الباب السادس

فنون سليري بالخيول

لم يكن بالفندق ولا خارجه أي دليل على وجود المستر جوب، جرت سيسي من الفندق إلى السيرك ووجهها ينمُّ عن الرعب الشديد. وشَعرها الطويل الفاحم يطير خلف ظهرها وهي تجري بحثًا عن أبيها.

أثناء غياب سيسي، تحدث أحد لاعبي السيرك، واسمه تشايلدرز Chiders، مع المستر جرادجرايند، فأفهمه أن والد سيسي لم يكُن يؤدِّي عروضه كما ينبغي، في الآونة الأخيرة، في حلبة السيرك.

فقال المستر جرادجرايند: «معي رسالة للمستر جوب»، فقال المستر تشايلدرز: «أرى أنه لن يتسلَّمها. هل تعرف الكثير عنه؟»

فقال جرادجرايند: «لم أرَه في حياتي.»

قال: «وأنا أشك فيما إذا كنت ستراه. من الواضح جدًّا أنه هرب.»

– «أتقصد أنه هجر ابنته؟»

فقال تشايلدرز: «نعم؛ إنه هرب؛ لقد دبَّت الشيخوخة في عضده، فما عاد يقوم بعروضه جيدًا، والمتفرجون لا يحبونه الآن، وابنته لا تعرف هذا، وهو لا يريدها أن تعرف، رأيناه ينصرف وقد أمالَ قبعته فوق عينيه، وتحت ذراعه صرة مربوطة بمنديل، ولكن سيسي لن تصدق أبدًا أنه هرب وتركها.»

فقال المستر جرادجرايند: «لماذا لا تصدق؟»

– «لأنه هو وابنته، لم يكونا شخصين، بل كانا شخصًا واحدًا، لم يفترقا أبدًا. أراد والدها أن يعلِّمها، ولكن كيف يدخل التعليم رأسها؟! لا أستطيع أن أعرف، وكل ما أعرفه هو أنه لم يخرج أبدًا. فنحن معشر أعضاء السيرك، لا نستقر في أي مكان، بل نتنقل دائمًا، ولكن .. لماذا دخلت سيسي المدرسة؟ سُر أبوها لهذا سرورًا بالغًا. ربما ظن أن التعليم سيتكفل بمستقبلها، وربما لأنه كان ينوي دائمًا أن يهرب. وعلى هذا؛ إن كان بوسعك أن تساعد سيسي الآن بطريقة ما؛ كان هذا من حسن الحظ، من الحظ الحسن جدًّا، وفي الوقت المناسب.»

فقال المستر جرادجرايند: «بالعكس، جئت إلى هنا لأخبر المستر جوب بأن ماضي سيسيليا في السيرك، لا يصلح لمدرستنا، يجب ألا تأتي إليها في المستقبل، ولكن، طالما أن والدها تركها .. اسمح لي يا باوندرباي بكلمة معك.»

تكلَّمَ الرجلان معًا لبرهة من الوقت، فحاول المستر باوندرباي أن يحث جرادجرايند على ألا يحتفظ بسيسي في المدرسة.

في تلك الأثناء، جاء مختلف أعضاء سيرك سليري إلى الحجرة، ووقفوا يتكلمون بأصوات هادئة. وأخيرًا؛ قدم المستر سليري صاحب السيرك. وكان رجلًا كبير الجسم، خشن الصوت. فثبت إحدى عينَيه بينما تسرح العين الأخرى فيما حواليه.

فقال للمستر جرادجرايند، وهو يلهث: «هذه مسألة غير طيبة يا سيدي. سمعت أن المستر جوب وكلبه المدرب قد هربا. فهل بوسعك أن تفعل شيئًا لهذه البنت المسكينة؟»

عند ذلك رجعت سيسي، فلما أبصرت الحجرة مليئة بالناس، وليس أبوها بينهم، انخرطت في البكاء، فأمسكها أعضاء السيرك وهدَّءوها.

وإذ كان المستر جرادجرايند رجلًا متعقِّلًا وعمليًّا، كعادته، تكلم يقول: «ليس من المهم أن نتوقع عودة ذلك الرجل، أو عدم عودته .. إنه هرب، وليس من المتوقع الآن أن يعود؛ هذا هو ما يتفق عليه كلُّ واحد منا، على ما أظن.»

فقال سليري: «هذا متفق عليه، يا سيدي.»

– «والآن، يا سيسيليا جوب، أريد أن أتكفل بكِ وأعلمكِ. والشرط الوحيد الذي أطلبه، هو ألا تتصلي بأي واحد من أصدقائك هؤلاء.»

عندئذٍ سأل المستر سليري سيسي عما إذا كانت تفضِّل البقاء معهم وتتعلم لتصير واحدة من عارضات السيرك.

بينما تفكر سيسي في هذا الموضوع، قال المستر جرادجرايند: «الملاحظة الوحيدة التي أبديها لكِ، يا سيسيليا جوب، هي أنه من الضروري جدًّا لكِ، أن تحصلي على تعليم عملي طيب؛ فحتى والدك نفسه، يبدو أنه عرف ذلك وشعر به.»

من الجلي أنه كان لهذه الألفاظ الأخيرة تأثير ملحوظ على سيسي. فتوقفت عن البكاء، وواجهت المستر جرادجرايند.

همس أعضاء السيرك، يقولون: «إنها ستذهب.»

صاحت سيسي تقول: «ولكن؛ إن رجع أبي، فكيف يعثر عليَّ إنْ ذهبتُ؟»

فقال المستر جرادجرايند: «لا تشغلي بالكِ بهذا الأمر، في هذه الحالة سيسأل أبوكِ المستر سليري عن مكانك.»

ساد الجو سكون تام، ثم صاحت سيسي تقول: «أعطوني ملابسي، ودعوني أذهب، قبل أن أكسر قلبي.»

أحضرت نساء السيرك ممتلكات سيسي القليلة فقبَّلَتهن قُبلة الوداع. وعندما ذهبت لتوديع الذكور من أعضاء السيرك، كان على كلِّ واحد منهم أن يمد ذراعيه، فعلوا ذلك جميعًا، لأنها عادتهم عندما يكونون في حضرة سيد حلبتهم المستر سليري، ثم قبَّلَها كلُّ واحد منهم قُبلة الوداع.

فتح المستر سليري ذراعيه، وأمسك سيسي من كلتا يديها، كما لو كان لا يزال سيد ركوب الخيل وأنها نزلت لتوها على الأرض من فوق ظهر حصان.

قال المستر سليري: «وداعًا، يا عزيزتي! هذه هي آخر كلماتي إليكِ، كوني مطيعة للمستر جرادجرايند، وانسينا نسيانًا تامًّا، ولكن عندما تكبرين وتتزوجين، وتصيرين غنية، فإن التقيتِ بأي سيرك، فلا تشمئزي منه، يجب تسلية الناس.» ثم استطرد كلامه يخاطب زائريه بقوله: «ليس بوسع كل إنسان أن يعمل باستمرار، أو يتعلم باستمرار، يا سيدي!»

أعلنت فلسفة سليري وهم يهبطون السلم، وسرعان ما غاب الأشخاص الثلاثة وسط ظلام الشارع، من أمام عين الفلسفة الثابتة، وعينها المتحركة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤