسمت مسز جرادجرايند، في ضعف، ولم تُبدِ أية أمارة أخرى للحياة. تبدو، مثلما تبدو دائمًا، كأنها صورة فوتوغرافية لأنثى صغيرة، التُقِطت في نور غير كافٍ.

استطرد باوندرباي، يقول: «تملك جدتي حانوتًا، وتحتفظ بي في صندوق بيض، كان فراشي أيام طفولتي، ولكنني ارتفعت فوق ذلك النوع من الحياة. فما إن كبرت حتى هربت، اشتغلت عاملًا في مصنع، ثم كاتبًا، ثم ارتقيت فصرت مدير مكتب. ثم شريكًا في مؤسسة. ولكن المستر جوزياه باوندرباي Josiah Bounderby، لم يتلقَّ تعليمًا، بل تعلم الحروف من واجهات الدكاكين. هذا هو مواطن كوكتاون، يا مسز جرادجرايند.»

عندئذٍ، دخل المستر جرادجرايند مع لويزا وثوماس الصغير.

صاح المستر باوندرباي، يقول: «ما الخطب؟ لماذا يبدو ثوماس الصغير مكتئبًا؟» كان يتكلم عن ثوماس الصغير، ولكنه كان ينظر إلى لويزا.

فقالت لويزا بصوت منخفض، دون أن ترفع عينيها: «كنا نُلقي نظرة إلى السيرك، فضبَطَنا أبونا.»

figure
كانت مسز جرادجرايند حزمة صغيرة من الملابس الرفيعة البيضاء حمراء العينين.

فقال الأب: «يا مستر باوندرباي، بدا الأمر كما لو أنني وجدت أطفالي يقرءون الشعر.»

فقالت مسز جرادجرايند بصوت ضعيف: «يتملكني العجب منكما. كيف أمكنكِ، يا لويزا، وأنت يا ثوماس، أن تفعلا ذلك؟ إنكما لتجعلاني أسِفًا على أن لي أسرة. كم أتمنَّى لو أنه ما كانت لي أسرة! ماذا فعلتما؟ أريد أن أعرف.»

لم يظهر في ملامح المستر جرادجرايند ما يفيد تأثره بمنطق زوجته، بل بدا عليه القلق.

استأنفت مسز جرادجرايند حديثها، فقالت: «لماذا لم تذهبا لمشاهدة قواقعكما، والمواد الخام، والأشياء العلمية، بدلًا من مشاهدة مسارح السيرك؟ أنا على يقين من أن لديكما ما يكفي لتعملاه. إن كان هذا هو ما تريدانه. ورأسي بحالته الحاضرة، أن أتذكر نصف الحقائق، فهناك الكثير منها.»

أمرت مسز جرادجرايند طفليها بالعودة إلى حجرة استذكار دروسهما. وبقيت وحدها مع زوجها والمستر باوندرباي، وراحت مرة أخرى في غيبوبة؛ ولكن لم يلتفت إليها أحد.

قال المستر جرادجرايند: «يا باوندرباي، أنت مُولَع دائمًا بطفليَّ، وخصوصًا لويزا — أقول لك هذا صراحة — لقد استأت كثيرًا، إذ خططت بحساب تعليم دقيق عقل أسرتي. يجب توجيه التعليم إلى العقل كما تعرف. فلماذا شغفا بذلك السيرك؟»

أجاب صديقه، يقول: «أقول لك لماذا؟ إنه الخيال السيئ».

فقال الأب العملي: «آمل في ألا يكون كذلك، ولكن يدور بخلدي: هل يمكن أن يكون ثوماس ولويزا، قد قرآ كتاب قصص سيئًا؟ كيف وصل مثل ذلك الكتاب إلى هذا البيت؟»

فقال باوندرباي: «انتظر لحظة؛ لديك في المدرسة طفلة من السيرك.»

قال: «إنها سيسيليا جوب.»

فقال باوندرباي: «إذَن، فسأخبرك بما تفعله. افصل هذه البنت من المدرسة، ينتهي الأمر.»

«نعم؛ أنا من رأيك تمامًا.»

فقال باوندرباي: «افصلها في الحال، كان هذا هو اعتقادي دائمًا. افصلها فورًا.»

فقال صديقه: «لدي عنوان أبيها، سأذهب إلى البلدة. ألديك مانع من أن تذهب معي؟»

فأجاب باوندرباي، يقول: «ولا أقل مانع، على شرط أن تفصلها في الحال.»

وعلى هذا ألقى المستر باوندرباي قبعته على رأسه. إنه يلقيها دائمًا ليبين أنه رجل مشغول بأمور هامة وليس لديه وقت ليلبس قبعته بعناية.

بينما كان المستر جرادجرايند يبحث عن العنوان، زار المستر باوندرباي؛ لويزا وثوماس الصغير في حجرتهما.

فقال لهما: «اتفقنا الآن يا لويزا، واتفقنا الآن يا ثوماس الصغير، لن تذهبا إلى السيرك بعد ذلك، ولن يقول أبوكما شيئًا عن هذا الموضوع. إذَن، يا لويزا، فأنتِ تستحقين قُبلة على هذا. أليس كذلك؟»

فقالت لويزا، وقد وقفت ببرود: «يمكنك أن تأخذها يا مستر باوندرباي.» وسارت ببطء عَبْر الحجرة، ورفعت خدَّها نحوه، وقد أدارت وجهها بعيدًا.

– «أنتِ دائمًا عزيزة عندي يا لويزا، أليس كذلك؟»

انصرف المستر باوندرباي، ولكن لويزا بقيت واقفة في نفس المكان، تمسح بمنديل خدها الذي قبَّلَه المستر باوندرباي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤